• البداية
  • السابق
  • 632 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42099 / تحميل: 4923
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٥

مؤلف:
العربية
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

كتاب بهج الصباغة

في شرح نهج البلاغة

المجلد الخامس

الشيخ محمد تقي التّستري


١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

المجلد الخامس

الشيخ محمّد تقي التّستري (الشوشتري)

٣

المجلد الخامس

تتمة الفصل الخامس

٣١

الخطبة ( ٣ ) و من خطبة له ع و هي المعروفة بالشقشقية أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى :

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا

وَ يَوْمُ ؟ حَيَّانَ ؟ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ

٤

مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ اَلْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ١ ١٦ ٢٨ : ٨٣ بَلَى وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ

٥

قالوا : و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه . قال له ابن عباس رضى الله عنه يا أمير المؤمنين لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت . فقال : هيهات يا ابن عباس . تلك شقشقة هدرت ثم قرت . قال ابن عباس : فو الله ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ منه حيث أراد .

قوله : « كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحم » : يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزمام ، و هي تنازعه رأسها خرم أنفها ، و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها . تقحمت به فلم يملكها . يقال « أشنق الناقة » إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه « و شنقها » أيضا ذكر ذلك ابن السكّيت في « إصلاح المنطق » و إنّما قال « أشنق لها » و لم يقل « أشنقها » لأنّه جعل في مقابل قوله : « أسلس لها » فكأنّه عليه السّلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها .

أقول : و رواها الصدوق في ( علل شرائعه ) ، و ( معاني أخباره ) ، و المفيد في كتاب ( إرشاده ) و كتاب ( جمله ) ، و الشيخ الطوسي في ( أماليه ) ، و الراوندي في ( شرحه ) و الطبرسي في ( احتجاجه ) ، و سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) ،

و جمع آخر من العامّة و الخاصّة من المتقدّمين و المتأخرين كابن قبة و أبي القاسم البلخي ، و أبي عمرو الزاهد غلام ثعلب ، و أبي أحمد العسكري و غيرهم ١ .

أما الصدوق . فروى في ( علله ) عن محمّد بن علي ماجيلويه ، عن محمّد

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواها الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٥٠ و ١٥٣ ح ١٢ و ١٣ ، و في معاني الأخبار : ٣٦٠ ح ١ ، و المفيد في الارشاد : ١٥٢ ، و في الجمل : ٦٢ ، و ابو علي الطوسي في أماليه ١ : ٣٨٢ ، جزء ١٣ ، و الراوندي في شرحه ١ : ١٣١ و الطبرسي في الاحتجاج ١ : ١٩١ و السبط في التذكرة : ١٢٤ ، و رواها عن ابن قبة ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٠٦ ، و غيره و عن البلخي ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٠٥ ، و عن أبي عمر و الزاهد الكيندري في شرحه ١ : ١٩٣ ، و غيره ، و عن العسكري الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٥٢ ، و معاني الاخبار : ٣٦٢ ، و غيرهم .

٦

بن أبي القاسم ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب ، عن عكرمة عن ابن عباس .

و رواه في ( معانيه ) مثله و زاد إسنادا آخر محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي ، عن أحمد بن عمّار بن خالد ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن عيسى بن راشد ، عن علي بن خزيمة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : « و الله لقد تقمّصها أخو تيم ، و انّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ، و لا يرتقي إليه الطير . فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ،

و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء . يشيب فيها الصغير ، و يهرم فيها الكبير ، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى اللّه . فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى . فصبرت و في العين قذى ، و في الحلق شجا . أرى ترائي نهبا ،

حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله . عقدها لأخي عدي بعده . فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته . إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، فصيّرها و الله في حوزة خشناء يخشن مسّها ، و يغلظ كلمها ، و يكثر العثار و الاعتذار . فصاحبها كراكب الصعبة ان عنف بها حرن ، و إن سلس بها غسق . فمني الناس بتلوّن و اعتراض ، و بلوا مع هن ، و هنّي . فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة . حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم ، فيا لله لهم و للشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن بهذه النظائر . فمال رجل بضبعه ، و أصغى آخر لصهره ، و قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و متعلفه ، و قام معه بنو أبيه يهضمون مال الله هضم الإبل نبتة الربيع . حتّى أجهز عليه عمله . فما راعني إلاّ و الناس إليّ كعرف الضبع ، قد أنثالوا عليّ من كلّ جانب حتّى لقد و طئ الحسنان ، و شقّ عطافي ، حتىّ إذا نهضت بالأمر نكثت

٧

طائفة ، و فسقت اخرى و مرق آخرون كأنّهم لم يسمعوا قول الله تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين ١ بلى و اللّه لقد سمعوا ، و لكن أحلولت الدنيا في أعينهم ، و راقهم زبرجها . و الّذي فلق الحبّة و براء النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ الله تعالى على العلماء أن لا يقرّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها ،

و لألفيت دنياكم أزهد عندي من عفطة عنز قال و ناوله رجل من أهل السواد كتابا . فقطع كلامه و تناول الكتاب . فقلت : لو اطردت مقالتك إلى حيث بلغت .

فقال : هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت . . . » .

و رواها ( العلل ) أخيرا بالسند الثاني في متنه مثل المتن : « إن أشنق لها خرم و أن أسلس لها تقحم » .

و أمّا المفيد فقال في ( إرشاده ) : روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالرحبة . فذكرت الخلافة و تقدّم من تقدم عليه . فتنفّس الصعداء ثم قال : « أم و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . . » و فيه بدل « حتّى مضى الأول إلى بعده » « إلى أن حضره أجله فأدلى بها إلى عمر » و فيه بعد « ضرعيها » الشعر ثم « فصيرها و الله في ناحية خشناء يجفو مسّها و يغلظ كلمها ، صاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها عسف ، يكثر فيها العثار و يقل منها الإعتذار » .

و قال في جملة : فأمّا خطبته عليه السّلام الّتي رواها عبد الله بن عباس فهي أشهر من أن تدلّ عليها لشهرتها ، و هي الّتي يقول عليه السّلام في أوّلها : « و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

ــــــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٨٣ .

٨

و أما الشيخ ، فروى في ( أماليه ) : عن الحفّار ، عن أبي القاسم الدعبلي ، عن أبيه ، عن أخيه دعبل ، عن محمّد بن سلامة الشامي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر محمّد بن علي ، عن ابن عباس ، و عن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : « و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

و فيه : « يضيع فيها الصغير و يدبّ فيها الكبير » و فيه : « أرى تراث محمّد صلّى اللّه عليه و آله نهبا إلى أن حضرته الوفاة فأدلى بها إلى عمر » .

و أما الراوندي ، فروى في ( شرحه ) عن أبي نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم ، عن الحاجب أبي الوفاء محمّد بن بديع و أحمد بن عبد الرحمن ، عن الحافظ أبي بكر بن مردويه ، عن الطبراني ، عن أحمد بن علي الأبّار ، عن إسحق بن سعيد أبي سلمة الدمشقي ، عن خليد بن دعلج ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : كنّا مع عليّ عليه السلام بالرحبة . فجرى ذكر الخلافة ، و من تقدّم عليه .

فقال : . . . إلى آخر الخطبة .

و أما الطبرسي ، فقال : روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالرحبة فذكرت الخلافة ، و تقدّم من تقدّم عليه فتنفّس الصعداء ثم قال : « أما و الله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

و أما سبط ابن الجوزي ، فقال : أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري بإسناده عن ابن عبّاس . قال : لمّا بويع أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة ناداه رجل من الصف ، و هو على المنبر ما الّذي أبطأبك إلى الآن ؟ فقال بديها :

« و الله لقد تقمّصها أخو تيم أو ابن أبي قحافة أو فلان و هو يعلم انّ محلّي منها محل القطب من الرحى . ينحدر عنّي السيل ، و لا يرقى إليّ الطير ، و لكنّي سدلت دونها ثوبا ، و طويت عنها كشحا ، و طفقت امثّل بين أن أصول بيد جذاء ماضية ، أو أصبر على ظلمة طخياء يوضع منها الكبير ، و يدبّ فيها الصغير

٩

( و في رواية ) طفقت أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه . فرأيت الصبر أجدر ، فصبرت و في العين قذى ، و في الحق شجا إلى أن حضرت الأوّل الوفاة ( و في رواية ) فصبرت إلى أن مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده و في رواية ( فأدلى بها إلى الثاني ) فيا لله العجب بينا هو يستقيلها في حال حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته فعقدها في ناحية خشناء . يصعب مسّها ،

و يغلظ كلمها ، و يكثر فيها العثار ، و يقلّ منها الاعتذار . فمني الناس بمن عقدها له حتّى مضى لسبيله و في رواية « بينا هو يقتال منها في حياته إذ عقدها لآخر بعد مماته لشدّ ما تشطّر أضرعها في حوزة خشناء . فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحّم و في رواية فمنى الناس بخبط و شماس و تكوّر و اعتراض ، فصبرت حتّى إذا مضى لسبيله ، جعلها شورى بين ستّة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله و للشورى ، فيم و ممّ و بم و لم يعرض عنّي ، و لكنّي أسففت معهم حين أسفّوا ، و طرت معهم حيث طاروا ، و صبرت لطول المحنة و أنقضاء المدّة إلى أن قام الثالث و في رواية « فيا لله و الشورى متى اعترض الريب فيّ حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، فصغا رجل منهم لضغنه ، و مال الآخر لصهره . مع هن و هن إلى أن قام الثالث نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه ، و بنو امية يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبت الربيع ، حتّى إذا أجهز عليه عمله ، و أسلمه إلى الهلاك أجله ، و كبت به مطيته فما راعني إلاّ و الناس أرسالا إليّ كعرف الفرس ، و يسألوني البيعة ، و انثالوا عليّ انثيالا ،

حتّى لقد و طئ الحسنان و هما عطفاي و في رواية « و شقّ عطفاي » و هم مجتمعون حولي كربيضة الغنم ، فلمّا نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، و فسقت شرذمة ، و مرقت اخرى ، و قسط قوم ، كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه تعالى : تلك

١٠

الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين ١ بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها ، و لكن راقتهم دنياهم ، و أعجبهم رونقها ، أما و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا ما أخذ الله على الأولياء لألقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها و أنشد :

شتان ما يومي على كورها

و يوم حيّان أخي جابر

و في رواية و الّذي فلق الحبة ، و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر ،

و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، و لا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها و في رواية و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز .

هذا الّذي وقفت عليه من أسانيد العنوان ، و أمّا ما عن رابع عشر ( البحار ) عن بعض مؤلّفات القدماء ، عن القاضي الطبري ، عن سعيد المقدسي ، عن المبارك ، عن خالص بن أبي سعيد ، عن وهب الجمّال ، عن عبد المنعم بن سلمة عن وهب الأسدي عن يونس بن ميسرة ، عن الشيخ المعتمر الرقي رفعه إلى ميثم قال : كنت بين يدي مولاى أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أن قال ركب السحابة ، و قال لعمّار اركب معي إلى أن قال في رجوعه بعد ساعة في مسجد الكوفة صعد المنبر ، و أخذ بالخطبة المعروفة بالشقشقية الخ ٢ فهي رواية تخليطية من الغلاة و الحشوية ، و إن تبجّح بها الخوئي ٣ و سرّ بها .

قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام » ظاهر خبر ( العلل ) و ( الإرشاد ) و ( الأمالي ) و ( الراوندي ) كونه كلاما في غير خطبة لتضمنها أنّه ذكر الخلافة

ــــــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٨٣ .

( ٢ ) رواه المجلسي في بحار الانوار ٥٧ : ٣٤٤ ح ٣٦ .

( ٣ ) شرح الخوئي ١ : ٢٨٥ .

١١

عنده عليه السّلام . فقال هذا الكلام ، لكن الصواب كونه خطبة كما صرّح به في ( المعاني ) و ( الجمل ) كالمصنّف و يشهد له رواية ابن الجوزي من كون ذكر الخلافة عنده عبارة عن أنّه قيل له عليه السّلام : ما الّذي أبطأ بك عن تصدّي الأمر ؟

و كان على المنبر فقال بديها ما قال .

« و هي » : هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ١ .

« المعروفة بالشقشقية » : و في ابن أبي الحديد : « تعرف بالشقشقية » ،

و في ابن ميثم مثل المتن لكن زاد : « و تعرف بالمقمصة » ٢ و نسخته بخطّ المصنّف فإن صحت النسبة فوجهه اشتمال الخطبة على قوله عليه السّلام : « لقد تقمّصها » و يأتي وجه معروفيتها بالشقشقية في آخر الخطبة .

و لبعض خطبه عليه السلام اسم غير هذا أيضا مثل الخطب المعروفة بالأشباح ،

و التوحيد ، و الهداية ، و الملاحم ، و اللؤلؤ ، و الغرّاء ، و القاصعة ، و الافتخار ،

و الدّرة اليتيمة ، و الزهراء ، و الأقاليم ، و الوسيلة ، و الطالوتية ، و القصبية ،

و النخيلة و السليمانية ، و الناطقة ، و الدامغة ، و الفاضحة ، و البالغة ، و المونقة ،

و هي الخالية عن الألف ، و بعضها مذكور في الكتاب و بعضها في غيره .

قوله عليه السّلام : « أما و الله لقد تقمّصها » قال ابن أبي الحديد : الضمير للخلافة ،

و لم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حتى توارت بالحجاب ٣ .

قلت : لم يراجع أسانيد الخطبة ، و إلاّ فقد عرفت أنّ كلّها اشتمل على أنّه ذكر عنده عليه السلام الخلافة ، و تقدّم من تقدّم عليه فيها . فقال ما قال .

ثم تشبيه الخلافة و السلطنة بقميص يلبس ، أمر معروف . خطب

ــــــــــــــــ

( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ ، و شرح ابن ميثم ١ : ٢٤٩ ، مثل المصرية أيضا .

( ٢ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ ، و شرح ابن ميثم ١ : ٢٤٩ ، مثل المصرية أيضا .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

١٢

المنصور بعد قتله لأبي مسلم ، فقال : من نازعنا هذا القميص أجززناه خبئ هذا الغمد و أشار إلى غمد سيفه .

و كما شبّهها عليه السّلام بقميص ، أثبت بعض الشعراء لها سربالا . فقال في المعتز أبن المتوكل :

خلافة كنت حقيقا بها

فضّلك الله بسربالها

« فلان » و بدّله ابن أبي الحديد : بقوله « إبن أبي قحافة » ١ و الصواب : كون النهج بلفظ « فلان » و إن كان أكثر أسانيد الخطبة بلفظ « ابن أبي قحافة » لتصديق ابن ميثم ٢ الّذي نسخته بخطّ المصنّف ، و قد عرفت أنّ الصدوق بدّله في كتابيه بقوله « أخو تيم » ٣ كما عرفت أنّ سبط ابن الجوزي قال في نقله :

« فلان أو ابن أبي قحافة أو أخوتيم » ٤ .

و لنتكلّم على كلّ من الثلاثة : أمّا فلان . فقالوا : فلان و فلانة يكنّى بهما عن الآدمييّن قال تعالى : و يوم يعضّ الظالم على يديه إلى يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا ٥ و الفلان و الفلانة يكنّى بهما عن غير الآدميّين . صرّح بذلك ابن السكّيت و غيره ٦ .

و أمّا « إبن أبي قحافة » فكان أبو قحافة في قريش خاملا من حيث الشخص و من حيث العشيرة . ففي أنساب البلاذري لمّا غز النبي صلّى اللّه عليه و آله الطائف رأى قبر أبي أحية مشرفا . فقال أبو بكر : لعن اللّه صاحب هذا القبر ،

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ١ : ٢٤٩ .

( ٣ ) العلل ١ : ١٥٠ ، و المعاني : ٣٦١

( ٤ ) التذكرة : ١٢٤ .

( ٥ ) الفرقان : ٢٧ .

( ٦ ) نقله عنه و عن غيره ابن منظور في لسان العرب ١٣ : ٣٢٤ ، مادة ( ظن ) .

١٣

فإنّه كان ممّن يحادّ اللّه و رسوله . فقال إبناه عمر و أبان ( و كانا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) : لعن اللّه أبا قحافة . فإنّه لا يقري الضيف ، و لا يدفع الضيم ١ .

و في ( طرائف ابن طاووس ) عن ( مثالب ابن الكلبي ) : كان أبو قحافة ،

و سفيان بن عبد العزيز يناديان على طعام عبد اللّه بن جدعان . قال أمية بن أبي الصلت في رثاء ابن جدعان :

له داع بمكّة مشمعلّ

و آخر فوق دارته ينادي

قال : المراد بالمشمعلّ سفيان ذاك و بقوله « و آخر » أبو قحافة ٢ .

و قال الإسكافي في ( نقض عثمانيته ) : كان أبو قحافة أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان ٣ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : أسلم أبو قحافة يوم فتح مكّة و أتى به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و كأن رأسه ثغامة ( أي نبت جبلي يبيض إذا يبس يقال له بالفارسية درمنه اسبيد ) فأمرهم أن يغيّروه و بايعه ٤ .

و رواه الإسكافي في نقض عثمانيته و زاد إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رآه نفر منه و قال : غيّروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرّة اخرى فأسلم ٥ .

و من الغريب أنّ الجاحظ الصليب الوجه في ( الجعل ) قال : أقبل أبو بكر في الفتح بأبيه ، و هو يومئذ شيخ مكفوف له غديرتان حتّى هجم به على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له : أتيتك بأبي . فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « هلاّ تركت الشيخ في

ــــــــــــــــ

( ١ ) أنساب الاشراف ١ : ١٤٢ .

( ٢ ) الطرائف ٢ : ٤٠٦ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٧٨ ، شرح الخطبة ١٩٠ .

( ٤ ) المعارف : ١٦٧ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٥ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٧٧ ، شرح الخطبة ١٩٠ .

١٤

رحله حتّى آتيه ، ثم مسح يده على صدره ، و دعاه إلى الإسلام . . . » ١ .

هب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان كالامراء الدنيوية ، هل كان أبو قحافة ذا شرف دنيوي حتىّ يأتيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله .

و أما كونه أخاتيم . ففي ( المروج ) قال المدائنى : رئى بالبصرة رجل مصطلم الأذن فسئل عن قصّته . فذكر أنّه خرج يوم الجمل ينظر إلى القتلى .

فنظر إلى رجل منهم يخفض رأسه و يرفعه و هو يقول :

لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا

فلم ننصرف إلاّ و نحن رواء

أطعنا بني تيم لشقوة جدّنا

و ما تيم إلاّ أعبد و إماء

فقلت : سبحان اللّه أتقول هذا عند الموت . قل : لا إله إلاّ الله . فقال : يا ابن اللخناء إيّاى تأمر بالجزع عند الموت . فولّيت عنه متعجبّا . فصاح بي أدن منّي لقّنّى الشهادة . فصرت إليه . فلمّا قربت منه استدناني ثم التقم اذني فذهب بها ،

فجعلت ألعنه و أدعو عليه . فقال : إذا صرت إلى أمّك فقالت : من فعل بك هذا . فقل :

عمير بن الأهلب الضبي مخدوع المرأة التّي أرادت أن تكون أمير المؤمنين ٢ .

و في ( دلائل الإعجاز ) : و روى أنّ سودة أنشدت

« عدي و تيم تبتغي من

تحالف »

و جرى بينهنّ كلام في هذا المعنى . فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فدخل عليهنّ ،

و قال : « يا ويلكنّ ليس في عديّكنّ ، و لا تيمكنّ قيل هذا ، و إنّما قيل هذا في عديّ تميم و تيم تميم ٣ .

قلت : الظاهر أنّ سودة عرّضت بهما تمثّلا بالبيت ، و هما أيضا علمتا أنّها

ــــــــــــــــ

( ١ ) أخرج الحديث أحمد في مسنده ٣ : ١٦٠ ، و الحاكم في المستدرك ٣ : ٢٤٤ و ٢٤٥ ، و ابن حبّان في صحيحه ، و عنه الاصابة ٢ : ٤٦١ ، و ابن هشام في السيرة ٤ : ٣٥ ، و أبو عوانة في مسنده و ابن النجار في تاريخه و عبد الرزاق في جامعه ، و عنهم منتخب كنز العمال ٥ : ٢٣٩ .

( ٢ ) مروج الذهب ٢ : ٣٧٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) دلائل الاعجاز : ١٧ .

١٥

تمثّلت به تعريضا ، و إنّما أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قطع نزاعهن .

و في ( أمثال الكرماني ) : قال المفضل : أوّل من قال « البلاء موكّل بالمنطق » أبو بكر قال ابن عباس : قال عليّ عليه السّلام : لمّا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج و أنا معه و أبو بكر ، فدفعنا إلى مجلس .

فتقدّم أبو بكر ، و كان نسّابة . فقال : ممّن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . فقال : أمن هامتها أم لهازمها ؟ قالوا : من هامتها العظمى . قال : فأيها أنتم ؟ قالوا : ذهل الأكبر . قال : أفمنكم عوف الّذي يقال له « الاحرّ بوادي عوف » ؟ قالوا : لا . قال :

أفمنكم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم جسّاس بن مرّة حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفنكم الحوفزان قاتل الملوك ،

و سالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟

قالوا : لا . قال : أ فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا . قال : فلستم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر . فقام إليه غلام قد بقل وجهه يقال له دغفل فقال :

إنّ على سائلنا أن نسأله

و العب‏ء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا إنّك سألتنا فلم نكتمك شيئا . فمن الرجل ؟ قال : من قريش ، قال :

بخ بخ أهل الشرف و الرياسة . فمن أيّ قريش ؟ قال : من تيم بن مرّة ، قال :

أمكنت و الله الرامي من صفاء الثغرة . أفمنكم قصيّ الّذي جمع القبائل من فهر و كان يدعى مجمّعا ؟ قال : لا . قال : أفمنكم هاشم الّذي هشم الثريد لقومه ، و رجال مكّة مسنتون عجاف ؟ قال : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الّذي كان وجهه قمرا مضيئا يضي‏ء ليل الظلام الداجي ؟

قال : لا . قال : أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا و اجتذب أبو بكر زمام ناقته ، و رجع . فقال : دغفل « صادف درء السيل درء يصدعه » أما و اللّه

١٦

لو ثبت لأخبرتك أنّك من زمعات قريش .

قلت : و ما قاله المفضل من أن أبا بكر أوّل من قال ذاك المثل ، ليس كذلك .

فروي أن الأصل فيه عبيد بن شربة الجرهمي في الجاهلية ، و انما تمثّل به أبو بكر لمّا أراد إظهار إطّلاعه بالأنساب عند دغفل فأخزاه .

و لم يكن في تيم شريف إلاّ ابن جدعان الّذي مرّ انّ أبا قحافة كان ينادي على طعامه ، و يطرد الذباب عن مائدته ، و مع ذلك كان كسب ابن جدعان من بعث جواريه للزنا ، و بيع أولادهن كما صرّح به ابن قتيبة في ( معارفه ) ١ .

و في ( أمثال الكرماني ) أيضا : ارتدّ الأشعث بن قيس الكندي في جملة أهل الردّة . فأتى به أبا بكر أسيرا . فأطلقه ، و زوّجه اخته فروة رغبة منه في شرفه فخرج من عند أبي بكر ، و دخل السوق ، فاخترط سيفه . ثم لم تلقه ذات أربع إلاّ عرقبها من بعير و فرس و بقر ، و مضى فدخل دارا من دور الأنصار .

فصار الناس حشد إلى أبي بكر . فقالوا : هذا الأشعث قد ارتدّ ثانية . فبعث أبو بكر إليه فأشرف إلى السطح ، و قال : يا أهل المدينة إنّي غريب في بلدكم . و قد أولمت بما عرقبت . فليأكل كلّ انسان ما وجد وليغد عليّ كلّ من كان له قبلي حقّ ، فلم يبق دار من دور المدينة إلاّ دخلها من ذلك اللحم ، و لا رئي أشبه بيوم الأضحى من ذاك اليوم ، فضرب أهل المدينة به المثل فقالوا : أو لم من الأشعث ٢ . و قال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخّطا لهذه المصاهرة مخاطبا أبا بكر :

أتيت بكندي قد ارتدّ و انتهى

إلى غاية من نكث ميثاقه كفرا

فكان ثواب النكث إحياء نفسه

و كان ثواب الكفر تزويجه البكرا

ــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف : ٥٧٦ .

( ٢ ) انظر ايضا : الاصابة لابن حجر ١ : ٥١ .

١٧

و لو أنّه يأبى عليك نكاحها

و تزويجها منه لأمهرته مهرا

و لو أنّه رام الزيادة مثلها

لأنكحته عشرا و أتبعته عشرا

فقل لأبي بكر لقد شنت بعدها

قريشا و أخملت النباهة و الذكرا

أما كان في تيم بن مرّة واحد

تزوّجه لو لا أردت به الفخرا

و لو كان لمّا أن أتاك قتلته

لأحرزتها ذكرا و قدّمتها ذخرا

فأضحى يرى ما قد فعلت فريضة

عليك فلا حمدا حويت و لا أجرا

و في ( موفقيات الزبير بن بكار ) و قد نقله ابن أبي الحديد في شرح قوله : « و اعتبروا بحال ولد إسماعيل » أنّ أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري : ما حملك على أن و أدت ؟ قال : مخافة أن يخلف عليهنّ مثلك ١ .

و في ( نقض عثمانية الاسكافي ) : روى الواقدي و غيره : أنّ عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين ، معروق الخدّين . غائر العينين . أجنى لا يمسك إزاره فقالت : ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا قال الاسكافي بعد نقل الرواية ردّا لقول الجاحظ : « كان لأبي بكر وجه عتيق » « فلا نراها دلّت على شي‏ء من الجمال في صفته » ٢ .

و حيث انّ البكر الفتيّ من الإبل و به كني أبو بكر قال أبو سفيان لمّا بويع أبو بكر : يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرذل ابن الرذل ؟ ٣ .

و كانت هوازن تسمّيه ذا الجلال . فلمّا أتاهم بيعته قالوا : لا نبايع ذا

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٤٣ ، شرح الخطبة ١٩٠ .

( ٢ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٧٦ ، شرح الخطبة ١٩٠ .

( ٣ ) روى هذا المعنى عن أبي سفيان ، الجوهري في السقيفة : ٣٨ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٤٤٩ ، سنة ١١ ، و غيرهما .

١٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

الجلال و إنّما سمّوه بذلك لأنّه كان له كساء فدكي يحله عنه إذا ركب و يلبسه إذا نزل .

و لكسائه ذاك سمّاه أهل نجد ذا العباءة . ففي ( سيرة ابن هشام ) : لمّا أتاهم بيعة أبي بكر قالوا : أ نحن نبايع ذا العباءة ؟ قال : كان أبو بكر في غزوة ذات السلاسل الّتي أمّر عليه و على صاحبه عمرو بن العاص عليه عباءة له فدكية يبسطها إذا نزل و يلبسها إذا ركب ، ثمّ يشكّها عليه بخلال له ١ . و في ( شعراء ابن قتيبة ) : قال الحطيئة :

أطعنا رسول الله إذا كان حاضرا

فيالهفتي ما بال دين أبي بكر

أ يورثها بكرا إذا مات بعده

و تلك و بيت الله قاصمة الظهر ٢

و في ( ادباء الحموي ) قال الناشي : قال لي الراضي : أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته :

بني العباس إنّ لكم دماء

أراقتها اميّة بالذحول

فليس بها شمي من يوالي

اميّة و اللعين أبا زبيل

فقال : ما بينك و بين أبي زبيل ، فقلت : أمير المؤمنين أعلم . فابتسم ٣ .

و في ( بلدانه ) في عنوان حضر موت قال حارثة بن سراقة :

أطعنا رسول اللّه ما دام بيننا

فيا قوم ما شأني و شأن أبي بكر

أ يورثها بكرا إذا مات بعده

فتلك لعمر اللّه قاصمة الظهر ٤

و روى محمّد بن محمّد بن النعمان في ( أماليه ) أنّ أبا قحافة لما سمع أنّ ابنه ولي الأمر قال : أرضيت بذلك بنو المغيرة و بنو عبد شمس ؟ قالوا : نعم .

ــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٠٠ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) الشعر و الشعراء : ١١٠ .

( ٣ ) معجم الادباء ١٣ : ٢٨٤ .

( ٤ ) معجم البلدان ٢ : ٢٧١ .

١٩

قال : أ ينكرون النبوّة و يقرّون بالخلافة إن هذا لشي‏ء يراد ١ ؟ و في خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام الطالوتية المروية في روضة الكافي قال عليه السّلام : لو أنّ لي رجالا ينصحون لله و لرسوله ( و كان عليه السلام مرّ على ثلاثين شاة ) بعدد هذه الشياه لأزلت أبن آكلة الذّباب عن ملكه ٢ .

و في كتاب سليم بن قيس قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر : يا ابن صهاك أليس لنا فيها حق ، و هي لك ، و لابن آكلة الذباب ؟ فقال عمر : إنّ العامّة رضوا بصاحبي و لم يرضوا بك فما ذنبي ؟ فقال عليه السّلام : و لكنّ الله و رسوله لم يرضيا إلاّ بي ٣ .

قال ابن أبي الحديد : اسم أبي بكر القديم عبد الكعبة . فسمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عبد الله و اختلفوا في عتيق . فقيل : كان اسمه في الجاهلية ، و قيل : بل سمّاه به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ٤ .

قلت : أهل بيته أعرف به سئل عبد الرحمن بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر عن اسمه . فقال : إسمه عتيق . كان بنو أبي قحافة معتق و عتق و عتيق .

« و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها » أي : من الخلافة بعد مشاهدته مقاماته و سماعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استخلافه .

« محلّ القطب من الرحى » قال الجوهري : « يجوز في قطب الرحى ضمّ القاف و فتحها و كسرها » ٥ ، و قال ابن دريد : « قطب الرحى : الحديدة

ــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي المفيد : ٦٠ ح ٧ ، المجلس ١٠ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) الكافي ٨ : ٣٣ ح ٥ .

( ٣ ) كتاب سليم : ٩١ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٢ .

( ٥ ) صحاح اللغة ١ : ٢٠٤ ، مادة ( قطب ) .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بأسهم بينهم شديد ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله :( وقلوبهم شتى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله :( ذلك بأنّهم لا يعقلون ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم( كمثل الذين من قبلهم ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء( ذاقوا وبال أمرهم ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

٢٦١

الحشر

٥٢

التمثيل الثاني والخمسون

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) .(١)

تفسير الآية هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم :( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه :( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم :( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ) .(٢)

ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

__________________

١ ـ الحشر : ١٦.

٢ ـ الحشر : ١٢.

٢٦٢

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ) .(١)

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأوحى له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.(٢)

__________________

١ ـ الأنفال : ٤٨.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٢٦٥.

٢٦٣

الحشر

٥٣

التمثيل الثالث والخمسون

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول :( وخشعت الأصوات ) ،( خاشعة أبصارهم ) ، (أبصارهم خاشعة ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

__________________

١ ـ الحشر : ٢١.

٢٦٤

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه :( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .(١)

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والأصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية الله ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

__________________

١ ـ البقرة : ٧٤.

٢٦٥

الجمعة

٥٤

التمثيل الرابع والخمسون

( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ) .(١)

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار.(٢)

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

__________________

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ مفردات الراغب : مادة «سفر ».

٢٦٦

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال :( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله :( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ) .

٢٦٧

التحريم

٥٥

التمثيل الخامس والخمسون

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) .(١)

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول :( وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ التحريم : ١٠.

٢٦٨

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ) .(١)

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

١. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه :( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

٢. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أخرى ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأت به ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

٣. انّه سبحانه أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ، كما يقول سبحانه :( وأظهره الله عليه ) أي أطلعه الله عليه.

٤. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « مااستقصى كريم قط ».

٥. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأها به

__________________

١ ـ التحريم : ٣.

٢٦٩

قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه :( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن على أنّ

٢٧٠

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (١) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم :( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .(٢)

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

__________________

١ ـ المؤمنون : ١٠١.

٢ ـ الأعراف : ٣٥.

٢٧١

التحريم

٥٦

التمثيل السادس والخمسون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين * وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) .(١)

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله :( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

__________________

١ ـ التحريم : ١١ ـ ١٢.

٢٧٢

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها :( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمن ات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله :( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

١.( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه :( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) (١) وفي سورة الأنبياء قوله :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ) .(٢)

__________________

١ ـ النساء : ١٥٦.

٢ ـ الأنبياء : ٩١.

٢٧٣

٢.( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال :( فنَفخنا فيها من روحنا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً( فنفخنا فيه من روحنا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

٣.( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

٤.( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

٢٧٤

سبحانه :( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) .(١)

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

١. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(٢)

٢. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ) ».(٣)

٣. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى ».

__________________

١ ـ آل عمران : ٤٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٣٢٠.

٣ ـ و ٤. الدر المنثور : ٨ / ٢٢٩.

٢٧٥

الملك

٥٧

التمثيل السابع والخمسون

( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ) .(١)

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه :( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله :( يمشي سوياً ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

__________________

١ ـ الملك : ٢١ ـ ٢٢.

٢٧٦

 التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٩ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٢٧٧

خاتمة المطاف

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَما هِيَ إلاّ ذِكرى لِلبَشر ) .(١)

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وما أدراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي ولا تَذَرُ * لواحَةٌ للبشرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم(٣) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

__________________

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ المدثر : ٢٦ ـ ٣٠.

٣ ـ الدهم : الجماعة الكثيرة.

٢٧٨

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية :( وَما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله :( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) .(١)

فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

١.( فتنة للذين كفروا ) .

٢.( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ) .

٣.( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ) .

٤.( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) .

٥.( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه :( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه :( وَإذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

__________________

١ ـ النجم : ٥ ـ ٦.

٢٧٩

إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون ) .(١)

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله :( ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) (٢) ومن المعلوم

__________________

١ ـ التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥. ٢ ـ القصص : ٨.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632