بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 597
المشاهدات: 39133
تحميل: 3800


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39133 / تحميل: 3800
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 4

مؤلف:
العربية

إن كنتم مؤمنين و ما أنا عليكم بحفيظ ١ إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك و السلام » . قالت : فاخذته منه و اللّه ما ختمه بطين ، و لا خزمه بخزام فقرأته . فقال لها معاوية : لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئا ما تفطمون الخبر ٢ .

و المراد بقول سودة « فوهي بما أستعصم اللّه منه » : أي سبّي عليّا ،

و أستعيذ باللّه من ذلك .

« و القوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه » في ( المناقب ) : أخذ ( علي ) عليه السلام رجلا من بني أسد في حدّ . فاجتمع قومه ليكلّموه فيه ، و طلبوا إلى الحسن عليه السلام أن يصحبهم . فقال : إيتوه فهو أعلى بكم عينا . فدخلوا عليه و سألوه ، فقال : لا تسألوني شيئا أملك إلاّ أعطيتكم . قال : فخرجوا يرون انّهم قد أنجحوا ، فسألهم الحسن عليه السلام فقالوا : أتينا خير مأتيّ ، و حكوا له قوله . فقال : « ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فاصنعوه » قال : فأخرجه علي عليه السلام فحدّه ثم قال : « هذا و اللّه لست أملكه » ٣ .

هذا و رووا و قد نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر عن أسلم أبي زيد بن أسلم قال : خلا عمر لبعض شأنه و قال : أمسك علي الباب . فطلع الزبير .

فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل . فقلت : هو على حاجة قال : فلم يلتفت إلىّ ،

و أهوى ليدخل فوضعت يدي في صدره . فضرب أنفي . فأدماه . ثم رجع فدخلت على عمر فقال : ما بك ؟ قلت : الزبير . فأرسل الى الزبير ، فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له . فقال : ما حملك على ما صنعت ادميتني للناس ، فقال

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هود : ٨٥ ٨٦ .

( ٢ ) رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد ١ : ٢٩١ ، و البغدادي في بلاغات النساء : ٤٨ و اللفظ للبغدادي.

( ٣ ) رواه السروي في المناقب ٢ : ١٤٧ .

٨١

الزبير : يحكيه و يمطّط في كلامه أدميتني . اتحتجب عنّا يا ابن الخطاب ؟

فو اللّه ما احتجب عني رسول اللّه و لا أبو بكر . فقال عمر كالمعتذر : إنّي كنت في بعض شأني . قال اسلم فلمّا سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقي فخرج الزبير . فقال عمر : انّه الزبير و آثاره ما تعلم .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : تنازع إثنان ، أحدهما سلطاني و الآخر سوقي ،

فضربه السلطاني فصاح و اعمراه ، و رفع خبره إلى المأمون ، فأمر بإدخاله عليه . قال : من أين أنت ؟ قال : من أهل فامية ، فقال : إنّ عمر كان يقول : من كان جاره نبطيا و احتاج إلى ثمنه فليبعه فإن كنت تطلب سيرة عمر فهذا حكمه ١ .

« رضينا عن اللّه قضاءه و سلمنا للّه أمره » يمكن ربط هذا بما قبله . انّه لمّا بيّن عليه السلام مقاماته ، و رفعه على الباقين كرفع السماوات على الأرضين كان عليه السلام بمقتضى بداهة العقول مستحقا لمقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أي : لسلطانه ، و إلاّ فمقام إمامته كان أمرا من عند اللّه تعالى و قد كان المتقدمون عليه حازوا سلطانه فسلّى نفسه بما قال « رضينا . . . » .

« أ تراني أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : « صلّى اللّه عليه و آله و سلم » كما في ( ابن أبي الحديد ) و غيره ٢ .

« و اللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه » قد عرفت أنّ ابن أبي الحديد قال : انه كلام قاله عليه السلام لمّا تفرّس من جمع انّهم يتّهمونه في ما يخبرهم به عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من الملاحم و الغائبات ٣ .

قلت : إذا كان عليه السلام يخبرهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالملاحم لم يكن لهم دواع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) عيون الاخبار ١ : ٣٣٠ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٧ و في شرح ابن ميثم ٢ : ٩٣ « عليه و آله » .

( ٣ ) مر في صدر هذا العنوان .

٨٢

إلى تكذيبه ، و انّما كان عليه السلام يخبرهم بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عيّنه خليفته و وصيّه و قائما مقامه ، و قد رووا أنفسهم ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم الدار ، يوم جمع بني عبد المطلب و قال : أيّكم يوازرني على أن يكون خليفتي ، و يوم تبوك لما قال المنافقون : خلّفه على المدينة استثقالا له ، و يوم غدير خم و قد رووه متواترا ١ ، و مواقع اخر ، فكان المنافقون إذا كان عليه السلام يخبرهم بذلك و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يشير اليه عليه السلام من يوم بعثته إلى ساعة رحلته تصريحا و تلويحا و قولا و عملا ينسبونه إلى الكذب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و في خبر رواه ( الاحتجاج ) عن عبادة بن الصامت ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لأبي بكر و عمر : و كأنّي بكما قد سلبتماه ملكه و تحاربتما عليه ، و أعانكما على ذلك أعداء اللّه و أعداء رسوله ، و كأنّي بكما قد تركتما المهاجرين و الأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ، و لكانّي بأهل بيتي ، و هم المقهورون المشتّتون في أقطارها ، و ذلك لأمر قد قضي ثم بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى سالت دموعه ثم قال : يا علي الصبر الصبر حتّى ينزل الأمر ٢ .

و في خبر سليم بن قيس أن الأشعث قال لأمير المؤمنين عليه السلام : ما منعك حين بويع أخوتيم ، و أخو عدي ، و أخو اميّة ، أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و اللّه إنّي لأولى الناس بالناس ، و ما زلت مظلوما منذ قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم » فقال عليه السلام :

منعني من ذلك أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و عهده إليّ ، أخبرني بما الامّة صانعة بعده ،

فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به قبل ذلك .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) حديث يوم الدار و المنزلة و الغدير مر تخريج كل منها كرارا في مواضعه .

( ٢ ) رواه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ١٩٦ ، في ضمن حديث .

٨٣

قال عليه السلام : فقلت للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : فما تعهد إلىّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و ان لم تجد أعوانا . فكفّ يدك و احقن دمك ١ .

و روى المدائني منهم ، عن عبد اللّه بن جنادة قال : قدمت من الحجاز أريد العراق في أوّل أمارة علي عليه السلام . فمررت بمكّة فاعتمرت . ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ،

و خرج علي عليه السلام متقلدا سيفه . فشخصت الأبصار نحوه . فحمد اللّه تعالى و صلّى على رسوله . ثم قال : « أمّا بعد ، فانّه لمّا قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قلنا نحن أهله و ورثته ، و عترته و أولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، و لا يطمع في حقّنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا . فصارت الإمرة لغيرنا . و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل . فبكت الأعين منا لذلك ، و خشنت الصدور و جزعت النفوس الخبر ٢ .

« فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي ، و اذا الميثاق في عنقي لغيري » قال ابن أبي الحديد : أي وجوب طاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم . فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنّه أمرني بها ٣ .

قلت : ما ذكره بلا محصّل و انّما معناه أنّ وجوب طاعته على جميع الناس كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى قوله تعالى إنّما وليكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ٤ المتفق على

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه سليم بن قيس في كتابه : ١٢٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٠١ ، شرح الخطبة ٢٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢١١ .

( ٤ ) المائدة ٥٥ .

٨٤

نزوله فيه عليه السلام ١ ، و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المتواتر « أ لست أولى بكم من أنفسكم ؟ فقالوا : بلى . فقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه » حتّى أنّه قال ابن الخطاب في ما رواه أئمّتهم : « بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة » ٢ سبق علي بيعته الاجبارية بالمقطوع للقوم ،

و كيف لا و قد هددوه بضرب عنقه يوم أبي بكر و يوم عثمان و عمر لم يكن ذا بيعة بعد نصب أبي بكر له ، إلاّ أنّ أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الميثاق منه بعدم التكلّم كان يمنعه عن قيامه ، لا تلك البيعة .

و روى الطبري أنّه عليه السلام قال يوم الشورى : « فنحن بيت النبوّة ، و معدن الحكمة ، و أمان أهل الأرض ، و نجاة لمن طلب . لنا حقّ إن نعطه نأخذه ، و إن نمنعه نركب أعجاز الابل و لو طال السرى . لو عهد إلينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عهدا لأنفذنا عهده ، و لو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتّى نموت . لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق » الخبر ٣ .

و في خبر المدائني المتقدم « و أيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ،

و أن يعود الكفر و يبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم » الخبر ٤ .

ثم انّ ابن أبي الحديد قال في هذا العنوان : فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الإماميّة قيل : ليس الأمر كذلك بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين لأنّهم يزعمون أنّه الأفضل ، و الأحق بالإمامة ، و أنّه لو لا ما يعلمه اللّه و رسوله

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه جمع كثير من أهل الاثر و جمع بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ٢ : ٢٩٣ و ٢٩٤ و المجلسي في بحار الانوار ٣٥ : ١٨٣ ، باب ٤ .

( ٢ ) حديث الغدير المتواتر أخرجه جمع كثير منه ما أخرجه من طرق كثيرة ابن عساكر في ترجمة علي عليه السلام ٢ : ٥ ٩٠ ، ح ٥٠٣ ٥٩٣ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٠ سنة ٢٤ .

( ٤ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٠١ ، شرح الخطبة ٢٢ .

٨٥

من الأصلح للمكلّفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدم عليه هالكا .

فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخبره أنّ الإمامة حقه ، و انّه أولى بها من الناس أجمعين .

و أعلمه أنّه في تقديم غيره و صبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلّفين ، و أنّه يجب عليه أن يمسك عن طلبها ، و يغضي عنها لمن هو دون مرتبته ، فامتثل ما أمره به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل و الأولى و الأحق ، و قد صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي بهذا ، و صرّح به تلامذته ، و قالوا : لو نازع عقيب وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و سلّ سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه و تقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، و لكنه مالك الأمر ، و صاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، و إذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها ، و حكمه في ذلك حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : « علي مع الحق ، و الحق مع علي يدور حيثما دار » و قال له غير مرة : « حربك حربي و سلمك سلمي » و هذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي و به أقول ١ .

قلت : إنّي لأستحي للرجل و لأصحابه البغدايين من أهل العالم . فهل نزاعه عليه السلام مع الثلاثة أمر يلتبس بعد تواتر الأخبار به و مل‏ء السير منه ؟ و ما ذكره من عدم سلّه عليه السلام سيفه تخليط . فإنّما سلّ السيف لمن كان له سيف ،

و النفر الواحد أنّي يكون له سيف في قبال جميع الناس ، فهو نظير أن يقال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يكن في مدة مقامه بمكّة نبيّا لأنّه ما سلّ سيفا و انّما كان نبيّا حين هاجر و سلّ سيفه .

و ما نقله عن البلخي و أتباعه من قولهم بتفسيق من نازعهم كأهل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢١١ .

٨٦

الجمل و صفين ، و تعديل من أغضى عنهم كالثلاثة ، نظير أن يقول أحد إنّ المالك إذا لم يخف من الغاصب و ادعى حقه . فالغاصب فاسق ، و ان خاف منه و سكت ، فالغاصب عادل ، و تهديدهم له بالقتل يوم السقيفة و يوم الشوى ، ممّا اتّفق عليه التاريخ .

و ما ذكره من أنّ تقدّم الثلاثة عليه عليه السلام كان مصلحة للدين راجعة إلى المكلّفين ، أعجب من كل عجيب . هل مصلحة الدين في تبديل الشريعة ،

و التسبب لإيجاد الفرق الضالّة و المذاهب الباطلة ، و شيوع البدع ، و اذلال المؤمنين ، و إعزاز المنافقين و استئصال عترة سيّد المرسلين ، و إنّما كان في إملاء اللّه تعالى لهم حكمة ، و هي امتحان الامّة أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا و هم لا يفتنون و لقد فتنّا الّذين من قبلهم فليعلمنّ اللّه الّذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ١ .

كما أنّ في قعوده عليه السلام و سكوته مصالح ، و منها ما مر في خبر المدائني في قوله عليه السلام : « و أيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، و أن يعود الكفر ،

و يبور الدين ، لكنّا لهم على غير ما كنّا لهم » ٢ .

و سأل الباقلاّني المفيد عن علّة سكوته فقال له : أولا : إنّ الامام المعصوم من الخطأ و الزلل لا اعتراض عليه في قيامه و قعوده ، و ثانيا : نعلم في الجملة أنّ قعوده لمصلحة ابين بعض وجوهها ، و هو أنّه عليه السلام علم أنّ في المخالفين من يرجع عن الباطل إلى الحق بعد مدة فكان ترك قتله مصلحة ،

و يمكن أن يكون اللّه علم أنّ في ظهورهم مؤمنين لا يجوز اجتياحهم فكان في ترك قتلهم مصلحة ، و يمكن أن يكون أنّه شفقة منه على ولده و شيعته أن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

( ٢ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٠١ ، شرح الخطبة ٢٢ .

٨٧

يصطلموا فينقطع نظام الإمامة ١ . و تقديم المفضول قبيح عقلي فكيف يرضاه اللّه تعالى .

و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قام في صفين في الناس عشية الثلاثاء بعد العصر . فقال : « الحمد للّه الذي لا يبرم ما نقض ، و لا ينقض ما أبرم ، و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الامّة ، و لا من خلقه ،

و لا تنازعت الامة في شي‏ء من أمره ، و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله » الخبر ٢ .

هذا ، و يناسب كلامه عليه السلام في العنوان كلام ابنه الحسن عليه السلام لمّا أرسله عليه السلام مع عمّار الى الكوفة لمّا أراد حرب البصرة . روى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أنّ الحسن عليه السلام قال بعد حمده تعالى : « أيّها الناس إنّا جئنا ندعوكم إلى اللّه ، و الى كتابه ، و سنة رسوله ، و إلى أفقه من تفقّه من المسلمين ، و أعدل من تعدّلون ، و أفضل من تفضّلون ، و أوفى من تبايعون . من لم يعبه القرآن ، و لم تجهله السنة ، و لم تقعد به السابقة ،

إلى من قرّبه اللّه تعالى و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم قرابتين : قرابة الدين و قرابة الرحم ،

إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة ، إلى من كفى اللّه به رسوله و الناس متخاذلون ، فقرب منه و هم متباعدون ، و صلّى معه و هم مشركون ،

و قاتل معه و هم منهزمون ، و بارز معه و هم محجمون ، و صدّقه و هم يكذبون .

إلى من لم تردّ له راية و لم تكافأ له راية سابقة ، و هو يسألكم النصر و يدعوكم إلى الحقّ » ٣ .

ــــــــــ

( ١ ) جاء في ضمن عدة رسائل الشيخ المفيد : ١٨٢ .

( ٢ ) وقعة صفين : ٢٢٥ .

( ٣ ) رواه عن أبي مخنف ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٩٦ ، شرح الكتاب ١ .

٨٨

٤

الخطبة ( ١٩٥ ) ( و من كلام له عليه السلام ) :

وَ لَقَدْ عَلِمَ اَلْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟ أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اَللَّهِ وَ لاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي اَلْمَوَاطِنِ اَلَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا اَلْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ اَلْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اَللَّهُ بِهَا وَ لَقَدْ قُبِضَ ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟ وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ اَلْمَلاَئِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ اَلدَّارُ وَ اَلْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ اَلْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ اَلْبَاطِلِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ لِي وَ لَكُمْ أقول : الخطبة من خطبه عليه السلام في صفين . روى نصر بن مزاحم في ( صفينه ) مسندا عن أبي سنان الأسلمي قال : لمّا اخبر علي بخطبة معاوية ،

و عمرو بن العاص ، و تحريضهما الناس عليه عليه السلام أمر الناس فجمعوا . قال أبو سنان : و كأنّي أنظر إلى علي عليه السلام متوكّئا على قوسه ، و قد جمع أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنده فهم يلونه و احب أن يعلم الناس أنّ اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم متوافرون عليه فحمد اللّه . ثم قال : « أيّها الناس اسمعوا مقالتي ،

و عوا كلامي . فإنّ الخيلاء من التجبّر ، و إنّ النخوة من التكبّر ، و إنّ الشيطان عدوّ حاضر يعدكم الباطل ، ألا انّ المسلم أخو المسلم إلى أن قال ألا و إنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الاموي ، و عمرو بن العاص

٨٩

السهمي ، أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، و قد علمتم أنّي لم اخالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قطّ ، و لم أعصه في أمر قطّ . أقيه بنفسي في المواطن الّتي ينكص فيها الأبطال و ترعد فيها الفرائض ، نجدة أكرمني اللّه بها فله الحمد . و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ رأسه لفي حجري ، و لقد ولّيت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقرّبون معي ، و أيم اللّه ما اختلفت امّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على حقّها ، إلاّ ما شاء اللّه .

فقال أبو سنان : فسمعت عمّار بن ياسر يقول : « أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد أعلمكم انّ الامّة لن تستقيم عليه » قال : ثمّ تفرق الناس و قد نفذت بصائرهم ١ ، و رواه الشيخان في أماليهما مسندا عن الأصبغ مثل ما رواه نصر مع تبديل قوله « نجدة » بقوله « بقوة » ٢ .

قول المصنّف « و من كلام له عليه السلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب « و من خطبة له عليه السلام » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة » ٣ .

« و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم » قد عرفت أنّ في رواية ( صفين و الاماليين ) بدل الجملة « و قد علمتم » لانّه خاطب الصحابة الّذين كانوا معه و اجتمعوا حوله ، و لفظ المصنّف أيضا ورد في مواضع اخر . ففي ( غيبة النعماني ) : « قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المشهورة الّتي رواها الموافق و المخالف « ألا إنّ العلم الّذي هبط به آدم عليه السلام إلى أن قال و قال علي عليه السلام في خطبته هذه « و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال : إنّي و أهل بيتي مطهّرون » ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ٢٢٣ .

( ٢ ) أمالي المفيد : ٢٣٣ ح ٥ ، المجلس ٢٧ ، و أمالي أبي علي الطوسي ١ : ٩ ، الجزء ١ .

( ٣ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤١ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٤٣٩ .

( ٤ ) الغيبة للنعماني : ٢٨ و ٢٩ .

٩٠

و في ( خصال الصدوق ) مسندا عن مكحول أنّه قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه ليس فيهم رجل له منقبة إلاّ و قد شركته فيها و فضلته ، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم الخبر ١ .

قال ابن أبي الحديد يمكن أن يعنى بالمستحفظين الخلفاء الّذين تقدموا لأنّهم الّذين استحفظوا الإسلام أي جعلوا حافظين له ، و حارسين لشريعته و يحوزونه ، و يجوز أن يعني به العلماء و الفضلاء من الصحابة لأنّهم استحفظوا الكتاب ، أي : كلّفوا حفظه و حراسته ٢ .

قلت : فيه أوّلا : إنّه واضح أنّ المراد بالمستحفظين هم الّذين وجدوا حافظين تذكرا للوقايع و الامور ليكون مناسبا لقوله بعد « إنّي لم أردّ على اللّه ،

و لا على رسوله ساعة قط » و الاستفعال قد يجي‏ء لاصابة الشي‏ء على صفة ،

نحو : استعظمته أي : وجدته عظيما ، و هنا كذلك ، و إلاّ فأيّ ربط لحفظ الإسلام و حفظ الكتاب بكلامه عليه السلام ذاك .

و ثانيا : إذا كان الاستفعال بمعنى الطلب ، فمن أين كان المتقدمون عليه عليه السلام حافظين للاسلام ، و قد قتل المسلمون ثالثهم بكفره لقوله تعالى و من لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون ٣ .

و ثالثا : إنّ خلفاءه الّذين قال : كيف يجعلهم أمير المؤمنين عليه السلام شهداء لما وصف به نفسه ، و قد كانوا أجهدوا غاية الجهد أن يوجدوا عليه عليه السلام طعنا في ردّه على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوما . فروى الزبير بن بكار في موفقياته عن ابن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الخصال ٢ : ٥٧٢ ح ١ ، باب السبعين .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤١ .

( ٣ ) المائدة : ٤٤ .

٩١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

عباس قال : خرجت اريد عمر فلقيته راكبا حمارا ، و قد ارتسنه بحبل أسود إلى أن قال :

قال لي عمر : فلم لا تخطب الى ابن عمّك يعني عليّا عليه السلام قلت : ألم تسبقني إليه ؟ قال : فالاخرى ، قلت : هي لابن أخيه ، قال : يا ابن عباس إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به . فليتني أراكم بعدي . قال : قلت : إنّ صاحبنا ما قد علمت أنّه ما غيّر و لا بدّل و لا أسخط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيّام صحبته له . قال : فقطع علي الكلام . فقال : و لا في ابنة أبي جهل لمّا أراد أن يخطبها على فاطمة ؟ قال : قلت : قال اللّه عزّ و جلّ و لم نجد له عزما ١ و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لكنّ الخواطر الّتي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه ، و ربما كانت من الفقيه في دين اللّه العالم العامل بأمر اللّه ، فقال : يا ابن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتّى يبلغ قعرها . فقد ظن عجزا . استغفر اللّه لي و لك ، خذ في غير هذا . ثم أنشأ يسألني عن شي‏ء من امور الفتيا و اجيبه . فيقول : أصبت أصاب اللّه بك ،

أنت و اللّه أحق أن تتّبع ٢ .

قلت : و هذا من الرجل نظير سعيه على أن يوجد له عليه السلام صفة مذمومة .

فسمّى حسن خلقه دعابة كما سمّى طلبه عليه السلام لحقه حرصا ، و سمّى عزّة نفسه عجبا و كبرا .

ثم أصله بهتان ، و لو كان له حقيقة كيف يغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من شي‏ء أحلّه اللّه تعالى ، و جاء به نفسه من عنده تعالى ، و لمّا اصطفى عليه السلام من سبي بني زبيد جارية بعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال له : تقدم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ١١٥ .

( ٢ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

٩٢

الجيش إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأعلمه بما فعل علي من اصطفاء الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه . فسار بريدة حتى انتهى الى باب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلقيه عمر فسأله عن حال غزوتهم ، و عن الّذي أقدمه . فأخبره أنه إنّما جاء ليقع في علي ،

و ذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه . فقال له عمر : إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع . فدخل بريدة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و معه كتاب من خالد بما أرسل به . فجعل بريدة يقرأه ، و وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يتغيّر ، فقال بريدة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : إنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم . فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يحك يا بريدة أحدثت نفاقا . إنّ علي بن أبي طالب يحلّ له من الفي‏ء ما يحلّ لي . انّ عليّا خير الناس لك و لقومك و خير من اخلف بعدي لكافة أمّتي . يا بريدة إحذر أن تبغض عليّا فيبغضك اللّه .

قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت فسخت فيها ، و قلت : أعوذ باللّه من سخط اللّه و سخط رسوله ١ .

و قال النقيب و قد نقله ( ابن أبي الحديد ) في شرح قوله عليه السلام لما قيل له :

« كيف دفعكم قومكم عن هذا الأمر ؟ » في جملة ما قال ممّا فعل عمر لدفع أمير المؤمنين عليه السلام عن الأمر : « عاب عليا عليه السلام بخطبته بنت أبي جهل فأوهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كرهه لذلك ، و وجد عليه ، و أرضاه عمرو بن العاص . فروى حديثا افتعله و اختلقه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال سمعته يقول : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليي اللّه و صالح المؤمنين » فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم « من كنت مولاه فهذا مولاه » ٢ .

قلت : قد عرفت أنّ أصل خبر الرجل وضع لمخالفته للكتاب كخبر

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه المفيد في الارشاد : ٨٥ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٨ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

٩٣

صاحبه « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث » و حينئذ فلو كان ابن أبي الحديد قال :

إنّ المستحفظين غير خلفائه كان أحسن ، و إن كان خلفاؤه ، و باقي مخالفيه عليه السلام مقرّين بفضائله ، و أنّ الخلافة حقه حتى مثل عمرو بن العاص و سعد بن أبي وقاص .

ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) : أن عمرو بن العاص سئل عن خبر الولاية فقال :

انه حق و قال للسائل : أزيدك . ليس أحد من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له مناقب مثل مناقب علي ١ .

و فيه أنّ سعد بن أبي وقاص قال : إنّ عليا شاركنا في محاسننا و لم نشاركه في محاسنه ، و كان أحقنا كلّنا بالخلافة ٢ .

« إنّي لم أردّ على اللّه ، و لا على رسوله ساعة قطّ » قال ابن أبي الحديد : الظاهر أنّه عليه السلام يرمز إلى أمور وقعت من غيره كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح فإنّ بعض الصحابة أنكر ذلك و قال : ألسنا بالمسلمين ؟ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : بلى . قال : أو ليسوا بالكافرين ؟ قال : بلى . قال : فكيف نعطي الدنيّة في ديننا . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّما أعمل بما اومر به ، و قال لقوم من الصحابة :

ألم يكن وعدنا بدخول مكّة ، و نحن قد صددنا عنها ، ثم ينصرف بعد أن أعطينا الدنية من ديننا ، و اللّه لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا . فقال أبو بكر له : ويحك الزم غرزه . فو اللّه انّه لرسول اللّه ، و ان اللّه لا يضيعه ثم قال له : أقال لك : انّه سيدخلها هذا العام قال : لا قال : فسيدخلها فلما فتح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مكّة ، و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال : هذا الذي وعدتم به ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة المنسوب الى ابن قتيبة ١ : ١٠٩ .

( ٢ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٠٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤١ ، و النقل بتصرف يسير .

٩٤

قلت : إذا كان الخبر صحيحا ، و رواه الناس كلهم كما اعترف به في كلامه ، فلم رمز عن عمر و قد اتفقت التواريخ أيضا سوى الآثار على إنكار عمر في الحديبية على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ردّه عليه ، و من الغريب اعتذار ابن أبي الحديد عنه بأنّ سؤاله كان التماسا لطمأنينة النفس كإبراهيم ، و إن قول أبي بكر : « إلزم غزره فو اللّه انه لرسوله » تثبيت على عقيدته ، و لا يدلّ على الشك كما قال تعالى و لو لا ان ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا ١ .

فعلى قول ابن أبي الحديد اذا صار عمر بالاعتراض على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نبيّا مرسلا كإبراهيم ، لم لم يعترض على اللّه حتى يصير عند ابن أبي الحديد إلها ؟ نعوذ باللّه من العصبية الى أي درجة تصل ، و كيف يعتذر له بعدم الشك ،

و قد ذكر الثعلبي عند ذكر سورة الفتح ، و غيره من الرواة أنّ عمر قال : « ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ » ٢ .

و لنعم ما قال صاحب ( الطرائف ) في قول عمر « فلم نعطي هذه الدنية في ديننا » فهلاّ كانت هذه الشجاعة منه في يوم حنين ، و خيبر و غيرهما من الغزوات الّتي هرب فيها و خالف اللّه و رسوله .

قال : و من طريف ذلك أنّ عمر بعد ما أخبره نبيهم بالجواب عن سؤاله و اعتذر عن دخول مكّة لا يلتفت إلى جواب نبيّهم ، و لا اعتذاره ، و يأتي إلى أبي بكر فيعيد عليه تلك الموافقة و شكّه في الإسلام ، و يلتمس من أبي بكر الجواب ، فأعاد عليه أبو بكر ما سمعه من نبيهم .

قال : و من طريف ذلك : إقدامه على نبيّهم في مثل تلك الحال من شدّة الحاجة إلى عون المسلمين لنبيهم بالقول و الفعل ، فكان ذلك الموقف موقف

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاسراء : ٧٤ .

( ٢ ) رواه عن الثعلبي و غيره ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٤٤١ .

٩٥

تعنيف و تخجيل ، و فتح لأبواب الشك في النبوة ، و تقوية حجة سهيل بن عمرو و الكفار . اما يدل هذا على ضلال هائل و جهل خاذل ؟

قال : و من طريف ذلك أنّ بعد قول نبيهم لعمر « إنّي رسول اللّه و لست أعصيه و هو ناصري ، يقول له عمر : « أو لست كنت تحدّثنا انّا سنأتي البيت و نطوف به ؟ » قال : أما هذا تكذيب صريح لنبيّهم و استخفاف لنبوّته ، و كسر لحرمته ١ .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : « و قد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصّة كقوله : دعني أضرب عنق أبي سفيان » و قوله : « دعني اضرب عنق عبد اللّه بن أبيّ » و قوله : « دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة » و نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن التسرع الى ذلك ، و جذبه ثوب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين قام على جنازة ابن سلول يصلي و قوله له : « كيف تستغفر لرأس المنافقين ؟ » قال :

و ليست في ذلك جميعه ما يدلّ على وقوع القبيح منه ، و إنما الرجل كان مطبوعا على الشدّة و الشراسة و الخشونة ، و كان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها . و على أيّ حال كان ، فلقد نال الإسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا ٢ .

قلت : أمّا في قوله دعني أضرب عنق فلان ، و فلان و فلان . فهو أحق بما قيل في الحجاج :

أسد علي و في الحروب نعامة

جبناء تصفر من صفير الصافر

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى

بل كان قلبك في جناحي طائر

و قد أمر عمر بقتل رجلين خلافا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الطرائف ٢ : ٤٤١ ٤٤٢ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٢ .

٩٦

حنين لما ارتفع النهار أن لا يقتل أسير من القوم ، و أسر ذاك اليوم ابن الأكوع .

فمر به عمر فأقبل على رجل من الأنصار ، و قال : عدو اللّه الّذي كان عينا علينا ها هو أسير . فاقتله فضرب الأنصاري عنقه . فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكرهه و قال : ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا ؟ و قتل بعده جميل بن معمر بن زهير و هو أسير . فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو مغضب إلى الأنصار فقال : ما حملكم على قتله و قد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا ؟ فقالوا : إنّما قتلناه بقول عمر . فأعرض النبي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى كلّمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك ١ .

و ممن ردّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم غير عمر أبو حذيفة بن عتبة . روى محمّد بن إسحاق أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لأصحابه : إنّي قد عرفت أنّ رجالا من بني هاشم و غيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ( أي : في بدر ) و من لقي أبا البختري ، فلا يقتله فإنّه إنّما أخرج مستكرها . فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا ، و ابناءنا و إخواننا و عشيرتنا ، و نترك العباس ، و اللّه لئن لقيته لألحمنّه السيف ، فسمعها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فقال لعمر : يا أبا حفص قال عمر : و اللّه إنّه لأوّل يوم كنّاني فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأبي حفص أيضرب وجه عم رسول اللّه بالسيف ؟ فقال عمر : يا رسول اللّه دعني فلأضرب عنقه بالسيف . فو اللّه لقد نافق . فكان أبو حذيفة يقول : و اللّه ما أنا بآمن من تلك الكلمة الّتي قلت يومئذ ، و لا أزال منها خائفا أبدا ٢ .

و قال محمّد بن إسحاق أيضا و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا استشار أبا بكر و عمر و سعد بن معاذ في أمر الاسارى غلظ عمر عليهم غلظة شديدة . فقال : يا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه المفيد في الارشاد : ٧٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه عنه ابن هشام في السيرة ٢ : ١٩٧ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ١٥١ ، سنة ٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٩٧

رسول اللّه أطعني في ما اشير به عليك . فإنّي لا آلوك نصحا . قدّم عمّك العباس . فاضرب عنقه بيدك ، و قدّم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه ، و قدّم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله ، فكره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك و لم يعجبه ١ .

قلت : من الغريب أنّه يحكم بنفاق أبي حذيفة لمّا أراد مخالفة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في قتل عمّه ، و يستأذنه في ضرب عنقه ، ثم بعد ذلك يشدّد بنفسه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في قتل عمه .

و أما قول ابن أبي الحديد و ليس في جميع ذلك ما يدلّ على وقوع القبيح منه فأعجب ، و لا بد أن يقول بأنّه لم يقع في نسبته الهجر الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما قال آتوني بدواة أكتب لكم ما لن تضلوا بعدي أبدا ، و منعه عن كتابة وصيّته ،

و في ارادة إحراق بنت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سيّدة نساء العالمين ، و إحراق سيّدي شباب أهل الجنّة ، و إحراق أمير المؤمنين عليه السلام الّذي كان بمنزلة نفس النبي بنص القرآن ٢ ، لأنّه كان حلف أنّه يحرقهم لو لم يخرج للبيعة ، و كان يفعل ، . . .

أيضا منه قبيح .

و أمّا قوله : « فإنّما الرجل كان مطبوعا على الشراسة . . . » فلعمري كان خاله أبو جهل أيضا مطبوعا على تلك الشراسة فكان لا يقدر أن يضبط نفسه في عداوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن كان عمر معذورا كان ذاك أيضا معذورا .

و أمّا قوله : « فقد نال الإسلام به . . . » فعلى فرض التسليم فالخمر و الميسر أيضا كان فيهما منافع للناس إلاّ أنّ إثمهما أكبر من نفعهما مع أنّ فتوحاته كانت بسط يد للجبّارين و كيف و قد هيّأ أسباب تولية عثمان رئيس بني امية أعداء الدين و أعداء الإسلام ، و لعمر اللّه إن من لم يكابر كان مسخه الإسلام

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٣٥٦ ، شرح الكتاب ٩ .

( ٢ ) أنظر قوله تعالى : . . . أنفسنا و أنفسكم . . . آل عمران : ٦١ .

٩٨

واضحا ، و لقد مرّ أبو سفيان أيّام عثمان على قبر حمزة فضربه برجله ، و قال :

قم يا حمزة و انظر الدين الّذي تقتلوننا به في يد فتياتنا يلعبون به ١ .

ثم لم خصّ الردّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالثاني . فقد كان الأوّل أيضا يردّ عليه . روى المبرد في كامله ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نظر إلى رجل ساجد . فقال : ألا رجل يقتله ؟ فحسر أبو بكر عن ذراعه ، و انتضى السيف ، و صمد نحوه . ثم رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال : أقتل رجلا يقول لا إله إلاّ اللّه . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ألا رجل يفعل ؟ ففعل عمر مثل ذلك . فلمّا كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : لو قتل هذا ما اختلف في دين اللّه اثنان ٢ .

و قد خالفاه عملا و ردّا عليه قولا في تخلفهما عن جيش اسامة مع أنّ ردّ الثانيّ لم يكن منحصرا بما نقل . فقد روى الحميدي عن عروة عن عائشة من المتفق على صحّته أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم اعتمّ بالعشاء حتى ناداه عمر للصلاة .

فقال : نام الصبيان و النساء . و في رواية ابن شهاب أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال « و ما كان لكم أن تنزروا رسول اللّه على الصلاة » و ذلك حين صاح عمر ٣ .

و روى الحميدي من ( صحيح مسلم ) عن أبي هريرة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم :

لقيت عمر فأخبرته بالّذي بعثتني به . فضرب بين يدي ضربة خررت لاستي ،

و قال : إرجع . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له : ما حملك على ما صنعت . قال : أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد ألاّ إله الاّ اللّه مستقينا بها قلبه بشّره بالجنة ، قال : نعم .

قال : فلا تفعل فإني أخشى أن يتّكل الناس عليها فخلّهم يعملوا ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٥١ ، شرح الكتاب ٣٢ .

( ٢ ) رواه المبرد في الكامل ٧ : ١١٠ ، و الشيرازي في تفسيره و عنه الطرائف ٢ : ٤٢٩ .

( ٣ ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٤٤٢ ، و هو في صحيح مسلم ١ : ٤٤١ ح ٢١٨ .

( ٤ ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٤٣٧ ، و النقل بتلخيص و هو في صحيح مسلم ١ : ٥٩ ح ٥٢ .

٩٩

و في ( الاستيعاب ) : في خالد بن ربعي في قصّته مع القعقاع أنزل تعالى لا تقدموا بين يدى اللّه و رسوله ١ في قول أبي بكر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : استعمل فلانا و قول عمر له : استعمل فلانا ٢ .

و عدّ النقيب في أسباب تجرّي عمر على بيعة أبي بكر ، و العدول عن علي عليه السلام انكاره أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أصحابه بذبح النواضح ٣ .

« و لقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص » أي : تحجم عنها يقال :

نكص الرجل على عقبيه ، أي : رجع .

« فيها الأبطال » جمع البطل ، أي : الشجاع .

« و تتأخّر فيها » هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة لعدم وجود « فيها » في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة » ٤ .

« الأقدام » فلا تقدم و لا تتقدم .

قال ابن أبي الحديد : هذا ممّا اختص بفضيلته غير مدافع . ثبت معه يوم احد و فرّ الناس ، و ثبت معه يوم حنين و فرّ الناس ، و ثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها و فرّ من كان بعث بها من قبله .

قال : و روى المحدّثون أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما ارتثّ يوم أحد قال الناس :

قتل محمّد ، رأته كتيبة من المشركين و هو صريح بين القتلى إلاّ أنّه حيّ فصمدت له ، فقال لعليّ عليه السلام : إكفني هذه . فحمل عليه السلام و قتل رئيسها ، ثم صمدت له كتيبة ثالثة . فكذلك . فكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد ذلك يقول : قال لي جبريل : يا محمّد إنّ هذه للمواساة فقلت و ما يمنعه و هو منّي و أنا منه . فقال جبريل و أنا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الحجرات : ١ .

( ٢ ) الاستيعاب ١ : ٤١٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٧ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٤ ) يوجد لفظة « فيها » في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤١ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٤٣٩ ، ايضا .

١٠٠