فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60007
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60007 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب الله وسُنَّتي » ـ على فرض أنّنا سلّمنا بصحّة هذا الحديث ـ فما بال أفضل الخلق عندكم يرفضان السنّة ، ولا يقيمان لها وزناً ، بلْ ويمنعان النّاس من كتابتها والتحدّث بها؟! وهل من سائل يسأل أبا بكر في أيّ آية وجدَ قتال المسلمين الذين يمنعون الزكاة ، وسبي نسائهم وذراريهم؟!

فكتاب الله الذي بيننا وبين أبي بكر يقول في حقّ مانعي الزكاة :( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (١) .

وباتفاق جميع المفسّرين ، فإنّ هذه الآيات نزلت بخصوص ثعلبة الذي منع الزكاة على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أضف إلى ذلك بأنّ ثعلبة منع الزكاة ، وامتنع من أدائها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه أنكرها وقال هي جزية(٢) .

وقد شهد الله في هذه الآيات على نفاقه ، ومع ذلك فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقاتله ، ولم يأخذ أمواله بالقوة ، وكان قـادراً على كلّ ذلك ، أمّا مالك بن نويرة وقومه فلم ينكروا الزكاة كفرض من فروض الدّين ، وإنّما أنكروا الخليفة الذي استولى على الخلافة بعد الرسول بالقوة والقهر ، وانتهاز الفرصة.

ثمّ إنّ أمْر أبي بكر أغرب وأعجب عندما نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وقد

____________

(١) التوبة : ٧٥ ـ ٧٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ : ٢٤٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٣٨٨ ، زاد المسير لابن الجوزي ٣ : ٣٢١.

٢٨١

احتجّت به عليه فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين ، وتلتْ على مسامعه آياتٌ بيّنات محكمات من كتاب الله الذي يُقرّ وراثة الأنبياء ، فلم يقبل بها ونسخها كلّها بحديث جاء به من عنده لحاجة في نفسه!! وإذا كان يقول : إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. فلماذا لم يفعل هو بما يَقول عندما اختلف مع بضعة المصطفى الصدّيقة الطّاهرة ، في حديث النّبي « نحن معشر الانبياء لا نوّرث » ولم يحتكم معها إلى كتاب الله ، فيُحِلّ حلاله ويُحرّم حرامه؟

والجواب معروف ، في تلك الحالة سوف تجد كتاب الله ضدّه ، وسوف تنتصر عليه فاطمة في كلّ ما ادّعته ضدّه ، وإذا ما انتصرت عليه يومها فسوف تحاججه بنصوص الخلافة على ابن عمّها ، وأنّى له عندئذ دفعها وتكذيبها ، والله يقول بهذا الصدد :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (١) .

نعم ، لكلّ ذلك ما كان أبو بكر ليرتاح إذا ما بقيت أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متداولة بين النّاس ، يكتبونها ويحفظونها ويتناقلونها من بلد لآخر ومن قرية لأُخرى ، وفيها ما فيها من نصوص صريحة تتعارض والسّياسة التي قامت عليها دولته ، فلم يكن أمامه حلاّ غير طمس الأحاديث وسترها بل ومحوها وحرقها.

____________

(١) الصف : ٢ ـ ٣.

٢٨٢

فها هي عائشة ابنته تشهد عليه ، قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله ، فكانتْ خمسمائة حديث ، فبات يتقلّب ، فقلت : يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك فجئته بها ، فأحرقها الحديث(١) .

عمر بن الخطاب يتشدّد أكثر من صاحبه في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنع النّاس من نقله

لقد رأينا سياسة أبي بكر في منع الحديث ، حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جُمعت على عهده ، وهي خمسمائة حديث ، لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنّة نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولما ولي عمر الخلافة بأمر من أبي بكر ، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأُسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة ، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب ، بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً ، واستعمل فرض الحصار هو الآخر.

روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول ، باب التوقّي في الحديث. قال : عن قرظة بن كعب ، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة ، وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار ، فقال : أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قال : قلنا لحقّ صُحبة رسول الله ، ولحقِّ الأنصار ، قال : لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٨٥ ح ٢٩٤٦٠ ، تذكرة الحفاظ ١ : ٥.

٢٨٣

أحدّثكم به ، فأردتُ أن تحفظوه لممشاي معكم ، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم ازيز كأزيز المرجل ، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم ، وقالوا أصحاب محمّد! فأقلّوا الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا : حدّثنا ، قال : نهانا عمر(١) .

كما روى مسلم في صحيحه في كتاب الآداب ، باب الاستئذان ، بأنّ عمر هدّد أبا موسى الأشعري بالضرب من أجل حديث رواه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال أبو سعيد الخدري : كنا في مجلس عند أُبي بن كعب ، فأتى أبو موسى الأشعري مُغضباً ، حتى وقفَ فقال : أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك وإلاّ فارجع؟ قال أُبي : وما ذاك ، قال : استأذنتُ على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات ، فلم يؤذن لي فرجعتُ ، ثمّ جئته اليوم فدخلتُ عليه ، فأخبرته أنّي جئتُ بالأمس فسلمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفت ، قال : قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل ، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك ، قلتُ : استأذنت كما سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمنْ يشهد لك على هذا ، فقال أُبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً ، قم يا أبا سعيد ، فقمت حتى أتيتُ عُمر ، فقلت : قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول هذا.

وروى البخاري هذه الحادثة ، ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد

____________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٢٥ ح ٢٨ ، ط دار الفكر وصرّح البوصيري في حاشيته على السنن بصحته ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٧.

٢٨٤

عمر بضرب أبي موسى حفاظاً كعادته على كرامته(١) . مع أنّ مسلم في صحيحه زاد قول أُبي بن كعب لعمر : يابن الخطاب فلا تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة السابعة عن أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة : أكنتَ تحدّث في زمان عمر هذا؟ فقال : لو كنتُ أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته(٢) .

كما أنّ عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب ، أقدم هو الآخر على حرق ما دوّنَهُ الصّحابة من الأحاديث ، فقد خطب النّاس يوماً قائلا : أيّها النّاس ، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقيّن أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي ، فظنّوا أنّه يريد النّظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنّار(٣) .

كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله ، أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ، ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه(٤) .

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ في كتاب الاستئذان ، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ : ٧.

(٣) حجيّة السنّة لعبد الغني : ٣٩٥ ونحوه : الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ١٨٨ ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٥ : ٥٩.

(٤) كنز العمال ١٠ : ٢٩٢ ح ٢٩٤٧٦ ، عن ابن عبد البر وأبي خثيمة ، جامع بيان العلم وفضله : ٧٧.

٢٨٥

ولمّا أعيته الحيلة ورغم تهديده ووعيده ، ومنعه وتحريمه ، وحرقه كتب الأحاديث ، بقي بعض من الصّحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالنّاس اللذين يسألونهم عن أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رأى عمر أن يحبس هؤلاء النفر في المدينة ، ويضرب عليهم حصاراً وإقامة جبريّة.

فقد روى ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق : عبد الله بن حذيفة ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر الغفاري ، وعقبة بن عامر. فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق ، قالوا : تنهانا؟ قال: لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت(١) .

ثمّ جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق ، وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل ، فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله :

لا يحلُّ لأحد أن يرويَ حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر(٢) .

وهكذا دَام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة ، وهي خمسة وعشرون عاماً ، ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب ، ولكنّه تواصل بعد ذلك ، وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال : إيّاكم وأحاديث إلاّ

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٠ : ٥٠٠.

(٢) الطبقات لابن سعد ٢ : ٣٣٦ ، كنز العمال ١٠ : ٢٩٥ ح ٢٩٤٩٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٩ : ١٨٠.

٢٨٦

حديثاً كان في عهد عمر ، فإنّ عمر كان يخيفُ الناسَ في الله عز وجلَّ. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة من جزئه الثالث.

ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال ، فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة ، وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى ابتُلي المسلمون في كلّ العصور بالمتناقضات ، وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتُّ للإسلام بشيء.

وإليك ما نقله المدائني في كتابه « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئتْ الذمّة ممن رَوى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ( يقصد علي بن أبي طالب ) ، فقامَ الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته.

ثمّ كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه ، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إلىّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو

٢٨٧

منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب معاوية إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصّحابة ، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقُرأت كتبه على النّاس ، فرويت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم ، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتّى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان :

أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوا اسمه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به ، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة ، حتّى إنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.

٢٨٨

فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم النّاس بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها(١) .

وأقول : بأنّ المسؤولية في كلّ ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنّة بالقرآن ، هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم.

وهذه الدّعوى تُضحك المجانين ، وهل القرآن والسنّة سُكّر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، وحتى السكّر والملح لا يختلطان; لأنّ كلّ واحد محفوظ في علبته الخاصّة به ، فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاصّ به ، والسنّة النّبوية في كتاب خاصّ بها ، كما هو الحال عندنا اليوم!! ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر ابن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) ، فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن ، رغم أن كتب الحديث تُعدُّ بالمئات؟! فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم ، وهذا لا يختلط بمسند أحمد ، ولا بموطأ الإمام مالك ، فضلا عن أن يختلط بالقرآن الكريم.

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٤٤.

٢٨٩

فهذه حجّة واهية كبيت العنكبوت لا تقوم على دليل ، بل الدليل على عكسها أوضح ، فقد روى الزهري عن عروة أنّ عمر بن الخطاب أرادَ أن يكتب السنن ، فاستفْتى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتُبها ، فطفقَ عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً فقال : إنّي كنت أُريد أن أكتب السُّنن ، وإنّي ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً(١) .

أنظر أيها القارئ إلى هذه الرواية ، كيف أشار أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر بأن يكتب السُّنن ، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه ، بدعوى أنّ قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة؟! ثمّ أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله ، لم نسمع بهم إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب؟! وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة ، إذ إنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله ، فقد جاء في القرآن الكريم :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

أمّا كتابة السنن فليستْ كذلك; لأنّها صادرة عن نبي معصوم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحىٌّ يُوحَى ، وهي مُبيّنة ومفسّرة لكتاب الله ، قال

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٩١ ح ٢٩٤٧٤ عن ابن عبدالبر ، المصنّف لعبد الرزاق ١١ : ٢٥٧ ح ٢٠٤٨٤ ، نحوه الطبقات لابن سعد ٣ : ٢٨٧ ، جامع بيان العلم وفضله : ٧٦.

(٢) البقرة : ٧٩.

٢٩٠

تعالى :( وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ) (١) .

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أوتيتُ القرآن ومثله معه »(٢) ، وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن ، فليس هناك الصّلوات الخمس ، ولا الزكاة بمقاديرها ، ولا أحكام الصّوم ، ولا أحكام الحجّ ، إلى كثير من الأحكام التي بيّنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكلّ ذلك قال الله تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٣) .

وقال :( قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٤) .

وليتَ عُمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه; ليتعلّمَ منه الامتثال إلى أوامر الرّسول ، ولا يُناقشها ولا يطعن فيها(٥) .

وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه ، ليتعلّم منه حكم الكلالة(٦) التي ما عرفها حتى مات ، وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة ، وليتَه عرف كتاب الله وأكبْ عليه; ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته ، وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء(٧) ، وليتَه عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح

____________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٣١ ، تفسير ابن كثير ١ : ٤.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) آل عمران : ٣١.

(٥) صحيح البخاري١ : ٣٧ باب كتابة العلم ، و ٥ : ١٣٨ ، في رزية الخميس.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٨١ ، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً.

(٧) صحيح البخاري ١ : ٩٠ ، صحيح مسلم ١ : ١٩٣ باب التيمّم وفيه : « إنّ رجلا أتى عمر فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال : لا تصلِّ ».

٢٩١

بإحسان ، والذي جعله هو طلقةٌ واحدة(١) ، وعارض برأيه واجتهاده أحكام الله ، وضرب بها عرض الحائط.

والحقيقة التي لا مجال لدفعها ، هي أنّ الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث ، وهدّدوا من يتحدّث بها ، وضربوا عليها الحصار; لأنّها تفضح مخطّطاتهم ، وتكشف مؤامراتهم ، ولا يجدون مجالا لتأويلها كما يتأولون القرآن; لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجه ، أمّا السُّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها.

ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج :« لا تُخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقُولون ، ولكن حاججهم بالسنّة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً »(٢) .

أبو بكر يسلّم الخلافة لصاحبه عمر ويخالف بذلك النصوص الصّريحة

يقول الإمام عليعليه‌السلام في هذا الموضوع بالذّات :

« أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلمُ أنّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عني السّيلُ ولا يرقى إلىَّ الطير ، فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين

____________

(١) صحيح مسلم٤ : ١٨٣ في كتاب الطلاق ، باب طلاق الثلاث من جزءه الأول.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١٣٦ ، الخطبة ٧٧.

٢٩٢

قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهْباً ، حتّى مضى الأولُ لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعدَهُ.

( شتان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر )

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغْلظُ كلامُها ، ويخشنُ مسُّها ، ويكثُرُ العثَارُ فيها ، والاعتذار منها » الخطبة(١) .

يعرفُ كلّ محقّق وباحث بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ بالخلافة وعيّن علي ابن أبي طالب قبل وفاته ، كما يعرف ذلك أغلب الصّحابة ، وفي مقدّمتهم أبو بكر وعمر ، ولهذا كان الإمام علي يقول : « وإنه ليعلمُ أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ».

ولعلّ ذلك ما دعا أبو بكر وعمر أن يمنعا رواية الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قدّمنا في الفصل السّابق ، وتمسّكا بالقرآن لأنّ القرآن وإن كان فيه آية الولاية ، غير أنّ اسم علي لم يذكر صراحة كما هو الحال في الأحاديث النّبوية ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فهذا علىٌّ مولاه »(٢) ، و « علىّ مني

____________

(١) نهج البلاغة ١ : ٣٠ ، الخطبة ٣ ، المعروفة بالشقشقية.

(٢) مسند أحمد ١ : ٨٤ وصرّح محقّق الكتاب الشيخ أحمد شاكر بصحة متن الحديث وقال : ( ورد عن طرق كثيرة ، ذكر المناوي في شرح الجامع الصغير في الحديث ٩٠٠٠ عن السيوطي أنّه قال : « حديث متواتر » ) ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٥ ح ١٢١ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ح ٣٧٩٧ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١١٠ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٥٩٠ ، وغيرها من المصادر الكثيرة. وهو حديث متواتر كما صرّح الشيخ الألباني في صحيحته ٤ : ٣٤٣.

٢٩٣

بمنزلة هارون من موسى »(١) و « علي أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي »(٢) و « علىّ منّي وأنا منه وهو ولىّ كلّ مؤمن بعدي »(٣) .

____________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ كتاب الفضائل ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٢ ، ح ٣٨٠٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٤٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٦ ، كتاب السنّة : ٥٨٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٤ ح ٨١٣٨ ، وغيرها.

(٢) قريب منه في تاريخ الطبري ٢ : ٦٣ ، الخصائص للنسائي : ٤٩ ح ٦٥ في حكاية يوم الدار ونزول قوله تعالى :( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) .

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٢ ح ٣٧١٢ وقال : « هذا حديث حسن غريب » ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٩ ح ٨٩ ـ ٩٠ ، مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٤٣٧ ، فضائل الصحابة ٢ : ٦٠٥ ح ١٠٣٥ ، مسند أبي داود الطياسي : ١١١ح ٨٢٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٦ : ٣٧٥ ح ٣٢١١٢ ، صحيح ابن حبان ٥ : ٣٧٣ ح ٦٩٢٩ ، المستدرك ٣ : ١١٠ ، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولم يتعقبه الذهبي بشيء ، حلية الأولياء ٦ : ٢٩٤ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٥ : ٢٦١ ح ٢٢٢٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٥١ ، مختصر إتحاف السادة المهرة ٩ : ١٧٠ح ٧٤١ وقال البوصيري : رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح.

ولأجل وضوح دلالة هذا الحديث على خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام أنكره ابن تيمية وطعن فيه ، قال في منهاج سنته ٤ : ١٠٤ : « قوله : ( وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ) كَذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كلّ مؤمن ، وكلّ مؤمن وليّه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضدّ العداوة لا تختصّ بزمان ، أما الولاية التي هي الامارة فيقال فيها : والي كل مؤمن بعدي ».

ويكفي ردّاً على كلام ابن تيمية ما ذكره شيخ السلفية المحدّث محمّد ناصر الدين الألباني في سلسلته الصحيحة ٥ : ٢٦٣ إذ قال بعد تخريجه الحديث :

٢٩٤

وبذلك نفهم مدى نجاح المخطّط الذي رسمه أبو بكر وعمر في منع وحرق الأحاديث النبويّة ، وجعل كمّامات على الأفواه حتى لا يتحدّث الصّحابة بها ، كما قدّمنا في رواية قرظة بن كعب ، واستمرّ ذلك الحصار ربع قرن ، وهي مدّة الخلفاء الثـلاثة ، حتى إذا جاء علي للخـلافة نرى أنّه استشهد الصّحابة يوم الرحبة على حديث الغدير ، فشهد له ثلاثون صحابيّاً(١) منهم سبعة عشر بدريّاً(٢) .

وهذا يدلّ دلالة واضحة بأنّ هؤلاء الصّحابة ، وعددهم ثلاثون ، ما كانوا ليتكلّموا لولا أن طلب منهم أمير المؤمنين ذلك ، فلو لم يكن علىّ خليفة وبيده القوّة لأقعدهم الخوف عن أداء الشّهادة ، كما وقع ذلك فعلا من بعض الصّحابة الذين أقعدهم الخوف أو الحسد عن الشهادة ، أمثال أنس بن مالك ، والبرّاء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وجرير بن عبد الله البجلي ، فأصابتهم دعوة علي بن أبي طالب(٣) .

ولم ينعم أبو ترابعليه‌السلام بالخلافة ، فكانت أيامه كلّها محن وفتن ، ومؤامرات وحروب شُنّتْ عليه من كلّ حدب وصوب ، وبرزت تلك الأحقاد

____________

« فمن العجب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة ( ٤ / ١٠٤ ) كما فعل بالحديث المتقدّم هناك فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث إلاّ التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة ».

(١) مسند أحمد ٤ : ٣٧٠ وفيه أيضاً « وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا ».

(٢) مسند أحمد ١ : ١١٩ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، وفيه أيضاً : « فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ».

(٣) أنساب الأشراف ١٥٧ ح ١٦٩ ، ونحوه السيرة الحلبية ٣ : ٣٨٥ ، المعجم الكبير ٥ : ١٧٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٠٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ٢١٨.

٢٩٥

والضغائن البدرية والحنينية والخيبرية حتى سقط شهيداً ، ولم تجد تلك السّنن النبويّة آذاناً صاغية لدى الناكثين والقاسطين والمارقين ، والانتهازيين الذين أَلِفُوا الفساد والرشوة وحبّ الدنيا أيام عثمان ، فلم يكن ابن أبي طالب ليصلح فساد وانحراف ربع قرن في ثلاث أو أربع سنوات إلاّ بفساد نفسه ، وهيهات منه ذلك وهو القائل : « والله إنّي لأعرف ماذا يُصلحكم ، ولكن لا أصلحكم بفساد نفسي »(١) .

ولم تطل المدّة حتى اعتلى سدّة الخلافة معاوية بن أبي سفيان ، فواصل المخطّط ، كما قدّمنا في منع الأحاديث إلاّ ما كان في زمن عمر ، وذهب شوطاً أبعد من ذلك ، فانتدب من الصّحابة والتّابعين زمرة لوضع الأحاديث ، فضاعت سنّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خضمّ تلك الأكاذيب والأساطير والفضائل المختلقة.

واستمرّ المسلمون على ذلك قرناً كامِلا ، وأصبحتْ سنّة معاوية هي المتّبعة لدى عامّة المسلمين ، وإذا قلنَا سنّة معاوية فمعناه السنّة التي ارتضاها معاوية من أفعال الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ، وما أضافه هو وأتباعه من وضع وتزوير ، ولعْن وسبّ لعلي وأهل بيته وشيعته من الصّحابة المخلصين.

ولذلك أعود وأكرر بأنّ أبا بكر وعمر نجحا في هذا المخطّط لطمس السّنن النبويّة بدعوى الرجوع إلى القرآن ، فإنّك ترى اليوم وبعد مرور أربعة عشر قرناً ، إذا ما حاججتَ بالنّصوص النّبوية المتواترة التي تُثبتُ بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنَ عليّاً خليفةً لَهُ ، فسيُقال لك : دعنا من السنّة النبويّة التي أُختلِفَ فيها وحسبُنَا كتاب الله ، وكتاب الله لم يذكر بأنّ علياً هو خليفة النّبي ، بل

____________

(١) نحوه الكافي ٨ : ٣٦١ ، أنساب الأشراف : ٤٥٨.

٢٩٦

قال : « وأمرهم شورى ».

وهذه هي حجّتُهم ، فما كلّمتُ أحداً من علماء أهل السنّة إلاّ وكانت الشورى هي شعارُهم وديدنهم.

وبقطع النّظر على أنّ خلافة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله المسلمين شرّها(١) ، فلم تكن عن مشورة كما يدّعي البعض ، بل كانت بالغفلة وبالقوة والقهر والتهديد والضرب(٢) ، وتخلّف عنها وعارضها الكثير من خيرة الصّحابة ، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وسعد بن عبادة ، وعمّار ، وسلّمان ، والمقداد ، والزبير ، والعبّاس ، وغير هؤلاء كثيرون ، كما يعترف بذلك جلّ المؤرّخين لهذا الحدث.

ولنغضّ الطّرف عنها ونأتي إلى استخلاف أبي بكر لعمر بعده ، ونسأل أهل السنّة الذين يتشدّقون بمبدأ الشورى : لماذا عيّنَ أبو بكر خليفته ، وفرضه على المسلمين بدون أن يترك الأمر شورى بينهم كما تدّعون؟

ولمزيد من التّوضيح وكالعادة لا نستدل إلاّ بكتب أهل السنّة ، أُقدّم إلى القارئ كيفية استخلاف أبي بكر لصاحبه.

ينقل ابن قتيبة في كتابه تاريخ الخلفاء ، في باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما ، قال :

« ثمّ دعا عثمان بن عفّان فقال : أكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى

____________

(١) البخاري ٨ : ٢٦ كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ، باب رجم الحبلى من الزنا.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٢٦ ، بيعة أبي بكر وكيفية أخذ البيعة من عليّعليه‌السلام .

٢٩٧

عليه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها ، إنّي استخلفْتُ عليكم عمر بن الخطاب ، فإن تروه عدلا فيكم فذلك ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون ».

ثمّ ختم الكتاب ودفعه ، فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر ، فقالوا : نراك استخلفتَ علينَا عمر ، وقد عرفتَهُ ، وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا وليتَ عنّا ، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك ، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر : لئن سألني الله لأقولن : استخلفت عليهم خيرهم في نفسي »(١) .

ويذكر بعض المؤرّخين : أنّ أبا بكر لمّا استدعى عثمان ليكتب عهده ، أُغْمِيَ عليه أثناء الإملاء ، فكتب عثمان اسم عمر بن الخطّاب ، فلمّا أفاق قال : اقرأ ما كتبتَ ، فقرأ وذكر اسم عمر ، فقال : أنّى لك هذا؟ قال : ما كنتَ لتعدُوه ، فقال : أصبتَ.

فلمّا فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة ، فقال له : ما أنت قائل لربّك غداً وقد وليّت علينا فظّاً غليظاً ، تفرق منه النّفوس وتنفضّ عنه القلوب؟

فقال أبو بكر : أسندوني وكان مستلقياً ، فأسندوه فقال لطلحة : أبالله

____________

(١) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة المعروف بالإمامة والسياسة ١ : ٣٧.

٢٩٨

تخوّفني ، إذا قال لي ذلك غداً قلتُ له : ولّيتُ عليهم خير أهلك(١) .

وإذا كان المؤرّخون يتّفقون على استخلاف أبي بكر لعمر بدون استشارة الصّحابة ، فلنا أن نقول بأنّه استخلفه رغم أنف الصّحابة وهم له كارهون ، وسواء أقال ابن قتيبة : « دخل عليه المهاجرون والأنصار فقال : قد علمت بوائقه فينا » أم كما قال غيره : « دخل عليه قوم من الصّحابة منهم طلحة فقال له : ما أنت قائل لربِّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً تفرق منه النفوس وتنفضّ عنه القلوب » فالنتيجة واحدة ، وهي إنّ الصّحابة لم يكن أمرهم شورى ، ولم يكونوا راضين عن استخلاف عمر ، وقد فرضه عليهم أبو بكر فرضاً بدون استشارتهم ، والنتيجة هي التي تنبأ بها الإمام علي عندما شدّد عليه عمر بن الخطّاب ليبايع أبا بكر ، فقال له : « أحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً »(٢) .

وهذا بالضبط ما قاله أحد الصّحابة لعمر بن الخطاب ، عندما خرج بالكتاب الذي فيه عهد الخلافة ، فقال له : ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال : لا أدري ، ولكنّي أوّل من سمع وأطاع ، فقال الرّجل : لكني والله أدري ما فيه ،

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٦٣ ، البداية والنهاية لابن كثير ٥ : ١٦ : « وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطّاب ». تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٣ ، ط روائع التراث ، الكامل في التاريخ ٢ : ٤٢٥ والذي قال عن تاريخه : « لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة ، والكتب المشهورة ممّن يعلم بصدقهم فيما نقولوه وصحة ما دونوه ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي ، ولا كمن يجمع الحصباء واللآلي » الكامل في ١ : ٣ المقدّمة.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢٩.

٢٩٩

أمّرته عام أوّل ، وأمّرك العام(١) .

وبهذا يتبيّن لنا بوضوح لا شكّ فيه بأنّ مبدأ الشورى الذي يطبّل له أهل السنّة لا أساس له عند أبي بكر وعمر ، أو بتعبير آخر : إنّ أبا بكر هو أوّل من هدم هذا المبدأ وألغاه ، وفتح الباب أمام الحكّام من بني أُميّة أن يُعيدوها ملكية قيصرية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، وكذلك فعل بنوالعبّاس من بعدهم ، وبقيت نظرية الشورى حُلماً يراود أهل السنّة والجماعة لم ولن يتحقّق.

وهذا يذكّرني بمحاورة دارت بيني وبين عالم من علماء الوهّابية السعوديين في مسجد نيروبي بكينيا على مشكلة الخلافة ، وكنتُ من أنصار النصّ على الخليفة ، وأنّ الأمر كلّه لله يجعله حيث يشاء ، ولا دخل لاختيار الناس في ذلك.

وكان هو من أنصار الشورى ، ويدافع عنها دفاعاً مستميتاً ، وكان حوله مجموعة من الطلبة الذين يأخذون العلم عنه ، وهم يؤيّدونه في كلّ ما يقول ، بدعوى أنّ حجّته من القرآن الكريم ، إذ يقول تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ ) (٢) ويقول :( وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (٣) .

ولمّا عرفْتُ أنّني مقهور مع هؤلاء لأنّهم تعلّموا من أستاذهم كلّ الأفكار الوهّابية ، كما عرفت أنّهم غير قابلين للاستماع إلى الأحاديث الصّحيحة ، وهم يتشبثون ببعض الأحاديث التي يحفظونها وأغلبها من الموضوعات ،

____________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٣٨.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) الشورى : ٣٨.

٣٠٠