فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60016
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60016 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

وجلّ( فَاقْرَأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ) .

عن عمر بن الخطّاب يقول : سمعتُ هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستمعتُ لقرائته فإذا هو يقرأُ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكدتُ أساورُهُ في الصلاة فتصبّرتُ حتّى سلّم ، فلبّبْتُه بردَائِهِ فقلتُ : من أقرأك هذه السُّورةَ التي سمعتُك تقرأ؟ قال : اقرأنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلتُ : كذبت أقرأنيها علىّ غير ما قرأت ، فانطلقْتُ به أقوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقُلتُ : إنّي سمعتُ هذا يقرأُ سورة الفرقانِ على حروف لَمْ تُقرئْنيها ، فقال : « أَرْسِلْهُ ، إقرأ يا هشام » ، فقرأ القراءة التي سمعتُهُ ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كذلك أُنزلتْ » ، ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اقرأ يا عُمَرُ » ، فقرأتُ التي أقراني فقال : « كذلك أُنزلتْ ، إنّ هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسّرَ منه ».

فهل يبق بعد هذه الرواية شكّ في أنّ الوضّاعين تطاولوا على قداسة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى من خلال القرآن الكريم ، وأنّه علّم الصحابة بقراءات مختلفة ، ويقول لكلّ منهم : « كذلك أُنزل » ، ولو لم تكن القراءة فيها اختلاف كبير ما كان عمر يكاد يقطع على هشام الصّلاة ويتهدّده.

وهذا يذكّرني بعلماء أهل السنّة الذين يتشبّثون بقراءة معيّنة ، فلا يجيزون لأحد أن يقرأ على غير ما يعرفون ، وكنتُ يوماً أقرأ :( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) (١) فانتهرني أحدُهم بشدّة وصرخ قائلا : لا تكسّر القرآن إن كنت تجهل القراءة.

____________

(١) البقرة : ٤٠.

٣٨١

قلت : كيف كسرت القرآن؟

قال : اذكُروا نِعْمَتِيَ ، وليسَ نعْمَتِي.

كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الاستقراض وأداء الدّين ، في باب الخصومات من جزئه الثالث صفحة ٨٨ :

عن عبد الملك بن ميسرة أخبرني قال : سمعتُ النزّال ، سمعتُ عبد الله يقول : سمعت رجلا قرأ آيةً سمعتُ من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافها ، فأخذتُ بيده فأتيتُ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : « كِلاكُما محسنٌ ».

قال شعبة أظنّه قال : لا تختلفوا ، فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكُوا.

سبحان الله وبحمده! كيف يُقرُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلافهم بقوله : « كلاكُما محسنُ »؟ ولا يرجع بهم إلى قراءة موحّدة تقطع دابر الاختلاف.

ثمّ بعد ذلك يقول لهم : لا تختلفوا فتهلكوا ، أليس هذا هو التناقض؟ يا عباد الله افتونا يرحمكم الله ، وهل اختلفوا إلاّ بإقراره هو ومباركته وتشجيعه!! كلاّ وحاش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا التناقض ، والاختلاف الذي تنفُر منه العقول.

أفلا يتدبّرون القرآن الذي يقول :( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (١) ؟! وهل وقع اختلاف أكبر وأخطر على الأمّة الإسلامية من القراءات المتعدّدة التي غيّرت معاني القرآن إلى تفاسير وآراء مختلفة ، فأصبحتْ آية الوضوء الواضحة مختلفاً فيها؟!!

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يتصرّف كالصّبيان! ويعاقب من لا يستحقّ العقوبة!

____________

(١) النساء : ٨٢.

٣٨٢

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ، باب مرض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاته.

ومسلم في صحيحه في كتاب السّلام ، باب كراهة التداوي باللّدود :

عن عائشة قالت : لددْنَا(١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضِهِ ، فجعلَ يشيرُ إلينَا أن لا تلدّوني ، فقلنا : كراهية المريض للدّواء ، فلمّا أفاقَ قال : ألم أنهَكُمْ أنْ تُلُدُّوني؟ قلنا : كراهية المريض للدّواء ، فقال : لا يبْقَى أَحَدٌ في البيت إلاّ لُدَّ وأنَا أنظُرُ ، إلاّ العبّاس فإنَّهُ لم يشْهَدْكُمْ.

عجيب أمر هذا النبىّ المفترى عليه ، الذي جعله المفترون كالصبّي الذي يغرغروه الدّواء المرّ الذي لا يقبله ، فيشير إليهم أن لا يلدوه ، ولكنّهم يغصبونه على ذلك رغم أنفه!

ولمّا يفيق يقول لهم : « ألم أنهكم أن تلدّوني »؟ فيعتذرون له بأنهم ظنُّوا بأن النهي هو كراهية المريض للدّواء ، فيحكم عليهم جميعاً بأن يُلَدُّوا ، وهو ينظر ليشفي غليله منهم ، ولا يستثني منهم إلاّ عمّه العبّاس; لأنّه لم يكن حاضراً عملية اللّدود.

ولم تُكمل السيّدة عائشة نهاية القصة ، وهل نفّذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حُكْمَهُ فيهم أمْ لا ، وعلى طريق مَن وكيف تمّت عملية اللّدود بين النّساء والرّجال الحاضرين.

____________

(١) يقول ابن منظور في لسان العرب ٣ : ٣٩٠ عن هذه العمليّة : « اللدُّ : هو أن يؤخذ بلسان الصّبي فيمدُّ إلى أحد شقّيه ويوجر في الآخر الدّواء في الصدف بين اللّسان والشدق » ( المؤلّف ).

٣٨٣

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسقط بعض آيات من القرآن!

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب نسيانُ القرآن ، وكذلك في باب من لا يرى بأساً أن يقول سورة كذا وكذا.

وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، في باب الأمر بتعهّد القرآن وكراهة قول : نسيتُ آية كذا :

حدّثنا أبو أُسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رَجُلا يقرأُ في سُورة باللَّيل ، فقال : « يَرْحَمُهُ اللّهُ لقد أذكرني آية كذا وكذا كنتُ أُنسيتها من سورة كذا وكذا ».

كما أخرج البخاري رواية أُخرى عن علي بن مُسْهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمع النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قارئاً يقرأُ في اللّيل في المسجد ، فقال : « يَرْحَمُهُ الله لقد أذكرني كذا وكذا أيةً أسْقطتُهَا من سورة كذا وكذا ».

ها هو النّبي الذي أرسله الله سبحانه بالقرآن ، وهو معجزته الخالدة ، والذي كان يحفظه من يوم نزوله عليه جملة قبل نزوله أنجماً ، وقد قال له تعالى :( لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (١) ، وقال أيضاً :( وَإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَان عَرَبِيٍّ مُبِين * وَإنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ ) (٢) .

ولكنّ الكذّابين والدجَالين والوضّاعين يأبونَ إلاّ أن يلصِقُوا به كلّ

____________

(١) القيامة : ١٦.

(٢) الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٦.

٣٨٤

الأباطيل ، وكلّ السفاسف والمخاريق التي لا يقبلها عقل ولا ذوقٌ سليم ، ومن حقّ المسلمين الباحثين أن ينزّهوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمثال هذه الروايات المزيفة التي ملأت كتب الأحاديث ، وخصوصاً منها المعدودة من الصّحاح.

فنحن لم نخرج إلاّ من كتاب البخاري ومسلم ، اللذين هما عند أهل السنّة أصحّ الكتب بعد كتاب الله ، وإذا كان هذا شأن الصّحاح بخصوص الطّعن بقداسة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته ، فلا تسأل عن باقي الكتب الأُخرى.

كلّ ذلك من وضع أعداء الله وأعداء رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين تزلّفوا إلى حكّام بني أُميّة في عهد معاوية وما بعده ، حتّى ملأوا المطامير بالأحاديث المكذوبة ، والتي يريدون من خلالها الطّعن على صاحب الرّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّهم لم يؤمنوا بكلّ ما جاء به من عند الله.

هذا من جهة ومن جهة أُخرى ليبرّروا أفعال أسيادهم البشعة والشنيعة التي سجّلها تاريخ المسلمين ، وقد كشفهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بداية البعثة ، وحذّر منهم وطردهم من المدينة ولعنهم.

فقد أخرج الطبري في تاريخه ، قال : رأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به ، فقال : لعن الله القائد والراكب والسائق(١) .

وأخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق أبي برزة الأسلمي ، قال : كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فسمع رجلين يتغنّيان وأحدهما يجيب الآخر

____________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٨٥.

٣٨٥

وهو يقول :

لا يزال حواري تلوح عظامه

زوى الحرب عنه أن يجنّ فيقبرا

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُنظروا من هما؟ فقالوا : فلان وفلان ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم اركسهما ركساً ، ودّعهما إلى النار دعّاً »(١) .

وعن أبي ذر الغفاري قال لمعاوية : سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وقد مررت به : « اللهمّ ألعنه ولا تشبعه إلاّ بالتراب »(٢) .

وقد قال الإمام عليعليه‌السلام في كتاب بعث به لأهل العراق :

« والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت ، وإنّي من ضلالتهم التي هم فيها ، والهدى الذي نحن عليه ، لعلى ثقة وبيّنة ويقين وبصيرة ، وإنّي إلى لقاء ربّي لمشتاق ، ولحسن ثوابه لمنتظر ، ولكن أسفاً يعتريني ، وحزناً يخامرني أنْ يلي أمر هذه الأُمة سفهاؤها وفجّارها ، فيتّخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، والصالحين حرباً ، والقاسطين حزباً »(٣) .

وبما أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعنهم ـ كما مرّ عليك ـ ولم يجدوا لتلك الأحاديث دسّاً; لأنّ جلّ الصحابة كانوا يعرفونها ، فوضعوا في مقابلها أحاديث أُخرى تقلب الحقّ باطلا ، وتجعل من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصاً

____________

(١) مسند الإمام أحمد ٤ : ٤٢١ ولم يسمّ الرجلين والسند حسن ، وعن ابن عباس في المعجم الكبير ١١ : ٣٢ وقد ذكر اسم الرجلين فيكون متابعاً لرواية مسند أحمد.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨ : ٢٥٨.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ١٧٩.

٣٨٦

عاديّاً تعتريه الحميّة الجاهليّة ، ويأخذه الغضب إلى أبعد الحدود ، فيسبّ ويلعن من لا يستحقّ ذلك ، ودفاعاً على أسيادهم الملاعين فقد وضعوا هذا الحديث.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات ، باب قول النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من آذيتُه فاجعله له زكاة ورحمة.

وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب ، باب من لعنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة :

عن عائشة قالتْ : دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلان ، فكلّماه بشيء لا أدري ما هو ، فأغضباه فلعنُهما وسبّهُما ، فلمّا خرجَا قلتُ : يا رسول الله ما أصاب أحد من الخير شيئاً ما أصابه هذان ، قال : « وما ذاك »؟ قالت : قلت : لعنتهما وسببتهما ، قال : « أو ما علمت ما شارطْتُ عليه ربّي ، قلتُ : اللهمَّ إنّما أنا بشَرٌ فأىُّ المسلمين لعنتُه أو سببتهُ فاجعله له زكاة وأجراً ».

وعن أبي هريرة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « اللهمّ إنّي أتّخذُ عندك عهداً لن تُخلفنيه فإنّما أنا بشر ، فأىُّ المؤمنين آذيتُه; شتمتُه ، لعنتُه ، جلدتهُ فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبهُ بها إليك يوم القيامة »(١) .

وبمثل هذه الأحاديث الموضوعة يصبحُ النّبي يغضَبُ لغير الله ، ويسبّ ويشتمُ ، بل ويلعن ويجلد مَن لا يستحقّ ذلك!! أي نبىّ هذا الذي يعتريه الشيطان فيخرج عن دائرة المعقول ، وهل يسمحُ أيّ رجل دين عادي أن

____________

(١) صحيح مسلم ٨ : ٢٥ كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب من لعنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٨٧

يفعل ذلك؟ أم هل لا يُستقبحُ منه ذلك؟!

وبمثل هذه الأحاديث يصبح حكّام بني أُميّة الذين لعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا عليهم ، وجلد البعض منهم لارتكابهم الفاحشة ، وافتضحوا أمام النّاس عامّة; يصبحون مظلومين بل يُصبحون مُزكّين ومرحومين ومقرّبين إلى الله.

وهذه الأحاديث الموضوعة تكشف عن نفسها بنفسها وتفضح الوضّاعين ، فلم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سّباباً ولا لعّاناً ، ولا فاحشاً ولا متفحّشاً ، حاشاه حاشاه ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً أليماً.

وتكفينا رواية واحدة أخرجها البخاري ومسلم عن عائشة نفسها لدحض هذه المزاعم الكاذبة.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ، باب لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحشاً ولا متفحشاً :

عن عائشة قالت : إن يهوداً أتوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : السَّام عليكُم ، فقالت عائشة : فقلتُ : عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مهلا يا عائشة ، عليك بالرّفق ، وإيّاك والعنف والفحش » ، قلتُ : أو لم تسمع ما قالوا؟ قال : « أو لم تسمعي ما قلتُ؟ رددتُ عليهم فيُستجابُ لي فيهم ، ولا يستجابُ لهم فىَّ ».

كما أخرج مسلم في صحيحه كتاب البرّ والصلة والآداب بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يكون المسلم لعّاناً ، ونهاهم حتى عن لعن الحيوان والدّواب ، وقيل له : يا رسول الله ادعُ على المشركين ، فقال : « إنّي لم أُبعث لعّاناً ، وإنّما بعثتُ رحمة ».

٣٨٨

وهذا هو الذي يتماشى مع الخلق العظيم ، والقلب الرحيم الذي اختصّ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يكن يلعنُ ويسبّ ويجلد من لا يستحقّ ، إنّما إذا غضب فإنّه يغضب لله ، وإذا لعن فإنّه يلعن من يستحقّ اللّعن ، وإذا جلد فإنّما يجلد لإقامة حدود الله ، لا أن يجلد الأبرياء الذين لم تقم عليهم البيّنة أو الشهود أو الاعتراف.

ولكن هؤلاء غاضهم وأحرق قلوبهم أن تتفشّى الرّوايات التي فيها لعن معاوية وبني أُميّة ، فاختلقوا هذه الرّوايات للتّمويه على النّاس ، وليرفعوا مكانة معاوية الوضيعة ، ولذلك تجد مسلم في صحيحه بعد إخراج هذه الرّوايات التي تجعل من لعن الرسول لمعاوية زكاة ورحمة وقربة من الله ، يخرج حديث عن ابن عباس قال : كنتُ ألعبُ مع الصبيان ، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتواريتُ خلف باب ، قال : فجاء فحطأني حَطْأَةً وقال : « اذهبْ وادع لي معاوية » ، قال : فجئتُ فقلتُ : هو يأكلُ ، قال : ثمّ قال لي : « اذهب فادعُ لي معاوية » ، قال : فجئتُ فقلت : هو يأكُلُ ، فقالَ : « لا أشبع الله بطنَهُ »(١) .

ونجد في كتب التاريخ بأنّ الإمام النّسائي بعدما كتب كتاب الخصائص التي اختصّ بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، دخل الشام فاعترضه أهل الشام ، وقالوا له : لماذا لم تذكر فضائل معاوية؟ فقال لهم : لا أعرف له فضيلة إلاّ « لا أشبع الله بطنَهُ » ، فضربُوه على مذاكيره حتى استشهد(٢) . والمؤرّخون يذكرون بأنّ دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفذتْ ، فكان معاوية يأكل ويأكل

____________

(١) صحيح مسلم ٨ : ٢٧ كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب من لعنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٢) البداية والنهاية ١١ : ١٤ حوادث سنة ٣٠٣ ، باختلاف.

٣٨٩

حتى يتعب من الأكل ولا يشبع.

وفي الحقيقة لم أكن أعرف هذه الرّوايات التي تجعل اللّعنة رحمة وقربة من الله إلى أن عرّفني عليها أحد المشايخ في تونس ، وهو موصوف بالعلم والمعرفة ، وكنّا في مجمع نتجاذب أطرَاف الحديث حتّى جاء ذكر معاوية بن أبي سفيان ، وكان الشيخ يتحدّث عنه بكلّ إعجاب ، ويقول : هو داهية ومشهور بالذكاء وحسن التدبير.

وأخذ يتكلّم عنه وعن سياسته وانتصاره على سيّدنا علي كرّم الله وجهه في الحرب ، وصبرت عليه بمضض ، ولكنّه ذهب شوطاً بعيداً في إطراء معاوية والثناء عليه ، حتّى عيل صبري وقلتُ له : بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يحبّهُ ، وقد دعا عليه ولعنَهُ.

فاستغرب الحاضرون ، ومنهم من غضب من قولي ، ولكنّ الشيخ بكلّ هدوء ردّ علىَّ يصدّقني ، ممّا زاد دهشة الحاضرين وقالوا له : نحن لم نفهم شيئاً! من ناحية أنت تمدحه وتترضّى عنه ، ومن ناحية أُخرى توافق على أنّ النبىّ لعنَه؟ فكيف يصحُّ هذا؟ وتساءلتُ أنا معهم : كيف يصحُّ ذلك؟

وأجابنا الشيخ بجواب بدا غريباً وصعب القبول قال : إنّ الذي يلعنه رسول الله أو يسبّه فهي له زكاة ورحمة وقربة عند الله سبحانه ، وتَسَاءل الجميع في دهشة : وكيف ذلك؟ قال : لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أنا بشر كسائر البشر ، وقد سألت الله أن يجعل دعائي ولعنتي رحمة وزكاة » ، ثمّ أضاف قائلا : وحتّى الذي يقتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من دنياه إلى الجنّة مباشرةً.

واختليتْ بالشيخ فيما بعد ، وسألته عن مصدر الحديث الذي ذكره ،

٣٩٠

فأحالني على صحيح البخاري وصحيح مسلم ، واطّلعت على تلك الأحاديث ، ولم تزدني إلاّ يقيناً بالمؤامرة التي دبّرها الأمويّون لتغطية الحقائق ، ولستر فضائحهم من جهة ، ولضرب عصمة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أُخرى.

ووجدت بعدها روايات كثيرة ترمي إلى نفس الهدف ، وحتّى يطمئن المتآمرون فقد اختلقوا أكثر من ذلك على لسان ربّ العالمين ، فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى يريدون أن يبدّلوا كلام الله :

عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « قال رجُلٌ لم يعملْ خيراً قطٌّ ، فإذا ماتَ فحرِّقُوهُ وأذرُوا نصفَهُ في البرِّ ونصْفَهُ في البحْرِ ، فوالله لئن قدَر الله عليه ليعذِّبنّهُ عذاباً لا يُعَذِّبُهُ أحداً من العالمين ، فأمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه ، وأمر البرَّ فَجَمَعَ ما فيهِ ، ثمّ قال : لم فعلتَ؟ قال : من خَشْيَتِكَ وأنتَ أَعلم! فغَفَرَ لَهُ ».

وعنه أيضاً في نفس الصفحة ، قال أبو هريرة : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « إنّ عبداً أصاب ذْنباً ، وربّما قال أذنب ذنباً ، فقال : ربّ أذنْبتُ ذنباً ، وربّما قال : أصبتُ فاغفِرْ.

فقال ربُّهُ : أعَلِمَ عبدي أَنَّ له ربّاً يغفِرُ الذَّنبَ ويأخذُ به؟ غَفَرْتُ لعبدي ، ثمّ مَكثَ ما شاء الله ، ثمّ أصاب ذنباً أو أذنب ذنباً ، فقال : ربِّ أذنبتُ أو أصبتُ آخر فاغفرهُ ، فقال : أعلمَ عبدي أنّ له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي ، ثمّ مكثَ ما شاء الله ، ثمّ أذنب ذنباً وربّما قال أصاب ذنباً ، فقال : ربّ أصبتُ أو قالَ : أذنبتُ آخر فاغفر لي ، فقال : أعلمَ عبدي أنّ له ربّاً يغفِرُ

٣٩١

الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي ـ ثلاثاً ـ فليعمَلْ ما شاء ».

أي ربّ هذا يا عباد الله؟! ورغم أنّ العبد عَلم من الوهلة الأُولى بأنّ له ربّاً يغفرُ الذنب ، غير أنّ ربّه بقي جاهلا بهذه الحقيقة ، وفي كلّ مرّة يتساءلُ أعَلمّ عبدي بأن له ربّاً يغفر الذنب؟!

أىّ ربّ هذا الذي من كثرة الذنوب المتكرّرة ، وكثرة المغفرة المتكرّرة ، فقد كلَّ وملَّ وقال لعبده : اعمل ما شئت « وريّحني الله يخلّيك »!!

و( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلا كَذِباً * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أسَفاً ) (١) .

نعم ، لقد زعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعثمان : « اعمل ما شئت فلن يضرّك ما فعلتَ بعد اليوم » ، وذلك عندما جهّز عثمان جيش العسرة حسبما يقولون! إنّها صكوك الغفران التي يُقَبِّضها رهبان الكنيسة مقابل دخول الجنّة!!

فليس من الغريب إذاً أن يفعل عثمان تلك الأعمال الشّنيعة التي سبّبتْ الثورة عليه ، وقتله ودفنه في غير مقابر المسلمين ، بغير تغسيل ولا تكفين.

( ..تِلْكَ أمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

النّبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتناقض في حديثه

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الفتن ، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، من جزئه الثامن صفحة ٩٢ :

____________

(١) الكهف : ٥.

(٢) البقرة : ١١١.

٣٩٢

عن عبد الله بن عبد الوهاب ، حدّثنا حمّادُ ، عن رجل لم يُسمِّهِ ، عن الحسن قال : خرجتُ بسلاحي ليالي الفتنة ، فاستقبلني أبو بكرةَ فقال : أين تريد؟ قلتُ : أريدُ نُصْرةَ ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فقال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فكلاهُما من أهل النار ، قيل : فهذا القاتل فما بالُ المقتول؟ قال : إنّه أرَادَ قتل صاحبه ».

قال حمّاد بن زيد : فذكرتُ هذا الحديث لأيّوب ويونس بن عبيد ، وأنا أريدُ أن يحدّثاني به ، فقالا : إنّما روى هذا الحديث الحسنُ عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة.

كما أخرج مسلم في صحيحه من كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهيما ، حديث أبي بكرة عن الأحنف بن قيس ، قال : ذهبتُ لأنصر هذا الرّجُلَ ، فلقيني أبو بكرة ، فقال : أين تريدُ؟ قلت : أنصُرُ هذا الرجُل قال : ارجع فإنّي سمعتُ رسول الله يقول : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النّار » ، فقلتُ : يا رسول الله! هذا القاتِلُ ، فما بال المقتولُ؟ قال : « إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه »(١) .

ومن خلال هذه الأحاديث الموضوعة ، يفهم القارئ بوضوح الأسباب التي دعت لوضعه ، ويتجلّى أبو بكرة بعداوته إلى ابن عمّ المصطفى ، وكيف عمل على خذلان أمير المؤمنين ، ولم يكتف بذلك حتّى أخذ يثبّط عزائم الصّحابة الذين أرادوا نصرة الحقّ ضدّ الباطل ، فيختلق لهم مثل هذا الحديث

____________

(١) أخرج هذا الحديث أيضاً البخاري في كتاب الإيمان باب قوله تعالى : ( وَإنْ طَائِفَتَانِ ) ( المؤلّف ).

٣٩٣

الذي لا تقبله العقول ، ولا يقرّه القرآن الكريم ، ولا الصحيح من السنّة النبويّة ، فقول الله سبحانه وتعالى :( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ اللّهِ ) (١) . أمرٌ صريح في قتال البغاة والظالمين ، ولذلك تلاحظ أن شارح البخاري نفسه كتب على هامش الحديث هذه العبارة : « أُنظر هل في هذا الحديث حجّة على مقاتلة البغاة مع قول الله تعالى فقاتلوا التي تبغي » وإذا تعارض الحديث مع كتاب الله فهو مكذوب ، وليضرب به عرض الجدار.

أمّا السنّة النبويّة الصحيحة فقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليعليه‌السلام : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار »(٢) ، فموالاة علي هي موالاة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونُصرة أمير المؤمنين واجبة على كلّ مسلم ، وخذلانه هو خذلان للحقّ ، ونصرة للباطل.

ثمّ لو تأملتَ في حديث البخاري لوجدتَ هناك في سلسلة الرواة واحداً

____________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٣ ، السيرة الحلبية ٣ : ٣٨٤ ، وفي ملحقات إحقاق الحقّ ٦ : ٢٩٢ عن العقد الفريد واسعاف الراغبين.

وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٠٤ : وعن عمرو بن ذي مرّ وسعيد بن وهب وعن زيد بن بثيع قالوا : سمعنا علياً يقول : « نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم لما قام » ، فقام ثلاثة عشر رجلا ، فشهدوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم »؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فأخذ بيد علي فقال : « من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وابغض من يبغضه ، وانصر من نصره واخذل من خذله » رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة.

٣٩٤

مجهولا لم يذكروا اسمه ، إذ يقول : حدّثنا حماد عن رجل لم يُسَمِّهِ ، وهذه تدلّ دلالة جليّة بأن هذا المجهول هو من المنافقين الذين يبغضون عليّاً ، ويحاولون جهدهم طمس فضائله ، أو بالأحرى القضاء عليه وعلى ذكره ما استطاعوا لذلك سبيلا.

وقد قال سعد بن أبي وقّاص الذي امتنع هو الآخر عن نصرة الحقّ : « ائتوني بسيف يقول هذا على حقّ وهذا على باطل لأقاتل به »!! وبمثل هذا التمويه يلبس الحقّ بالباطل ، وتضيع السّبل الواضحة لتحل محلّها الظلمات!

على أنّنا نجد في كتب السنّة المعتمدة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشّر الكثير من أصحابه بالجنّة ، وخصوصاً العشرة الذين اشتهروا بين المسلمين بأنّهم المبشرين بالجنّة.

فقد أخرج أحمد ، والترمذي ، وأبو داود : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أبو بكر في الجنّة ، وعمر في الجنّة ، وعثمان في الجنّة ، وعلي في الجنّة ، وطلحة في الجنّة ، والزبير في الجنّة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة ، وسعد بن أبي وقاص في الجنّة ، وسعيد بن زيد في الجنّة ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة »(١) .

وقد صحّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « ابشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنّة »(٢) ،

____________

(١) مسند أحمد ١ : ١٩٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٣١١ ح ٣٨٣٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٥٦ ح ٨١٩٤.

(٢) المستدرك للحاكم ٣ : ٣٨٩ وصحّحه ، المعجم الأوسط ٢ : ١٤١.

٣٩٥

وقوله : « اشتاقت الجنة إلى أربع : علي ، وعمّار ، وسلمان والمقداد »(١) .

وقد روى مسلم في صحيحه أنّ عبد الله بن سلام بشّره رسول الله بالجنة(٢) . وصحّ عنه قوله : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة »(٣) وكذلك صحّ عنه أنّ جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة في الجنّة(٤) وأنّ فاطمة الزهراء سيّدة النساء في الجنّة(٥) ، وأنّ أُمّها خديجة بشّرها جبرئيل ببيت من قصب في الجنّة(٦) ، وصحّ عنه قوله : « صهيب سابق الروم إلى الجنّة ، وبلال سابق الحبشة إلى الجنّة ، وسلمان سابق الفرس إلى الجنّة »(٧) .

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تختصّ أحاديث البشارة بالجنّة إلاّ على هؤلاء العشرة ، فلا تجد مجمع ولا مجلس إذا ما تحدّثوا عن الجنة إلاّ وجاءوا بذكر العشرة المبشّرين بالجنّة؟!!

ونحنُ لا نحسدهم على ذلك ، ولا نضيّق رحمة الله الواسعة التي وسعت كلّ شيء ، ولكن نقول فقط بأنّ هذه الأحاديث تتناقض وتتعارض مع

____________

(١) المعجم الكبير للطبراني ٦ : ٢١٥ ، تاريخ دمشق ٦٠ : ١٧٦ ، وفي المستدرك للحاكم ٣ : ١٣٧ ذكر ثلاثة « عليّ وعمّار وسلمان » وصححه.

(٢) صحيح مسلم ٧ : ١٦٠ فضائل الصحابة ، باب من فضائل عبد الله بن سلام.

(٣) مسند أحمد ٣ : ٣ ، ٦٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ، المستدرك ٣ : ١٦٧ وقال : « هذا حديث قد صحّ من أوجه كثيرة ، وأنا أتعجّب أنهما لم يخرّجاه ».

(٤) المعجم الكبير ٢ : ١٠٧ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٧٣ وحسّنه.

(٥) صحيح البخاري ٤ : ٢٠٩ كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب فاطمة.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ٢٠٣ كتاب العمرة ، باب متى يحلّ المعتمر ، صحيح مسلم ٧ : ١٣٣ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أُمّ المؤمنين.

(٧) المعجم الكبير ٨ : ١١١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٣٠٠ وحسّنه.

٣٩٦

حديث : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار » لأنّنا لو صدّقنا به لتبخّر حديث البشارة بالجنّة ، إذ أنّ معظم هؤلاء تحاربوا وتقاتلوا وقتل بعضهم بعضاً ، فطلحة والزبير قُتِلاَ في حرب الجمل التي قادتها أُمّ المؤمنين عائشة ضدّ الإمام علي بن أبي طالب ، وسلّت سيوفهم بل وتسبّبوا في قتل الآلاف من المسلمين.

كما أنّ عمّار بن ياسر قُتِل في حرب صفين التي أشعل نارها معاوية بن أبي سفيان ، وكان عمّار متواجداً بسيفه مع علي بن أبي طالب ، فقتلته الفئة الباغية ، كما نصّ على ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ سيّد الشهداء سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين ، تواجد بسيفه هو وأهل بيت المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقابل جيش يزيد بن معاوية ، وقد قتلوهم كلّهم ولم ينجُ منهم إلاّ علي بن الحسين.

فعلى رأي هؤلاء الكذّابين ، فإنّ كلّ هؤلاء في النّار القاتلين والمقتولين; لأنّهم التقوا بسيوفهم.

وواضحٌ أنّ الحديث لا يمكن أن تصح نسبته إلى من لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، وهو كما قدّمنا يصطدم مع المنطق والعقل ، ويناقض كتاب الله وسنّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والسؤال الذي يطرح هنا : كيف يغفل البخاري ومسلم عن مثل هذه الأكاذيب ، ولا يتنبهون لها؟ أمّ أنّ لهما في أمثال هذه الأحاديث مذهب وعقيدة؟

التّناقض في الفضائل

ومن الأحاديث المتناقضة التي تجدها في الصّحاح ، هو تفضيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ الأنبياء والمرسلين ، وأحاديث أُخرى ترفع من شأن

٣٩٧

موسى درجة أعلى من درجته.

وأعتقد بأنّ اليهود الذين أسلموا في عهد عمر وعثمان ، أمثال : كعب الأحبار ، وتميم الدّاري ، ووهب بن منبّه ، هم الذين وضعوا تلك الأحاديث على لسان بعض الصّحابة الذين كانوا معجبين بهم ، أمثال أبي هريرة ، وأنس ابن مالك وغيرهم.

فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد ، باب قوله تعالى :( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) :

عن أنس بن مالك حكاية طويلة تحكي إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ عروجه إلى السماوات السّبع ، ثم إلى سدرة المنتهى ، وقصّة فرض الصّلوات الخمسين التي فرض على محمّد وأُمّته ، وبفضل موسى رُدتْ إلى خمس ، عمليّة وما فيها من الكذب الصريح ، والكفر الشنيع من أنّ الجبّار ربّ العزّة دنا فتدلّى حتّى كان من النّبي قاب قوسين أو أدنى ، وغيرها من التخريف ، ولكن ما يُهمّنا في هذه الرواية هو أنّ محمّداً لمّا استفتح السّماء السّابعة ، وكان فيها موسى ، وأنّ الله رفعه في السابعة بتفضيل كلام الله ، فقال موسى : ربِّ لم أَظُنَّ أنْ يُرْفع علىَّ أَحَدٌ(١) .

وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخرج البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة

____________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٤ ، كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى :( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا ) .

٣٩٨

صلوات الله عليهم قصّة أُخرى تشبه الأُولى ، وتحكي الإسراء والمعراج ، ولكن تقول بأنّ موسى كان في السّماء السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، والذي يهمّنا منها هو هذا المقطع.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فأتينا على السّماء السّادسة ، قيل : من هذا؟ قيل : جبرئيل ، قيل : من معك؟ قال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيءُ جاء.

فأتيتُ على موسى فسلّمتُ عليه ، فقال : مرحباً بكَ من أخ ونبىٍّ ، فلمّا جاوزتُ بَكَى ، فقيل : ما أَبْكَاكَ؟ فقال : يا رَبِّ هذا الغُلاَمُ الذي بُعِثَ بعْدِي يدخُلُ الجنّةَ من أُمّتِهِ أفْضلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي ».

كما أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها : عن أبي هريرة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا سيّد الناس يوم القيامةِ ، وهل تدرون ممّ ذلك; يُجمع النَّاسُ الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الدّاعي ، وينفذُهم البصَرُ ، وتدنو الشمسُ فيبلغُ النّاسَ من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملونَ ، فيقولُ النّاسُ : ألا ترونَ ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض : عليكم بآدم.

فيأتونَ آدمعليه‌السلام ، فيقولون له : أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بَلغَنَا؟ فيقول آدم : إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلهُ مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنّه نهاني عن الشجرة فعَصَيتُهُ ،

٣٩٩

نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح.

وتمضي الرواية وهي طويلة جدّاً ـ ونحن دائماً نريد الاختصار ـ إلى أن يطوف النّاس على نوح ، ثمّ على إبراهيم ، ثمّ على موسى ، ثمّ على عيسى ، وكلّهم يقول : نفسي ، نفسي ، نفسي ، ويذكر خطيئته أو ذنبه ، عدا عيسى لم يذكر ذنباً ، ولكنّه قال : نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمّد.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فيأتوني ، فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ ، ثم يفتَحُ الله علىَّ من محامده وحسنِ الثّناء عليه شيئاً لم يفتحهُ على أحد قبلي ، ثمّ يقال : يا محمّد ، ارفع رأسَكَ ، سَلْ تُعْطَه ، واشفع تُشفع.

فأرفع رأسي ، فأقول : أُمّتي يا ربّ أُمتي ياربّ ، فيقال : يا محمّد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة ، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثمّ قال : والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكّة وحُمير ، أو كما بين مكّة وبُصرى ».

وفي هذه الأحاديث يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه سيّد النّاس يوم القيامة! ويقول بأنّ موسى قال : يا ربّ ما كنت أظنُّ أنْ يُرفَعَ عليَّ أحَدٌ ، ويقول بأنّ موسى بكى وقال : يا ربّ هذا الغلامُ الذي بُعثَ بعدي يدخُلُ الجنة من أُمته أفضلُ ممّا يدخُل من أُمتي.

ونفهم من خلال هذه الأحاديث بأنّ كلّ الأنبياء والمرسلين من آدم حتى

٤٠٠