فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 53202
تحميل: 3244

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53202 / تحميل: 3244
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

من الطرفين باسم الإسلام.

ولم أكن أُصدّق ، معتقداً بأنّه مبالغة في التشويه ، ولكنّ ما شاهدته وما سمعته من خلال زيارتي يبعث حقّاً على الحيرة والاستغراب ، وأيقنتُ بأنّ هناك نوايا خسيسة ومؤامرات خطيرة تُحاك ضدّ الإسلام والمسلمين للقضاء عليهم جميعاً سنّة وشيعة.

وممّا زاد يقيني وضوحاً وعلمي رسوخاً تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنّة ، يتقدّمهم الشيخ عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية ، وكان اللقاء في مسجدهم ببومباي وبدعوة منهم.

وما أن حللتُ بينهم حتّى بدأ الأزدراء والتهكّم والسبُّ واللّعنُ لشيعة آل البيت ، وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي لعلمهم مسبقاً بأنّي قد ألّفتُ كتاباً يدعو للتّمسك بمذهب أهل البيت سلام الله عليهم.

ولكنّي فهمتُ قصدهم ، وتمالكتُ أعصابي ، وابتسمتُ لهم قائلا : أنا ضيف عندكم وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مُسرعاً مُلبياً ، فهل دعوتموني لتسبّوني وتشتموني؟ وهل هذه هي الأخلاق التي علّمكم إيّاها الإسلام؟ فأجابوني بكلّ صلافة بأنّي لم أكن يوماً في حياتي مسلماً; لأنني شيعي ، والشيعة ليسوا من الإسلام في شيء ، وأقسموا على ذلك.

قلتُ : اتّقوا الله يا إخوتي ، فربّنا واحد ، ونبيّنا واحد ، وكتابنا واحد ، وقبلتنا واحدة ، والشيعة يوحّدون الله ، ويعملون بالإسلام اقتداءً بالنبي وأهل بيته ، وهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ويحجّون بيت الله الحرام ، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟!

أجابوني : أنتم لا تؤمنون بالقرآن ، أنتم منافقون تعملون بالتقية ، وإمامكم

٢١

قال : « التقية ديني ودين آبائي » ، وأنتم فرقة يهودية أسّسها عبد الله بن سبأ اليهودي.

قلتُ لهم مبتسماً : دعونا من الشيعة ، وتكلّموا معي أنا شخصياً ، فقد كنتُ مالكياً مثلكم ، واقتنعتُ بعد بحث طويل بأنّ أهل البيت هم أحقّ وأولى بالاتّباع ، فهل عندكم حجّة تجادلوني بها ، أو تسألوني ما هو دليلي وحجّتي عسى أن نفهم بعضنا بعضاً؟

قالوا : أهل البيت هم نساء النبي وأنت لا تعرف من القرآن شيئاً.

قلت : فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم يُفيدان غير ما ذكرتم!

قالوا : كلّ ما في البخاري ومسلم وكتب السنّة الأُخرى من حجج تحتجّون بها هي من وضع الشيعة دسّوها في كتبنا.

أجبتهم ضاحكاً : إذا كان الشيعة وصلوا للدّس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ، ولا لمذهبكم القائم عليها!! فسكتوا وأفحموا ، ولكنّ أحدهم عَمَدَ إلى التهريج والإثارة من جديد فقال : من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين : سيّدنا أبي بكر ، وسيّدنا عمر ، وسيّدنا عثمان ، وسيّدنا علي ، وسيّدنا معاوية ، وسيّدنا يزيد رضي الله عنه وأرضاه ، فليس بمسلم!

ودهشت لهذا الكلام الذي ما سمعتُ مثله في حياتي ، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد ، وقلتُ في نفسي : معقول أن يترضّى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمرٌ طبيعي ، أمّا على يزيد فلم أسمع ذلك إلاّ في الهند. والتفتُّ إليهم جميعاً أسألهم : أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلّهم : نعم.

وعند ذلك عرفتُ بأن لا فائدة في مواصلة الكلام ، وفهمتُ بأنّهم إنّما

٢٢

يريدون إثارتي حتّى ينتقموا منّي ، وربّما يقتلوني بدعوى سبّ الصحابة فمن يدري؟

ورأيتُ في أعينهم شرّاً ، وطلبتُ من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يُخرجني فوراً ، فأخرجني وهو يتحسّر ويعتذر إلىَّ على ما وقع.

وهذا الشخص البريء الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرّف على الحقيقة هو الشاب المهذّب شرف الدين ، صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في بومباي ، فهو شاهد على كلّ ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة ، ولم يُخفِ استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنّهم من أكبر العلماء.

وغادرتهم وأنا ساخط متأسّف على ما وصلت إليه حالة المسلمين ، وخصوصاً الذين يتزعّمون مراكز الصدارة ويتسمّون بالعلماء ، وقلتُ في نفسي : إذا كان العلماء بهذه الدرجة من التعصّب الأعمى ، فكيف يكون عامة النّاس وجهّالهم؟!

وعرفتُ عندئذ كيف كانت تقوم المعارك والحروب التي تسفك فيها الدماء المحرّمة ، وتُهتك فيها الأعراض والحُرمات باسم الدفاع عن الإسلام ، وبكيتُ على مصير هذه الأُمة التّعيسة المنكوبة التي حمّلها الله سبحانه مسؤولية الهداية ، وحمّلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً مسؤولية إيصال النور إلى القلوب المظلمة ، فإذا بها تصبح بحاجة إلى بصيص من النّور.

وفي وقت يكون فيه في الهند وحدها سبعمائة مليون نسمة يعبدون غير الله تعالى ، ويقدّسون البقر والأصنام والأوثان ، وبدلا من أن تتوحّد جهود المسلمين لهدايتهم وإرشادهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى

٢٣

يُسلموا لربّ العالمين ، نرى أنّ المسلمين اليوم وخصوصاً في الهند هم بحاجة إلى الهداية والتصحيح.

لهذا سيّدي أرفع كتابي إليكم داعياً إيّاكم باسم الله الرحمن الرحيم ، وباسم رسوله الكريم ، وباسم الإسلام العظيم ، ولقوله تعالى :( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (١) أدعوكم أن تقفوا وقفة المسلم الشجاع الذي لا يخشى في الله لومة لائم ، ولا تأخذه العصبية ولا الطائفية إلى حيث يحبّ الشيطان وأولياءه.

أدعوكم لوقفة مخلصة وصريحة ، فأنتم من الذين حمّلهم الله المسؤولية مادمتم تتكلّمون باسم الإسلام في تلك الربوع ، فلا يرضى الله منكم أن تقفوا وقفة المتفرّج الراضي بما يقعُ هنا وهناك من مآس ، يدفع ثمنها الأبرياء من المسلمين سنّة وشيعة ، والله سائلكم يوم القيامة عن كلّ صغيرة وكبيرة ، ومحاسبكم عن كلّ شاردة وواردة; لأنّه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

ومادمتم تتزعّمون علماء الهند ، فمسؤوليتكم عظمى لا شكّ فيها ، وكلمة منكم قد يكون فيها صلاح الأُمّة في الهند ، كما قد يكون فيها هلاك الحرث والنسل ، فاتقوا الله يا أُولي الألباب!

وبما أنّ الله سبحانه أعطى للعلماء المرتبة الأُولى بعد الملائكة ، فقال عزّ

____________

(١) آل عمران : ١٠٣.

٢٤

من قائل :( شَهِدَ اللّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَاُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ ) (١) .

وإذا كان سبحانه يأمرنا جميعاً بقوله :( وَأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ ) (٢) .

وإذا كان المفسّرون يذهبون إلى ضرورة إقامة العدل في الموازين المادّية ذات القيمة المحدودة ، فما بالكم بإقامة العدل في القضايا العقائدية التي تتأرجح بين الحقّ والباطل ، وتتوقّف عليها هداية البشرية ، ونجاة الإنسانية بأسرها؟!

قال الله تعالى :( وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ ) (٣) .

وقال أيضاً :( يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (٤) .

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قل الحقّ ولو على نفسك »(٥) ، « قل الحقّ ولو كان مُرّاً »(٦) .

سيّدي العزيز ، إلى كتاب الله أدعوكم ، وإلى سنّة رسوله أدعوكم ، فقولوها صريحة مُدوّية ولو كانت مرّة تكون لكم شهادة عند الله ، بربّك هل الشيعة عندكم غير مسلمين؟

____________

(١) آل عمران : ١٨.

(٢) الرحمن : ٩.

(٣) النساء : ٥٨.

(٤) ص : ٢٦.

(٥) البحار ٧٤ : ١٧١.

(٦) صحيح ابن حبان ٢ : ٧٩ ، الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٤٢٨ ح ٢٧٩٣.

٢٥

هل تعتقدون حقّاً أنّهم كفّار؟ هل أتباع أهل البيت النّبوي الذين يوحّدون الله ، ويعظّمونه أكثر من كلّ الفرق ـ لقولهم بتنزيهه عن المشابهة والمشاكلة والتجسيم ـ ويؤمنون برسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعظّمونه أكثر من كلّ الفرق ـ لقولهم بعصمته المطلقة حتى قبل البعثة ـ هل هؤلاء تحكمون بكفرهم؟

هل الذين يتولّون الله ورسوله والذين آمنوا ، ويهوون هوى عترة النّبي ويوالونهم ، كما عرّفهم ابن منظور في « لسان العرب » في مادة « شيعة » ، فهل تقولون أنتم بأنّهم غير مسلمين؟

هل هؤلاء الشيعة الذين يُقيمون الصلاة كأفضل قيام ، ويؤتون الزكاة ، ويزيدون عليها خمس أموالهم طاعة لله ولرسوله ، ويصومون رمضان وغيره من الأيام ، ويحجّون البيت ، ويعظّمون شعائر الله ، ويحترمون أولياء الله ، ويتبرؤون من أعداء الله وأعداء الإسلام ، هل هؤلاء عندكم مشركون؟

هل الذين يقولون بإمامة اثني عشر إماماً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وقد نصّ عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم وغيرهما من صحاح أهل السنّة(١) ، هل هؤلاء عندكم مارقين عن الإسلام؟

هل كان المسلمون يوماً يجهلون الإمامة ولا يقرّون بها ، سواء كان ذلك في حياة الرسول أو بعد وفاته ، حتى نلصق نظرية الإمامة ومبادئها بالفرس والمجوس؟

____________

(١) يقصد حديث « الخلفاء الاثني عشر » الوارد في صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ، كتاب الأحكام باب ٥٢ ، صحيح مسلم ٦ : ٣ كتاب الامارة باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

٢٦

وهل تقولون فعلا بكفر من لايعترف بإمامة يزيد بن معاوية الذي عرف فسقه الخاصّ والعامّ من المسلمين ، ويكفي يزيد خسّة وسقوطاً ما أجمع عليه المسلمون من إباحته المدينة المنوّرة لجيشه وجنده يفعلون فيها ما يشاؤون لأخذ البيعة له بالقهر على أنّهم له عبيد ، فقتلوا عشرة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين ، وهتكوا فيها أعراض المحصنات من النساء والفتيات المسلمات حتّى ولدن من سفاح ما لا يُحصي عدده إلاّ الله.

ويكفيه عاراً وشناراً وخزياً مدى الدهر قتله سيّد شباب أهل الجنّة ، وسبيه بنات الرسول ، وضربه ثنايا الحسين بقضيبه ، وتمثله بالأبيات المعروفة :

« ليت أشياخي ببدر شهدوا » إلى قوله : « لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحي نزل ».

وهو صريح بأنّه لا يؤمن بنبوّة محمّد ولا بالقرآن الكريم ، فهل حقّاً توافقون على تكفير من تبرّأ من يزيد وأبيه معاوية الذي كان يلعن عليّاً ويأمر بلعنه ، بل ويقتلُ كلّ من امتنع عن ذلك من خيرة الصحابة كما فعل مع حجر بن عدي الكندي وأصحابه ، وسنّها سنّة متبعة دامت سبعون عاماً ، وهو يعلم قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سبّ علياً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله »(١) . كما أخرج ذلك صحاح أهل السنّة.

____________

(١) المستدرك للحاكم ٣ : ١٢١ ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٦٠٨ ح ٨٧٣٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٥٣٣ ، وفي مسند أحمد ٦ : ٣٢٣ صدر الحديث فقط ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١٣٠ : « رواه

٢٧

إضافة إلى ما قام به من أعمال تتنافى مع الإسلام ، وقتله الأبرياء والصلحاء من أجل أخذ البيعة لابنه يزيد بالقهر والقوّة ، وقتله الحسن بن علي عن طريق جعدة بنت الأشعث ، إلى جرائم أُخرى كثيرة يذكرها له التاريخ عند أهل السنّة ، كما يشهد له بها شيعة علي.

فما أظنّكم سيّدي توافقون على كلّ ذلك ، وإلاّ فعلى الإسلام السّلام ، وعلى الدنيا العفا ، وعندها لا يبقى بعد ذلك مقاييس ولا عقل ، ولا شرع ، ولا منطق ، ولا دليل ، والله سبحانه وتعالى يقول :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (١) .

ولقد صدق والله عالم الباكستان المغفور له أبو الأعلى المودودي ( رحمه الله )

____________

أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة ».

وقال الشيخ الألباني في صحيحته المجلد السابع القسم الثاني : ٩٩٦ ح ٣٣٣٢ : « ( كان يحب علياً ) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ٦ : ٣٨٩ / ٥٨٢٨ ، والمعجم الصغير ١١٩ هندية : حدّثنا محمّد بن الحسن أبو حصين القاضي ، قال : حدّثنا عون بن سلام ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن السدي عن أبي عبد الله الجدلي قال : قالت لي أُم سلمة : أيُسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينكم على المنابر؟!

قلت : سبحان الله ، وأنى يسبّ رسول الله؟!

قالت : أليس يسب علي بن أبي طالب ومن يحبّهُ; وأشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّه » :

وقال الطبراني : لم يروه عن السدي إلاّ عيسى.

قلت : ومن طريقه أخرج أبو يعلى في مسنده ١٢ : ٤٤٤ / ٤٤٥ ، والطبراني أيضاً في المعجم الكبير ٢٣ : ٣٢٣ / ٧٣٨ من طرق أُخرى عن عيسى به.

قلت : وهذا إسناد جيّد رجاله كلّهم ثقات « انتهى كلام الألباني.

(١) التوبة : ١١٩.

٢٨

عندما ذكر في كتابه المسمّى بـ « الخلافة والملك » في صفحة ١٠٦ نقلا عن الحسن البصري قوله :

أربع خصال كنّ في معاوية لو لم تكن له إلاّ واحدة لكانت موبقة له :

١ ـ أخذه الأمر من غير مشورة المسلمين ، وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة.

٢ ـ استخلافه بعده ابنه السكير الخمير الذي يلبس الحرير ويضرب الطنابير.

٣ ـ إدّعاؤه زياداً ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

٤ ـ قتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر ( أعادها ثلاثاً )(١) .

فرحم الله أبا الأعلى المودودي الذي صدع بالحقّ ولو شاء لزاد فوق هذه الخصال الأربع أربعين ، ولكنّه رحمه الله رأى أنّ في ذلك كفاية لتكون موبقة لمعاوية ، والمعروف أنّ كلمة موبقة معناه ( توبق في النار ).

ولعلّ المودودي كان يراعي عواطف النّاس الذين تعلّموا من أسلافهم تقديس معاوية واحترامه والترضّي عليه ، بل وحتّى على ابنه يزيد أيضاً كما سمعت ذلك بنفسي من علمائكم في الهند ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

____________

(١) وانظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٦٣ عن الموفقيات للزبير بن بكار ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٠٨.

٢٩

ولكلّ ذلك راعيتُ أنا أيضاً عواطف أُولئك الذين دعوني ليستفزّوني ، فلم أذكر لهم شيئاً من ذلك خوفاً على نفسي.

فأنا أهيب بكم سيّدي أن تقفوا وقفة صريحة تبغون بها وجه الله تعالى ، فإنّ الله لا يستحيي من الحقّ ، ولا أطلب منكم الاعتراف بمساوئ هؤلاء ولا بنشر فضائحهم ، فالتاريخ كفانا وإياكم مؤونة ذلك ، ولكن المطلوب منكم أن تعترفوا وتُعلّموا أتباعكم بأنّ الذين لا يعترفون بإمامة هؤلاء ولا يوالونهم ، هم مسلمون حقيقيون جديرون بالاحترام وليس في ذلك شكّ ، أن تقولوا بأنّ الشيعة مظلومون على مرّ التاريخ; لأنّهم لم يتّبعوا ولم يعترفوا بإمامة الشجرة الملعونة التي ضربها الله مثلا في القرآن.

فما هو ذنب الشيعة بربّكم ، إذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر المسلمين باتّباع أهل بيته من بعده حتى جعلهم كسفينة نوح ينجو من يركب فيها ويهلك من يتخلّف عنها؟! وما ذنب الشيعة إذا امتثلوا لأمر الرسول بقوله : « تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » كما تشهد بذلك صحاح السنّة فضلا عن كتب الشيعة؟!

وبدلا من شكرهم وتقديمهم وتفضيلهم على غيرهم لامتثالهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نشتمهم ونكفّرهم ونتبرّأ منهم ، فما هذا بإنصاف ولا هو معقول!!

دعونا سيّدي من أقوال التخريف والتزييف التي لم تعدّ تقوم على دليل وبرهان ، ولم تعدّ تنطلي على المثقّفين من أبناء أمّتنا ، من أنّ الشيعة لهم قرآن خاصّ بهم ، أو أنّهم يقولون بأنّ صاحب الرسالة هو علي ، أو أنّ عبد

٣٠

الله بن سبأ اليهودي هو مؤسس التشيّع إلى غير ذلك من الأقوال السخيفة المغرضة التي يشهد الله أنّها من خيال أعداء الإسلام وأعداء أهل البيت وشيعتهم ، والتي ما أوجدها إلاّ التعصّب الأعمى والجهل المقيت.

وأنا أسأل سيّدي العزيز : أين علماء الهند من علماء الأزهر الشريف الذين أفتوا بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية منذ ثلاثين عاماً؟ ومن علماء الأزهر الأعلام من يرى بأنّ الفقه الجعفري الذي تعمل به الشيعة هو أشمل وأثرى وأقرب إلى روح الإسلام من المذاهب الإسلامية الأُخرى التي هي عيالٌ عليه ، وعلى رأس هؤلاء فضيلة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله الذي ترأس الأزهر في حياته ، فهل أمثال هؤلاء العلماء لا يعرفون الإسلام والمسلمين؟ أم أنّ علماء الهند أعلم منهم وأعرف؟ فما أظنّكم تقولون بذلك ...!!

سيّدي الكريم أملي فيكم وطيد ، وقلبي إليكم مفتوح بالمحبّة والشفقة والحنان ، وقد كنتُ فيما مضى مثلكم محجوب عن الحقيقة وعن أهل البيت وشيعتهم ، فهداني الله سبحانه إلى الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال ، وتحررتُ من قيود التعصّب والتقليد الأعمى ، وعرفتُ بأنّ أغلب المسلمين لا زالت تحجبهم الإشاعات والأباطيل ، وتصدّهم الدعايات عن الوصول إلى الحقيقة ليركبوا جميعاً في سفينة النجاة ، ويعتصموا بحبل الله المتين.

فليس هناك ـ كما تعلمون ـ بين السنّة والشيعة فرقٌ إلاّ فيما اختلفوا فيه بعد الرسول من أجل الخلافة ، وأساس الفرقة هو اعتقادهم في الصحابة ، والصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيما بينهم حتّى لعنوا بعضهم ، بل

٣١

وتحاربوا ، وقتل بعضهم بعضاً.

فإن يكن الاختلاف فيهم خروجاً عن الإسلام ، فالصحابة هم أولى بهذه التهمة والعياذ بالله ، ولا أعتقد بأنّكم ترضون بذلك. والإنصاف يدعوكم أن لا ترضوا بإخراج الشيعة عن الإسلام ، وكما دأب الشيعة على تقديس أهل البيت واحترامهم ، كذلك دأب السنّة على احترام الصحابة وتقديسهم أجمعين ، وشتّان بين الموقفين.

فإذا كان الشيعة في ذلك مُخطئين فأهل السنّة أولى بالخطأ; لأنّ الصحابة بأجمعهم يُقدّمون على أنفسهم أهل البيت ، ويصلّون عليهم كصلاتهم على النّبي ، ولم نعرف أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم قدّم نفسه أو فضّلها على أهل بيت المصطفى في علم أو في عمل.

فالوقتُ قد حان لرفع المظلمة التاريخية عن شيعة أهل البيت ، والتقارب معهم والتآخي والتعاون على البرّ والتقوى ، ويكفي هذه الأُمة إراقة الدِّماء وإثارة الفتن.

فعسى الله سبحانه يجمع بكم الكلمة ، ويلمّ بكم الشتّات ، ويرتق بكم الفتق ، ويُداوي بكم هذه الجراح ، ويُخمدَ بكم نار الفتنة ، ويُخزي بكم الشيطان وحزبه ، فتكونون عند الله من الفائزين ، خصوصاً وأنّكم من سلالة العترة الطاهرة على ما أسمع ، فاعملوا على أن تُحشروا معهم.

( إنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) ،( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ

____________

(١) الأنبياء : ٩٢.

٣٢

عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) (١) .

وفّقكم الله وإيانا لما فيه خير البلاد والعباد ، وجعلكم الله وإيانا من العاملين المخلصين لوجهه الكريم.

أبعث لسيادتكم وبصحبة هذه الرسالة نسخة من كتاب« ثمّ اهتديت » الذي ألّفتُه بخصوص هذا الموضوع ، هدية منّي إليكم عسى أن يجدَ لديكم القبول.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المخلص

محمّد التيجاني السماوي التونسي

____________

(١) التوبة : ١٠٥.

٣٣

( فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (١)

إنّ هذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بالرّجوع إلى أهل الذكر في كلّ ما أشكل عليهم حتّى يعرفوا وجه الصواب; لأنّ الله رشّحهم لذلك بعدما علّمهم ، فهم الرّاسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن.

وقد نزلت هذه الآية لتعرّف بأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم ، وهم : محمّد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وذلك في عهد النُبوّة ، أمّا بعد النّبي وحتّى قيام السّاعة فهم هؤلاء الخمسة المذكورين أصحاب الكساء ، يضاف إليهم الأئمّة التسعة من ذرية الحسين الذين عيّنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدّة مناسبات ، وسمّاهم أئمّة الهدى ، ومصابيح الدّجى ، وأهل الذكر ، والراسخون في العلم الذين أورثهم الله سبحانه علم الكتاب.

وهذه الروايات ثابتة صحيحة ومتواترة عند الشيعة منذ عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أخرجها بعض علماء أهل السنّة ومفسّروهم ، معترفين بنزولها في أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام ، أذكر من هؤلاء على سبيل المثال :

١ ـ الإمام الثعلبي في تفسيره الكبير في معنى هذه الآية من سورة النّحل.

٢ ـ « تفسير القرآن « لابن كثير في جزئه الثاني الصفحة ٥٧٠.

____________

(١) الأنبياء : ٧.

٣٤

٣ ـ « تفسير الطبري » في جزئه الرابع عشر الصفحة ١٠٩.

٤ ـ تفسير الآلوسي المسمّى « روح المعاني » في جزئه الرابع عشر الصفحة ١٣٤.

٥ ـ« تفسير القرطبي » في جزئه الحادي عشر الصفحة ٢٧٢.

٦ ـ تفسير الحاكم المسمّى « شواهد التنزيل » في جزئه الأوّل الصفحة ٣٣٤.

٧ ـ « إحقاق الحقّ » في جزئه الثالث الصفحة ٤٨٢. [ وقد أورد نزول الآية في أهل البيت عن مصادر أهل السنّة ].

٨ ـ « ينابيع المودّة » للقندوزي الحنفي الصفحة ٥١ و ١٤٠.

ولمّا كان أهل الذكر في ظاهر الآية هم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، كان لزاماً علينا أن نوضّح بأنّهم ليسوا المقصودين من الآية الكريمة.

أولاً : لأنّ القرآن الكريم ذكر في العديد من الآيات بأنّهم حرّفوا كلام الله ، وكتبوا الكتاب بأيديهم ، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا ، وشهد بكذبهم وتقليبهم الحقائق ، فلا يمكن والحال هذه أن يأمر المسلمين بأن يرجعوا إليهم في المسائل التي لا يعلمونها.

ثانياً : روى البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات باب لا يسألُ أهل الشرك من الجزء الثالث صفحة ١٦٣ :

عن أبي هريرة ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تُصدّقوا أهلَ الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أُنزل الآية ».

٣٥

وهو يفيد عدم الرجوع إليهم في المسألة وتركهم وإهمالهم; لأنّ عدم التصديق وعدم التكذيب ينفيان الغرض ، وهو السؤال الذي ينتظر الجواب الصحيح.

ثالثاً : روى البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد باب قول الله تعالى :( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن ) من جزئه الثامن صفحة ٢٠٨ :

عن ابن عبّاس قال : « يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدث الأخبار بالله محضاً لم يُشبْ ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيّروا ، فكتبوا بأيديهم وقالوا : هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلا ، أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! فلا والله ما رأينا رجُلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ».

رابعاً : لو سألنا أهل الكتاب من النّصارى اليوم ، فإنّهم يدّعون بأنّ عيسى هو إله ، واليهود يكذّبونهم ولا يعترفون به حتى نبيّاً ، وكلاهما يكذّب بالإسلام ونبيّ الإسلام ويقولون عنه : كذّاب ودجّال! لكلّ هذا لا يمكنُ أن يُفهم من الآية بأنّ الله أمرنا بمساءلتهم.

ولمّا كان أهل الذكر في ظاهر الآية هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فإنّ هذا لا ينفي أنّها نازلة في أهل بيت النبوّة كما ثبت عند الشيعة والسنّة من طرق صحيحة ، وبذلك يُفهم منها أنّ الله سبحانه وتعالى أورث علم الكتاب الذي ما فرّط فيه من شيء إلى هؤلاء الأئمة الذين اصطفاهم من عباده; ليرجع إليهم النّاس في التفسير والتأويل ، وبذلك تضمّن

٣٦

هدايتهم إذا ما أطاعوا الله ورسوله.

ولأنّ الله سبحانه وجلّتْ حكمته أراد أن يُخضِع النّاس عامّة إلى نخبة منهم ، اصطفاهم وعلّمهم علم الكتاب ، لكي تسهل القيادة وتنتظم أحوال النّاس بذلك ، فلو غاب هؤلاء عن حياة النّاس لأصبح المجال مفتوحاً أمام المُدَّعين والجاهلين ، ولَرَكِبَ كلُّ واحد هَوَاهُ ، واضطربت أُمور النّاس ما دام كلّ واحد يمكنُه ادّعاء الأعلمية.

ولأُبَرْهِنَ على هذا الرأي ، بعد اقتناعي بأنّ أهل البيت هم أهل الذكر فسأوردُ بعض الأسئلة التي ليس لها جواب عند أهل السنّة والجماعة ، أو أنّ لها جواباً ولكن متكلّف لا يستند إلى حجّة يقبلها الباحث المحقّق ، أمّا جوابُها الحقيقي فهو عند هؤلاء الأئمة الأطهار الذين ملأوا الدنيا علماً ومعرفةً ، وعملا وصلاحاً.

٣٧

الفصل الأوّل

في ما يتعلّق بالخَالِق جلّ جلاله

السّؤال الأوّل : حول رؤية الله سبحانه وتجسيمه :

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز :( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ) (١) ،( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٢) ، ويقول لموسى لمّا طلب رؤيته :( لَنْ تَرَانِي ) (٣) .

فكيف تقبلُون بالأحاديث المرويّة في« صحيح البخاري » و «صحيح مسلم » بأنّ الله سبحانه يتجلّى لخلقه ويَروْنَه كما يرون القمر ليلة البدر(٤) ، وأنّه ينزل إلى سماء الدنيا في كلّ ليلة(٥) ، ويضع قدمه في النار فتمتلئ(٦) ،

____________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) صحيح البخاري ٧ : ٢٠٥ كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة الفجر ، صحيح مسلم ١ : ١١٢ كتاب الإيمان ، باب معرفة طريق الرؤية.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٤٧ كتاب التهجّد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، صحيح مسلم ٢ : ١٧٥ كتاب صلاة المسافر ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.

(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٨٦ كتاب التفسير ، باب ( وتقول هل من مزيد ).

٣٨

وأنّه يكشف عن ساقه لكي يعرفهُ المؤمنون(١) ، وأنّه يضحك ويتعجّب. وإلى غير ذلك من الرّوايات التي تجعل من الله جسماً متحرّكاً ومتحوّلا ، له يدان ورجلان ، وله أصابع خمسة يضع على الأوّل منها السماوات ، وعلى الإصبع الثاني الأرضين ، والشجر على الإصبع الثالث ، وعلى الرابع يضع الماء والثرى ، ويضع بقية الخلائق على الإصبع الخامس(٢) ، وله دار يسكُن فيها ، ومحمدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذن للدخول عليه في داره ثلاث مرّات(٣) ، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً ، سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون.

والجواب على هذا عند أئمة الهُدى ومصابيح الدّجى هو التنزيه الكامل لله سبحانه وتعالى عن المجانسة ، والمشاكلة ، والتصوير ، والتجسيم ، والتشبيه ، والتّحديد ، يقول الإمام عليعليه‌السلام في ذلك :

« الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يُحصي نعماءهُ العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا ينالُه غوصُ الفطن ، الذي ليس لصفته حدّ محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقتٌ معدود ، ولا أجل ممدُودُ فمن وصف الله سبحانه فقد قرنَهُ ، ومن قرنَهُ فقدْ ثنّاهُ ، ومن ثنَّاهُ فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهلَه ، ومن جهلَهُ فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حَدَّهُ ، ومن حدّهُ فقد عَدَّهُ ، ومن قَال فِيمَ فقدْ ضمَّنه ، ومن قال علامَ فقد أخلَى

____________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٨٢ كتاب التفسير ، باب يوم يكشف عن ساق.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٣٣ كتاب التفسير ، باب قوله : ( وماقدروا الله حقّ قدره ).

(٣) صحيح البخاري ٨ : ١٨٣ كتاب التفسير ، باب قوله ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) ، صحيح مسلم ١ : ١٢٤ كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها.

٣٩

منه ، كائنٌ لاَ عن حَدَث ، موجودٌ لا عن عَدَم ، مع كلّ شيء لا بمُقارنة ، وغيرُ كلّ شي لا بمزايلة ، فاعِلٌ لا بمعنى الحركات والآلةِ ، بصيرٌ إذْ لا منظور إليه من خلقِهِ »(١) .

وإنّي أُلفِتُ نظر الباحثين من الشباب المثقفين إلى الكنوز التي تركها الإمام عليعليه‌السلام ، والتي جُمعتْ في « نهج البلاغة » ، ذلك السفر القيّم الذي لا يتقدّمه إلاّ القرآن ، والذي بقي مع الأسف مجهولا لدى أغلبية النّاس ، نتيجة الإعلام والإرهاب والحصار المضروب من قبل الأمويين والعبّاسيين على كل ما يتّصل بعلي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولستُ مبالغاً إذا قلتُ بأنّ في « نهج البلاغة » كثيراً من العلوم والنصائح التي يحتاجها النّاس على مرّ العصور ، وفي « نهج البلاغة » علم الأخلاق ، وعلم الاجتماع ، وعلم الاقتصاد ، وإشارات قيّمة في علم الفضاء والتكنولوجيا ، إضافة إلى الفلسفة ، والسّلوك ، والسياسة ، والحكمة.

وقد أثبتُ ذلك شخصياً في الأطروحة التي قدّمتها إلى جامعة السوربون ، والتي نُوقِشتْ على مواضيع أربعة اخترتها من « نهج البلاغة » ، وحصلتُ من خلالها على شهادة الدكتوراه.

فيا ليتَ المسلمين يولون « نهج البلاغة » عناية خاصّة ، فيبحثون فيه كلّ الأطروحات وكل النّظريات ، فهو بحر عميق كلّما غاص فيه الباحث استخرج منه اللؤلؤ والمرجان.

____________

(١) نهج البلاغة : ١ : ١٥ ، الخطبة الأولى.

٤٠