فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 53201
تحميل: 3244

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53201 / تحميل: 3244
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

عيسى مروراً بنوح وإبراهيم وموسى ( عليهم وعلى نبينا أفضل الصّلاة وأزكى التسليم ) لن يشفعوا عند الله يوم القيامة ، وخصّ الله بها محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن نؤمن بكلّ ذلك ، ونقول بتفضيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر البشر ، ولكنّ الإسرائيليين وأعوانُهم من بني أُميَّة لم يتحمّلوا هذا الفضل والفضيلة لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى اختلقوا رواياتٌ تقول بتفضيل موسى عليه.

وقد مرّ بنا في خلال أبحاث سابقة قول موسى لمحمّد ليلة الإسراء والمعراج ، ولما فرض الله عليه خمسين صلاة ، قال له موسى : أنا أعلم بالنّاس منك.

وهذا لم يكف ، فاختلقوا روايات أُخرى تقول بتفضيله ( أي موسى على محمّد ) على لسان محمّد نفسه ، فإليك بعض هذه الروايات :

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد ، باب في المشيئة والإرادة ( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ) :

عن أبي هريرة قال : استبَّ رَجُلٌ من المسلمين ورَجُلٌ من اليهودِ ، فقالَ المسلمُ : والذي اصطفى محمّداً على العالمين في قسم يُقسِمُ به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسَى على العالمين ، فرفع المسلم يدهُ عند ذلك فلطَمَ اليهودىُّ.

فذهب اليهودىُّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبرَهُ بالذي كان من أمره وأمرِ المسلم ، فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تُخيِّروني على موسى ، فإنّ النّاس يصعقونَ يومَ القيامةِ ، فأكون أوَّلَ من يفيقُ ، فإذا موسى باطِشٌ بجانب العَرْشِ ، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاقَ قبلي ، أو كان ممّن استثنى الله ».

٤٠١

وفي رواية أُخرى للبخاري قال : جاء رجلٌ من اليهود إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لُطِمَ وجهَهُ وقالَ : يا محمّد إنّ رجلا من أصحابك من الأنصار لطَمَ في وجهي ، قال : « ادعوهُ » فدعوهُ ، قال : « لمَ لطمت وجْهَهُ »؟ قال : يا رسول الله إنّي مررتُ باليهود فسمعتُهُ يقول : والذي اصطفى موسَى على البشر ، فقلتُ : وعلى محمّد ، وأخذتني غضبةٌ فلطمتُه.

قال : « لا تُخيِّروني من بين الأنبياء ، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أوّل من يفيقُ ، فإذا أنا بموسَى آخِذٌ بقائمة من قوائم العرشِ ، فلا أدري أفاق قبلي أمْ جُزِيَ بصعقةِ الطُّور »(١) .

كما أخرج البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن ، سورة يوسف عليه الصلاة والسلام ، باب قوله ( فلمّا جاءه الرسول ) :

عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يرحَمُ الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبْثت في السجن ما لبث يوسفُ لأجبتُ الدّاعي ، ونحنُ أحقُّ من إبراهيم إذ قال لَهُ : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئنّ قلبي.

ولم يكفهم كلّ ذلك حتّى جعلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشاكين حتّى في مصيره عند ربّه ، فلا الشفاعة ، ولا المقام المحمود ، ولا تفضيله على الأنبياء والمرسلين ، ولا تبشير بالجنة لأصحابه; إذا كان هو نفسه لا يعرفُ مصيره يوم القيامة ، إقرأ معي هذه الرواية التي أخرجها البخاري ، وأعجب أو لا تعجب :

أخرج البخاري في صحيحه باب في الجنائز من كتاب الكسوف من

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٩٦ ، ٨ : ٤٨.

٤٠٢

جزئه الثاني ٧١ :

عن خارجة بن زيد بن ثابت ، أنّ أُمّ العلاء أمرأةً من الأنصار بايعت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أخبرتْهُ أنّهُ اقتسم المهاجرونَ قرعةً ، فطارَ لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا ، فوجِعَ وجعَهُ الذي توفّيَ فيه ، فلمّا توفِّي وغُسِّل وكُفِّنَ في أثوابه دخَلَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلُتُ : رحمة الله عليك أبا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عليكَ لقدْ أكرمَكَ الله.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وما يدريك أنّ الله أكرمه »؟ فقُلتُ : بأبي أنتَ يا رَسولَ الله ، فمن يكرِمُهُ الله ، فقالعليه‌السلام : « أمَّا هو فقد جاءه اليقينُ ، والله إنّي لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنَا رسول الله ما يُفْعَلُ بي ». قالت : فوالله لا أزكّي أحداً بعده أبداً.

إنّ هذا لشيء عجاب والله! فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم بالله أنّه لا يدري ما يفعَلُ به ، فماذا يبقى بعد هذا؟!

وإذا كان الله سبحانه يقول :( بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (١) وإذا كان الله يقول لنبيّه :( إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً ) (٢) .

وإذا كان دخول الجنة للمسلمين موقوفاً على اتباعه واطاعته والتصديق به ، فكيف نصدّق هذا الحديث الذي لا أقبح منه ، نعوذ بالله من عقيدة بني

____________

(١) القيامة : ١٤.

(٢) الفتح : ١ ـ ٣.

٤٠٣

أُميّة الذين ما كانوا يؤمنون يوماً بأنّ محمّداً هو رسول الله حقّاً ، وإنّما كانوا يعتقدون بأنّه ملك ، تغلب على النّاس بذكائه ودهائه ، وهذا ما صرّح به أبو سفيان ومعاوية ويزيد ، وغيرهم من خلفائهم وحكّامهم.

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتناقض مع العلم والطبّ

إنّ العلم يثبتُ بما لا شكّ فيه أنّ هناك بعض الأمراض التي تنقل بالعَدوى ، وهذا ما يعرفه أغلب النّاس حتّى غير المثقّفين ، أمّا طلبة العلوم الذين يدرسون علم الطّب في الجامعات ، فإنّهم إذا ما قيل لهم بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينكر ذلك ، فإنّهم سيسخرون ويجدون منفذاً للطّعن على نبي الإسلام ، خصوصاً منهم الأساتذة العِلمانيين الذين يبحثون عن ثغرات مثل هذه.

ومع الأسف الشّديد فإنّ من الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم تؤكّد على عدم العدوى ، وفيها أيضاً ما يؤكّد أنّ هناك عدوى ، ونحن إذ نسجّل هنا هذه التناقضات تحت عنوان النّبي يتناقض ، لا نؤمن بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناقض مرةً واحدة في أقواله أو في أفعاله ، ولكن جرياً على العادة ، لجلب مُهجة القارئ حتى يتنبّه إلى الأحاديث التي وضعت كذباً وبهتاناً على صاحب الرّسالة المعصوم ، ويعرف قصدنا من تخريج أمثال هذه الأحاديث لتنزيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإعطائه مكانته العلميّة التي سبقتْ كلّ العلوم الحديثة.

فليس هناك نظرية علمية صحيحة تتعارض مع حديث نبوىٌّ صحيح ، وإذا ما تعارضتْ أو تناقضت عرفنا بأنّ الحديث مكذوب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا من ناحية.

٤٠٤

ومن ناحية أُخرى فإنّ الحديث نفسه قد يعارضه حديث آخر يتماشى مع النظرية العلمية ، فيجبُ قبول الثّاني وطرح الأوّل كما لا يخفى.

ومثال على ذلك أسوق حديث العدوى لأنه مُهِمٌّ في البحث ، ويعطينا صورة حقيقة على تناقض الصّحابة والرّواة والوضّاعين ، لا على تناقض صاحب الرّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذلك لا يمكن أبداً.

فالبخاري في صحيحه يذكر الحديثين ، وأنا أقتصر عليه لأنّه أصحّ الكتب عند أهل السنّة ، لئلا يذهب المتأوّلون عدّة مذاهب ، فيقول قائل بأنّه قد يثبت عند البخاري حديثاً ، ويثبت عكسه عند غيره من المحدّثين ، ويلاحظ القارئ بأنني في هذا الباب اقتصرت على البخاري وحده ، في تناقض الأحاديث.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الطّب ، في باب لا هامة :

عن أبي هريرة قال : قال النبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا هامة » ، فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال الإبل تكُونُ في الرمْلِ كأنّها الظّباءُ ، فيخالطها البعيرُ الأجربُ فيجْرِبُهَا؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن أعدى الأوّل »؟

انظر إلى هذا الأعرابيُّ كيف يهتدي بفطرته إلى طبيعة الأمراض المعدية ، من خلال البعير الأجرب الذي يجرب كلّ الإبل إذا خالطها ، بينما لا يجد الرّسول جواباً على سؤال الأعرابي يقنعهُ به ، فيقول : « فمن أعدى الأول »؟ ويصبح هو الذي يسأل.

وهذا أيضاً يذكّرني بالطبيب الذي سأل الأُمّ التي جاءتْ بولدها المصاب

٤٠٥

بالحصبة : هل عندكم في البيت أو في الجيران من هو مصاب بهذا الداء؟ فقالتْ الأُمّ : كلاّ ، فقال الطّبيب لعلَّهُ التقطها من المدرسة؟ فأجابت الأُمّ على الفور : كلاّ إنّه لم يدخل بعد إلى المدرسة ، فعمره أقلّ من خمس سنين ، فقال : ففي الروضة إذن ، قالت : لا إنّه لا يذهب للروضة. فقال الطبيب : لعلّك ذهبت به إلى زيارة بعض أقاربِك ، أو زاركم بعض الأقارب الذي يحمل الجرثومة ، فأجابت بالنفي! وعند ذلك قال لها الطبيب : جاءتْ إليه الجرثومة في الهواء.

نعم ، فالهواء يحمل الجراثيم والأمراض المعدية ، وقد يصيب قرية كاملة أو مدينة بأكملها ، ولذلك وُجِدَ التلقيح والوقاية لما قد تحمله الرّياح من أمراض فتّاكة كالوباء والطّاعون وغير ذلك ، فكيف يخفى كلّ ذلك على من لا ينطق عن الهوى؟ إنّه رسول ربّ العالمين الذي لا يعزب عن علمه شيء ، إنّه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

ولذلك نحن نرفض هذا الحديث ولا نقبله أبداً ، ونقبل الحديث الثاني الذين أخرجه البخاري نفسه ، وفي نفس الصفحة ونفس الباب ، وفي نفس الحديث إذ يقول : وعن أبي سلمة سَمِعَ أبَا هريرة بعدُ يقولُ : قال النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يوردَنَّ مُمرضٌ على مُصِحٍّ » ، وأنكر أبو هريرة حديثه الأوّل ، قلنا : ألم تحدّث أنّه لا عَدْوى ، فرطن بالحبشية ، قال أبو سلمة : فما رأيتهُ نَسِيَ حديثاً غَيرَهُ.

مع أنّ الحديثين المتناقضين « لا عدوى » ، « ولا يوردنّ مُمْرض على مُصحّ » رواهما أيضاً مسلم في صحيحه في كتاب السّلام ، باب لا عدوى ولا طيرة ، ولا هامة ولا صفر ، ولا نوء ولا غول ، ولا يوردنّ ممرض على مصحٍّ.

٤٠٦

ومن خلال هذه الأحاديث نعلم أنّ حديث : « لا يوردن ممرض على مصح » هو الحديث الصحيح الذي قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّه لا يتناقض مع العلم ، وأمّا حديث « لا عدوى » فهو مكذوب عليه; لأنّه حديث جاهل بالحقائق الطبيعية ، ولذلك فهم بعض الصّحابة تناقض الحديثين ، فعارضوا أبا هريرة واستغربوا منه حديثه الأوّل ، ولم يجد أبو هريرة مخرجاً من هذه الورطة فرطن بالحبشية ، يقول شارح البخاري : تكلّم غضباً بما لا يُفهمُ!(١) .

وممّا يزيدنا تأكيداً بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أسبق مما أثبته العلمُ حديثاً في خصوص الأمراض المعدية ، إنّه كان يحذّر المسلمين من الطّاعون ومن الجذام ومن الوباء وغير ذلك.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء ، باب حدّثنا أبو اليمان ، وكذلك مسلم في صحيحه كتاب السّلام ، باب الطاعون والطيرة والكهانة وغيرها :

عن أُسامة بن زيد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الطّاعُونُ رجْسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، أو على من كان قبلكم ، فإذا سمعتُم به بأرض فَلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتُم بها فَلا تخرجوا فراراً منه » وفي رواية لا يخرجكم إلاّ فراراً منه.

وقد صحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في هذا المعنى : « فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد »(٢) ، وقوله : « إذا شرب أحدكم فلا يتنفّس في الإناء »(٣) ، وقوله : « إذا

____________

(١) عمدة القارئ شرح صحيح البخاري ٢١ : ٤٢٨.

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٧ كتاب الطبّ ، باب الجذام.

٤٠٧

ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ، وعفّروه الثامنة في التراب »(٤) .

كلّ ذلك ليُعلّم أمّته النظافة وأسباب الصحة والوقاية ، لا أن يقول لهم : « إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه » وهذا سبق الحديث عنه فليراجع.

على أنّنا نجد التناقض ظاهراً حتى فيما يختصّ بالهامة التي كان يتشاءم العرب بها ، وهي الطائر المعروف من طير الليل ، وقيل هي البومة وهو تفسير مالك بن أنس ، فإذا كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا هامة » ، فكيف يتناقض ويتعوّذ منها؟!

فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب يزفّون النسلان في المشي من جزئه الرابع صفحة ١١٩ :

عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : كان النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوّذُ الحسنَ والحسينَ ، ويقول : « إنّ أباكما كان يعوّذُ بها إسماعيل وإسحاق ، أعوذ بكلمات الله التامّة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عين لامَّة ».

نعم ، أردنا في هذا الفصل أن نذكر بعض الأمثلة من الأحاديث المتناقضة التي تُنسبُ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منها بريء.

وهناك مئات الأحاديث الأُخرى المتناقضة التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وقد ضربنا عليها صفحاً لما عوّدنا القارئ دائماً بالاختصار والإشارة ، وعلى الباحثين أن يكبّوا على دراسة ذلك عسى أنْ يُطّهر الله بهم سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويثيبهم الأجر العظيم ، ويكونوا سبباً في

____________

(٣) صحيح البخاري ١ : ٤٧ كتاب الوضوء ، باب النهي عن الاستنجاء باليمين.

(٤) صحيح مسلم ١ : ١٦٢ كتاب الطهارة ، بابا حكم ولوغ الكلب.

٤٠٨

تنقية الحق من الأباطيل ، ويُقدِّموا إلى الرجل الجديد أبحاثاً قيّمة تكون في مستوى رسالة الإسلام.

( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً * يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (١) .

____________

(١) الأحزاب : ٦٩ ـ ٧١.

٤٠٩

الفصل الثامن

في ما يتعلّق بالصّحيحين البخاري ومسلم

لِما لهذين الكتابين من أهمّية بالغة لدى أهل السنّة والجماعة ، حتّى أصبحا عند عامّة المسلمين المرجعين الأساسيّين ، والمصدرين الأوّلين في كلّ المباحث الدينية ، وأصبح من العسير على بعض الباحثين أن يصرّحوا بما يجدوه من تهافت وتناقض ومنكرات ، فيتقبّلونها على مضض ولا يكاشفون بها قومهم خشيةً منهم أو خشيته عليهم ، لما في نفوسهم من احترام وتقديس لهذين الكتابين ، والحقيقة أنّ البخاري ومسلم ما كان يوماً يحلمان بما سيصل إليه شأنهما عند علماء النّاس وعامّتهم.

ونحن إذا قَدِمنا على نقدهما ، وتخريج بعض المطاعن عليهم ، ليس ذلك إلاّ لتنزيه نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم الخدش في عصمته ، وإذا كان بعض الصّحابة لم يَسلم من هذا النقد والتجريح للغرض نفسه ، فما البخاري ومسلم بأفضل من أولئك المقرّبين لصاحب الرسالة.

وما دُمنا نهدفُ إلى تنزيه النّبي العربيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحاول جهدنا إثبات العصمة له ، وأنّه أعلم وأتقى البشر على الإطلاق ، ونعتقدُ أن الله سبحانه وتعالى اصطفاه ليكون رحمة للعالمين ، وأرسله للنّاس كافة من الإنس والجنّ ، فلا شكّ أنّ الله يطالبنا بتنزيهه وتقديسه وعدم قبول المطاعن فيه ،

٤١٠

ولذلك نحن وكلّ المسلمين مطالبون بطرح كلّ ما يتعارض والخلق العظيم الذي اختصّ به ، وطرح كلّ ما يتعارض مع عصمته ، أو ما يمسّ شخصه الكريم من قريب أو بعيد.

فالصّحابة والتّابعين ، والأئمة والمحدّثين ، وكلّ المسلمين ، وحتى النّاس أجمعين مدينون لفضله ومزيّته ، فالمنتقدون والمعارضون والمتعصّبون سوف تثور ثائرتُهم كالعادة على كلّ ما هو جديد عليهم ، ولكن رضى الله سبحانه هو الغاية ورضى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الأمل ، وهو الذُّخر والكنز والرّصيد ، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ، إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

ولنا مع كل ذلك رضى وتعزيّة المؤمنين الصادقين الذين عرفوا قدر الله وقدر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قبل أن يعرفوا قدر الحكّام والخلفاء والسّلاطين.

أذكر أنّي لقيتُ معارضة شديدة حتّى أتهمتُ بالكفر والخروج عن الدّين ، عندما انتقدتُ البخاري في تخريجه حديث لطم موسى لملك الموت وفقأ عينه ، وقيل لي : من أنتَ حتى تنتقد البخاري؟ وأثاروا حولي ضجّة وضوضاء ، وكأنّي انتقدت آية من كتاب الله.

والحال أنّ الباحث إذا ما تحرّر من قيود التقليد الأعمى والتعصّب المقيت ، سوف يجد في البخاري ومسلم أشياء عجيبة وغريبة ، تعكس بالضّبط عقليّة العربي البدوي الذي ما زال فكره جامداً يؤمن ببعض الخرافات والأساطير ، ويميل فكره إلى كلّ ما هو غريب ، وليس هذا بعيب ولا نتّهمه بالتخلّف الذهني ، فليس عصره البدائي هو عصر الأقمار الصّناعية ، ولا التلفزيون والهاتف والصاروخ.

٤١١

وإنّما لا نريد أن يلصقَ ذلك بصاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّ الفرق كبير والبون شاسع ، فهو الذي بعثه الله في الأُميّين يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وبما أنّه خاتم الأنبياء والمرسلين ، فقد علّمه الله علم الأوّلين والآخرين.

كما نلفتُ القارئ الكريم بأنّ ليس كلّ ما في البخاري هو منسوب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد يخرج البخاري حديثاً للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يعقّب عليه بآراء بعض الصّحابة ، فيصبح القارئ يعتقد بأنّ ذلك الرأي أو الحديث هو لرسول الله في حين أنّه ليس له ، أضربُ لذلك مثلا :

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحِيَلْ ، باب في النكاح من جزء الثامن صفحة ٦٢ قال :

عن أبي هريرة ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تُنكَحُ البكر حتى تُسْتَأذنَ ، ولا الثّيب حتى تُستأمَرَ. فقيل : يا رسول الله كيف إذْنُهَا؟ قال : إذا سَكَتَتْ ».

وقال بعض النّاس : إن لم تُستأذنِ البكرُ ولم تُزوّجْ ، فاحتالَ رَجلٌ فأقامَ شَاهِدَي زور أنَّه تزوّجَها برِضَاهَا ، فأثْبتَ القاضِي نِكاحَهَا ، والزوجُ يَعلَمُ أَنَّ الشهادة باطِلَةٌ ، فلا بأسْ أن يَطَأَهَا وهو تزويجٌ صحيح.

فانظر إلى قول البخاري ( بعد حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وقال بعض النّاس! فلماذا يُصبح قول بعض النّاس ( وهم مجهولون ) بأنّ النكاح بشهادة الزور هو نكاح صحيح ، فيتوهّم القارئ بأنّ ذلك هو رأي الرّسول ، وهو غير صحيح؟!

مثال آخر : أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب مناقب المهاجرين وفضلهم من جزئه الرابع صفحة ٢٠٣ :

٤١٢

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنّا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانعدلُ بأبي بكر أحداً ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نُفاضل بينهم.

إنّه رأي عبد الله بن عمر ولا يلزم به إلاّ نفسه ، وإلاّ كيف يُصبح علي بن أبي طالب ، وهو أفضل النّاس بعد رسول الله ، لا فضل له ، ويعدّه عبد الله بن عمر من سوقة النّاس؟!!

ولذلك تجد عبد الله بن عمر يمتنع عن بيعة أمير المؤمنين ومولاهم ، فمن لم يكن علىٌّ وليّه فليس بمؤمن(١) ، والذي قال النّبي في حقّه : « علىّ مع الحقّ والحقّ مع علىّ »(٢) ، وبايع عدوّ الله ورسوله وعدوّ المؤمنين الحجّاج

____________

(١) ذكر ذلك عمر حيث قال : « ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن » راجع الغدير ١ : ٦٦٦ ، عن الصواعق : ١٧٩ والمناقب للخوارزمي : ١٦٠ ح ١٩١ ، وذخائر العقبى : ٦٨.

(٢) تاريخ بغداد للخطيب ١٤ : ٣٢٢ ح ٧٦٤٣ ، تاريخ دمشق لابن عساكر ٤٢ :

٤٤٩ ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٥ وقال : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات ، وفي مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٦ : « عن محمّد بن إبراهيم التميمي : أنّ فلاناً دخل المدينة حاجاً فأتاه الناس يسلّمون عليه ، فدخل سعد فسلم فقال : وهذا لم يعنا على حقّنا على باطل غيرنا أما إذ قلت ذاك فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحقّ أو الحق مع علي حيث كان. قال : من سمع ذلك؟ قال : قاله في بيت أُم سلمة ، فأرسل إلى أُم سلمة فسألها ، فقالت : قد قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، فقال الرجل لسعد : ماكنت عندي ألوم منك الآن فقال : ولم؟ قال : لو سمعت هذا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أزل خادماً لعلي حتى أموت » رواه البزار ، وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه ، وبقيّة رجاله رجال الصحيح.

٤١٣

ابن يوسف الفاسق الفاجر.

ونحن لا نريد العودة إلى مثل هذه المواضيع ، ولكن نريد فقط أن نُظهر للقارئ نفسيات البخاري ومن كان على شاكلته ، فهو يخرج هذا الحديث في باب مناقب المهاجرين ، وكأنّه يشعر من طرف خفىّ إلى القرّاء بأنّ هذا رأي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما هو رأي عبد الله بن عمر الذي ناصب العداء للإمام علي.

وسنُبيِّنُ للقارئ اللّبيب موقف البخاري في كلّ ما يتعلّق بعلي بن أبي طالب ، وكيف أنّه يحاول جهده كتمان فضائله ، وإظهار المثالب له.

كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب حدّثنا الحميدي قال : حدّثنا محمّد بن كثير ، أخبرنا سفيانُ ، حدّثنا جامعُ بن أبي راشد ، حدّثنا أبو يعلى ، عن محمّد بن الحنفيّة ، قال : قلت لأبي : أيّ النّاس خيرُ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : أبو بكر ، قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ عمرُ ، وخشيتُ أن يقول عثمانُ ، قلت : ثمّ أنتَ ، قال : ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين.

نعم ، هذا الحديث وضعوه على لسان محمّد بن الحنفيّة ، وهو ابن الإمام علي بن أبي طالب ، وهو كسابقه الذي رُوي عن لسان ابن عمر ، والنتيجة في الأخير هي واحدة ، ولو خشيَ ابن الحنفيّة أنْ يقول أبوه : عثمان في الثالثة ، ولكن ردُّ أبيه « ما أنا إلاّ رجلٌ من المسلمين » يُفيد بأنّ عثمان أفضل منه; لأنّه ليس هناك من أهل السنّة من يقول بأنّ عثمان ليس هو إلاّ رجلٌ من

____________

وقد وقع تصحيف في اسم الراوي حيث إنّه سعيد بن شعيب الحضرمي ، وليس سعد ، وقد صرّحوا بوثاقة سعيد بن شعيب ، راجع الغدير ٣ : ١٧٨.

٤١٤

المسلمين ، بل يقولون كما تقدّم بأنّ أفضل الناس أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم ، والنّاس بعد ذلك سواسية.

ألا تعجبون من هذه الأحاديث التي يخرجها البخاري ، وكلُّها ترمي إلى هدف واحد ، وهو تجريد علي بن أبي طالب من كلّ فضيلة!!

ألا يفهمُ من ذلك بأنّ البخاري كان يكتبُ كلّ ما يُرضي بني أُميّة وبني العبّاس ، وكل الحكّام الذين قاموا على أنقاض أهل البيت!! إنّها حجج دامغة لمن أرَاد الوقوف على الحقيقة.

البخاري ومسلم يذكران أي شيء لتفضيل أبي بكر وعمر

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب حدّثنا أبو اليمان من جزئه الرابع صفحة ١٤٩ ، وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) :

عن أبي هريرة قال : صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الصّبح ، ثمّ أقبل على النّاس فقال : « بينما رجُلٌ يَسُوقُ بقرةً إذْ رَكبَها فضربها فقالت : إنّا لم نخلق لهذا; إنّما خُلقنَا للحرثِ » ، فقال النّاسُ : سبحان الله! بقرةٌ تتكلّمُ؟ فقال : « فإنّي أؤمنُ بهذا أنا وأبو بكر وعُمرُ وما هُمَا ثُمَّ ، وبينما رجل في غنمه إذْ عَدَا الذئب فذهب منها بشاة ، فطلبه حتّى كأنّه استنقذها منه ، فقال له الذئبُ : ها إنّك استنقذتها منِّي ، فمن لها يومَ السّبع ، يوم لا رَاعي لها غيري؟ » فقال النّاس : سبحان الله! ذئب يتكلَّمُ؟ قال : « فإني أُومِنِ بهذا أنا وأبو بكر وعُمرُ » وما هما ثَمَّ.

وهذا الحديث ظاهر التكلّف ، وهو من الأحاديث الموضوعة في فضائل

٤١٥

الخليفتين ، وإلاّ لماذا يُكذَب النّاس وهم صَحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يقولُه لهم ، حتّى يقول في المرّتين : أُومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ، ثمّ أنظر كيف يؤكّد الرّاوي على عدم وجود أبي بكر وعمر في المرّتين!!

إنّها فضائل مضحكة ولا معنى لها ، ولكنّ القوم كالغرقى يتشبثون بالحشيش ، والوضّاعون عندما لم يجدوا مواقف أو أحداث هامة تُذكر لهما تتخيّلُ أوهامهم مثل هذه الفضائل ، فيجي أغلبها أحلاماً وأوهاماً وتأوّلات لا تقوم على دليل تاريخي أو منطقي أو علمي.

كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب فضائل أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متخذاً خليلا ، ومسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق.

عن عمرو بن العاص ، أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثَهُ على جيش ذات السلاسل ، فأتيتُه فقُلتُ : أيُّ النّاسِ أحبُّ إليكَ؟ قال : « عائشة » ، فقلتُ : من الرّجالِ؟ قال : « أبُوها » ، قلت : ثمّ من؟ قال : « عمر بن الخطّاب » ، فعدّ رجالا.

وهذه الرّواية وضعها الوضّاعون ، لمّا عرفوا أنّ التاريخ سجّل في سنة ثمان من الهجرة ( يعني سنتين قبل وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جيشاً فيه أبو بكر وعمر بقيادة عمرو بن العاص إلى غزوة ذات السّلاسل ، وحتى يقطعوا الطريق على من يريد القول بأنّ عمرو بن العاص كان مقدّماً في المنزلة على أبي بكر وعمر ، تراهم اختلقوا هذه الرواية على لسان عمرو نفسه للإشادة بفضل أبي بكر وعمر ، وأقْحمُوا عائشة حتّى يبعِدُوا الشكّ من ناحية ، وحتّى تحظى عائشة بأفضلية مطلقة من ناحية أُخرى.

ولذلك ترى الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم يقول : « هذا تصريح

٤١٦

بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم ، وفيه دلالة بيّنة لأهل السنّة في تفضيل أبي بكر ثمّ عمر على جميع الصحابة »(١) .

وهذه كأمثالها من الروايات الهزيلة التي لم يتورّع الدجّالون لوضعها حتّى على لسان علي بن أبي طالب نفسه; ليقطعوا بذلك على زعمهم حجّة الشيعة الذين يقولون بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الأصحاب من ناحية ، وليوهموا المسلمين بأنّ عليّاً لم يكن يتظلّم ولا يتشكّى من أبي بكر وعمر من ناحية أُخرى ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب فضائل أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص ، ومسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه :

عن علي ، عن ابن عبّاس قال : وضِعَ عمرُ على سريره ، فتكنّفَهُ النّاسُ ، يدعون ويصلّونَ قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يُرعني إلاّ رجُلٌ أَخذ مَنْكِبي ، فإذا عليٌّ ، فترحّم على عُمَرَ وقال : ما خَلَّفتَ أحداً أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمَلِهِ منكَ ، وأيُّمُ الله ، إن كنتُ لأظُنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وحسبتُ أنّي كنتُ كثيراً ما أسمع النبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر ، ودَخلتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر.

نعم ، هذا وضعٌ ظاهر يشمُّ منه رائحة السّياسة التي لعبتْ دورها في إقصاء فاطمة الزهراء ، وعدم دفنها قرب أبيها رغم أنّها أوّل اللاحقين به ، وفات الرّاوي هنا أنْ يضيفَ بعد قوله : ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلتُ أنا

____________

(١) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٣.

٤١٧

وأبو بكر وعمر ، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وسأُدفنُ أنا وأبو بكر وعمر!!

ألا يتورّع هؤلاء الذين يحتجّون بمثل هذه الروايات الموضوعة التي يكذّبها التاريخ والواقع ، وكتب المسلمين مشحونة بتظلّم علي وفاطمة الزهراء ممّا فعله أبو بكر وعمر طيلة حياتهما؟!

ثمّ تمعّن في الرواية لترى بأنّ الرّاوي يصوّر عليّاً وكأنّه رجُلٌ أجنبي ، جاء ليتفرّج على ميّت غريب ، فوجد النّاس يكتظون عليه يدعون ويصلّون ، فأخذ بمنكب ابن عباس ، وكأنّه همس في أذنه تلك الكلمات وانسحب ، والمفروض أن يكون علي في مقدمة النّاس وهو الذي يصلّي بهم ، ولا يفارق عمر حتى يواريه حفرته.

ولمّا كان النّاس في عهد بني أُميّة يتسابقون في وضع الحديث بأمر من « أمير المؤمنين » معاوية ، الذي أراد أن يرفع قدر أبي بكر وعمر مقابل فضائل علي بن أبي طالب ، فقد جاءت أحاديث الفضائل هزيلة مُضحكة ، ومتناقضة في بعض الأحوال حسب هوى الرّاوي ، فمنهم التيمي الذي كان لا يقدّم على أبي بكر أحداً ، ومنهم العدوي الذي لا يقدّم على عمر أحداً ، وبنو أُميّة الذين كانوا معجبين بشخصية ابن الخطّاب الجريء على النّبي ، والفظّ الغليظ الذي لا يتورّع من شيء ولا يهاب شيء ، فكانوا كثيراً ما يمدحونه ويضعون الأحاديث التي تُفضّله على أبي بكر.

وإليك أيها القارئ بعض الأمثلة.

أخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصّحابة ، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه ، وأخرج البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان

٤١٨

باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال :

عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بينما أنا نائمٌ رأيتُ النّاس يُعرَضُونَ عليَّ ، وعليهم قُمُصٌ ، منها ما يبلُغُ الثدِيَّ ، ومنها ما دونَ ذلك ، وعرِضَ عليَّ عُمَرُ بن الخطّاب وعليه قميص يجرُّهُ ، قالوا : فما أوّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال : الدِّين.

وإذا كان تأويل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذه الرؤيا ، هو الدِّين ، فمعنى ذلك أنّ عمر بن الخطّاب أفضل من كل النّاس; لأنّ الدّين بالنسبة إليهم لم يبلغ إلى الثدي وما تجاوز الدّين قلوبَهم ، بينما عمر مليء بالدّين من رأسه إلى أخمص قدميه ، وأكثر من ذلك فهو يجرّ الدين وراءه جراً ، كما يُجرّ القميص ، فأين أبو بكر الصديق الذي يرجَحُ إيمانه إيمان الأُمّة بأكملها؟!

كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب العلم باب فضل العلم ، وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة باب فضائل عمر :

عن ابن عمر ، قال : سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : بينما أنا نائمٌ أتيتُ بقدحِ لبن ، فشربتُ حتّى إنّي لأرى الريَّ يخرجُ في أظفاري ، ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطّاب ، قالوا : فما أوّلتَهُ يا رسول الله؟ قال : العلم.

أقول : فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وإذا كان ابن الخطّاب قد فاق الأُمّة بأكملها أو النّاس بأجمعهم في الدّين بما فيهم أبو بكر ، ففي هذه الرواية صراحة بأنّه فاقهم أيضاً في العلم ، فهو أعلم النّاس بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بقيت هناك فضيلة أُخرى يتبارى النّاس في التحلّي بها والانتماء إليها ،

٤١٩

وهي من الصفات الحميدة التي يحبّها الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحبّها جميع النّاس ويحاولون الوصول إليها ، ألا وهي الشجاعة فلا بدّ للرّواة أن يضعوا فيها حديثاً لفائدة أبي حفص وقد فعلوا.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب فضائل أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باب قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كنت متخذاً خليلا ، وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة ، باب من فضائل عمر :

عن أبي هريرة : قال : سمعتُ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : بينما أنا نائم رأيتُني على قليب ، عليها دَلْوٌ ، فنزعتُ منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعِهِ ضَعْفٌ ، والله يغفر له ضعفَهُ ، ثم استحالَتْ غرباً فأخذها ابن الخطّاب ، فلم أرَ عبقرياً من الناس ينزعُ نزعَ عُمَرَ ، حتى ضربَ النّاسَ بعطَن.

فإذا كان الدّين وهو مركز الإيمان والإسلام ، والتقوى والتقرّب إلى الله سبحانه قد حازه عمر بن الخطّاب حتّى جرّه وراءه ، بينما النّاس لم يكن نصيبهم منه إلاّ ما يبلغ الثدي وبقيت أجسامهم عارية ، وإذا كان العلم اختصّ به عمر بن الخطّاب ، فلم يترك للنّاس شيئاً من فضل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذْ أعطاه إليه فشربه كلّه ، ولم يفكّر حتّى في صاحبه أبي بكر الصّديق ـ وهو لا شكّ العلم الذي خوّل عمر أن يغيّر أحكام الله بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باجتهاده ولا شكّ أنّ اجتهاده من فضل ذلك العلم ـ وإذا كانت القوة والشجاعة قد اختصّ بها ابن الخطّاب أيضاً ، بعد الضعف الذي بدا على صاحبه أبي بكر ـ وهذا صحيح ، ألم يقل له أبو بكر مرّة ( لقد قلتُ لك : إنّك أقوى على هذا الأمر منّي

٤٢٠