فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60022
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60022 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

تعليق

هناك فرق واضح بين العقيدتين :

عقيدة أهل السنّة والجماعة التي تقول بالتجسيم ، وتجعل من الله سبحانه وتعالى جسماً وشكلا يُرى ، وتصوّره وكأنّه إنسان ، فهو يمشي وينزل ، ويحوي جسمه دارٌ ، إلى غير ذلك من الأشياء المنكرة ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وعقيدة الشيعة الذين ينزّهون الله عن المشاكلة والمجانسة والتجسيم ، ويقولون باستحالة رؤيته في الدنيا وفي الآخرة.

وأعتقد شخصيّاً بأنّ الروايات التي يحتجّ بها أهل السنّة والجماعة كلّها من دسّ اليهود في زمن الصحابة ; لأنّ كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم في عهد عمر بن الخطّاب هو الذي أدخل هذه المعتقدات التي يقول بها اليهود ، عن طريق بعض البسطاء من الصحابة أمثال أبي هريرة ، ووهب بن منبّه.

فأغلب هذه الروايات مروية في البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، وقد تقدّم في بحث سابق كيف أنّ أبا هريرة لا يفرّق بين أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديث كعب الأحبار حتّى ضربه عمر بن الخطّاب ، ومنعه من الرواية في قضية خلق الله السماوات والأرض في سبعة أيام.

وما دام أهل السنّة والجماعة يثقون في البخاري ومسلم ، ويجعلون منهما أصحّ الكتب ، وما دام هؤلاء يعتمدون على أبي هريرة حتى أصبح عمدة المحدّثين ، وأصبح عند أهل السنّة راوية الإسلام; فلا يمكن والحال هذه أن

٤١

يغيّر أهل السنّة والجماعة عقيدتهم إلاّ إذا تحرّروا من التقليد الأعمى ، ورجعوا إلى أئمة الهدى ، وعترة المصطفى ، وباب مدينة العلم الذي منه يُؤتى.

وهذه الدعوى لا تختصّ بالكبار والشيوخ بل الشباب المثقّف من أهل السنّة والجماعة كذلك ، ومن واجبه أن يتحرّر من التقليد الأعمى ، ويتّبع الحجّة والدليل والبرهان.

السؤال الثاني : حول العدل الإلهي والجبر :

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز :( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١) .

( لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) (٢) .

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ) (٣) .

( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر ) (٤) .

فكيف تقبلون بالأحاديث المروية في « صحيح البخاري » و « صحيح مسلم » بأنّ الله سبحانه قدّر على عباده أفعالهم قبل أنْ يخلقهم؟ فقد روى البخاري في صحيحه قال : أحتجَّ آدم وموسى ، فقال له موسى : يا آدم أنت أبونَا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة ، قال له آدمُ : يا موسى اصطفاك الله بكلامه ،

____________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

(٣) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٤) الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

٤٢

وخطّ لك بيده ، أتلومني على أمر قدّرَهُ الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة ، فحجَّ آدمُ موسى ثلاثاً »(١) .

كما روى مسلم في صحيحه قال : إنّ أحدكم يُجمَعُ خَلْقُهُ في بطن أُمّهِ أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مُضغة مثل ذلك ، ثم يُرسل الملكُ فينفُخُ فيه الرّوح ، ويُؤْمَرُ بأربع كلمات بِكَتْبِ رِزِقِهِ وأجلهِ وعَملِهِ وشقىٌ أو سَعِيدٌ.

فوالذي لا إله غيرهُ إنّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينُه وبينها إلاّ ذراعٌ ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل النار فيدخلها ، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ ، فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل الجنّة فيدخلُها »(٢) .

كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : دُعي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جنازة صبىّ من الأنصار ، فقلتُ : يا رسول الله طوبى لهذا ، عصفورٌ من عصافير الجنّة لَمْ يعمل السّوء ولم يدركْهُ ، قال : « أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنّة أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنّار أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم »(٣) .

وروى البخاري في صحيحه قال رجلٌ : يا رسول الله أيُعرفُ أهلُ الجنة

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٢١٤ كتاب القدر ، باب تحاج آدم وموسى ، صحيح مسلم ٨ : ٤٩ كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسىعليهما‌السلام .

(٢) صحيح مسلم ٨ : ٤٤ كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أُمه ، صحيح البخاري ٧ : ٢١٠ كتاب القدر باب في القدر.

(٣) صحيح مسلم ٨ : ٥٥ كتاب القدر ، باب كلّ مولود يولد على الفطرة.

٤٣

من أهل النّار؟ قال : « نعم » ، قال : فلم يعمَلُ العاملون؟ قال : « كلٌّ يعملُ لما خُلقَ له ، أو لما يُسِّرَ لَهُ »(١) .

سبحانك ربّنا وبحمدك تباركت وتعاليتَ عن هذا الظلم علوَّاً كبيراً ، فكيف نصدّق بهذه الأحاديث المناقضة لكتابك العزيز الذي قُلت فيه وقولك الحقّ :

( إنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٢) .

( إنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ) (٣) .

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَداً ) (٤) .

( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٥) .

( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٦) .

( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) (٧) .

( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وَأنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ ) (٨) .

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ ) (٩) .

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٢١٠ كتاب القدر ، باب جفّ القلم على علمِ الله.

(٢) يونس : ٤٤.

(٣) النساء : ٤٠.

(٤) الكهف : ٤٩.

(٥) آل عمران : ١١٧.

(٦) التوبة : ٧٠ ، العنكبوت : ٤٠ ، الرّوم : ٩.

(٧) الزخرف : ٧٦.

(٨) الأنفال : ٥١.

(٩) فصلت : ٤٦.

٤٤

وكما قال في حديث قدسي : « يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا »(١) ؟

فكيف يصدّق مسلم آمن بالله وبعدالته ورحمته أنّ الله سبحانه خلق الخلق ، وحكم على بعضهم بالجنّة وعلى الآخرين بالنار حسب اختياره هو ، وقدّر لهم أعمالهم فكلّ ميسّرٌ لما خُلِقَ له ، على حسب هذه الروايات المعارضة للقرآن الكريم ، وللفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وللعقل والوجدان ، ولأبسط حقوق الإنسان؟

كيف نؤمن بهذا الدّين الذي يحجّر العقول على أنّ هذا الإنسان هو دمية تُحرِّكُها أَيْدي القدر كيف شاءت ، لتُلقي بها بعد ذلك في التنّور؟ هذا الاعتقاد الذي يمنع العقول من الخلق والابتكار ، والإبداع والتطوّر ، والمنافسة التي تأتي بالأعاجيب ، ويبقى الإنسان جامداً راض بما هو فيه وبما عنده ، بدعوى أنّه ميسّر لما خُلقَ لَهُ.

كيف نقبلُ هذه الرّوايات التي تصادمُ العقول السليمة ، وتصوّر لنا بأنّ الله سبحانه هو خالقُ ، جبّارٌ ، قوىٌ ، قاهرٌ ، وله أن يخلق عباده الضعفاء ليزجّ بهم في نار جهنم لا لشيء إلاّ لأنّه يفعل ما يشاء ، وهل يسمّي العقلاء هذا الإله حكيماً أو رحيماً أو عادلا؟

كيف لو تَحدّثنا مع المثقّفين والعلماء من غير المسلمين ، وعَرفُوا بأنّ رَبّنا على هذه الصّفات ، وأنَّ دِيننا قد حكم على النّاس قبل ولادتهم بالشقاء ،

____________

(١) صحيح مسلم ٨ : ١٧ كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ : ٩٣ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٢٣٧ ح ٦٠٢٠.

٤٥

فهل سيقبلون الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً؟

سبحانك! إنّ هذا زورٌ من القول ركَّزَهُ الأمويّون ، وروّجوا له لحاجة في نفوسهم ، والباحث يعرف سرّ ذلك ، وهو زورٌ من القول لأنّه يعارض كلامك ، وحاش رسولك أنّ يتقوّل عليك بما يُناقضُ وَحْيُك الذي أوحيتَ إليه ، وقد ثبت أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إذا جاءكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق الكتاب فخذوه ، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار »(١) .

وكلّ هذه الأحاديث وأمثالها كثيرة تعارض كتاب الله وتعارض العقل ، فليضرب بها عرض الجدار ، ولا يُلتفتُ إليها وإن كان أخرجها البخاري ومسلم ، فما كان معصوميْن عن الخطأ.

ويكفينا دليلا واحداً للردّ على هذا الادّعاء الباطل هو بعثة الأنبياء والمرسلين من قبل الله إلى خلقه ، وعلى طول التاريخ البشري ليُصلحوا مفاسد العباد ، ويوضّحوا لهم الصراط المستقيم ، ويعلّموهم الكتاب والحكمة ، ويبشّروهم بالجنّة إن كانوا صالحين ، وينذروهم من عذاب الله في النّار إن كانوا مُفسدين.

ومن عدالة الله سبحانه في خلقه ورحمته بهم أنّه لا يعذّب إلاّ من بعث إليه رسولا ، وأقام عليه الحجّة ، قال تعالى :( مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (٢) .

____________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ٣ : ٣٩٢ ، باختلاف يسير.

(٢) الإسراء : ١٥.

٤٦

فإذا كانت هذه الروايات التي أخرجها البخاري ومسلم ، والتي تقول بانّ الله كتب على عباده أعمالهم قبل أن يخلُقهم ، وحكم على البعض منهم بالجنّة وعلى البعض بالنّار ـ كما قدّمنا سابقاً ـ وكما يؤمنُ بذلك أهل السنّة والجماعة ، أقول : إن كان هذا صحيح ، فإن إرسال الرّسل وانزال الكتب يصبح ضرباً من العبث! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، وما قدروا الله حق قدره ، فما يكون لنا أن نتكلّم بهذا ، سبحانك هذا بهتان عظيم.

( تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (١) . والجواب على هذا عند أئمة الهدى ، ومصابيح الدُّجى ، ومنار الأمّة ، هو تنزيه الله سبحانه عن الظلم والعبث ، فلنستمع إلى باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو يشرح للنّاس هذا الاعتقاد الذي بقي لغزاً عند بعض المسلمين الذين تركوا الباب ، يقولعليه‌السلام لمّا سأله أحد أصحابه : أكان مسيرنا إلى الشّام بقضاء من الله وقدره؟

« ويحك لعلّك ظنَنْتَ قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطَلَ الثوابُ والعقابُ ، وسقط الوعْدُ والوعيدُ ، إنّ الله سبحانه أمَرَ عبادَهُ تخييراً ، ونهاهُم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، ولم يُكلّف عسيراً ، وأعْطَى على القَليل كثيراً ، ولم يُعْصَ مغلوباً ، ولم يُطَعْ مُكْرِهاً ، ولم يُرسلِ الأنْبياءَ لَعِباً ، ولم يُنزلِ الكُتبَ للعباد عَبثاً ، ولا خَلَقَ السّماواتِ والأرضَ وما بينَهُما باطلا ، ذلك ظنُّ الذين كَفَروا فويل للّذين كَفروا من النّار »(٢) . صدق الإمامعليه‌السلام فويلٌ للذين يُنسبون

____________

(١) آل عمران : ١٠٨.

(٢) نهج البلاغة شرح محمّد عبده ٤ : ١٧ ، الخطبة : ٧٨.

٤٧

العبث والظلم لله من عذاب أليم.

والجدير بالذكر والحقُّ يقال بأنّ أهل السنّة والجماعة ينزّهون الله عن العبثِ والظلم ، فإذا ما سألت أحدهم فسوف لن يُنسب الظّلم لجلال الله سبحانه ، ولكنّه سوف يَجِدُ نفسه متحرّجاً لرفض أحاديث أخرجها البخاري ومسلم ، ويعتقد ضمنيّاً أنّها صحيحة ، ولذلك تراه عندما تجادله بالمنطق المعقول ، يدّعي بأنّ ذلك لا يُسمّى ظلماً عنْد الله; إذ أنّه الخالق ، وللخالق أن يفعل في مخلوقاته ما يشاء! فهو لا يسأل عمّا يَفْعَلُ وهم يُسأَ لُون.

وعندما تسأله : كيف يحكم الله على عبد بالنّار قبل خَلقِه لأنّه كتب عليه الشقاء ، ويحكم على آخر بالجنّة قبل خلقه لأنّه كتب عليه السّعادة؟ أليس في ذلك ظُلم للاثنين؟ لأنّ الّذي يدخل الجنّة لا يدخلها بعمله وإنّما باختيار الله له ، وكذلك الّذي يدخل النار لا يدخلها بما اقترفه من ذنوبه وإنّما بما قدّره الله عليه ، أليس في ذلك ظلم ، وهو يناقضُ القرآن؟ فسيجيبك : بأنّ الله فعّالٌ لما يريد! فلا تفهم من موقفه المتناقض شيئاً.

وهذا بديهي إذ أنّه يُنزل البخاري ومسلم بمنزلة القرآن ، ويقول : أصحّ الكتب بعد كتاب الله البخاري ومسلم ، وفي البخاري ومسلم عجائب وغرائبٌ ومصائبٌ ابتُليَ بها المسلمون ، وقد نجح الأمويون ومن بعدهم العبّاسيون نجاحاً كبيراً في بثّ بِدَعهم وعقائدهم التي تتماشى وسياستهم العقيمة ، وبقيتْ آثارهم حتى اليوم إذ يعتبرها المسلمون أعزّ وأعظم تُراث; لأنّه جمع الأحاديث النبويّة الصحيحة على حدّ زعمهم ، ولو يعلم المسلمون مقدار ما كَذَبُوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل أغراضهم السّياسية لما صدّقوا

٤٨

بتلك الأحاديث ، وخصوصاً منها المتناقض مع كتاب الله.

ولأنّ القرآن الكريم تكفّل الله بحفظه ، ولأنّه كان محفوظاً عند الصّحابة ، وكانوا يعرضونه على النّبي ، لذلك لم يتمكّنوا من تحريفه وتبديله ، فعمدوا إلى السنّة المطهّرة فوضعوا ما شاؤوا لمن شاؤوا.

وبما أنّهم كانوا أعداءً لأهل البيت حفظة القرآن والسنّة اختلقوا لكلّ حادثة حديث نسبوه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموّهوا على المسلمين بأنّ هذه الأحاديث هي أصحّ من غيرها ، فقبلها النّاس على حسن نيّة ، وهم يتداولونها بالوراثة جيلا بعد جيل.

وللإنصاف أقول بأنّ الشيعة هم الآخرون ضحية الدس والتمويه في كثير من الأحاديث التي تُنسب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لأحد الأئمة الأطهار سلام الله عليهم ، فهذا الدس والتمويه لم يسلم منه المسلمون سنّة وشيعة على مرّ التاريخ ، ولكن الشيعة يمتازون على أهل السنّة والجماعة بثلاثة أشياء ميّزتهم على غيرهم من الفرق الإسلامية الأُخرى ، وأبرزتْ عقائدهم سليمة ومتّفقة مع القرآن والسنّة والعقل ، وهذه الأشياء الثلاثة هي :

أوّلا : انقطاعهم لأهل البيت النّبوي ، فهم لا يقدّمون عليهم أحداً ، وكلّنا يعلم من هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

ثانياً : عدد أئمة أهل البيت ، وهو اثني عشر إماماً ، امتدتْ حياتهم وآثارهم طوال ثلاثة قرون ، وقد وافق بعضهم بعضاً في كل الأحكام والأحاديث ، ولم يختلفوا في شيء ، ممّا جعل شيعتهم وأتباعهم متعلّمين في كلّ مجالات العلم والمعرفة بوضوح وبدون تناقض في العقائد أو في غيرها.

٤٩

ثالثاً : اعترافهم وإقرارهم بأنّ ما لديهم من الكتب يحتملُ الخطأ والصّواب ، وليس عندهم كتاب صحيح إلاّ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ويكفيك أن تعرف مثلا أن أعظم كتاب عندهم وهو « أُصول الكافي » يقولون بأنّ فيه آلاف الأحاديث المكذوبة(١) ، ولذلك تجد علماءهم ومجتهديهم دائبين على البحث والتنقيب ، فلا يأخذون منه إلاّ الثّابت بالمتن

____________

(١) بمعنى التي لم تصح ولا يمكن الاحتجاج بها لضعف سندها الناشئ : إمّا من عدم توثيق الراوي ، أو أنّه متهم بالكذب ، أو غير ذلك. ثمّ إنّ مراده من الكافي جميع روايات كتاب الكافي والتي هي مقسمة إلى أُصول وفروع وروضة ، ويبلغ مجموعها أكثر من ستة عشر ألف حديث ، وليس مقصوده فقط الاُصول من كتاب الكافي المقابلة للفروع ، وسرّ وجود هكذا روايات في المصادر الشيعية ـ وخصوصاً الكافي الذي هو من أهم الكتب المعتمدة عند اتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ـ هو أنّ المحدثين الشيعة لم يتعهدوا ولم يلتزموا بأن ينقلوا خصوص الروايات الصحيحة كما فعله غيرهم ـ حسب زعمه ـ ، وإنّما دوّنوا الروايات والآثار المنقولة والمنسوبة إلى الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وعلى العالم الرجوع إلى سند أي رواية يريد التمسّك بها; ليراها هل هي صحيحة السند أم لا؟ وعلى فرض صحة سندها هل يكون متنها مقبولا ، أي خالياً من الشذوذ والعلّة كما يقول علماء الحديث ، إذ ليس كلّ ما صح سنده قُبل وعمل به ، ولأجل ذلك ترى أنّ العلماء يختلفون فيما بينهم في صحة رواية وضعفها; وهذا موجود أيضاً عند أهل السنّة فيما عدا ما يسمى بـ ( صحيح البخاري ) و ( صحيح مسلم ) إذ أنّهما ـ حسب زعمهم ـ صحيحان ، ولا يطعنون في رواية واحدة منهما.

ومن هذا يتضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في مناظرة قناة المستقلّة ، سنة ١٤٢٢ في شهر رمضان المبارك ، كلام بعيد عن المنهج العلمي والبحث بالتي هي أحسن ، وهو كلام تهريج أقرب من كلام باحث يتوخى الحقيقة والوصول إليها.

٥٠

والسند ، وما لا يتعارض مع القرآن والعقل.

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد ألزموا أنفسهم بكتب سمّوها الصحّاح الستّة باعتبار أنّ كلّ ما فيها صحيح ، وأغلبهم يتناقلون هذا الرأي بالوراثة بدون بحث ولا تمحيص ، وإلاّ فإنّ كثيراً من الأحاديث التي رُويتْ في هذه الكتب لا تقومُ على دليل علمي ، وفيها الكفرُ الصريح ، وبما يتناقض والقرآن ، وأخلاق الرسول وأفعاله والحطّ من كرامته.

ويكفي الباحث أن يقرأ كتاب الشيخ المصري محمود أبو رية « أضواء على السنّة المحمدية » ليعرف ما هي قيمة الصحاح الستّة.

والحمد لله فإنّ كثيراً من الشباب الباحث اليوم تحرّر من تلك القيود ، وأصبح يُفرّق بين الغث والثمين ، بل حتّى الشيوخ المتعصّبين للصحّاح أصبح الكثير منهم اليوم يُنكرها ، لا لأنّه ثبت لديه ضعف بعض الأحاديث فيها ، ولكن لأنّه وجد فيها حجّة الشيعة التي يقولون بها سواء في الأحكام الفقهية أو في العقائد الغيبيّة ، فما من حُكم أو عقيدة يقول بها الشيعة إلاّ ولها وجودٌ فعلي في أحد الصحاح الستّ لدى أهل السنّة والجماعة.

وبالمقابل قال لي بعض المتعصّبين : ما دُمتم تعتقدون بأنّ أحاديث البخاري ليست صحيحة ، فلماذا تحتجّون بها عليَنا؟

أجبت : ليس كلّ ما في البخاري صحيح ، وليس كلّ ما فيه مكذوب ، فالحقّ حقّ والباطل باطل ، وعلينا أن نُغربل ونصفّي(١) .

____________

(١) مضافاً إلى أن أُسلوب المناظرة والاحتجاج يقتضي الإتيان بالمشتركات ، وما

٥١

قال : هل عندك مِجْهرٌ خاصّ تعرف به الصحيح من المكذوب؟

قلت : ليس عندي أكثر ممّا عندك ، ولكن ما اتفق عليه السنّة والشيعة فهو صحيح; لأنّه ثبتت صحّته عند الطرفين ، ونُلزمهم به كما ألْزموا أنفسهم ، وما اختلفوا فيه حتّى لو كان صحيحاً عند أحدهم فلا يُلزمُ الطرف الثاني بقبوله ، كما لا يُلزمُ الباحث الحيادي قبوله والاحتجاج به لأنّه دورىٌ.

وأضربُ لذلك مثلا واحداً حتّى لا يبقى هناك إشكال في هذا الموضوع ، وحتّى لا يعاد نفس الانتقاد بأساليب متعدّدة :

يدّعي الشيعة بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّب عليّاً خليفة للمسلمين في غدير خم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة بعد حجّة الوداع وقال بالمناسبة :

« من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه »(١) . فهذه الحادثة وهذا الحديث نقله كثير من علماء أهل السنّة

____________

يؤمن الخصم به ، فإذا كان مؤمناً بصحيح البخاري ، وكان في البخاري ما يؤكّد عقيدة الشيعة ـ مثلا ـ ويدعمها فالاحتجاج به يكون أفضل وأكمل والزام للخصم بما ألزم به نفسه. وهذا الإشكال لا يورده إلاّ المبتدئ الذي لم يسمع بالحوار والاستدلال ، أو المتعصب الذي أعماه حب الهوى فأصم سمعه وبصره.

(١) حديث الغدير حديث ثابت صحيح متواتر ، نصّ على صحته وتواتره أعلام القوم ، وقد أخرجه أكثر المحدّثين وأرباب التصانيف ، راجع على سبيل المثال : مسند أحمد ١ : ١١٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ٣٧١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٣ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٩ ح ٢٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٢ ح ٨٤٧٣ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ٣٧٦.

وأخرجه الشيخ الألباني في صحيحته ٤ : ٣٣٠ ح ١٧٥٠ ، وأثبت صحة الحديث وتواتره ، وردّ على شيخ السلفية ابن تيمية المتسرع في الطعن بأحاديث فضائل أهل البيت من دون نظر في طرق ورأي العلماء فيها.

٥٢

والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم ، فيمكن للشيعة عندئذ أن يحتجّوا به على أهل السنّة والجماعة.

ويدّعي أهل السنّة والجماعة بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن أبا بكر ليُصلّي بالنّاس في مرض موته ، وقال بالمناسبة : « ويأبى الله ورسولَه والمؤمنون إلاّ أبا بكر »(١) .

فهذه الحادثة وهذا الحديث لا وجود له في كتب الشيعة ، وإنّما يروون بأنّ رسول الله بعث إلى علىّ ، فبعثت عائشة إلى أبيها ولمّا عرف رسول الله ذلك قال لعائشة : « إنكنّ لصويحبات يوسف »(٢) وخرج هو ليصلّي بالنّاس وزحزح أبا بكر.

فلايمكن وليس من الإنصاف أن يحتجّ أهل السنّة والجماعة على الشيعة بما انفردوا هم به ، وخصوصاً إذا كانت الروايات متناقضة ويكذّبها الواقع والتاريخ; لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عيّنَ أبا بكر ليكون ضمن جيش أُسامة ، وتحت امرته وقيادته ، ومن المعلوم أنّ أمير الجيش في السّرية هو إمام الصّلاة.

وقد ثبت تاريخياً بأنّ أبا بكر لم يكن موجوداً في المدينة عند وفاة الرّسول ، وكان بالسّنح يتجهّز للخروج مع أميره وقائده أُسامة بن زيد الذي لم يبلغ من العمر إلاّ سبعة عشر عاماً ، فكيف والحال هذه يمكن لنا أن نصدّق بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنه لإمامة الصّلاة؟ اللّهم إلاّ إذا صدّقْنا بقول

____________

(١) أورده ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٩ وقال : « إنّهم وضعوه في مقابل الحديث المروي عنه في مرضه : ائتوني بدواة وكتف ».

(٢) الصراط المستقيم للبياضي ٣ : ١٣٤.

٥٣

عمر بن الخطاب بأنّ رسول الله يهجر ولا يدرِ ما يفعل ولا ما يقول ، وهذا أمرٌ لا سبيل إليه ، فهو مستحيلٌ ولا يقول به الشيعة.

فعلى الباحث هنا أن يتقي الله في بحثه ، ولا تأخذه العاطفة فيميل عن الحقّ ، ويتّبع الهوى فيضلّ عن سبيل الله ، إنّما واجبُه أن يخضع للحقّ ولو كان الحقّ مع غيره ، ويحرّر نفسه من الرّواسب والعواطف والأنانيّة ، فيكون من الذين امتدحهم الله عزّ وجلّ في قوله :( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَاُوْلَئِكَ هُمْ اُوْلُوا الألْبَابِ ) (١) .

فليس من المعقول إذاً أنْ يقول اليهود : إنّ الحقّ عندنا ، ويقول النّصارى : إنّ الحقّ عندنا ، ويقول المسلمون : إنّ الحقّ عندنا ، وهم مختلفون في العقائد والأحكام!

فلا بدّ للباحث أنْ يُمحّص أقوال الديانات الثلاثة ، ويقارن بعضها ببعض حتّى يتبيّن له الحقّ.

وليس من المعقول أيضاً أن يقول أهل السنّة بأنّ الحقّ معهم ، ويقول الشيعة بل الحقّ عندهم وحدهم ، وهم يختلفون في بعض المفاهيم والأحكام ، فالحقّ واحدٌ لا يتجزأ.

فلا بدّ للباحث أن يتجرّد ويُمحّص أيضاً أقوال الطّرفين ، ويقارن بعضها ببعض ، ويُحَكِّمَ عقلَهُ حتّى يتبيّن له الحقّ ، وذلك هو نداء الله سبحانه لكلّ فرقة تدّعي الحقّ; إذ يقول :( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

____________

(١) الزمر : ١٧ ـ ١٨.

(٢) البقرة : ١١١.

٥٤

فليست الأكثرية بدالّة على الحقّ ، بل العكس هو الصّحيح ، قال تعالى :( وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (١) .

وقال أيضاً :( وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

مثلما أنّ التقدّم الحضاري والتكنولوجي والثّراء ليس دليلا على أنّ الغرب على حقّ والشرق على باطل قال تعالى :( فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٣) .

قول أهل الذكر في الله تعالى

يقول الإمام عليعليه‌السلام : « الحمد لله الّذي بطن خفيات الأُمور ، ودلّتْ عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عينُ من لم يره تُنكرهُ ، ولا قلبُ من أثبتَهُ يبصره ، سبقَ في العلوِّ فلا شيء أعلى منه ، وقرُبَ في الدُنوِّ فلا شيء أقربُ منه ، فلا استعلاؤه بَاعدَهُ عن شيء من خلقِه ، ولا قُربُه سَاواهم في المكان بِهِ.

لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجِبِ معرفِتِه ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرارِ قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهونَ به والجاحدونَ له علوّاً كبيراً »(٤) .

« والحمد لله الذي لم تسبق له حالٌ حالا ، فيكون أوَّلا قبل أن يكون

____________

(١) الأنعام : ١١٦.

(٢) يوسف : ١٠٣.

(٣) التوبة : ٥٥.

(٤) نهج البلاغة ١ : ٩٩ ، الخطبة : ٤٩.

٥٥

آخراً ، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً ، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل ، وكلُّ عزيز غيره ذليل ، وكل قوىّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلّمٌ ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجزُ ، وكلّ سميع غيره يصَمُّ عن لطيف الأصواتِ ويُصمُّهُ كبيرها ، ويذهبُ عنه ما بعدَ منها ، وكلّ بصير غيرُه يعمى عن خفىّ الألوانِ ولطيف الأجْسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ، وكلّ باطن غيره ظاهر.

لم يخلق ما خلقَه لتشديد سلطان ، ولا تخوّف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ندّ مثاور ، ولا شريك مكاثر ولا ضدّ مُنافر ، ولكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون.

لم يحلل في الأشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأَ عنها فيقالُ : هو منها بائنٌ ، لم يؤُدْهُ خلقُ ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأَ ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق ، ولا ولجتْ عليه شبهة فيما قضى وقدّر ، بل قضاءٌ متقنٌ ، وعلمٌ محكمٌ ، وأمرٌ مبرمٌ ، المأمول مع النِّقم ، والمرهوبُ مع النِّعَم »(١) .

« ليس لأوليته ابتداءٌ ، ولا لأزليته انقضاء ، هو الأوّل ولم يزلْ ، والباقي بلا أجل ، خرّتْ له الجباه ، ووحّدتْهُ الشفاهُ ، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانَة له من شبهها لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات ، لا يقالُ له : متى ، ولا يضربُ له أمدٌ بحتّى. الظاهرُ لا يقالُ ممَّ ، والباطن لا يقالُ فيم ، لا شبحٌ فيتقصّى ، ولا محجوبٌ فيحوَى تعالى عمّا ينحلهُ المحدّدون من صفاتِ الأقدار ، ونهايات الأقطارِ ، وتأثّل المساكنِ ، وتمكّن الأماكن ،

____________

(١) نهج البلاغة ١ : ١١٤ ، الخطبة : ٦٥.

٥٦

فالحدّ لخلقه مضروبٌ وإلى غيره منسوبٌ.

لم يخلق الأشياء من أُصول أزلية ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسنَ صورتَهُ ، ليس لشيء منه امتناع ، ولا له بطاعة شيء انتفاعٌ ، علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السماوات العُلَى كعلمِهِ بما في الأرضينَ السفْلى »(١) .

____________

(١) نهج البلاغة ٢ : ٦٦ ، الخطبة : ١٦٣.

٥٧

الفصل الثاني

في ما يتعلّق بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

السؤال الثالث : حول عصمة الرَسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

يقول الله سبحانه وتعالى في حقّ نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) .

وقال أيضاً :( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى ) (٢) .

وقال :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٣) .

وتدلّ هذه الآيات دلالة واضحة على عصمته المطلقة في كلّ شيء ، وتَقُولون بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم فقط في تبليغ القرآن(٤) ، وما عدا ذلك

____________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) النجم : ٣ ـ ٤.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) لا يقال : إنّ أهل السنّة يعتقدون بعصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ السنّة والقرآن معاً ، فإنّه يقال : نعم ، هذا هو معتقدكم عند التنظير ، ولكن الواقع العملي وتبريركم ودفاعكم عن الخليفة الثاني عندما نسب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالهجر ـ كما أقرّه ابن تيمية في منهاج السنة ٦ : ٢٤ و ٣١٥ وغيره ـ يخالف ذلك التنظير ويردّه ، إذ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يتحف الأُمة بشيء هام جداً يعصمهم من الضلالة ، ولكن اعتقاد الخليفة واعتقاد من يبرّر عمله بعدم عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ السنّة ،

٥٨

فهو كسائر البشر يُخطِىءُ ويُصيب ، وتستدلّون على خطئه في عدّة مناسبات بأحداث تروونها في صحاحكم!

فإذا كان الأمر كذلك ، فما هي حجّتكم وما هو دليلكم في ادّعائكم التمسّك بكتاب الله وسنّة نبيّه ، ما دامت هذه السنّة عندكم غير معصومة ، ويمكن فيها الخطأ؟

وعلى هذا الأساس فالمتمسّك بالكتاب والسنّة على حسب معتقداتكم لا يأمن من الضلالة ، وخصوصاً إذا عرفنا بأنّ القرآن كُلّه مفسَّرٌ ومُبَيّنٌ بالسنّة النبويّة ، فما هي حجّتكم في أنّ تفسيره وتبيانه لم يكن مخالفاً لكتاب الله تعالى؟

قال لي أحَدهُم معبّراً عن هذا الرأي : لقد خالف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن في كثير من الأحكام حسب ما تقتضيه المصلحة.

قلتُ متعجّباً : أعطني مثلا واحداً على مخالفته.

أجاب : يقول القرآن :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ) (١) ، بينما حكم الرّسول على الزاني والزانية بالرّجم ، وهو غير موجود في القرآن.

قلت : إنّما الرّجم على المحصن إذا زنى ، ذكراً كان أم أنثى ، والجلد على الأعزب إذا زنى ، ذكراً كان أم أنثى.

____________

حرم الأُمة الإسلامية منها ، فكيف يجرأون بعد هذا التفوّه بعصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الرسالة؟!

(١) النور : ٢.

٥٩

قال : في القرآن ليس هناك أعزب أو مُحصن; لأنّ الله لم يخصّص بل أطلق لفظ الزانية والزاني بدون تخصيص.

قلت : إذاً على هذا الأساس فكلّ حكم مطلق في القرآن خصّصه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مخالفٌ للقرآن؟ فأنتَ تقول بأن الرّسول خالف القرآن في أكثر أحكامه؟

أجاب متحرّجاً : القرآن وحده معصوم; لأنّ الله تكفّل بحفظه ، أمّا الرّسول فهو بشر يخطىء ويصيب ، كما قال القرآن في حقّه :( قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (١) .

قلتُ : فلماذا تُصلّي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقد أطلق القرآن لفظ الصّلاة بدون تخصيص لأوقاتها؟

أجاب : القرآن فيه :( إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ) (٢) والرّسول هو الذي بيّن أوقات الصلاة.

قلت : فلماذا تُصدّقْه في أوقات الصّلاة ، وتردّ عليه في حكم رجم الزاني؟

وحاول جهده أن يُقنعني بفلسفات عقيمة متناقضة لا تقوم على دليل عقلي ولا منطقي كقوله : بأنّ الصّلاة لا يمكن الشكّ فيها; لأنّ رسول الله فعلها طيلة حياته ، وفي كلّ يوم خمس مرّات ، أمّا الرّجم فلا يمكن الاطمئنان إليه; لأنّه لم يفعله في حياته غير مرّة أو مرّتين.

وكقوله بأنّ الرّسول لا يُخطئ عندما يأمره الله بأمره ، أمّا عندما يحكمُ

____________

(١) الكهف : ١١٠.

(٢) النساء : ١٠٣.

٦٠