عقائد الإمامية

عقائد الإمامية0%

عقائد الإمامية مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 176

عقائد الإمامية

مؤلف: العلامة الكبير الشيخ محمد رضا المظفر
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 176
المشاهدات: 42999
تحميل: 3504

توضيحات:

عقائد الإمامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42999 / تحميل: 3504
الحجم الحجم الحجم
عقائد الإمامية

عقائد الإمامية

مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
العربية

ما يصلح أن تكون منهجاً رفيعاً للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة، إنّ الاَدعية الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خير منهج للمسلم إذا تدبَّرها؛ تبعث في نفسه قوّة الايمان والعقيدة، وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرِّفه سرَّ العبادة، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقِّنه ما يجب على الانسان أن يعلمه لدينه، وما يقرِّبه إلى الله تعالى زلفى، ويبعده عن المفاسد والاَهواء والبدع الباطلة.

وبالاختصار؛ إنّ هذه الاَدعية قد أُودعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الاسلامية، بل هي من أهم مصادر الآراء الفلسفية، والمباحث العلمية في الالهيات والاخلاقيات.

ولو استطاع الناس - وما كلهم بمستطيعين - أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الاَدعية في مضامينها العالية، لما كنت تجد من هذه المفاسد - المثقلة بها الارض - أثراً، ولحلَّقت هذه النفوس المكبَّلة بالشرور في سماء الحق حرّة طليقة، ولكن أنّى للبشر أن يصغي إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحق، وقد كشف عنهم قوله تعالى:( إنَّ النَّفسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (١) ( وَمَا أكَثرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بمُؤمِنينَ ) (٢) .

____________________

=

الدعاء المسمى بدعاء الخضرعليه‌السلام ، وسمي بدعاء كميل لاَنّ كميل بن زياد - الذي هو من خواص الامام أمير المؤمنين وخواص الامام الحسنعليه‌السلام - هو الذي رواه عن الاِمام عليعليه‌السلام ، وقال أنّه كان يدعو به ساجداً في ليلة النصف من شعبان. ويستحب قراءة هذا الدعاء في كل ليلة جمعة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في العمر مرة.

راجع: مصباح المجتهد: ٨٤٤، المصباح للكفعمي: ٢/ ٢٨٢.

(١) يوسف ١٢: ٥٣.

(٢) يوسف ١٢: ١٠٣.

١٢١

نعم، إنّ ركيزة السوء في الانسان اغتراره بنفسه، وتجاهله لمساوئه، ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعاً فيما اتّخذ من عمل، فيظلم ويتعدّى، ويكذب ويراوغ، ويطاوع شهواته ما شاء له هواه، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم يفعل إلاّ ما ينبغي أن يفعل، أو يغضّ بصره متعمداً عن قبيح ما يصنع، ويستصغر خطيئته في عينه.

وهذه الاَدعية المأثورة التي تُستمدّ من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختلاء بنفسه، والتجرّد إلى الله تعالى، لتلقّنه الاعتراف بالخطأ، وأنّه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه، ومثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد:

« إلهي ومَولاي! أجْريتَ عليَّ حُكماً اتَّبعتُ فيهِ هوى نفسِي، وَلمْ أحتَرسْ فيهِ منْ تَزْيينِ عدوِّي، فغرَّني بِما أهوى، وَأسعدهُ على ذلكَ القضاءُ، فتجاوزتُ بما جرى عليَّ منْ ذلك بعضَ حدودِكَ، وخالفتُ بعضَ أوامرِكَ »(١) .

ولا شك أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الانسان من الاعتراف علانية مع الناس، وإن كان من أشق أحوال النفس أيضاً، وإن كان بينه وبين نفسه في خلواته، ولو تم ذلك للانسان فله شأن كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة، وترويضها على طلب الخير.

ومن يريد تهذيب نفسه لا بدَّ أن يصنع لها هذه الخلوة، والتفكير فيها بحرية لمحاسبتها، وخير طريق لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الاَدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس؛ مثل أن يقرأ في

____________________

(١) مصباح المتهجد: ٨٤٤ - دعاء كميل بن زياد.

١٢٢

دعاء أبي حمزة الثمالي(١) رضوان الله تعالى عليه:

« أيْ ربِّ! جلّلني بسترِكَ، واعفُ عنْ توبيخِي بكرم وجهِكَ! ».

فتأمّل كلمة «جلّلني..»؛ فإنّ فيها ما يثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ ؛ ليتنبّه الانسان إلى هذه الدخيلة فيها، ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك:

« فلو اطّلعَ اليومَ على ذنبِي غيرُكَ ما فعلتُه، ولو خفتُ تعجيلَ العقوبةِ لاجْتنبتُه ».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس، وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى؛ لئلاّ يُفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله، فيلتذ الانسان ساعتئذٍ بمناجاة السر، وينقطع إلى الله تعالى، ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه؛ إذ يقول في الدعاء بعدما تقدّم:

« فَلكَ الحمدُ على حلمِكَ بعدَ علمِكَ، وعلى عفوِكَ بعدَ قُدرتِكَ »

ثمّ يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عمّا فرط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه تعالى؛ لئلاّ تنقطع الصلة بين العبد وربّه، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره؛ إذ يقول:

« ويحملُني ويجرِّئني على معصيَتكَ حلمُكَ عنّي، ويدعوني إلى قلّةِ الحياءِ سترُكَ عليَّ، ويسرِّعني إلى التوثُّبِ على محارمِكَ معرفَتِي بسَعِة

____________________

(١) وهو الدعاء الذي رواه ابو حمزة الثمالي عن الامام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، حيث قال: إنّه كان يصلي عامّة الليل في شهر رمضان فإذا كان السحر دعا بهذا الدعاء.

مصباح المتهجد: ٥٨٢، المصباح للكفعمي: ٢/٣٤٥.

١٢٣

رحمتِكَ وعظيمِ عفوِكَ ».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الاَدعية في مناجاة السرّ؛ لتهذيب النفس، وترويضها على الطاعات، وترك المعاصي.

ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع، وما أكثرها.

ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الاَدعية الواردة باسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد:

« وليتَ شِعري يا سيّدِي ومولايَ، أتسلِّطُ النارَ على وجوهٍ خرَّتْ لعظمتِكَ ساجدةً، وعلى ألسُنٍ نطقتْ بتوحيدِكَ صادَقةً، وبشكرِكَ مادِحةً، وعلى قلوبٍ اعترفَتْ بالهيّتِك محقِّقةً، وعلى ضمائِرَ حوتْ مِنَ العلمِ بكَ حتّى صارتْ خاشعَةً، وعلى جوارحَ سعَتْ إلى أوطانِ تعبُّدِكَ طائعةً، وأشارتْ باستغفارِكَ مذعنةً؟! ما هكذا الظنُّ بكَ، ولا اُخبرنَا بفضلِكَ ».

كرّر قراءة هذه الفقرات، وتأمِّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه؛ فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبودّيتها، يلقِّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه، ثم يكلِّم النفس بابن عم الكلام، ومن طرف خفي؛ لتلقينها واجباتها العليا؛ إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة، ثمّ يعلِّمها أنّ الانسان بعمل هذه الواجبات يستحق التفضل من ألله بالمغفرة، وهذا ما يشوِّق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤدّ تلك الواجبات.

ثمّ تقرأ اسلوباً آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء:

« فهبنِي يا إلهي وسيِّدي وربِّي صبرْتُ على عذابِكَ فكيفَ أصبرُ على فراقِكَ! وهبْني يا إلهي صبرْتُ على حرِّ نارِكَ فكيفَ أصبرُ عن النظرِ إلى كرامَتِكَ! ».

وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى، ومشاهدة كرامته

١٢٤

وقدرته؛ حبّاً له، وشوقاً إلى ما عنده، وبأنّ هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحرّ النار، فلو فرض أنّ الانسان تمكَّن من أن يصبر على حر النار فإنّه لا يتمكَّن من الصبر على هذا الترك، كما تُفهمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لاَن يعفو ويصفح عنه.

ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجُّب والتملُّق إلى الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أن نختم بحثنا هذا بإيراد دعاء مختصر جامع لمكارم الاَخلاق، ولما ينبغي لكلّ عضو من الانسان وكلّ صنف منه أن يكون عليه من الصفات المحمودة:

« اللّهُمَّ ارزُقنا توفيقَ الطاعةِ، وبعدَ المعصيةِ، وصدقَ النيِّةِ، وعرفانَ الحرمةِ.

وأكرِمْنا بالهدَى والاستقامِة، وسدِّد ألسنتَنا بالصواب والحكمة، واملاَ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهِّر بطوننا من الحرام والشبهةِ، واكفُفْ أيديَنا عنْ الظلم والسرقِة، واغضضْ أبصارَنا عنْ الفجورِ والخيانةِ، واسدُدْ أسماعَنا عنْ اللغوِ والغيبةِ.

وتفضِّلْ على علمائِنا بالزهدِ والنصيحةِ، وعلى المتعلِّمينَ بالجُهدِ والرغبةِ، وعلى المستمعينَ بالاتِّباع والموعظةِ.

وعلى مرضَى المسلمينَ بالشفاءِ والراحةِ، وعلى موتاهُمْ بالرأفةِ والرحمةِ.

وعلى مشايخِنا بالوقارِ والسكينةِ، وعلى الشباب بالاِنابةِ والتوبةِ، وعلى النساءِ بالحياءِ والعفَّةِ، وعلى الاَغْنياءِ بالتواضُعِ والسعَةِ، وعلى

١٢٥

الفقراءِ بالصبرِ والقناعةِ.

وعلى الغزاةِ بالنصرِ والغلبةِ، وعلى الاُسَراءِ بالخلاصِ والراحَةِ، وعلى الاُمَراءِ بالعدلِ والشفقَةِ، وعلى الرعيّةِ بالاِنصافِ وحسنِ السيرةِ.

وباركْ للحجَّاجِ والزوَّارِ في الزادِ والنفقةِ، واقضِ ما أوجبْتَ عليهِمْ منَ الحجِّ والعمرةِ.

بفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحَمَ الراحمينَ »(١) .

وإنّي لموص اخواني القرّاء ألاّ تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الاَدعية، بشرط التدبُّر في معانيها ومراميها، وإحضار القلب والاِقبال والتوجه إلى الله بخشوع وخضوع، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه، مع اتّباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت؛ فإنّ قراءتها بلا توجّه من القلب صرف لقلقة في اللسان، لا تزيد الانسان معرفة، ولا تقرِّبه زلفى، ولا تكشف له مكروباً، ولا يُستجاب معه له دعاء.

«إن الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالاجابة»(٢) .

____________________

(١) البلد الاَمين: ٣٤٩.

(٢) الكافي: ٢/٣٤٣ ح١.

١٢٦

٣٥ - أدعية الصحيفة السجّادية

بعد واقعة الطف المحزنة(١) وتملُّك بني أُميّة ناصية أمر الاَمَّة الاسلامية - فأوغلوا في الاستبداد، وولغوا في الدماء، واستهتروا في تعاليم الدين - بقي الامام زين العابدين، وسيِّد الساجدينعليه‌السلام جليس داره محزوناً ثاكلاً، وجليس بيته لا يقربه أحد، ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم، وما ينبغي لهم(٢) .

____________________

(١) وهي الواقعة التي استشهد فيها الامام أبو عبدالله الحسين بن عليعليهما‌السلام في العاشر من محرم الحرام من عام ٦١ ه-، مع صفوة من أهل بيته وأصحابه في طف كربلاء بالعراق، ولم يبق منهم سوى الامام السجاد علي بن الحسينعليهما‌السلام ، وكانت هذه الحادثة من أفجع ما وقع في صدر التأريخ الاسلامي وأمضّها تأثيراً في تأريخ الاَمة، وقد تجسدت فيها أروع الامثلة للدفاع عن العقيدة والتضحية من أجل المبدأ، وتناول المؤرخون أخبارها بشكل مستفيض، وأما ما قيل فيها من غرر الشعر وروائعه فقد ملاَت الكتب والدواوين الشعرية الخاصة بها.

(٢) لقد تجسدت في حياة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام صفحات مشرّفة من تأريخ الامة الاسلامية؛ نظراً للدور القيادي الذي اضطلعوا به، ولم تكن محصّلة الاَعمال الجليلة لكل إمام منهم - صلوات الله عليهم - إلاّ في ضوء سيرة مثلى وحلقات ذهبية تكمل إحدها الاَخرى؛ فهم من نور واحد.

وقد حاول البعض الكتابة في حياة الامام السجاد علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام وحصرها في جانب نشاطه العبادي، والحياة الروحية، وتحجيم دوره الاجتماعي والجهادي، بعد إيمانهم بأنّ رسالة الاَئمة الاَطهارعليهم‌السلام قد انكفأت عن الواقع بمصرع سيد الشهداء الحسين بن عليعليه‌السلام .

وقد استدلّوا على ذلك بما اُثر عن الامام السجاد من صحيفته المشهورة في الدعاء (زبور آل محمّد) ورسالته في الحقوق. في الوقت الذي نجد أنّهعليه‌السلام بالاِضافة إلى دوره

=

١٢٧

فاضطرّ أن يتّخذ من أسلوب الدعاء - الذي قلنا إنّه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النفوس - ذريعة لنشر تعاليم القرآن، وآداب الاسلام، وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والاَخلاق.

وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين، ولا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم، فلذلك أكثر من هذه الاَدعية البليغة، وقد جمعت بعضها« الصحيفة السجادية » التي سميت ب- « زبور آل محمّد »، وجاءت في اسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الاَدب العربي، وفي أسمى مرامي الدين الحنيف، وأدق اسرار التوحيد والنبوّة، وأصح طريقة لتعليم الاَخلاق المحمدية، والآداب الاسلامية.

وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليم للدين والاَخلاق في أُسلوب الدعاء، أو دعاء في اسلوب تعليم للدين والاَخلاق، وهي بحقّ - بعد القرآن، ونهج البلاغة - من أعلى أساليب البيان العربي، وأرقى المناهل الفلسفية في الاِلهيات والاَخلاقيات:

فمنها ما يعلّمك كيف تمجِّد الله وتقدّسه، وتحمده وتشكره، وتتوب

____________________

=

التعليمي في تربية الطليعة المؤمنة الواعية، وبناء الجماعة الصالحة فقد دلّت الدراسات الدقيقة أنّه (قام بدور سياسي فعّال، وكان له تنظيم وتخطيط دقيق يمكن اعتباره من أذكى الخطط السياسية المتاحة لمثل تلك الظروف.. ممّا يدل على انّ الجهاد السياسي الذي قام به الامام السجادعليه‌السلام من أجل تنفيذ خططه يعدّ من أدق أشكال العمل السياسي وانجحها).

وقد افاض العلامة المحقق الحجة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي في دراسته الموسومة «جهاد الامام السجادعليه‌السلام » - والذي صدر أخيراً - ما يفتح الطريق على الدارسين مجدداً لبحث موقف الامام زين العابدينعليه‌السلام في ضوء ما يصحح الرؤية السابقة.

١٢٨

إليه(١) .

ومنها ما يعلِّمك كيف تناجيه، وتخلو به بسرّك، وتنقطع إليه(٢) .

ومنها ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه، وكيفيتها(٣) .

ومنها ما يفهمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك(٤) .

ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده، أو حقوق الولد على والده، أو حقوق الجيران، أو حقوق الاَرحام، أو حقوق المسلمين عامّة، أو حقوق الفقراء على الاَغنياء وبالعكس(٥) .

ومنها [ما] ينبّهك على ما يجب ازاء الديون للناس عليك، وما ينبغي أن تعمله في الشؤون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافّة الناس، ومن تستعملهم في مصالحك(٦) .

ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الاَخلاق، ويصلح أن يكون منهاجاً كاملاً لعلم الاَخلاق(٧) .

ومنها ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث، وكيف تلاقي

____________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء (٢): من دعائهعليه‌السلام في التحميد لله عزّ وجّل والثناء عليه.

(٢) لاحظ دعاءهعليه‌السلام في التضرع والاستكانة (٥١). وغيره من الاَدعية الكثير، ففيها مناجاة واضحة وتضرع وتذلل لله تعالى.

(٣) لاحظ الدعاء (٢): الصلاة على محمّد وآله، والدعاء (٣): الصلاة على حملة العرش، والدعاء (٤): الصلاة على مصدّقي الرسل.

(٤) لاحظ الدعاء (٢٤): دعاؤه لاَبويه.

(٥) لاحظ الاَدعية (٢٤، ٢٥، ٢٦): دعاؤه لاَبويه، ودعاؤه لولده، ودعاؤه لجيرانه.

(٦) لاحظ: الدعاء (٣٠): دعاؤه في المعونة على قضاء الدين.

(٧) لاحظ: الدعاء (٢٠): دعاؤه في مكارم الاَخلاق.

١٢٩

حالات المرض والصحّة(١) .

ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الاسلامية، وواجبات الناس معهم(٢) ... إلى غير ذلك ممّا تقتضيه الاَخلاق المحمَّدية، والشريعة الاِلهية، وكلّ ذلك باسلوب الدعاء وحده.

والظاهرة التي تطغو على أدعية الامام عدّة أُمور:

الاَول:

التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته، وبيان توحيده وتنزيهه بأدق التعبيرات العلمية، وذلك يتكرّر في كلّ دعاء بمختلف الاَساليب، مثل ما تقرأ في الدعاء الاَوّل: «الحمدُ للهِ الاَوَّلِ بلا أوَّلٍ كانَ قبلَهُ، والآخِرُ بلا آخِرٍ يكونُ بعدهُ، الّذي قَصُرتْ عنْ رؤيِتِه أبصارُ الناظِرينَ، وعَجَزَتْ عنْ نعْتِهِ أوهامُ الواصِفينَ. ابتدَعَ بقدرتِهِ الخلقَ ابتداعاً، واخترعَهُمْ على مشيئتِهِ اختِراعاً»(٣)

فتقرأ دقيق معنى الاول والآخر، وتنزُّه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم، ودقيق معنى الخلق والتكوّين.

ثمّ تقرأ اسلوباً آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء ٦:

« الحمدُ للهِ الَّذي خَلقَ الليلَ والنهارَ بقوَّتِهِ، وميَّز بينهَما بقدرتِهِ، وجعَلَ لكلٍّ منهُما حدّاً محدوداً، يُولجُ كلَّ واحدٍ منهما فِي صاحِبه، ويولجُ صاحبَهُ فيهِ، بتقديرٍ منهُ للعبادِ فيما يَغذوهُمْ بِهِ، ويُنشئُهمْ عليهِ، فخلقَ لهمْ الليلَ ليسكُنوا فيهِ من حركاتِ التعبِ ونهضاتِ النصبِ، وجعلَهُ لباساً ليلبسُوا مِنْ

____________________

(١) لاحظ: الدعاء (١٥): دعاؤه عند المرض.

(٢) لاحظ: الدعاء (٢٧): دعاؤه لاَهل الثغور.

(٣) الدعاء (١): التحميد لله عزّ وجّل.

١٣٠

راحَتِهِ ومقامِهِ، فيكونُ ذلكَ لهُمْ جمَاماً وقوَّةً؛ ولِينالُوا بهٍ لذَةً وشهوةً »(١) . إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار والليل، وما ينبغي أن يشكره الانسان من هذه النعم.

وتقرأ اسلوباً آخر في بيان أنّ جميع الاَمور بيده تعالى في الدعاء ٧:

« يَا مَنْ تُحَلُّ بهِ عُقدُ المكارِهِ، وَيا منْ يُفثأُ بهِ حدُّ الشدائِدِ، وَيا مَنْ يُلتمَسُ منْهُ المخَرجُ إلى روح الفرَجِ، ذلَّتْ لقدرتِكَ الصعابُ، وتسبَّبَتْ بلطفِكَ الاَسبابُ، وجرَى بقُدرَتِكَ القضاءُ، ومضَتْ على إرادَتِكَ الاَشياءُ، فهي بمشيئَتِكَ دونَ قولِكَ مؤتمرةٌ، وبإرادتِكَ دونَ نهيكَ منزجرةٌ »(٢) .

الثاني:

بيان فضل الله تعالى على العبد، وعجز العبد عن أداء حقّه مهما بالغ في الطاعة والعبادة، والانقطاع إليه تعالى، كما تقرأ في الدعاء ٣٧:

« اللّهمَّ إنّ أحداً لا يبلُغُ مِنْ شكرِكَ غايةً إلاّ حصَل عليهِ من إحسانِكَ ما يُلزِمُهُ شُكراً، ولا يبلُغُ مبلَغاً من طاعَتِكَ وإنْ اجتهَدَ إلاّ كانَ مقصِّراً دونَ استحقاقِكَ بفضِلكَ، فأشْكَرُ عبادِكَ عاجزٌ عن شكرِكَ، وأعبدُهُمْ مقصِّرٌ عنْ طاعَتِكَ »(٣) .

وبسبب عظم نِعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره، فكيف إذا كان يعصيه مجترئاً، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفِّر عن معصية واحدة، وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء ١٦:

« يَا إلهي لَوْ بكيْتُ إليكَ حتّى تسقُطَ أشفارُ عينَيّ، وانتحبْتُ حتّى

____________________

(١) الدعاء (٦): دعاؤه عند الصباح والمساء.

(٢) الدعاء (٧): دعاؤه إذا عرضت مهمّةأو نزلت به ملمّة، وعند الكرب.

(٣) الدعاء (٣٧): من دعائه إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.

١٣١

ينقطعَ صوتِي، وقمْتُ لكَ حتّى تتنشّرَ قدَمايَ، وركعتُ لكَ حتّى ينخلعَ صُلبي، وسجدتُ لكَ حتّى تتفقّأَ حدقتايَ، وأكلتُ ترابَ الاَرضِ طولَ عمرِي، وشربتُ ماءَ الرمادِ آخرَ دهرِي، وذكرتُكَ في خلالِ ذلكَ حتّى يكلَّ لساني، ثمّ لمْ أرفعْ طرفِي إلى آفاقِ السماءِ استحياءً منكَ، ما استوجبتُ بذلكَ محوَ سيِّئةٍ واحدةٍ منْ سيّئاتي »(١)

الثالث:

التعريف بالثواب والعقاب، والجنة والنار، وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضُّل، وأنّ العبد يستحق العقاب منه بأدنى معصية يجترئ بها، والحجّة عليه فيها لله تعالى.

وجميع الاَدعية السّجادية تلهج بهذه النغمة المؤثّرة؛ للايحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى، والرجاء في ثوابه، وكلها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبّر الرعب والفزع من الاِقدام على المعصية، مثل ما تقرأ في الدعاء ٤٦:

« حجّتكَ قائمةٌ لا تُدْحضُ، وسلطانكَ ثابتٌ لا يزولُ، فالويلُ الدائمُ لمنْ جنحَ عنكَ، والخيبةُ الخاذلةُ لمنْ خابَ منكَ، والشقاءُ الاَشقى لمنْ اغترَّ بكَ. ما أكثرَ تصرّفَهُ في عذابِكَ، وما أطولَ تردُّدَه في عقابِكَ، وما أبعدَ غايتَه من الفرج، وما أقنطَهُ من سهولَةِ المخرج؛ عدلاً من قضائِكَ لا تجوز فيهِ، وإنصافاً منْ حكمكَ لا تحيفُ عليهِ، فقد ظاهرتَ الحججَ، وأبليت الاَعذارَ.. »(٢) .

____________________

(١) الدعاء (١٦): من دعائهعليه‌السلام إذا استقال من ذنوبه، أو تضرع في طلب العفو عن عيوبه.

(٢) الدعاء (٤٦): من دعائه في يوم الفطر إذا انصرف من صلاته، وفي يوم الجمعة.

١٣٢

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٣١:

« اللّهمَّ فارحمْ وحدتِي بينَ يديكَ، ووجيبَ قلبي منْ خشيِتكَ، واضطرابَ أركاني من هيبتكَ؛ فقدْ أقامتْني - يا ربِّ - ذنوبي مقامَ الخِزي بفنائِكَ، فإنْ سكتُّ لمْ ينطقْ عنّي أحدٌ، وإن شفعتُ فلستُ بأهلِ الشفاعةِ »(١) .

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٣٩:

« فإنَّكَ إِنْ تكافني بالحقِّ تهلكني، وإلاّ تغَمَّدْني برحمتكَ توبقْني... وأستحمِلك منْ ذنوبي ما قدْ بهظَني حملُهُ، واستعينُ بكَ على ما قدْ فدحني ثقلُه، فصلِّ على محمِّدٍ وآلهِ، وهبْ لِنفسِي على ظلمِها نفسي، ووَكِّلْ رحمتكَ باحتمالِ إصري... »(٢) .

الرابع:

سوق الداعي بهذه الاَدعية الى الترفّع عن مساوئ الاَفعال وخسائس الصفات؛ لتنقية ضميره، وتطهير قلبه، مثل ما تقرأ في الدعاء ٢٠:

« اللّهمَّ وفِّرْ بلطفك نيّتي، وَصَحِّحْ بما عندكَ يقيني، واستصلِحْ بقدرتكَ ما فسدَ منّي...

«اللّهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد ومتِّعني بهدىً صالحٍ لا استبدلُ به، وطريقةِ حقٍّ لا أزيغُ عنها، ونيّةِ رشدٍ لا أشكُّ فيها.

اللّهمَّ لا تدعْ خصلةً تُعابُ منّي إلاّ أصلحتَها، ولا عائبةً أؤنَّبُ بها إِلاّ حسَّنتَها، ولا أكرومةً فيَّ ناقصةً إلاّ أتممتَها »(٣) .

____________________

(١) الدعاء (٣١): من دعائه في ذكر التوبة وطلبها.

(٢) الدعاء (٣٩): من دعائه في طلب العفو والرحمة.

(٣) الدعاء (٢٠): من دعائه في مكارم الاَخلاق ومرضي الاَفعال.

١٣٣

الخامس:

الايحاء إلى الداعي بلزوم الترفُّع عن الناس وعدم التذلّل لهم، وألاّ يضع حاجته عند أحد غير الله، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسِّ ما يتّصف به الاِنسان، مثل ما تقرأ في الدعاء ٢٠:

« ولا تفتنِّي بالاستعانةِ بغيركَ إذا اضطررتُ، ولا بالخشوع لسؤالِ غيركَ إذا افتقرتُ، ولا بالتضرُّع إلى منْ دونكَ إذا رهبتُ، فأستحقَّ بذلكَ خذلانَكَ ومنعَكَ واعراضَكَ »(١)

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٢٨:

« اللّهمَّ إنّي أخلصتُ بانقطاعي إليكَ(٢) وصرفتُ وجهي عمَّنْ يحتاجُ إلى رفدكَ، وقلبتُ مسألتي عمّنْ لمْ يستغن عن فضلكَ، ورأيتُ أنّ طلبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سفةٌ من رأيهِ، وضلَّةٌ من عقلِهِ »(٣)

ومثل ما تقرأ في الدعاء ١٣:

« فَمنْ حاوَلَ سدّ خلّتِهِ من عندِكَ، ورامَ صرفَ الفقرَ عَنْ نفسِهِ بكَ، فقدْ طلبَ حاجَتَه في مظانِّها، وأتى طلبتَهُ من وجِهها. ومنْ توجَّهَ بحاجتِهِ إلى أحدٍ منْ خلقِكَ، أو جعلَهُ سببَ نُجحِها دونَك، فقدْ تعرَّضَ للحرمانِ، واستحقَّ منكَ(٤) فوتَ الاحسانِ »(٥) .

السادس:

تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين، ومعاونتهم، والشفقة

____________________

(١) الدعاء (٢٠): من دعائه في مكارم الاَخلاق ومرضي الاَفعال.

(٢) في المصدر: إضافة: «وأقبلت بكلّي عليك».

(٣) الدعاء (٣٩): من دعائهعليه‌السلام في طلب العفو والرحمة.

(٤) في المصدر: «من عندك».

(٥) الدعاء (١٣): من دعائهعليه‌السلام في طلب الحوائج إلى الله.

١٣٤

والرأفة من بعضهم لبعض، والايثار فيما بينهم، تحقيقاً لمعنى الاَخوّة الاسلامية، مثل ما تقرأ في الدعاء ٣٨:

« اللّهمَّ إنّي أعتذرُ إليكَ منْ مظلومٍ ظُلِمَ بحضرتي فَلمْ أنصرْهُ، ومِنْ معروفٍ أُسديَ إليَّ فلمْ أشكْرهُ، ومِنْ مسيءٍ اعتذرَ إليَّ فلمْ أعذرْهُ، ومِنْ ذِي فاقةٍ سألني فلمْ أؤثرْهُ، ومِنْ حقِّ ذي حقٍّ لزمني لمؤمنٍ فلمْ أوفِّرْهُ، ومِنْ عيب مؤمنٍ ظهرَ لي فلمْ أستْرهُ.. »(١) إِنّ هذا الاعتذار من أبدع ما ينبِّه النفس إلى ما ينبغي عمله من هذه الاَخلاق الاِلهية العالية.

وفي الدعاء ٣٩ ما يزيد على ذلك؛ فيعلِّمك كيف يلزمك أن تعفو عمَّن أساء إليك، ويحذِّرك من الانتقام منه، ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين:

« اللّهمَّ وأيُّما عبدٍ نالَ منِّي ما حظرتَ عليهِ، وانتهكَ منِّي ما حجرتَ عليهِ، فمضَى بظلامتِي ميّتاً، أو حصلتْ لي قِبَلَهُ حَيّاً، فاغفرْ لَهُ ما ألمَّ بهِ منِّي، واعفُ لهُ عمّا أدبرَ بهِ عنِّي، ولا تقفهُ على ما ارتكبَ فيَّ، ولا تكشفهُ عمّا اكتسبَ بي، واجعلْ ما سمحتُ بهِ منَ العفوِ عنهمْ، وتبرَّعتُ من الصدقةِ عليهمْ أزكى صدقاتِ المتصدِّقينَ، وأعلى صِلاتِ المتقرِّبينَ، وعوِّضني منْ عفْوي عنهُمْ عفوَكَ، ومنْ دعائِي لهمْ رحمتَكَ؛ حتّى يسعَدَ كلُّ واحدٍ منّا بفضلِكَ »(٢) .

وما أبدع هذه الفقرة الاَخيرة، وما أجمل وقعها في النفوس الخيِّرة؛ لتنبيهها على لزوم سلامة النيّة مع جميع الناس، وطلب السعادة لكلّ أحد

____________________

(١) الدعاء (٣٨): من دعائهعليه‌السلام في الاعتذار من تبعات العباد، ومن التقصير في حقوقهم، وفي فكاك رقبته من النار.

(٢) الدعاء (٣٩): من دعائهعليه‌السلام في طلب العفو والرحمة.

١٣٥

حتّى من يظلمه ويعتدي عليه. ومثل هذا كثير في الاَدعية السجادية، وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماوية المهذِّبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.

٣٦ - عقيدتنا في زيارة القبور

وممّا امتازت به الامامية العناية بزيارة القبور - قبور النبي والاَئمّة عليهم الصلاة والسلام - وتشييدها، وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولاَجلها يضحُّون بكلّ غال ورخيص، عن إيمان وطيب نفس.

ومردّ كلّ ذلك إلى وصايا الاَئمّة، وحثِّهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى(١) ؛ باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى.

وجعلوها أيضاً من تمام الوفاء بعهود الائمّة؛ إذ «أنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد، وحسن الاَداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(٢) .

وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحقّ العناية من أئمتنا؛ فإنّها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الاَئمة وأوليائهم، وتجدّد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل

____________________

(١) وللمزيد من الاطّلاع راجع كتاب كامل الزيارات، فقد ورد فيه من الاَحاديث التي تصف ثواب زيارة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاَئمّةعليهم‌السلام الشيء الكثير.

(٢) من قول الامام الرضاعليه‌السلام . راجع: كامل الزيارات لابن قولويه: ١٢٢ باب ٤٤ ثواب من زار الحسينعليه‌السلام .

واُنظر - كذلك - : الكافي: ٤/٥٦٧ ح٢، من لا يحضره الفقيه: ٢/٥٧٧ ح٣١٦٠، تهذيب الاحكام: ٦/٧٨ ح٣ و:٩٣ ح٢.

١٣٦

الحق، تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرِّقين على صعيد واحد؛ ليتعارفوا ويتآلفوا، ثمّ تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى، والانقطاع إليه، وطاعة أوامره، وتلقِّنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسيّة الاسلام والرسالة المحمّدية، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين، والخضوع إلى مدِّبر الكائنات، وشكر آلائه ونعمه، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الاَدعية المأثورة التي تقدَّم الكلام عليها.

بل بعضها يشتمل على أبلغ الاَدعية وأسماها، كزيارة (أمين الله) وهي الزيارة المرويّة عن الامام زين العابدينعليه‌السلام حينما زار قبر جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

كما تفهم هذه الزيارات المأثورة مواقف الائمّةعليهم‌السلام وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق، واعلاء كلمة الدين، وتجرُّدهم لطاعة الله تعالى، وقد وردت بأسلوب عربي جزل، وفصاحة عالية، وعبارات سهلة يفهمها الخاصّة والعامّة، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه، والدعاء والابتهال اليه تعالى.

فهي بحق من أرقى الاَدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والاَدعية المأثورة عنهم؛ إذ أودعت فيها خلاصة معارف الاَئمّةعليهم‌السلام فيما يتعلَّق بهذه الشؤون الدينية والتهذيبية.

ثمّ إنّ في آداب الزيارة أيضاً من التعليم والارشاد ما يؤكِّد من تحقيق تلك المعاني الدينية السامية، من نحو رفع معنوية المسلم، وتنمية روح العطف على الفقير، وحمله على حسن العشرة والسلوك، والتحبّب إلى

____________________

(١) راجع: كامل الزيارات: ٣٩ باب ١١ - زيارة قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام .

١٣٧

مخالطة الناس؛ فإنّ من آدابها ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في المرقد المطهَّر وزيارته.

ومنها ما ينبغي أن يصنع في اثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة، ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب؛ للتنبيه على مقاصدها التي قلناها:

من آدابها:

١ - أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهَّر(١) وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة، وهي ان ينظِّف الانسان بدنه من الاَوساخ؛ ليقيه من كثير من الاَمراض والاَدواء، ولئلاّ يتأفّف من روائِحه الناس(٢) وأن يطهِّر نفسه من الرذائل.

وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل؛ لغرض تنبيهه على تلكم الاَهداف العالية فيقول: « اللّهُمَّ اجعلْ(٣) لِي نوراً وطهوراً، وحِرْزاً كافياً(٤) منْ كلِّ داءٍ وسقَمٍ، ومنْ كلِّ آفةٍ وعاهةٍ، وطهِّرْ بهِ قلبي وجوارِحِي، وعظامِي(٥) ولحمِي ودمِي، وشعرِي وبشري ومخِّي وعظمِي(٦) ، ومَا أقلَّتْ الاَرضُ منِّي، واجْعلْ(٧) لِي شاهِداً يومَ حاجَتي(٨) ، وفقْرِي

____________________

(١) راجع: كامل الزيارات: ١٨٤ الباب ٧٥: من اغتسل في الفرات وزار الحسينعليه‌السلام ، ١٩٨ الباب ٧٩ زيارات الحسين بن عليعليه‌السلام .

(٢) قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «تنظّفوا بالماء من الريح المنتنة وتعهدوا أنفسكم؛ فان الله يبغض من عباده القاذورة الذي يتأفّف من جلس إليه» تحف العقول: ٢٤.

(٣) في المصدر: «اجعله».

(٤) في المصدر: «وكافياً».

(٥) لم ترد (وعظامي) في المصدر.

(٦) في المصدر: «وعظامي وعصبي».

(٧) في المصدر: «فاجعله».

(٨) في المصدر: «يوم القيامة ويوم حاجتي».

١٣٨

وفاقَتِي »(١) .

٢ - أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب(٢) ؛ فإنّ في الاَناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يحبّب الناس بعضهم إلى بعض، ويقرِّب بينهم، ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.

وممّا ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنّه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم، بل يلبس أحسن ما يتمكَّن عليه؛ إذ ليس كل أحد يستطيع ذلك، وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة، فقد جمع هذا الاَدب بين ما ينبغي من الاَناقة، وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.

٣ - أن يتطيَّب ما وسعه الطيب، وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.

٤ - أن يتصدَّق على الفقراء بما يعنَّ له أن يتصَّدق به، ومن المعلوم فائدة التصدُّق في مثل هذه المواسم، فإنّ فيه معاونة المعوزين، وتنمية روح العطف عليهم.

٥ - أن يمشي على سكينة ووقار غاضّاً من بصره(٣) ، وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة، وتعظيم للمزور، وتوجّه إلى الله تعالى، وانقطاع إليه، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور، وعدم إساءة بعضهم إلى بعض.

٦ - أن يكبِّر بقول: «الله أكبر» ويكرّر ذلك ما شاء(٤) ، وقد تُحدَّد في

____________________

(١) كامل الزيارات: ١٨٦ الباب ٧٥ من اغتسل في الفرات وزار الحسينعليه‌السلام .

(٢) لاحظ: كامل الزيارات: ١٣٠ باب ٤٨ ح١، و١٩٨ الباب ٧٩.

(٣) لاحظ: كامل الزيارات: ١٣٠ باب ٤٨ ح١.

(٤) لاحظ: كامل الزيارات: ١٩٩ الباب ٧٩ زيارات الحسين بن عليعليه‌السلام .

١٣٩

بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة(١) وفي ذلك فائدة اشعار النفس بعظمة الله، وأنّه لا شيء أكبر منه، وأنّ الزيارة ليست إلاّ لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.

٧ - وبعد الفراغ من الزيارة للنبي أو الامام يصلّي ركعتين على الاَقل، تطوّعاً وعبادة لله تعالى؛ ليشكره على توفيقه إياه، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور.

وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده، وإنه لا يعبد سواه، وليست الزيارة إلاّ نوع التقرّب إليه تعالى زلفى؛ إذ يقول:

« اللّهمَّ لكَ صلَّيْتُ، ولكَ ركعْتُ، ولَكَ سجدْتُ وحدَكَ لا شريكَ لكَ؛ لاَنّه لا تكون الصلاةُ والركُوعُ والسجودُ إلاّ لَكَ؛ لاَنَّكَ أنْتَ اللهُ لا إلهَ إلاّ أنْتَ. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمّدٍ، وتقبَّلْ منِّي زيارَتِي، وأعَطِني سؤلِي، بمحمَّدٍ وآلهِ الطاهرينَ »(٢)

وفي هذا النوع من الاَدب ما يوضّح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الاَئمة وشيعتهم تبعاً لهم في زيارة القبور، وما يلقم المتجاهلين حجراً حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور، والتقرّب إليها، والشرك بالله.

وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الامامية من الفوائد الاجتماعية الدينية في مواسم الزيارات؛ إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمَّد، وإلاّ فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد

____________________

(١) لاحظ: كامل الزيارات: ٢٢٢ الباب ٧٩ زيارات الحسين بن عليعليه‌السلام .

(٢) المصباح للكفعمي: ٢/١٥٨.

١٤٠