فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 53212
تحميل: 3249

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53212 / تحميل: 3249
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

ولكنّك غلبتني ) فيغفر الله لأبي بكر لضعفه ولتقدّمه في الخلافة عليه ، لأنّ أنصار عمر من بني عدي وبني أُميّة ، ما رأوا رخاءً وانتفاعاً وغنائم وفتوحات مثل ما رأوه في زمانه نعم كل هذا فضل عمر بن الخطّاب في الحياة الدنيا; فلا بدّ أن يضمنوا له الجنّة في الآخرة ـ أيضاً ـ بمرتبة أكبر وأفضل من صاحبه أبي بكر ، وقد فعلوا.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنّها مخلوقة ، وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر :

عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : بينما نحن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ قال : بينما أنا نائمٌ ، رأيتُنِي في الجنَّة ، فإذا امرأةٌ تتوضَّأُ إلى جانب قصر ، فقلت : لمن هذا القصْرُ؟ فقالوا : لعمر بن الخطّاب ، فذكرتُ غَيْرَتَهُ فولّيتُ مدبراً ، فبكى عُمرُ ، وقال : أعليكَ أغَارُ يا رسول الله؟!

أخي القارئ أظنّك فطنت إلى تنسيق هذه الروايات المكذوبة ، وقد سطّرتُ على كلّ منها تحت عبارة واحدة مشتركة في كلّ الروايات التي اختصّت بفضائل عمر بن الخطّاب ، ألا وهي قول الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وحاشاه طبعاً ) : بينما أنا نائم ، فتجدها دائماً في كلّ الرّوايات : بينما أنا نائم رأيت النّاس يعرضون علىَّ ، بينما أنا نائمٌ أُتيتُ بقدحِ لبن ، بينما أنا نائمٌ رأيتني على قليب ، وبينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنّة.

ولعلّ راوي الحديث كان كثير الحلم والأضغاث ، فكان يتأوّل ويختلق الروايات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكم كُذِبَ عليه في حياته وهو موجود بين

٤٢١

ظهرانيهم ، فكيف بعد وفاته ، وقد انحرفت الأُمّة وتقاتلوا وأصبحوا مذاهب وأحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون.

ولكن بقي شيء واحدٌ سجّلَهُ المؤرّخون ، والصّحابة الذين كانوا من أنصار عمر بن الخطاب نفسه ، ألا وهو الخلق الذي كان يمتاز به عُمرُ في الغلظة والفظاظة والشدّة على الناس وحدّة الطبع ، ومن كان هذا طبعه عادة لا يحبّه الناس ، قال تعالى :( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) .

ولكنّ المعجبين بعمر يقلّبون الموازين ، ويجعلون من النقيصة منقبة ومن الرذيلة فضيلة ، فقد عمدوا إلى اختلاق رواية في شدّة السخافة والبلاهة ، والمسّ بكرامة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يشهد الله سبحانه بأنّه ليس فظّاً ولا غليظاً ، وإنّما هو ليّن الطبع( فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (٢) ،( وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم ) (٣) ،( بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (٤) ، و( رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (٥) ، فلنستمع إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون فيه :

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر :

عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : استأذن عمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعندَهُ

____________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) القلم : ٤.

(٤) التوبة : ١٢٨.

(٥) الأنبياء : ١٠٧.

٤٢٢

نساءٌ من قريش يكلّمنَهُ ، ويستكثرنَهُ ، عالية أصواتُهنَّ ، فلما استأذن عمرُ قُمْنَ يبتدرنَ الحجابَ ، فأذنَ لَهُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضحَكُ ، فقال عمرُ : أضحك اللّهَ سِنَّك يا رسول اللّه؟ قال : « عجبتُ من هؤلاء اللاّتي كنَّ عندي ، فلمَّا سمعنَ صوتكَ ابتدرنَ الحجابَ ».

قالَ عُمرُ : فأنتَ يا رسول الله كنتَ أحقَّ أن يهبنَ ، ثمّ قال : أي عديّاتِ أنفسهنّ! أتهبنني ولا تهبن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قلن : نعم! أنتَ أفظُّ وأغلظُ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي نفسي بيده ما لقيَكَ الشيطانُ قطٌّ سالِكاً فجّاً إلاّ سَلك فجّاً غير فجّكَ »!!

كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً ، أُنظر إلى فظاعة الرّواية ، وكيف أنّ النّساء يهبنَ عمر ولا يهبنَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويرفعن أصواتهن فوق صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يحترمنه فلا يحتجبن بحضرته ، وبمجرّد سماع صوت عمر سكتنَ وابتدرن الحجاب؟!

عجبتُ والله من أمر هؤلاء الحمقَى الذين لا يكفيهم كلّ ذلك حتّى ينسبون إليه أنّه فظٌّ غليظ بكلّ صراحة ، لأنّ عمر أفظّ وأغلظ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي من أفعال التفضيل ، فإن كانت هذه فضيلة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعمر أفضل منه ، وإن كانت رذيلة فكيف يقبل المسلمون وعلى رأسهم البخاري ومسلم مثل هذه الأحاديث؟!

ثمّ لم يكفهم كلّ ذلك حتّى جعلوا الشيطان يلعبُ ويمرحُ بحضرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يخافه ، فلا شكّ أنّ الشيطان هو الذي استفزّ النسوة حتى يرفعن أصواتهنّ ويخلعن حجابهنّ ، ولكنّ الشيطان هربَ وسلك فجّاً آخر

٤٢٣

بمجرّد دخول عمر بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هل رأيتَ أيُّها المسلم الغيور ما هي قيمة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندهم ، وكيف أنّهم يقولون من حيث يشعرون أو لا يشعرون بأنّ عمر أفضل منه؟!

وهو بالضبط ما يقع اليوم عندما يتحدّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعدّدون أخطاءه المزعومة ، ويبرّرون ذلك بأنّه بشر غير معصوم ، وبأنّ عمر كثيراً ما كان يصلح أخطاءه ، وأنّ القرآن كان ينزل بتأييد عمر في العديد من المرّات ، ويستدلّون بعبسَ وتَولَّى ، وبتأبير النخل ، وبأسرى بدر وغيرها.

ولكنّك عندما تقول أمامهم بأنّ عمر أخطأ في تعطيل سهم المؤلّفة قلوبهم ، أو في تحريم المتعتين ، أو في التفضيل في العطاء; فإنّك ترى أوداجهم تنْتفخ ، وأعينهم تحمّر ، ويتّهمونك بالخروج عن الدّين ، ويقال لك : من أنت يا هذا حتى تنتقد سيّدنا عمر الفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل!! وما عليك إلاّ أن تُسَلّمَ ولا تحاول الكلام معهم ثانية ، وإلاّ قد يلحقك منهم الأذى.

البخاري يدلّس الحديث حفاظاً على كرامة عمر بن الخطّاب

نعم ، إنّ الباحث إذا ما تتّبع أحاديث البخاري لا يفهم الكثير منها ، وتبدوا كأنّها ناقصة أو مقطّعة ، وأنّه يخرج نفس الحديث بنفس الأسانيد ، ولكنّه في كلّ مرّة يعطيه ألفاظاً مختلفة في عدّة أبواب ، كلّ ذلك لشدّة حبه لعمر بن الخطاب.

ولعلّ ذلك هو الذي رغّب أهل السنّة فيه فقدّموه على سائر الكتب ، رغم أنّ مسلماً أضبط ، وكتابه مرتّب حسب أبواب ، إلاّ أنّ البخاري عندهم أصحّ

٤٢٤

الكتب بعد كتاب الله لأجل هذا ، ولأجل انتقاصه فضائل علي بن أبي طالب ، فالبخاري عمل من جهة على تقطيع الحديث وبتره إذ كان فيه مسٌّ بشخصية عمر ، كما عمل نفس الأُسلوب مع الأحاديث التي تذكر فضائل علي ، وسنُوافيك ببعض الأمثلة على ذلك قريباً إن شاء الله.

بعض الأمثلة على تدليس الحديث التي فيها حقائق تكشف عن عمر ابن الخطاب :

١ ـ أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحيض باب التيمّم ، قال : جاء رجل إلى عمر فقال : إنّي أجنبتُ فلم أجد مَاءً؟ فقال عمر : لا تُصلِّ ، فقال عمّار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنَا وأنتَ في سريّة ، فأجنبنا فلم نجد ماءً ، فأما أنتَ فلم تُصلِّ ، وأما أنَا فتمعّكتُ في التّراب وصلّيتُ ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما كان يكفيكَ أنْ تضربَ بيديك الأرض ، ثمّ تنفُخ ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيكَ » ، فقال عمر : إتّق الله يا عمّار! قال : إن شئتَ لم أحدّثْ به.

وأخرج هذه الرّواية كلّ من أبي داود في سننه ، وأحمد بن حنبل في مسنده ، والنّسائي في سننه ، والبيهقي ، وابن ماجه أيضاً(١) .

ولكنّ البخاري خان الأمانة أمانة نقل الحديث ، كما هو ومن أجل الحفاظ على كرامة عمر دلّس الحديث; لأنّه لم يعجبهُ أن يعرف النّاس جهل الخليفة بأبسط قواعد الفقه الإسلامي ، وإليك الرواية التي تصرّف فيها البخاري.

____________

(١) مسند أحمد ٤ : ٢٦٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٨٨ ح ٥٦٩ ، سنن النسائي ١ : ١٦٦ ، السنن الكبرى للبيهقي ١ : ٢٠٩ ، سنن أبي داود ١ : ٨١ ح ٣٢٢.

٤٢٥

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب التيمّم ، باب المتيمّم هل ينفخ فيهما :

قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب ، فقال : إنّي أجنبتُ فلم أصبِ الماءَ ، فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أمَا تذكر أنّا كنَّا في سفر أنا وأنتَ الحديث.

وهو كما ترى حذف منه البخاري « فقال عمر : لا تُصلِّ » لأنّها أربكت ولا شكّ البخاري ، فحذفها وتخلّص منها لئلا يكشف للنّاس عن مذهب عمر الذي كان يرتئيه في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واجتهاده مقابل نصوص القرآن والسنّة ، وبقاءه على مذهبه هذا حتّى بعدما أصبح أميراً للمؤمنين ، وأخذ ينشر مذهبه في أوساط المسلمين ، وقد قال ابن حجر : « هذا مذهبٌ مشهور عن عمر »(١) ، والدّليل على أنّه كان يشدّد على ذلك قول عمّار له : إن شئت لم أحدّث به. فاقرأ وأعجب!!

٢ ـ أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك من جزئه الثاني صفحة ٥١٤ ، وصحّحه الذهبي في تلخيصه.

عن أنس بن مالك قال : إنّ عمر بن الخطّاب قرأ على المنبر قوله :( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدائِقَ غُلْباً * وَفاكِهَةً وَأَبّاً ) قال : كلّ هذا عرفناه فما الأَبُّ؟ ثمّ قال : هذا لعمر الله هو التكلّف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبُّ ، اتبعوا ما بيّنَ لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه.

____________

(١) فتح الباري ١ : ٣٧٦.

٤٢٦

وهذه الرّواية قد نقلها أغلب المفسّرين في كتبهم وتفاسيرهم لسورة عبس ، كالسّيوطي في الدر المنثور ، والزمخشري في الكشاف ، وابن كثير في تفسيره ، والرّازي في تفسيره ، والخازن في تفسيره(١) .

ولكنّ البخاري وكعادته حذف الحديث وأبتره; لئلا يعرف النّاس جهل الخليفة بمعنى الأبُّ ، فروى الحديث كالآتي :

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلّف ما لا يعنيه ، قول الله تعالى :( لا تَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) :

عن أنس بن مالك قال : كنّا عند عُمر فقال : نهينا عن التكلّفِ.

نَعم ، هكذا يفعل البخاري بكلّ حديث يشمُّ منه انتقاصاً من عمر ، فكيف يفهم القارئ من هذا الحديث المبتور حقيقة الأشياء ، فهو يستُر جهل عمر بمعنى الأبّ ، ويقول فقط قال : نهينا عن التكلّف.

٣ ـ أخرج الحاكم في المستدرك ٢ : ٥٩ ، وأبو داود في سننه ٢ : ٣٣٩ ، والبيهقي في سننه ٨ : ٢٦٤ ، وابن حجر في فتح الباري ١٢ : ١٠٧ ، وأحمد في مسنده ١ : ٣٣٥ بسند صحيح ، وابن ماجة ١ : ٦٥٩ ، ح ٢٠٤٢ مختصراً وغيرهم ، عن ابن عباس أنّه قال : أُتي عمر بمجنونة قد زنتْ ، فاستشار فيها أُناساً فأمر بها أن تُرجم ، فمرّ بها علي بن أبي طالب فقال : « ما شأنها »؟

____________

(١) تفسير الطبري ٣٠ : ٧٧ ، تفسير القرطبي ١٩ : ٢٢٣ ، تفسير ابن كثير ١ : ٦ ، الدر المنثور ٦ : ٣١٧ ، وانظر الغدير للأميني ٦ : ٩٩.

(٢) المائدة : ١٠١.

٤٢٧

قالوا : مجنونة بني فلان زنت ، فأمر بها عمر أن تُرجم ، قال : « ارجعوا بها » ، ثمّ أتاه فقال : « ألم تعلم أنّ القلَم رُفعَ عن المجنون حتّى يعْقل ، وعن النائم حتّى يستيقظ ، وعن الصبىّ حتّى يحتلم »؟ فخلّى عنها عمر وقال : « لولا علىّ لهلك عمر »(١) .

ولكن البخاري أربكته هذه الرواية ، فكيف يعرف النّاس جهل عمر بأُمور الحدود التي رسمها كتاب الله وبيّنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يترأس على منصّة الخلافة من كانت هذه حاله ، ثمّ كيف يذكر البخاري هذه الرواية وفيها فضيلة لعلىّ بن أبي طالب الذي كان يسهر على تعليمهم ما يجهلون ، واعتراف عمر بقوله أنّه « لولا علىّ لهلك عمر » ، فلننظر للبخاري كيف يحرّف الرواية ويدلّسها :

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ، باب لا يرجَمُ المجنون والمجنونة ، قال البخاري بدون ذكر أي سند :

وقال عليٌّ لعمر : « أما علمت أنَّ القَلَمَ رفع عن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصبىّ حتى يُدرِكَ ، وعن النائم حتى يستيقظ »؟.

نعم ، هذا مثالٌ حىٌّ لتصرّف البخاري في الأحاديث ، فهو يبتر الحديث إذا كان فيه فضيحة لعمر ، ويُـبترُ الحديث أيضاً إذا كان فيه فضيلة أو منقبة للإمام علي فلا يطيق تخريجه.

٤ ـ أخرج مسلم في صحيحه من كتاب الحدود ، باب حدّ شارب الخمر :

____________

(١) هذه الزيادة وردت في فيض القدير ٤ : ٤٧٠ ، المناقب للخوارزمي : ٨١ ح ٦٥ ، التذكرة للسبط : ٦٥.

٤٢٨

عن أنس بن مالك : أنّ النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتِيَ برجل قد شرب الخمر ، فجلده بجريدتين نحو أربعين ، قال : وفعله أبو بكر ، فلمَّا كان عمر ، استشار النّاس ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أخفّ الحدود ثمانين ، فأمر به عمر.

والبخاري كعادته لا يريد إظهار جهل عمر بالحكم في الحدود ، وكيف يستشير النّاس في حدٍّ معلوم فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ فعله بعده أبو بكر.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحدود ، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر :

عن أنس بن مالك : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب في الخمْر بالجريد والنّعال ، وجلدَ أبو بكر أربعين.

٥ ـ أخرج المحدّثون والمؤرّخون الذين أَرَّخوا مرض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاته ، وكيف طلب منهم أن يكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً ، وهو ما سُمِّي برزيّة يوم الخميس ، وكيف أنّ عمر بن الخطّاب عارض وقال بأنّ رسول الله يهجرَ ـ والعياذ بالله ـ.

وقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الجهاد ، باب هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ، وأخرجه مسلم في صحيحه من كتاب الوصية ، باب ترك الوصيّة لمن ليس له شيء يوصي فيه :

عن ابن عبّاس ( رضي الله عنه ) ، أنّه قال : يومُ الخَميس ، ومَا يوم الخميس ، ثمّ بكى حتّى خضبَ دمعه الحصْباء ، فقال : اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وَجعهُ يوم الخميس ، فقال : « ائتوني بكتاب ، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً » فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازعٌ ، فقالوا : هَجَرَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « دعوني فالذي أنا فيه خيرٌ ممّا تدعوني إليه » وأوصى عند موته بثلاث :

٤٢٩

« أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفْد بنحو ما كنت أجيزهم » ونسيتُ الثَّالثة.

نعم ، هذه هي رزيّة يوم الخميس التي لعب فيها عمر دور البطولة ، فعارض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنعه أنّ يكتب ، وبتلك الكلمة الفاحشة التي تعارض كتاب الله ، ألا وهي أنّ النّبي يهجر ، والبخاري ومسلم نقلاها هُنا بالعبارة الصحيحة التي نطق بها عمر ، ولم يُبدِّلاها ما دام اسم عمر غير وارد ، ونسبة هذا القول الشنيع للمجهول لا يضرّ.

ولكن عندما يأتي اسم عمر في الرواية التي تذكر بأنّه هو الذي تلفّظ بها ، يصعب ذلك على البخاري ومسلم أن يتركاها على حالها; لأنّها تفضَحُ الخليفة ، وتظهره على حقيقته العارية ، وتكشف عن مدى جُرأته على مقام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي كان يعارضُه طيلة حياته في أغلب القضايا.

وعرف البخاري ومسلم ومن كان على شاكلتهم بأنّ هذه الكلمة وحدها كافية لإثارة عواطف كلّ المسلمين حتّى أهل السنّة ضدّ الخليفة ، فعمدوا إلى التّدليس ، فهي مهنتهم المعروفة لمثل هذه القضايا ، وأبدلوا كلمة « يهجُر » بكلمة « غلب عليه الوجع » ، ليبعدوا بذلك تلك العبارة الفاحشة ، وإليك ما أخرجه البخاري ومسلم في نفس موضوع الرزيّة :

عن ابن عباس ، قال : لما حُضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هلّم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده » ، فقال عمر : إنّ النبىّ قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله.

فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النّبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللّغو

٤٣٠

والاختلاف عند النّبي قال لهم : قوموا. قال عبد الله بن مسعود : فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرّزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(١) .

وبما أنّ مسلماً أخذها عن أُستاذه البخاري ، فنحنُ نقول للبخاري : مهْما هذّبْتَ العبارة ، ومهما حاولت تغطية الحقائق ، فإنّ ما أخرجته كاف وهو حجةٌ عليك وعلى سيّدك عمر; لأنّ لفظ « يهجر » ومعناه يهذي ، أو « قد غلب عليه الوجع » ، تؤدّي إلى نفس النتيجة; لأنّ المتمعّن يجد أنّ النّاس حتّى اليوم يقولون : مسكين فلان تغلّبت عليه الحُمَّى حتى أصبح يهذي.

وخصوصاً إذا أضفنا إليها كلامه : « عندكم القرآن حسبنا كتاب الله » ومعنى ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهى أمره ، وأصبح وجوده كالعدم!!

وأنا أتحدّى كلّ عالم له ضمير أن يتمعّن فقط في هذه الواقعة بدون رواسب وبدون خلفيّات ، فسوف تثور ثائرته على الخليفة الذي حرم الأُمّة من الهداية ، وكان سبباً مباشراً في ضلالتها.

ولماذا نخشى من قول الحقّ ما دام فيه دفاعٌ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالتالي عن القرآن وعن المفاهيم الإسلاميّة بأكملها ، قال تعالى :( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) (٢) .

فلماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهدهم

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٩ كتاب المرضى ، باب قول المريض : قوموا عني ، صحيح مسلم ٥ : ٧٦ كتاب الوصية ، باب ترك الوصية.

(٢) المائدة : ٤٤.

٤٣١

تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تُسْمِنُ ولا تُغْني من جوع؟!

فإليك ما ابتكره العالم محمّد فؤاد عبد الباقي في شرحه لكتاب « اللؤلؤُ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان » عند إيراده لحديث رزيّة يوم الخميس قال يشرح الواقعة : « ائتوني بكتاب » أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة ، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف; والظاهر أنّ هذا الكتاب الذي أراده إنّما هو في النصّ على خلافة أبي بكر ، لكنّهم لمّا تنازعوا واشتدّ مرضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل عن ذلك ، معوّلا على ما أصَّلَهُ من استخلافه في الصّلاة.

ثمّ أخذ يشرح معنى هَجَر قال : هجر : ظنّ ابن بطّال أنّها بمعنى اختلط ، وابن التين أنّها بمعنى هَذَى; وهذا غير لائق بقدره الرفيع ، ويحتمل أن يكون المراد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هجركم ، من الهجر الذي هو ضدّ الوصل ، لما قد وردَ عليه من الواردات الإلهية ، ولذا قال : في الرفيق الأعلى ، وقال ابن الأثير : إنّه على سبيل الاستفهام وحذفتْ الهمزة ، أي هل تغيّرَ كلامه واخْتَلَطَ لأجل ما به من المرض ، وهذا أحسن ما يقالُ فيه ، ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان ، والقائل كان عمر ولا يُظنُّ به ذلك(١) . انتهى كلامه.

ونحن نردّ عليك يا سيادة العالم الجليل أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ، ويكفينا اعترافك بأنّ قائل هذا الفحش هو عُمر! ومن أنبأك بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب خلافة أبي بكر؟ وهل كان عمر ليعترض على ذلك؟

____________

(١) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ٢ : ١٦٦ ، كتاب الوصية.

٤٣٢

وهو الذي شيّد أركان الخلافة لأبي بكر ، وحملَ النّاس عليها غصباً وقهراً حتّى هدَّد بحرق بيت الزّهراء ، وهل هناك من ادّعى هذا غيرك يا سيادة العالم الجليل؟

والمعروف عند العلماء قديماً وحديثاً(١) بأنّ علىَّ بن أبي طالب هو المرشّح للخلافة من قبل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن لم يعترفوا بالنصّ عليه ، ويكفيك ما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الوصايا من جزئه الثالث صفحة ١٨٦ ، قال : ذكروا عند عائشة أنَّ عليّاً رضي الله عنهما كان وصيّاً ، فقالت : متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري فدعا بالطسَّتِ ، فلقد انخنث في حجري فما شعرتُ أنّه قد ماتَ ، فمَتى أوصى إليه؟(٢) .

والبخاري أخرج هذا الحديث لأنّ فيه إنكار الوصيّة من طرف عائشة ، وهذا ما يعجب البخاري ، ولكن نحن نقول : بأنّ الذين ذكروا عند عائشة أنّ

____________

(١) إنّ هذا الأمر كان معلوماً لدى الصحابة فضلا عن العلماء ويدلّ عليه أُمور :

منها : ما قاله عليّعليه‌السلام : « قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أرى أنّي أحق بهذا الأمر » ( اُسد الغابة ٤ : ٣١ ) ، ومنها : ما قاله العباس لعليّ بعد ما توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي قم حتى أبايعك ومن حضر فقال عليّ : وأحدٌ؟ يعني يطمع فيها غيرنا » ( الطبقات لابن سعد ٢ : ١٩٠ ط دار الكتب العلمية ). فالمسألة إذاً كانت معلومة واضحة لدى الصحابة ولذا تأخّر قوم عن البيعة وذهبوا إلى بيت فاطمةعليها‌السلام وليس ذلك إلاّ لاعتقادهم أحقية عليّعليه‌السلام بالأمر دون غيره.

(٢) لا بأس بذكر ما أورده الشوكاني في نيل الأوطار ٦ : ١٤٥ على القرطبي حينما استشهد بكلام عائشة على نفي الوصية ، فقال : « ولا يخفى أنّ نفي عائشة للوصية حال الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات ، فإذا أقام البرهان الصحيح من يدّعي الوصاية في شيء معين قبل ».

٤٣٣

رسول الله أوصى لعلي صادقين; لأنّ عائشة لم تكذّبهم ولم تنْفِ هي نفسها الوصية ، ولكنّها سألت كالمستنكرة متى أوصى إليه؟

ونجيبها بأنّه أوصى إليه بحضور أُولئك الصحابة الكرام وفي غيابها هي ، ولا شكّ بأنّ أُولئك الصّحابة ذكروا لها متّى أوصى إليه ، ولكنّ الحكّام المتسلّطين منعوا ذكر مثل هذه المحاججات ، كما منعوا ذكر الوصيّة الثالثة ونسوها ، وقامتْ السياسة على طمس هذه الحقيقة.

على أنّ عمر نفسه صرّح بأنّه منع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة الكتاب لعلمه بأنّه يختصّ بخلافة علي بن أبي طالب ، وقد أخرج ابن أبي الحديد الحوار الذي دار بين عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عبّاس ، وفيه قال عمر وهو يسأل ابن عباس : هل بقي في نفس عليّ شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس : نعم ، فقال عمر : ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُه من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام(١) .

فلماذا تتهرّب يا سيادة العالم من الواقع ، وبدلا من إظهار الحقّ ، بعدما ولّى عصر الظلمات مع بني أُميّة وبني العبّاس ، ها أنتم تزيدون تلك الظلمات غشاوة وأستاراً ، فتحجبوا غيركم عن إدراك الحقيقة والوصول إليها؟! وإن كنت قُلتَ الذي قُلتَ عن حسن نيّة ، فإني أسأل الله سبحانه أن يهديك ويفتح بصيرتك.

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ١٢ : ٢١ ، وذكر ابن أبي الحديد أنّ الخبر نقله أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً. ( المؤلّف ).

٤٣٤

٦ ـ كما أنّ البخاري فعل الكثير من أجل تبديل وتدليس وتخليط الأحاديث النّبوية; التي يشعر من خلالها أنّ هناكَ توهيناً وانتقاصاً لهيبة أبي بكر وعمر ، فها هو يعمدُ إلى حادثة تاريخية مشهورة قال فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً لم يعجب الإمام البخاري ، فأعفاه تماماً وكمالا; لأنّه يرفع مكانة علي على حساب أبي بكر.

فقد روى علماء السنّة في صحاحهم ومسانيدهم ، كالترمذي في صحيحه ، والحاكم في مستدركه وأحمد بن حنبل في مسنده ، والإمام النسائي في خصائصه ، والطبري في تفسيره ، وجلال الدّين السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور ، وابن الأثير في تاريخه ، وصاحب كنز العمّال ، والزمخشري في الكشّاف ، وغير هؤلاء كثيرون ، أخرجوا كلّهم :

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر ( رضي الله عنه ) وأمره أن ينادي بهذه الكلمات ( وهي براءة من الله ورسوله ) ، ثمّ أتبعَهُ عليّاً ( رضي الله عنه ) وأمره أن ينادي بها هو ، فقام علىٌّ ( رضي الله عنه ) في أيام التشريق فنادى : « إنّ الله برىء من المشركين ورسولُه ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجّنّ بعد العام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان » ، ورجع أبو بكر ( رضي الله عنه ) فقال : يا رسول الله نزل فىّ شيءٌ؟ قال : « لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلاّ أنتَ أو رجلٌ منك »(١) .

____________

(١) راجعه بألفاظه المختلفة : مسند أحمد ١ : ١٥١ وقال محقّق المسند أحمد شاكر : سنده حسن ، ذخائر العقبى : ٦٩ ، الدر المنثور ٣ : ٢٠٩ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٤٨ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٣٩ ، المستدرك ٣ : ٥١ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٦ ح ٧٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٢٨ والخصائص له أيضاً : ٩١ ، مسند أبي

٤٣٥

لكنّ البخاري كعادته دائماً أخرج الحادثة بطريقته المعروفة والمألوفة ، قال في صحيحه من كتاب تفسير القرآن باب قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر :

قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنّ أبا هريرة ( رضي الله عنه ) قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين ، بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنْى : أن لا يحجّ بعد العام مشركٌ ، ولا يطوف بالبيت عريان ، قال حميد بن عبد الرحمن : ثم أردف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلي بن أبي طالب ، وأمره أن يؤذّنَ ببراءة ، قال أبو هريرة : فأذّن معنا علي يوم النحر في أهل منىً ببراءة ، وأنّ لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ(١) .

فانظر أيها القارئ كيف تتمُّ عملية التشويه للأحاديث والأحداث حسب الأغراض والأهواء المذهبية ، فهل هناك شبهٌ بين ما رواه البخاري في هذه القضية ، وما رواه غيره من المحدّثين والمفسّرين من علماء أهل السنة؟!

والبخاري هنا يجعل أبا بكر هو الذي بعث أبا هريرة ، ومؤذّنين يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ ، ثمّ يدخلُ قول حميد بن عبد الرحمن بأنّ رسول الله أردف بعلي بن أبي طالب ، وأمره أنْ يؤذّن ببراءة.

ثمّ يأتي من جديد قول أبي هريرة بأنّ علي شاركهم في الأذان يوم

____________

يعلى ١ : ١٠٠ ح ١٠٤ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ١٧ ، تفسير الطبري ١٠ : ٨٤ ، شواهد التنزيل ١ : ٣٠٥ ، أنساب الأشراف : ١٥٥ ، تاريخ الطبري ٢ : ٣٨٣ ، فتح القدير للشوكاني ٢ : ٣٣٤ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٥٩٥ ح ١٣٨٤.

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢٠٢.

٤٣٦

النحر ببراءة ، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان!!

وبهذا الأُسلوب قضى البخاري على فضيلة علي بن أبي طالب ، في أنّه هو الذي أَردفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبلّغ عنه براءة ، بعدما جاءهُ جبرئيل وأمره عن الله بعزل أبي بكر من تلك المهمة ، وقال له : « لن يؤدي عنك إلاّ أنتَ أو رجلٌ منك ».

فصعب على البخاري أن يعزل أبو بكر بوحي من الله تعالى ، ويُقدّم عليّ ابن أبي طالب عليه ، وهذا ما لا يرتضيه البخاري أبداً ، فعمد إلى الرواية فدَلّسها كغيرها من الرّوايات.

وكيف لا يتنبّه الباحث لهذا الدّس والتزوير ، وخيانة الأمانة العلمية ، خصوصاً وهو يقرأ أنّ أبا هريرة يقول : بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين بعثهم يوم النحر! فهل كان أبو بكر هو الذي يُسيّرُ الأُمورَ حتى في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وكيف أصبح المبعوث هو البَاعث الذي يختارُ مؤذّنينَ من بين الصحابة يا تُرى؟

وتمعّن في أُسلوب البخاري كيف قلَّب كلّ شيء ، فأصبح علي بن أبي طالب ـ المبعوث من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأداء تلك المهمّة التي لا يصلح لها سِواهُ ـ شريكَ النّداء مع أبي هريرة وبقية المؤذّنين ، دون التعرّض لعزل أبي بكر ولا رجوعه يبكي ـ كما في بعض الروايات ـ ولا التعرّض إلى قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جاءني جبرئيل فقال : لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجلٌ منك »؟!

لأنّ ذلك الحديث هو بمثابة وسام الشّرف الذي قلّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عمِّه ووصيّه على أُمّته علي بن أبي طالب ، ثمّ هو صريح بأنّ ذلك

٤٣٧

ماجاء به جبرئيل حسب الحديث النّبوي ، فلا يبقى بعده مجال للمتأوّلين أمثال البخاري في أنّه رأيُ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو كسائر البشر ، والذي يُخطئُ ، كغيره ، فالأولى للبخاري حينئذ أنْ يُبعدَ هذه الرواية ويطرحها كلّياً من حسابه كما طرح غيرها.

فتراه يخرج في صحيحه في كتاب الصلح ، باب كيف يكتب هذا ما صالحَ فلان بن فلان ، قول الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي بن أبي طالب : « أنتَ منِّي وأنا منك » في قضية اختصام علي وجعفر وزيد على ابنة حمزة ، في حين أنّ ابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، والإمام أحمد ، وصاحب كنز العمّال ، كلّهم يخرجون قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علي منّى وأنَا من علي ، ولا يؤدّي عنّي إلاَّ أنَا أو علي »(١) قالها في حجّة الوداع ، ولكن أنّى للبخاري أن يُخرجَ ذلك؟!

٧ ـ أضف إلى ذلك أنّ الإمام مسلم أخرج في صحيحه من كتاب الإيمان ، باب الدّليل على أنّ حبّ الأنصار وعلىّ من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النّفاق :

عن علىّ قال : « والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، إنّه لعهْدُ النبىُّ الأُمّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليَّ : أنْ لا يُحبّني إلاّ مؤمنٌ ، ولا يبغضُني إلاّ منافِقٌ ».

____________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٦٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ح ١١٩ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٩٩ ح ٣٨٠٣ وصححه ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٥ ح ٨ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٥٨٤ ح ١٣٢٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٥ ح ٨١٤٧ ، المعجم الكبير للطبراني ٤ : ١٦ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ١٧٧ ح ٥٥٩٥ ، كنز العمال ١١ : ٦٠٣ ح ٣٢٩١٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٤٥ ، تهذيب الكمال للمزي ٥ : ٣٥ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٢١٢ وسنده صحيح.

٤٣٨

وأكّد المحدّثون وأصحاب السنن قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعَلي : « ولا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافقٌ »(١) .

أخرجه الترمذي في صحيحه ، والنسائي في سننه ، ومسند أحمد بن حنبل ، والبيهقي في سننه ، والطبري في ذخائر العقبى ، وابن حجر في لسان الميزان ، ولكنّ البخاري رغم ثبوت هذا الحديث عنده ، والذي أخرجه مسلم ورجاله كلّهم ثقات لم يخرج هذا الحديث; لأنّه فكّر ثمّ قدّر ، بأنّ المسلمين سيعرفون نفاق كثير من الصّحابة ، ومن المقرّبين للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بهذه الإشارة التي رسمها من لا ينطق عن الهَوى إن هُو إلاّ وحيٌّ يُوحَى ، كما أن الحديث في حدّ ذاته فضيلة كبرى لعلي وحدَه دونَ سائر الناس ، إذ به يُفرقَ الحقّ من الباطل ، ويعرفُ الإيمان من النّفاق.

فهو آية الله العُظمى ، وحجّته الكبرى على هذه الأُمة ، وهو الفتنةُ التي يختبر الله بها أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نبيّها ، ورغم أن النّفاق هو من الأسرار الباطنية التي لا يطّلعُ عليها إلاّ من يعلم خائنة الأعيُن وما تُخفي الصدور ، ولا يعرفها إلاّ علاّم الغيوب ، فإنّ الله سبحانه تفضّلا منه ورحمةً بهذه الأُمّة وضع لها علامةً ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، وينجو من نجا عن بينة.

____________

(١) مسند أحمد ١ : ٩٥ وقال الشيخ أحمد شاكر : « إسناده صحيح وهو مكرّر ٦٤٢ » ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦ ح ٣٨١٩ وصحّحه ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٧ ح ٨٤٨٧ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٥١ ح ٢٩١ ، المعجم الأوسط ٢ : ٣٣٧ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤١٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٧١ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٦ ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ١٠ ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٥ : ١٨٩ ، الإصابة ٤ : ٤٦٨ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٩١ وغيرها من المصادر.

٤٣٩

وأضْربُ لذلك مثالا واحداً على ذكاء البخاري وفطنته من هذه النّاحية ، ولذلك أعتقد شخصيّاً بأنّ أهل السنّة من الأسلاف فضّلوه وقدّموه لهذه الخاصيّة التي يمتاز بها على غيره ، فهو يحاول جهده أن لا يتناقض بأحاديث تخالف مذهبه الذي اختاره وتبنّاه.

فقد أخرج في صحيحه من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها ، باب هبة الرّجل لامرأته والمرأة لزوجها :

قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، قالت عائشةُ رضي الله عنها : لما ثَقُلَ النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاشتدّ وجعُهُ ، استأذن أزواجه أن يُمرضَ في بيتي فأذِنَّ لَهُ ، فخرجَ بينَ رجُلينِ تَخُطُّ رجلاَهُ الأرضَ ، وكانَ بينَ العبّاسِ وبين رجل آخَرَ ، فقال عبيد الله : فذكرتُ لابن عبّاس ما قالتْ عائشةُ ، فقال لي : وهلْ تدري من الرَّجُلُ الذي لم تُسَمِّ عائشة؟ قلتُ : لا! قال : هو علىّ بن أبي طالب.

وهذا الحديث بالضبط أخرجه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح في جزئه الثاني في صفحة ٢٩ ، وكذلك صاحب السيرة الحلبية ، وغيرهم من أصحاب السنن وفيه : « إنّ عائشة لا تَطيبُ له نفساً بخير »(١) .

والبخاري أسقط هذه الجملة التي يستفاد منها أنّ عائشة تبغض عليّاً ولا تَطيق ذكر اسمه ، ولكن فيما أخرجه كفاية ودلالة واضحة لمن له دراية بمعارض الكلم; وهل يخفى على أىّ باحث قرأ التاريخ ومحّصة ، بغض أُمّ

____________

(١) مسند أحمد ٦ : ٢٢٨ ، عنه الألباني في إرواء الغليل ١ : ١٧٨ وصحّحه ، الطبقات الكبرى ٢ : ٢٣٣ ، السيرة الحلبية ٣ : ٤٨٦.

٤٤٠