بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 446
المشاهدات: 40324
تحميل: 4002


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 446 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40324 / تحميل: 4002
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 3

مؤلف:
العربية

في تحقيق مذهب الإمامية ؟ قلت : لا ، بل نحمله على أنّه عليه السّلام عنى اعداءه الّذين حاربوه من قريش ، و غيرهم من أفناء العرب في أيّام صفّين ، و هم الّذين نقلوا البناء ، و هجروا السّبب ، و وصلوا غير الرحم ، و اتّكلوا على الولائج ، و غالتهم السّبل ، و رجعوا على الأعقاب ، كعمرو بن العاص ، و المغيرة بن شعبة ،

و مروان بن الحكم ، و الوليد بن عقبة ، و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة ،

و عبد اللَّه بن الزبير ، و سعيد بن العاص ، و حوشب ، و ذوي الكلاع ، و شرحبيل بن الصمت ، و أبي الأعور السلمي ، و غيرهم ممّن تقدّم ، ذكرنا له في الفصول المتعلّقة بصفين ، و أخبارها . فإنّ هؤلاء نقلوا الإمامة عنه إلى معاوية ، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه .

قال : فإن قلت : لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأوّلته ، لأنّه عليه السّلام قال : « حتّى إذا قبض اللَّه رسوله رجع قوم على الأعقاب » فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله ، و ما ذكرته أنت كان بعد قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله بنيّف و عشرين سنة . قلت : ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لمّا مات النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و أضمروا في أنفسهم مشاقّة أمير المؤمنين عليه السّلام و أذاه ، و قد كان فيهم من يتحكّك به في أيّام أبي بكر ، و عمر ، و عثمان ،

و يتعرّض له ، و لم يكن أحد منهم و لا من غيرهم يقدم على ذلك في حياة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله . و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الإسلام ، فإنّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في ايمان بعض من ذكرناه ،

و يعدّونهم من المنافقين ، و قد كان سيف النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يقمعهم و يردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النّفاق ، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك ، خصوصا فيما يتعلّق بأمير المؤمنين عليه السّلام ، الّذي ورد في حقّه : « ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب » و هو

٤٠١

خبر محقّق مذكور في الصّحاح ١ .

قال : فإن قلت : يمنعك من هذا التأويل قوله : « و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فجعلوه في غير موضعه » . و ذلك لأنّ ( إذا ) ظرف ، و العامل فيها قوله :

« رجع قوم على الأعقاب » ، و قد عطف عليه قوله : « و نقلوا البناء » . فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور و هو وقت قبض الرّسول وجب أن يكون نقل البناء الى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا ، لأنّ أحد الفعلين معطوف على الآخر ، و لم ينقل أحد وقت قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السّلام ، و إنّما نقل عنه إلى شخص آخر ، و في إعطاء العطف حقّه إثبات مذهب الإمامية صريحا .

قلت : إذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظّرف ، و لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا ، بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر ، إمّا بأن يكون الواو للاستيناف لا للعطف ، أو بأن يكون للعطف في مطلق الحدث ،

لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزّمان المخصوص ، كقوله تعالى : . . . حتّى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه . . . ٢ . فالعامل في الظرف استطعما و يجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة ، و لا يجب ان تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة في حال الإتيان أيضا ، ألا ترى أنّ من جملتها فأقامه و لم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية ، بل متراخيا عنه بزمان ما ، اللهمّ إلاّ أن يقول قائل : أشار بيده إلى الجدار ، فقام ، أو قال له : قم . فقام ، لأنّه

ــــــــــــــــ

( ١ ) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٥ ح ٣٧١٧ عن أبي سعيد الخدري .

( ٢ ) الكهف : ٧٧ .

٤٠٢

لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنة للإتيان إلاّ على هذا الوجه ، و هذا لم يكن ،

و لا قاله مفسّر . و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له : . . . لو شئت لاتّخذت عليه أجرا ، لأنّ الأجر إنّما يكون على احتمال عمل فيه مشقّة ، و إنّما يكون فيه مشقّة إذا بناه بيده ، و باشره بجوارحه و أعضائه .

قال : و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما يقتضيه سؤدده الجليل ، و منصبه العظيم ، و دينه القويم ، من الإغضاء عمّا سلف ممّن سلف ،

فقد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدهر . فإمّا أن يكون ما كانوا فيه حقّهم ، أو حقّه ، فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة ، أو لما رآه من المصلحة .

و على أي التقديرين ، فالواجب علينا أن نطبّق بين آخر أفعاله و أقواله بالنّسبة إليهم ، و بين أوّلها ، فإنّ بعد تأويل من يتأوّله من كلامه ، فليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل الآيات المتشابهة في القرآن ، و لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الاصول المقرّرة ، فكذلك هاهنا ١ .

قلت : إنّما كان الأولى له أن يريح نفسه و يقول ككثير من نصّابهم إنّه و إن صرّح أنّ النّاس ارتدّوا بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله إلاّ أنّا لا نقبل قوله ، و أنّا لا نقبل أقوال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فيه . فقد صرّح فاروقهم لمّا منع النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله من الوصيّة : بأنّه علم ما أضمر النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله من تعيينه لعليّ ، إلاّ أنّي منعته من ذلك ، لأنّه لم يكن صلاح الامّة ، فكيف نقبل ما يقوله من نفسه و يدّعيه لنفسه ، و لا يذكر هذه التأويلات التي توجب التهوّع ، و لا يخرج في تطويلاته إلى كلام البلهاء ،

و اصلاحه حال المتقدّمين عليه عليه السّلام بتأويلاته كما قال الشاعر :

تروح إلى العطار تبغي شبابها

و هل يصلح العطار ما أفسد الدّهر

و هل حمله قوله عليه السّلام : « حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله رجع قوم على

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٨ .

٤٠٣

الأعقاب » على من ذكر من ابن العاص ، و المغيرة ، و مروان ، و باقيهم يصحّح مذهبهم ؟ و ما يفعل بامّ مؤمنيهم الّتي ولاؤها عندهم كأبيها و صاحبه جزء دينهم ؟ فإنّها كانت السّبب الأعظم في تزلزل أمر أمير المؤمنين عليه السّلام و استيلاء معاوية ، و أمّا من سمّاه فكان الناس يعرفونهم بالنّفاق قديما و حديثا ، و من كان يعتني بهم ، لو لا عايشة في الجمل الّذي سبّب صفيّن و النهروان ، حتّى انجرّ الأمر إلى ما انجرّ من خلافة معاوية ؟

و إذا عدّ ابن الزبير فلم لم يعدّ أباه حواريهم ، و طلحة أحد عشرتهم و ستّتهم و ولاؤهما أيضا عندهم ركن الدّين ؟ و هما أيضا كأميرة مؤمنيهم كانا العامل الأهم ، و السبب الأعظم في تزلزل أمر أمير المؤمنين عليه السّلام و انتقال السلطان إلى معاوية . فكتب معاوية الى سعيد بن العاص : « فقد أيّدتكم بأسد و تيم » . مريدا بأسد الزبير و بتيم طلحة . فكان معاوية كتب إلى كلّ منهما : « أنّه أخذ البيعة بالشام له ، و لصاحبه على أنّ الأمر للمقدّم ، ثمّ لصاحبه من بعده » .

و كان كتب الى يعلى بن اميّة : « و قد كتبت إلى طلحة أن يلقاك بمكّة ، حتّى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة ، و الطلب بدم عثمان » . فكان معاوية لم ير نفسه أهلا للقيام في قباله عليه السّلام ، حتّى يكتب الى طلحة و الزبير : أنّه أحكم الأمر لهما حتّى يزلزلا أمره ، فيتمكّن من القيام عليه .

و لم عدّ المغيرة ، و لم يعضد المغيرة معاوية وقت قيام أمير المؤمنين عليه السّلام ، بل عاضد أمير المؤمنين عليه السّلام بنصحه على السياسة الدنيوية ،

بأن يكتب إلى معاوية بإقراره على عمله ، ثمّ يعزله بعد استقرار أمره ، و إن لم يقبل أمير المؤمنين عليه السّلام ذلك منه على حسب وظيفته الدينية ، فكان عليه السّلام ملتزما بالجري على حاق الشريعة . بخلاف صدّيقهم و فاروقهم ، فإنّهما في قيامهما فزعا إلى المغيرة ، لأن يرى لهما رأيا يستحكم به أمرهما ، فرأى لهما أن يعرضا على العبّاس عمّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله تشريكه ، تضعيفا لأمر أمير المؤمنين ،

٤٠٤

قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) بعد ذكره إباء أمير المؤمنين عليه السّلام عن بيعة أبي بكر :

ثمّ خرج ( أبو بكر ) فأتى المغيرة بن شعبة . فقال : الرّأي يا أبا بكر أن تلقوا العبّاس ، فتجعلوا له في هذه الإمرة نصيبا يكون له و لعقبه ، و تكون لكما الحجّة على عليّ و بني هاشم ، إذا كان العبّاس معكم . فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة و المغيرة حتّى دخلوا على العبّاس ١ .

و العبّاس و إن لم يقبل ذلك و أنكره و قال لأبي بكر كما في ( الخلفاء ) أيضا : إن كنت برسول اللَّه طلبت فحقنا أخذت ، و إن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم متقدّمون فيهم ، و إن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين ، فأمّا ما بذلت لنا ، فإن يكن حقّا لك فلا حاجة لنا فيه ، و إن يكن حقّا للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم ، و إن كان حقّنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض . . . ٢ .

الا أنّ أصل تصدّي أبي بكر صار سببا لانتقال الأمر إلى جبابرة بني العبّاس ، كجبابرة بني امية ، فلو كان ابن أبي الحديد قال : إنّ المغيرة صار دخيلا في انتقال الأمر منه عليه السّلام إلى أبي بكر ، كان له وجه ، و إلاّ فإنّه أيّام ادعاء معاوية الأمر في قباله عليه السّلام لم يحارب أمير المؤمنين عليه السّلام و لا نصر معاوية ،

بل اعتزل لدهائه لينظر كيف يصير عاقبة الأمر ، بل صرّح في أهل الجمل الطالبين بدم عثمان : أنّهم قتلته ، و أنّ الحقّ معه عليه السّلام ٣ .

و كذلك عدّه سعيد بن العاص غلط ، فإنّه مع كونه من بني امية منع معاوية من قيامه ، فروى الزّبير بن بكار : أنّ معاوية كتب إليه : إنّ كتاب مروان ورد عليّ من ساعة وقعت النازلة ، تقبل به البرد بسير المطيّ الوجيف تتوجس

ــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ١٥ .

( ٢ ) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ١٥ .

( ٣ ) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ٦٣ .

٤٠٥

توجّس الحيّة الذكر خوف ضربة الفأس ، و قبضة الحاوي ، و مروان الرّائد لا يكذب أهله فعلام الافكاك يابن العاص ؟ و لات حين مناص ، ذلك أنّكم يا بني اميّة عمّا قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة ، فينكركم من كان منكم عارفا ، و يصدّ عنكم من كان لكم واصلا ، متفرّقين في الشعاب ، تتمنون لمظة المعاش . إنّ أمير المؤمنين ( يعني عثمان ) عتب عليه فيكم ، و قتل في سبيلكم ،

ففيم القعود عن نصرته ، و الطلب بدمه و أنتم بنو أبيه و ذوو رحمه ، و أقربوه و طلاّب ثأره ؟ أصبحتم مستمسكين بشظف معاش زهيد عمّا قليل ينزع منكم عند التخاذل و ضعف القوى ، فإذا قرأت كتابي هذا فدبّ دبيب البرء في الجسد النحيف ، و سر سير النجوم تحت الغمام ، و احسد حسد الذّرة في الصيف لانحجارها في الصرد ، فقد أيّدتكم بأسد و تيم إلى أن قال فكتب إليه سعيد :

أمّا بعد ، فإنّ الحزم في التثبّت و الخطأ في العجلة ، و الشّؤم في البدار ، و السّهم سهمك ما لم ينبض به الوتر ، و لن يرد الحالب في الضرع اللبن . ذكرت حق أمير المؤمنين علينا ( أي عثمان ) و قرابتنا منه ، و أنّه قتل فينا ، فخصلتان ذكرهما نقص و الثالثة تكذب ، و أمرتنا بطلب دم عثمان ، فأيّ جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ردمت الفجاج ، و احكم الأمر عليك ، و ولّي زمامه غيرك ؟ فدع مناواة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره ، و قلت : كأنّا عن قليل لا نتعارف ، فهل نحن إلاّ حي من قريش ، إن لم تنلنا الولاية ، لم يضق عنّا الحقّ ؟

انّها خلافة منافية . و باللَّه أقسم قسما مبرورا لئن صحّت عزيمتك على ما ورد به كتابك لألفينّك بين الحالبين طليحا ، و هبني أخالك بعد خوض الدّماء تنال الظفر ، هل في ذلك عوض من ركوب المآثم ، و نقص الدّين ؟ أمّا أنا فلا على بني امية و لا لهم . أجعل الحزم داري ، و البيت سجني ، و أتوسد الإسلام ، و استشعر العافية . فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجّة الحق ، و استوهب العافية لأهلك ، و استعطف النّاس على قومك ، و هيهات من قبولك ما أقول حتّى

٤٠٦

يفجّر مروان ينابيع الفتن تأجّج في البلاد ، و كأنّي بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر ، و لبئس العاقبة الندامة ، و عمّا قليل يضحّ لك الأمر ١ .

و المغيرة أيضا دعاه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى نصرته ، فاعتذر بارادته الاعتزال ، لما علم أنّ أعداءه عليه السّلام لا يخلّونه يصفو له الأمر ، ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) : أنّ عليّا عليه السّلام قال للمغيرة : هل لك في اللَّه ؟ قال : فأين هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر ، فتدرك من سبقك ، و تسبق من معك ، فإنّي أرى امورا لا بدّ للسيوف أن تشحذ لها و تقطف الرؤوس بها . فقال المغيرة : إنّي و اللَّه يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيبا و لا قتله صوابا ، و إنّها لظلمة تتلوها ظلمات ، فاريد يا أمير المؤمنين إن أذنت لي أن أضع سيفي و أنام في بيتي ، حتّى تنجلي الظّلمة و يطلع قمرها ، فنسري مبصرين نقفوا آثار المهتدين ، و نتقي سبيل الجائرين . قال علي : قد أذنت لك ، فكن من أمرك على ما بدا لك . فقام عمّار فقال : معاذ اللَّه يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا ، يغلبك من غلبته و يسبقك من سبقته ؟ انظر ما ترى و ما تفعل ، فأمّا أنا فلا أكون إلاّ في الرعيل الأوّل . فقال له المغيرة : يا أبا اليقظان إيّاك أن تكون كقاطع السلسلة ، فرّ من الضّحل فوقع في الرّمضاء . فقال عليّ لعمّار : دعه فإنّه لن يأخذ من الآخرة إلاّ ما خالطته الدّنيا ، أما و اللَّه يا مغيرة إنّها المثوبة المؤدّية ، تؤدّي من قام فيها إلى الجنّة و لما اختار بعدها ، فإذا غشيناك فنم في بيتك . فقال المغيرة : أنت و اللَّه يا أمير المؤمنين أعلم منّي ، و لئن لم اقاتل معك لا اعين عليك ، فإن يكن ما فعلت صوابا فإيّاه أردت ، و إن يكن خطأ فمنه

ــــــــــــــــ

( ١ ) كتاب معاوية الى سعيد رواه الزبير بن بكار في الموفقيات عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦١ ، شرح الخطبة ١٨٢ ، و جواب سعيد نقله في المصدر : ٥٦٣ .

٤٠٧

نجوت ، و لي ذنوب كثيرة لا قبل لي بها إلاّ الاستغفار منها ١ .

و إنّما طوّلت في الاستشهاد بالتاريخ ليظهر لك خبطه في التمثيل كالممثّل و إنّما المغيرة في من و ممّن نقل البناء يوم السقيفة ، كما مرّ ، و قال الجوهري : سمعت ابن شبّه يحدّث رجلا بحديث لم أحفظ أسناده : أنّ المغيرة مرّ بأبي بكر و عمر ، و هما جالسان على باب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله حين قبض ، فقال : و ما يقعدكما ؟ قالا : ننتظر هذا الرّجل يخرج فنبايعه يعنيان عليّا فقال : أتريدون أن تنظروا خيل الحلبة من أهل هذا البيت ، و شعوها في قريش تتّسع ؟ فقاما إلى سقيفة بني ساعدة . . . ٢ .

و ممّا يوضّح ما قلنا من أنّ مراده عليه السّلام برجوع قوم على الأعقاب عقيب وفاته صلّى اللَّه عليه و آله : ما قلناه من المنافقين و الطلقاء ، الذين هم شدّوا أمر أبي بكر يوم السقيفة ، كما هو صريح الفصل و تشكيكه الرّكيك لا أثر له ما رواه الزّبير بن بكار في ( موفقيّاته ) عن ابن مخرمة عن إبراهيم بن سعد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : لمّا بويع أبو بكر و استقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ، و لام بعضهم بعضا ، و ذكروا عليّ بن أبي طالب ، و هتفوا باسمه ، و إنّه في داره لم يخرج إليهم ، و جزع لذلك المهاجرون و كثر في ذلك الكلام ، و كان أشدّ قريش على الأنصار نفر منهم ، و هم سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي ، و الحرث بن هشام و عكرمة بن أبي جهل المخزوميان ،

و هؤلاء أشراف قريش الّذين حاربوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ثم دخلوا في الاسلام ، و كلّهم موتور قد وتره الأنصار ، أمّا سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدّخشم يوم بدر ، و أمّا الحرث بن هشام فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر ، و هو فارّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ٥٠ .

( ٢ ) السقيفة للجوهري : ٦٧ .

٤٠٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثالث الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

عن أخيه ، و أمّا عكرمة بن أبي جهل فقتل أباه ابنا عفرة ، و سلبه درعه يوم بدر زياد ابن لبيد ، و في أنفسهم ذلك .

فلمّا اعتزلت الأنصار تجمّع هؤلاء ، فقام سهيل فقال : يا معشر قريش :

إنّ هؤلاء القوم قد سمّاهم اللَّه الأنصار ، و أثنى عليهم في القرآن ، فلهم بذلك حظّ عظيم و شأن غالب ، و قد دعوا إلى أنفسهم و إلى عليّ بن أبي طالب ، و عليّ في بيته لو شاء لردّهم ، فادعوهم إلى صاحبكم و إلى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم و إلاّ قاتلوهم . فو اللَّه إني لأرجو اللَّه أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم .

ثمّ قام الحرث ، فقال : إن يكن الأنصار تبوّأت الدّار و الايمان من قبل ،

و نقلوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله إلى دورهم من دورنا فآووا و نصروا ، ثمّ ما رضوا حتّى قاسمونا الامور و كفونا العمل ، فإنّهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فانّهم قد خرجوا ممّا و سموا به ، و ليس بيننا و بينهم معاتبة إلاّ السيف ، و إن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم و المظنون معهم .

ثمّ قام عكرمة بن أبي جهل ، فقال : و اللَّه لو لا قول رسول اللَّه : « الأئمّة من قريش » ما أنكرنا إمرة الأنصار ، و لكانوا لها أهلا ، و لكنّه قول لا شك فيه و لا خيار ، و قد عجّلت الأنصار علينا ، و اللَّه ما قبضنا عليهم الأمر ، و لا أخرجناهم من الشورى ، و إنّ الّذي هم فيه من فلتات الامور و نزغات الشيطان ، و ما لا يبلغه المنى ، و لا يحمله الأمل . اعذروا إلى القوم ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فو اللَّه لو لم يبق من قريش كلّها إلاّ رجل واحد لصيّر اللَّه هذا الأمر فيه .

و حضر أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش إنّه ليس للأنصار أن يتفضّلوا على الناس حتّى يقرّوا بفضلنا عليهم ، فإن يفعلوا فحسبنا حيث انتهى بنا ، و إلاّ فحسبهم حيث انتهى بهم ، و ايم اللَّه لئن بطروا المعيشة و كفروا النّعمة لنضربنّهم على الاسلام كما ضربونا عليه . فأمّا عليّ بن أبي طالب ،

فأهل و اللَّه أن نسوّده على قريش و تطيعه الأنصار .

٤٠٩

فلمّا بلغ الأنصار قول هؤلاء الرّهط ، قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس ، فقال : يا معشر الأنصار إنّما كان يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدّين من قريش ، فأمّا إذا كان من أهل الدّنيا ، و لا سيما من أقوام كلّهم موتور ،

فلا يكبرنّ عليكم ، إنّما الرّأي و القول مع الأخيار من المهاجرين ، فإن تكلّمت رجال قريش الّذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء ، فعند ذلك قولوا ما أحببتم ،

و إلاّ فامسكوا . و قال حسّان بن ثابت يذكر ذلك :

تنادى سهيل و ابن حرب و حارث

و عكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل ١

و قال أيضا الزبير بن بكار : و كان خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر و من المنحرفين عن عليّ ، فقام خطيبا . ثم نقل خطبته بطولها ٢ .

و قوله : « إنّ هؤلاء نقلوا الإمامة عنه إلى معاوية . . . » كلام مختل بلا محصّل ، فإنّه عليه السّلام كان عند جمهور المسلمين إماما و خليفة ، و عدم انقياد معاوية و كورة الشام له غير مضر ، فكان في عصر أكثر الخلفاء خوارج كذلك ،

و إنّما كان عمرو بن العاص لمّا جعله معاوية حكما ، قال : إنّي خلعت عليّا و نصبت معاوية . و لم يكن لفعله و قوله أثر ، و إنّما كانت معاضدة هؤلاء لمعاوية سببا لسلطنة معاوية بعده عليه السّلام و عدم بقاء الخلافة لأهل بيته ، و كما أن السبب لذلك فعل الأوّلين ، فكانوا يقولون : هم قدّموه لنا . كما في كتاب معاوية إلى محمّد بن أبي بكر ، و لا بدّ أن يكونوا يقولون لهم : أنتم قدّمتموه لنا .

كما أنّ ما طوّله في معنى العطف و تمثيله بالآية تطويل بلا طائل ،

و شطط و غلط ، فعطف كلامه عليه السّلام بالواو ، و عطف الآية بالفاء ، و قد أجابوه عن ذلك .

و قوله : « إنّ الاستطعام كان وقت إتيان القرية لا إقامة الجدار إلاّ أن يقول

ــــــــــــــــ

( ١ ) الموفقيات للزبير بن بكار عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٩ ، شرح الخطبة ٦٥ .

( ٢ ) الموفقيات للزبير بن بكار عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٩ ، شرح الخطبة ٦٥ .

٤١٠

قائل : أشار إلى الجدار فقام . . . » ١ كلام مضحك ، فأيّ مانع أن نقول : كانت إقامة الجدار أيضا وقت الإتيان ؟ فهذه امور عرفيّة ، فإنّ معنى الآية إنّ في وقت إتيان القرية عمل عملين : عمل أوّلا الاستطعام ، و عمل ثانيا إقامة الجدار ، و لم استدلّ على عدم إقامة الجدار بالإشارة باتخاذ الأجر ؟ فإنّه مجرّد فرض لا يحتاج في نفيه إلى استدلال ، مع أنّه لو فرض وقوعه ، أيّ مانع أن يقول له موسى : . . . لو شئت لاتّخذت عليه أجرا ٢ لأنّ إشارته لم تكن إشارة عادية بل من قبل اللَّه ،

فكانت أعظم من عمل فيه مشقّة .

و لم ينحصر الشكاية من الأوّلين به عليه السّلام ، فشيعته كانوا مثله أيضا ،

روى الجوهري في ( سقيفته ) عن محمّد بن قيس الأسدي عن معروف بن سويد قال : كنت بالمدينة أيّام بويع عثمان ، فرأيت رجلا في المسجد جالسا و هو يصفق بإحدى يديه على الاخرى و الناس حوله ، و يقول : و اعجبا من قريش و استئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت معادن الفضل ، و نجوم الأرض ، و نور البلاد و اللَّه إنّ فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أولى منه بالحقّ ، و لا أقضى بالعدل ، و لا آمر بالمعروف ، و لا أنهى عن المنكر ،

فسألت عنه ، فقيل : هذا مقداد . فتقدّمت إليه ، و قلت : أصلحك اللَّه ، من الرّجل الذي تذكره ؟ فقال : ابن عمّ نبيّك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب . قال : فلبثت ما شاء اللَّه ، ثمّ إنّي لقيت أبا ذر فحدّثته ما قال مقداد ، فقال : صدق . قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم ؟ قال : أبى ذلك قومهم . . . ٣ .

و أمّا قول ابن أبي الحديد : « و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٨ .

( ٢ ) الكهف : ٧٧ .

( ٣ ) السقيفة للجوهري : ٨١ .

٤١١

على ما يقتضيه سؤدده الجليل ، و منصبه العظيم ، و دينه القويم ، من الإغضاء عمّا سلف » ١ . فإنّما الإغضاء عمّا سلف لمن رجع أخيرا ، و جبر ما جرح أوّلا ،

و أمير المؤمنين عليه السّلام ليس عمله خلاف قول اللَّه تعالى و رضاه ، و اللَّه تعالى لا يرضى إلاّ عمّن تاب و أناب ، لا من أذنب و ألّب ، و لم يكن ذلك إليه عليه السّلام ، كما لم يكن إلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، فقال تعالى له : . . . إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر اللَّه لهم . . . ٢ . و كيف يعفو اللَّه تعالى عمّن صار سببا لجميع الفتن و الأحداث التي حدثت في الإسلام ، و الأحداث التي تحدث إلى يوم القيامة ؟ و كيف يقول :

عفا أمير المؤمنين عليه السّلام ، و قد كان يتظلّم إلى حال احتضاره ، و لم يستقرّ به المنبر في أيّامه إلاّ كان يتظلّم ؟

و قول ابن أبي الحديد : « فالواجب علينا أن نطبّق بين آخر أفعاله و أقواله بالنسبة إليهم ، و بين أوّلها » ٣ لا يغني عنه من اللَّه شيئا ، و روى إبراهيم الثقفي أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لأمير المؤمنين عليه السّلام : إنّا كنّا نقول : لو رجعت إليكم بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لم ينازعكم فيها أحد . و اللَّه ما أدري ما أقول إذا سئلت ،

أزعم أنّ القوم كانوا أحقّ بما كانوا فيه منك ، فعلام نصبك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بعد حجّة الوداع ، و قال : « أيّها النّاس من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؟ و إن قلت : أنت أولى منهم بما كانوا فيه ، فعلام نتولاّهم ؟ فقال عليه السّلام : يا عبد الرّحمن إنّ اللَّه تعالى قبض نبيّه ، و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي هذا ، و قد كان من النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إليّ عهد لو خزموني بأنفي لأقررت سمعا للَّه و طاعة ، و إنّ أوّل ما انتقضا بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إبطال حقّنا في الخمس ، فلمّا رقّ أمرنا طمعت رعيان

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٨ .

( ٢ ) التوبة : ٨٠ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٨ .

٤١٢

البهم من قريش فينا إلى أن قال و إنّما يعرف الهدى بقلّة من يأخذه من النّاس ، فإذا سكت فاعفوني فإذا جاء أمر تحتاجون فيه إلى الجواب أجبتكم ،

فكفّوا عنّي ما كففت عنكم . فقال عبد الرّحمن : فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأوّل :

لعمري لقد أيقظت من كان نائما

و أسمعت من كانت له اذنان ١

و أمّا قوله : « و قد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدّهر » . فيقال له :

إنّما كانت مصاحبتهم بالمعروف بعد إتمام الحجّة عليهم يوم تمكّن من المحاجة ، كيوم السقيفة يوم أبي بكر ، و يوم الشورى يوم عثمان ، و أمّا يوم عمر فلم يمكنه التكلّم ، لأنّه كانت سلطنته مستقرة فوّضها أبو بكر إلى عمر ،

و الإمام كالكعبة يؤتى و لا يأتي ، و لم يكن له عليه السّلام رغبة في السلطنة من حيث السلطنة ، بل كان يريدها لإقامة الحق ، كما صرّح عليه السّلام بذلك في الشقشقية ٢ ،

و لم يكن عليه السّلام مثل اولئك الذين صاروا عارا على الاسلام بتركهم جنازة نبيّهم بلا تجهيز ، و منازعتهم على الرياسة ، و جعلهم تسلية أهل بيته إحضار النّار لإحراقهم .

و أمّا قول ابن أبي الحديد : « إنّ بعد تأويل ما نتأوّله من كلامه فليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل الآيات المتشابهة » ٣ فيقال له : بل بينهما بعد المشرقين ، لأنّ كلامه عليه السّلام ليس بمتشابه ، بل كالآيات المحكمات ، مع أنّ كثيرا من المتشابهات كقوله تعالى : . . . يد اللَّه فوق أيديهم . . . ٤ ، و كقوله جلّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) نقله عنه المفيد في أماليه : ٢٢٣ المجلس ٢٦ .

( ٢ ) رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة ١ : ٣٠ الخطبة ٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٨ .

( ٤ ) الفتح : ١٠ .

٤١٣

و علا : و يبقى وجه ربّك ذو الجلال و الاكرام ١ أهل العرف يفهمون أنّها استعارات ، و أنّ ظاهرها غير مراد . و أمّا القول بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام رضي عن الثلاثة ، و أمضى أفعالهم ، و صحّح نتايج أعمالهم ، فليس بأبعد من أن يقال :

إنّ الجمع بين عبادة اللَّه ، و عبادة الأصنام و الأوثان غير ضائر . و من أن يقال :

إنّ موسى عليه السّلام لم يكن مخالفا لفرعون ، و إنّ محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لم يكن منكرا لأبي جهل . و إن كان إخواننا يلتزمون بالجمع بين الضّدّين ، ففي ( الاستيعاب ) رأى عمرو بن شرحبيل في النّوم عمّارا و أصحابه في روضة ، و ذا ظليم و ذا الكلام في روضة . فقيل : و كيف ، و قد قتل بعضهم بعضا ؟ فقال : وجدوا اللَّه واسع المغفرة ٢ .

و لعمري إنّ هذا دين حنيفة التي أكلت ربها عام المجاعة ، لا الدّين الحنيف الذي أمر اللَّه عباده باتّباعه و مدح أتباعه .

٣٠

من الخطبة ( ١٨٨ ) اِلْزَمُوا اَلْأَرْضَ وَ اِصْبِرُوا عَلَى اَلْبَلاَءِ وَ لاَ تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اَللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ ٤ : ١٠٠ وَ اِسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَ قَامَتِ اَلنِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلاً « الزموا الأرض و اصبروا على البلاء » قال ابن أبي الحديد : أمر أصحابه أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) الرحمن : ٢٧ .

( ٢ ) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب ١ : ٤٨٧ ، و النقل بالمعنى .

٤١٤

يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد الفاسدة ،

كالخوارج و من كان يبطن هوى معاوية ، و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام ، كيف ، و هو لا يزال يقرعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الابطاء في ذلك ؟ و لكن قوم من خاصّته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة ،

و يعرفون نفاقهم و فسادهم ، و يرومون قتلهم و قتالهم ، فنهاهم عن ذلك ، و كان يخاف فرقة جنده و انتشار حبل عسكره ، فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء ١ .

و قال ابن ميثم : الخطاب خاص بمن يكون بعده بدلالة سياق الكلام ،

و لزوم الأرض كناية عن الصبر في مواطنهم ، و قعودهم عن النّهوض بجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الإمام بالحقّ بعده ٢ .

و قال الخوئي : الأظهر ما قاله ابن أبي الحديد ٣ .

قلت : بل الصواب ما قاله ابن ميثم ، كما يشهد له أخبار أهل بيته ، فروى أنّ عبد الحميد الواسطي قال للباقر عليه السّلام : لقد تركنا أسواقنا انتظارا لهذا الأمر .

فقال عليه السّلام : أترى من حبس نفسه على اللَّه عزّ و جلّ لا يجعل اللَّه له مخرجا ؟ بلى و اللَّه ليجعلنّ له مخرجا . رحم اللَّه عبدا حبس نفسه علينا ، رحم اللَّه عبدا أحيا أمرنا ٤ .

« و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوى » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب :

( و هوى ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٥ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٠ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢١٠ .

( ٣ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٠٦ .

( ٤ ) كمال الدين للصدوق : ٦٤٤ ح ٢ ، و المحاسن للبرقي : ١٧٣ ح ١٤٨ في صدر حديث .

( ٥ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢١٩ ، و شرح ابن ميثم ٤ : ٢٠٢ مثل المصرية أيضا .

٤١٥

« ألسنتكم » روى النعماني في ( غيبته ) عن أبي الجارود ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السّلام : أوصني . فقال : أوصيك بتقوى اللَّه ، و أن تلزم بيتك ، و تقعد في دهماء هؤلاء النّاس ، و إيّاك و الخوارج منّا فإنّهم ليسوا على شي‏ء ،

و لا إلى شي‏ء ، و اعلم أنّ لبني اميّة ملكا لا يستطيع الناس أن تردعه ،

و أنّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولاّها اللَّه من يشاء منّا أهل البيت ،

من أدركها منكم كان عندنا في السّنام الأعلى ، و إن قبضه اللَّه قبل ذلك جاز له . . . ١ .

« و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللَّه لكم » روى النّعماني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في قوله تعالى : أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه . . . ٢ قال : هو أمرنا أمر اللَّه عزّ و جلّ لا يستعجل به ، يؤيّده ثلاثة أجناد : الملائكة و المؤمنون و الرّعب ،

و خروجه عليه السّلام كخروج النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، و ذلك قوله تعالى : كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق . . . ٣ .

و عنه عليه السّلام قال لمّا قيل له : متى هذا الأمر ؟ : كذب المتمنّون ، و هلك المستعجلون ، و نجا المسلّمون ، و إلينا تصيرون ٤ .

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال : مثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار و وقع من وكره ، فتلاعبت به الصّبيان ٥ .

و روى ابن بابويه في ( معانيه ) عن الرّضا عليه السّلام في تفسير قول جدّه الصادق عليه السّلام في خروج إبراهيم بن عبد اللَّه بن الحسن : « اتقوا اللَّه ، و اسكنوا ما

ــــــــــــــــ

( ١ ) الغيبة للنعماني : ١٢٩ ، ١٣٢ .

( ٢ ) النحل : ١ .

( ٣ ) الغيبة للنعماني : ١٣٢ ، و الآية ٥ من سورة الأنفال .

( ٤ ) الغيبة للنعماني : ١٣١ .

( ٥ ) الغيبة للنعماني : ١٣٣ في ذيل حديث .

٤١٦

سكنت السماء و الأرض » . يعني : ما سكنت السماء من النّداء باسم صاحبك ( أي : القائم عليه السّلام ) ، و ما سكنت الأرض من الخسف بالجيش ١ .

« فإنّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا ، و وقع أجره على اللَّه » روى النّعماني في ( غيبته ) عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : من مات منكم على هذا الأمر منتظرا ، كان كمن هو في الفسطاط الّذي للقائم عليه السّلام ٢ .

و عنه عليه السّلام : من سرّه أن يكون من أصحاب القائم عليه السّلام فلينتظر ، و ليعمل بالورع و محاسن الأخلاق و هو منتظر ، فإن مات و قام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه . . . ٣ .

« و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله » روى النّعماني في ( غيبته ) عن حمران بن أعين قال : قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : اعرف إمامك ، فإذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أم تأخّر ، فإنّه عزّ و جلّ يقول : يوم ندعو كلّ اناس بإمامهم . . . ٤ فمن عرف إمامه كان كمن هو في فسطاطه ( أي : القائم ) عليه السّلام ٥ .

و روى ( محاسن البرقي ) عن أبي عروة السلمي عن الصادق عليه السّلام : أنّ اللَّه يحشر النّاس على نيّاتهم يوم القيامة ٦ .

و عن أبي عثمان العبدي عنه عليه السّلام ، عن آبائه عليهم السّلام قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله :

لا قول إلاّ بعمل ، و لا قول و لا عمل إلاّ بنيّة ، و لا قول و لا عمل و لا نيّة

ــــــــــــــــ

( ١ ) معاني الأخبار للصدوق : ٢٦٦ ح ١ .

( ٢ ) الغيبة للنعماني : ١٣٣ .

( ٣ ) الغيبة للنعماني : ١٣٤ .

( ٤ ) الاسراء : ٧١ .

( ٥ ) الغيبة للنعماني : ٢٣٠ .

( ٦ ) المحاسن للبرقي : ٢٦٢ ح ٣٢٥ .

٤١٧

إلاّ بإصابة السنة ١ .

و روى عنه عليه السّلام : أنّ العبد المؤمن الفقير ليقول : يا رب ارزقني حتّى أفعل كذا و كذا من البرّ و وجوه الخير . فإذا علم اللَّه ذلك منه بصدق نيّته كتب اللَّه له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله ، إنّ اللَّه واسع كريم ٢ .

و روى ( العلل ) عن زيد الشّحام قال للصادق عليه السّلام : سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله . فكيف تكون النيّة خيرا من العمل ؟ قال : لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين ، و النيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي عزّ و جلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل ، و أنّ العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام ، فيثبت اللَّه له صلاته ، و يكتب نفسه تسبيحا و يجعل نومه عليه صدقة ٣ .

و روى عن أبي جعفر عليه السّلام : نيّة المؤمن أفضل من عمله ، و ذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، و نيّة الكافر شرّ من عمله ، و ذلك لأنّ الكافر ينوي الشّرّ و يأمل من الشّرّ ما لا يدركه ٤ .

« و قامت النّية مقام إصلاته لسيفه » أي : إخراجه من غمده ، روى النعماني :

أنّ أبا بصير قال لأبي عبد اللَّه عليه السّلام : أتراني أدرك القائم عليه السّلام ؟ فقال : يا أبا بصير ألست تعرف إمامك ؟ فقال : بلى و اللَّه ، و أنت هو . فقال : و اللَّه ما تبالي يا أبا بصير أن لا تكون محتبيا بسيفك في ظل رواق القائم عليه السّلام ٥ .

و روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام قال : إنّما خلّد أهل النّار في النار ، لأنّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) المحاسن للبرقي : ٢٢١ ح ١٣٤ ، و الكافي ١ : ٧٠ ح ٩ ، و البصائر للصفّار : ٣١ ح ٤ ، و المقنعة للمفيد : ٤٨ ، و التهذيب ٤ : ١٨٦ ح ٣ .

( ٢ ) المحاسن للبرقي : ٢٦١ ح ٣٢٠ ، و الكافي للكليني ٢ : ٨٥ ح ٣ .

( ٣ ) علل الشرائع للصدوق : ٥٢٤ ح ١ .

( ٤ ) علل الشرائع للصدوق : ٥٢٤ ح ٢ .

( ٥ ) الغيبة للنعماني : ٢٣٠ .

٤١٨

نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللَّه أبدا ، و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللَّه أبدا ،

فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء . ثمّ تلا قوله تعالى : قل كلّ يعمل على شاكلته . . . ١ . قال : على نيّته ٢ .

« و أنّ لكلّ شي‏ء مدّة و أجلا » أي : وقتا ، فما دام لم تنقض مدّته لا يحصل ذاك الشي‏ء .

و في حديث ( الصحيفة السّجادية ) المذكور في سندها ، قال المتوكّل بن هارون : قال لي الصادق عليه السّلام : كيف قال لك يحيى بن زيد : إنّ عمّي محمّد بن عليّ و ابنه جعفر دعوا النّاس إلى الحياة ، و نحن دعوناهم إلى الموت ؟ قلت :

نعم ، قد قال لي ابن عمّك يحيى ذلك إلى أن قال قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : فأطلع اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : أنّ بني اميّة تملك سلطان هذه الامّة طول هذه المدّة ، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها ، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم إلى أن قال ثمّ قال عليه السّلام : ما خرج منّا ، و لا يخرج منّا إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقّا إلاّ اصطلمته البليّة ، و كان قيامه زيادة في مكروهنا و مكروه شيعتنا ٣ .

٣١

من الخطبة ( ١٨٠ ) منها :

قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ اَلْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ اَلْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ اَلتَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ اَلَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاسراء : ٨٣ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٨٥ ح ٥ .

( ٣ ) الصحيفة السجادية : ١٤ ، المقدمة .

٤١٩

اَلَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اِغْتَرَبَ اَلْإِسْلاَمُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ اَلْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَجِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ أقول : قال ابن أبي الحديد : هذا الكلام فسّره كلّ طائفة على حسب اعتقادها ، فالإماميّة تزعم أنّ المراد به المهدي المنتظر عندهم ، و الصوفية يزعمون أنّه يعني به ولي اللَّه في الأرض ، و عندهم أنّ الدّنيا لا تخلو عن الأبدال و هم أربعون ، و عن الأوتاد و هم سبعة ، و عن القطب و هو واحد ، فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطبا عوضه ، و صار أحد الأربعين و تدا عوض ذاك الوتد ، و صار بعض الأولياء الّذين يصطفيهم اللَّه تعالى بدلا بدل ذلك البدل .

و أصحابنا يزعمون أنّ اللَّه تعالى لا يخلي الامّة من جماعة المؤمنين العلماء بالعدل و التوحيد ، و أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة باعتبار أقوال اولئك العلماء ، لكن لمّا تعذّرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر إجماع سائر العلماء ، و إنّما الأصل قول اولئك ، قالوا : و كلام أمير المؤمنين عليه السّلام ليس يشير فيه إلى جماعة اولئك العلماء من حيث هم جماعة ، و لكنّه يصف حال كلّ واحد منهم ، فيقول :

من صفته كذا و من صفته كذا ، و الفلاسفة يزعمون أنّ مراده عليه السّلام بهذا الكلام العارف ، و لهم في العرفان ، و في صفات أربابه كلام يعرفه من له انس بأقوالهم ، و ليس يبعد عندي أن يريد عليه السّلام به القائم من آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله في آخر الوقت إذا خلقه اللَّه تعالى ، و إن لم يكن الآن موجودا فليس في الكلام ما يدلّ على وجوده الآن ، و قد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أنّ الدّنيا و التكليف لا ينقضي إلاّ عليه ١ .

قلت : إنّ كلّ طائفة و إن فسّرت كلامه عليه السّلام على حسب اعتقادها إلاّ أنّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥١٥ .

٤٢٠