• البداية
  • السابق
  • 632 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42110 / تحميل: 4923
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

١ ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

٢٢١

فادهش الجميع ذلك(١) .

٢ ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا(٢) .

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ...ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »(٣) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢ ـ المناقب لابن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢٤.

٣ ـ مريم : ٢٤ و ٢٥.

٢٢٢

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم »عليها‌السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريمعليها‌السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟(١) .

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب(٢) .

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

__________________

١ ـ «وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : ٣٧ ).

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٤٠١.

٢٢٣

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيحعليه‌السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره(١) .

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : «وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »(٢) .

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٢ ـ الصف : ٦.

٣ ـ «الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : ١٥٧ ).

٢٢٤

٧

العَوْدة

إلى اَحضان العائلة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم

٢٢٥

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

٢٢٦

لقد حافظت مرضعةُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) وارضعت في بني سعد »(١) .

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه »(٢) .

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن(٣) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣ ـ كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه »عليه‌السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

٢٢٧

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب‍ « الابواء »(١) .

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به(٢) .

ان القرآن الكريم يُذكّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفترة يتمه ويقول : «ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٨.

٢٢٨

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!!(١) .

كفالة أبي طالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(٢) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

__________________

١ ـ كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ٢ ، ص ١٠ و ١١ من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

٢ ـ في حوادث السنة العاشرة.

٢٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً(١) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب(٢) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٧٩ ، وامهما هي فاطمة المخزومية.

٢ ـ لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ١ ، ص ١٥ طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

٢٣٠

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة(١) .

لقد كانت سفرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

__________________

١ ـ ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات :

إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً

عِندي يفوقُ منازل الأولاد

لما تعَلّق بالزمام رحمتُه

والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد

فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

راعيتُ فيه قرابة موصولة

وحفَظت فيه وصية الأجداد

وأمرتُه بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجاد

حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحُسّاد

( تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ وديوان ابي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ).

٢٣١

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه(١) .

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام(٢) .

وربما قيل أنه تابع ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

__________________

١ ـ روى تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٢ و ٣٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٣ هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٢٣٢

ما أظهره رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد ٢٨ عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

١ ـ لقد كان « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب‍ « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

٢ ـ إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

٢٣٣

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

٣ ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

٤ ـ إذا كان محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرةْ عند

٢٣٤

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : «ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ »(١) .

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

٥ ـ إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام(٢) .

٦ ـ إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

٧ ـ يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم مسبق

__________________

١ ـ النحل : ١٠٣.

٢ ـ تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

٢٣٥

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (٤٤) هكذا : «وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (٤٩) بعد نقل قصة نوح : «تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (٤٤) من سورة « آل عمران » : «ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

٢٣٦

١ ـ داودعليه‌السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة(١) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!!(٢) .

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داودعليه‌السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية ١٥ و ١٦ من سورة النمل ) : «وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

٢ ـ النبيّ سليمانعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمانعليه‌السلام :

١ ـ « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا »(٣) .

أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!!

__________________

١ ـ أي في مقدمة الجيش المحارب.

٢ ـ العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر ٣ إلى ٢٧.

٣ ـ إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول ٦.

٢٣٧

٢ ـ وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!!(١) .

إن سليمان ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمانعليه‌السلام «ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً »(٢) .

ويقول : «وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »(٣) .

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

٣ ـ يعقوبعليه‌السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوبعليه‌السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

__________________

١ ـ التوراة : الملوك الأول الاصحاح : ١١ ، العبارات ١ : ١١.

٢٣٨

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!!(١) .

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : «وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »(٢) .

ويقول تعالى أيضاً : «وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »(٣) .

٤ ـ إبْراهيمعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيمعليه‌السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : ١ إلى ٤٦ ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

٢٣٩

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب »(١) .

إن ابراهيم الخليلعليه‌السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

١ ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٢ ـ إمامُ الناس : «إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : ١٣٤ ).

٣ ـ مُسْلِمٌ : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٤ ـ حَليمٌ : «إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٥ ـ امة كامِلَة بمفرده : «إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : ١٢٠ ).

٦ ـ أواهٌ يَخشى اللّه : «إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٧ ـ مصطفى : «لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : ٤٨ ).

٨ ـ ذو قلب سَليم : «إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : ٤٨ ).

٥ ـ المسيحعليه‌السلام :

إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!!(٢)

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر ١ ـ ٢٠.

٢ ـ إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : ٣١ ـ ٣٥.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

عدي أنّ زيادا قال له : يا عدوّ اللّه ما تقول في أبي تراب ؟ قال : ما أعرف أبا تراب . قال : ما أعرفك به قال : ما أعرفه . قال : أما تعرف عليّ بن أبي طالب ؟ قال :

بلى . قال : فذاك أبو تراب . قال : كلاّ ذاك أبو الحسن و أبو الحسين عليه السّلام . فقال له صاحب الشرطة : يقول لك الأمير هو أبو تراب و تقول أنت لا . قال له : ان كذب الأمير أتريد أن أكذب ، و أشهد له على باطل كما شهد . قال زياد : عليّ بالعصا .

فاتى بها قال : ما قولك فيه ؟ قال : أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد اللّه المؤمنين . قال : اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض . فضرب حتّى لزم الأرض . ثمّ قال : أقلعوا عنه . إيه ما قولك في عليّ ؟ قال : و اللّه لو شرحتني بالمواسي و المدى ما قلت إلاّ ما سمعت منّي . قال : لتلعننّه أو لأضربن عنقك .

قال : اذن تضربها و اللّه قبل ذلك . . . ١ .

ثمّ مع جوازه يجب عليه التورية إن أمكنه ذلك ، روى الكشي أنّ معاوية قال لصعصعة بن صوحان : اصعد المنبر و العن عليّا . فصعده و قال : أيّها الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب . فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب فضجّوا بآمين . فلمّا خبّر معاوية قال : لا و اللّه ما عنى غيري .

أخرجوه لا يساكنني في بلد . فأخرجوه ٢ .

و روى ( العقد ) عن الأعمش قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجّاج و أوقفه على باب المسجد ، فجعلوا يقولون له : العن الكاذبين عليّ بن أبي طالب ، و عبد اللّه بن الزبير ، و المختار بن أبي عبيد . فقال : لعن اللّه الكاذبين ثمّ قال عليّ بن أبي طالب إلى أن قال فعرفت حين سكت ثمّ ابتدأ فرفع أنّه ليس يريدهم ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٩٨ ، سنة ٥١ .

( ٢ ) اختيار معرفة الرجال : ٦٨ ح ١٢٣ ، و النقل بتقطيع .

( ٣ ) العقد الفريد ٥ : ٢٦٩ .

٥٨١

هذا ، و روى ( الكافي ) : أنّ أبا الصباح الكناني قال للصادق عليه السّلام : إنّ لنا جارا يجلس الينا ، فنذكر فضل عليّ عليه السّلام فيقع فيه . أفتأذن لي فيه . فقال عليه السّلام :

دعه فستكفى . فلّما رجعت إلى الكوفة قيل لي بعد ثمانية عشر يوما انّ الرجل ايقظ فإذن هو مثل الزق المنفوخ ميّتا فذهبوا يحملونه . فإذا لحمه يسقط عن عظمه . فجمعوه في نطع فإذا تحته أسود ١ .

« و أمّا البراءة فلا تتبرأوا منّي » قال ابن أبي الحديد : لا فرق عند أصحابنا بين السبّ و التبرّي في جواز فعلهما مع التقية ، و تركهما إعزازا للدين ، و إنما استفحش عليه السّلام البراءة لأنّ هذه اللفظة ما وردت في القرآن إلاّ عن المشركين مثل قوله تعالى : براءة من اللّه و رسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين ٢ فصارت الكلمة بالعرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة ، و أما الإمامية فتروي عنه عليه السّلام أنّه قال : إذا عرضتم على البراءة منّا فمدّوا الأعناق . و يقولون :

لا يجوز التبرّي منه إن كان الحالف صادقا و إنّ عليه الكفارة و يقولون : إنّ حكم البراءة من اللّه تعالى و من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و من أحد الأئمة عليه السّلام واحد ،

و يقولون : إنّ الإكراه على السبّ يبيح إظهاره ، و لا يجوز الاستسلام للقتل معه ،

و أمّا الإكراه على البراءة فإنّه يجوز معه الاستسلام للقتل ، و يجوز إظهار التبري ، و الأولى الاستسلام ٣ .

قلت : كلامه كلّه خلط و خبط . أما قوله صارت كلمة البراءة بالعرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة فجزاف ، فأيّ دلالة للآية على ما قال بعد التصريح فيها بأنّ اللّه و رسوله بري‏ء من المشركين .

ــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه السروي في مناقبه ٤ : ٢٣٩ ، و لم يوجد في الكافي و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) التوبة : ١ .

( ٣ ) شرح ابن ابي الحديد ١ : ٣٧٤ ٣٧٥ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

٥٨٢

و أما قوله فتروي الإمامية عنه عليه السّلام « إذا عرضتم على البراءة منّا فمدوا الأعناق » فبهتان . فالأصل في الرواية العامة و تبعهم المصنّف و قبله شيخه المفيد غفلة فقال في ( ارشاده ) ما استفاض عنه عليه السّلام من قوله : « إنّكم ستعرضون من بعدي على سبّي فسبّوني فإن عرض عليكم البراءة منّي فلا تبرأوا منّي فإنّي ولدت على الاسلام فمن عرض عليه البراءة منّي فليمدد عنقه .

فمن تبرأ منّي فلا دنيا له و لا آخرة » ١ و أما الإماميّة فرووا تكذيب ما نسبوا إليه من أنّه عليه السّلام قال لا تتبرأوا منّي .

روى الكليني في ( باب تقية كافيه ) ، و الحميري في ( قرب إسناده ) عن مسعدة ابن صدقة أنّه قيل لجعفر بن محمّد عليه السّلام : إنّ الناس يروون أنّ عليّا عليه السّلام قال على منبر الكوفة : « أيّها الناس انّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تتبرّأوا منّي » . فقال ، ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السّلام . إنّما قال : « إنّكم ستدعون الى سبّي فسبّوني ثم ستدعون إلى البراءة منّي و إنّي لعلى دين محمّد » و لم يقل « و لا تتبرأوا منّي » . فقال له السائل : أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة . فقال : و اللّه ما ذلك عليه ، و ماله إلاّ ما مضى عليه عمّار حيث أكرهه أهل مكة و قلبه مطمئن بالايمان . فأنزل اللّه فيه إلاّ من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان ٢ فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عندها : يا عمّار ان عادوا فعد فقد أنزل اللّه تعالى عذرك ٣ .

و روى إبراهيم الثقفي في ( غاراته ) و قد نقله ابن أبي الحديد نفسه عن يوسف بن كليب المسعودي ، عن يحيى بن سليمان العبدي ، عن أبي مريم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الإرشاد : ١٦٩ .

( ٢ ) النمل : ١٠٦ .

( ٣ ) رواه الكليني في الكافي ٢ : ٢١٩ ح ١٠ ، و الحميري في قرب الاسناد : ٨ .

٥٨٣

الأنصاري عن محمّد بن علي الباقر عليه السّلام قال : خطب عليّ عليه السّلام على منبر الكوفة .

فقال « سيعرض عليكم سبّي و ستذبحون عليه فإن عرض عليكم سبّي فسبّوني ، و إن عرض عليكم البراءة منّي فإنّي على دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم » و لم يقل فلا تبرأوا منّي .

و عن أحمد بن المفضل عن الحسن بن صالح عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال : قال عليّ عليه السّلام : و اللّه لتذبحنّ على سبّي و أشار بيده إلى حلقه ثمّ قال « فإن أمروكم بسبّي فسبّوني ، و إن أمروكم أن تبرأوا منّي فإنّي على دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم » و لم ينههم عن إظهار البراءة ١ . فهذه ثلاثة أخبار : خبران عن الصادق عليه السّلام و خبر عن الباقر عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لم ينههم عن اظهار البراءة ، و إن نسبة النهي إليه عليه السّلام من العامة .

و بالجملة ، المحقّق من الفرق بين السبّ و البراءة انّه عليه السّلام في السب قال « فسبّوني » ، و أمّا في البراءة فلم يقل « فتبرأوا منّي » و إنّما اقتصر على قوله عليه السّلام « فإنّي على دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم » فتوهّموا انّه نهى فدفع عترته عليه السّلام التوهّم بأنّه اقتصر على ذاك ، و هو أعم من النهي و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال له « الايمان مخالط لحمك و دمك كما خالط لحمي و دمي » ٢ .

و وجه تفريقه عليه السّلام أنّ من يأمرهم بالسبّ يأمرهم لهوى نفسه فلا يقبل جوابه ، و أمّا من يأمرهم بالتبرّي فإنّما يأمرهم بالتبرّي منه عليه السّلام أي من دينه .

فعلّمهم عليه السّلام كيف يجيبونهم بأنّ دين عليّ عليه السّلام دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هم كانوا في الظاهر مقرّين به و لا يمكنهم انكاره .

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عن الغارات ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٣٧٢ ، شرح الخطبة ٥٧ ، لكن لم يوجد في النسخة المطبوعة .

( ٢ ) أخرجه في ضمن حديث الثقفي في المعرفة عنه أعلام الورى : ١٨٦ ، و ابن المغازلي في مناقبه : ٢٣٧ ح ٢٨٥ ، و الصدوق في أماليه : ٨٦ ح ١ ، المجلس ٢١ ، و الكراجكي في كنز الفوائد : ٢٨١ و غيرهم .

٥٨٤

روى الطبري أنّ شرطة معاوية لمّا قتلوا حجرا مع خمسة من أصحابه لعدم قبولهم التبرّي قال عبد الرحمن بن حسان العنزي ، و كريم بن عفيف الخثعمي : إبعثوا بنا إلى معاوية فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته . فبعثوا بهما إليه فقال الخثعمي له : اللّه اللّه يا معاوية فإنّك منقول من هذ الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ثمّ مسؤول عمّا أردت بقتلنا ، و فيم سفكت دماءنا . فقال له معاوية : ما تقول في عليّ ؟ قال : أقول فيه قولك أتبرأ من دين عليّ الّذي كان يدين اللّه به ١ .

و في ( الإرشاد ) : روى أصحاب السيرة من طرق مختلفة أنّ الحجاج قال لقنبر : إبرأ من دين عليّ . قال . فإذا برئت من دينه تدلّني على دين أفضل من دينه . قال : إنّي قاتلك . فقال له : إنّه عليه السّلام أخبرني أن منيتي تكون ذبحا ظلما بغير حقّ . فأمر به فذبح ٢ .

و في ( كامل المبرد ) ، و من شعر علي عليه السّلام الّذي لا اختلاف فيه أنّه قاله و كان يردّده :

يا شاهد اللّه علي فاشهد

أنّي على دين النبيّ أحمد

من شك في اللّه فإنّي مهتدي ٣

و في كتاب الحسين عليه السّلام إلى معاوية كما في ( رجال الكشّي و خلفاء القتيبي ) : أو لست صاحب الحضرميّين الّذين كتب فيهم ابن سميّة انّهم كانوا على دين عليّ فكتبت إليه ان اقتل كلّ من كان على دين عليّ . فقتلهم ، و مثّل بهم بأمرك ، و دين عليّ و اللّه الّذي كان يضرب عليه أباك و يضربك ، و به جلست

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٢٠٦ ، سنة ٥١ .

( ٢ ) الإرشاد : ١٧٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) كامل المبرد ٧ : ١٠٩ .

٥٨٥

مجلسك الّذي جلست ، و لو لا ذلك لكان شرفك ، و شرف أبيك الرحلتين ١ .

و حجر بن عدي مع أصحابه كانوا أربعة عشر تبرّأ نصفهم و هم كريم بن عفيف ، و عبد اللّه بن حوية ، و عاصم بن عوف ، و ورقاء بن سمي ، و الأرقم بن عبد اللّه ، و عتبة بن الأخنس ، و سعد بن نمران ، فنجوا ، و أبي نصفهم فقتلوا ، و هم حجر ، و عبد الرحمن العنزي ، و شريك بن شدّاد ، و صيفي بن فسيل ، و قبيصة بن ضبيعة ، و محرز بن شهاب ، و كدام بن حيان .

و روى النسوي أنّ عليّا عليه السّلام قال : يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الاخدود ٢ .

و في ( المروج ) : لمّا صار حجر و أصحابه إلى مرج عذراء على اثني عشر ميلا من دمشق تقدّم البريد بخبرهم إلى معاوية . فبعث برجل أعور .

فلمّا أشرف عليهم قال رجل من أصحاب حجر : إن صدق الزجر فإنّه يقتل منّا النصف ، و ينجو الباقون فقيل له و كيف ذلك ؟ قال : أما ترون الرجل المقبل مصابا بإحدى عينيه . فلمّا وصل اليهم قال لحجر إنّ الخليفة أمرني بقتلك يا رأس الضلال ، و معدن الكفر و الطغيان ، و المتولي لأبي تراب إلاّ أن ترجعوا عن كفركم ، و تلعنوا صاحبكم ، و تبرأوا منه . فقال حجر و جماعة من أصحابه إنّ الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا ممّا تدعونا إليه ، و أجاب نصفهم إلى البراءة منه عليه السّلام . فلمّا قدّم حجر ليقتل قال دعوني اصلّي ركعتين . فجعل يطول في صلاته . فقيل له : أجزعا من الموت . فقال : لا و لكنّي ما تطهرت للصلاة قط إلاّ صليت و ما صلّيت قطّ أخفّ من هذه ، و كيف لا أجزع ، و انّي لأرى قبرا محفورا

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الكشي في معرفة الرجال اختياره : ٥٠ ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١ : ١٨٠ ، و الطبرسي في الاحتجاج ٢ : ٢٩٧ .

( ٢ ) رواه عن تاريخ النسوي السروي في مناقبه ٢ : ٢٧٢ .

٥٨٦

و سيفا مشهورا ، و كفنا منشورا ، ثمّ قدّم فنحر ، و الحق به من وافقه منهم ١ .

و في ( تاريخ الطبري ) : لمّا أرادوا قتل حجر قال لمن حضره ، من أهله : لا تطلقوا عنّي حديدا ، و لا تغسلوا عنّي دما . فإنّي الاقي معاوية غدا على الجادة فكان محمّد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد هل يغسّل حدّثهم حديث حجر ،

و قال بلغنا أنّ معاوية لمّا حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ، و يقول يومي منك يا حجر طويل ٢ .

و فيه قال معاوية لعبد الرحمن العنزي : ما قولك في عليّ قال : لا تسألني خير لك قال : لا أدعك حتّى تخبرني . قال : أشهد انّه كان من الذاكرين اللّه كثيرا ،

و من الآمرين بالحقّ ، و القائمين بالقسط ، و العافين عن الناس . قال : فما قولك في عثمان ؟ قال : هو أوّل من فتح باب الظلم ، و أرتج ابواب الحقّ . فبعث معاوية به إلى زياد ، و كتب إليه اقتله شرّ قتلة . فبعث به زياد إلى قسّ الناطف فدفن به حيّا ٣ .

و ممّن عرض عليه البراءة فأبى و قتل رشيد الهجري ، و ميثم التمّار .

روى الكشي عن قنواء بنت رشيد عن أبيها قال : قال لي أمير المؤمنين عليه السّلام كيف صبرك إذا أرسل اليك دعيّ بني أميّة . فقطع يديك و رجليك و لسانك ؟

قالت : فو اللّه ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيد اللّه بن زياد الدعيّ فدعاه إلى البراءة منه عليه السّلام فأبى أن يبرأ . . . ٤ .

و عن ميثم قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني اميّة ابن دعيّها عبيد اللّه بن زياد إلى البراءة منّي ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٩٠ ، سنة ٥١ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٦ ، سنة ٥١ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) اختيار معرفة الرجال : ٧٥ ح ١٣١ ، و النقل بتلخيص .

٥٨٧
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

أنا و اللّه لا أبرأ منك . قال : إذن و اللّه يقتلك و يصلبك . قلت : أصبر فذاك في اللّه قليل . . . ١ .

و كيف يصحّ ما قاله من أنّ الإماميّة تروي أنّه لا يجوز التبرّي منه و قد روى الكليني في باب تقيته أنّه قيل للباقر عليه السّلام : رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما : ابرءا من عليّ . فبرى‏ء واحد منهما ، و أبي الآخر . فخلّى سبيل الّذي برى‏ء ، و قتل الآخر . فقال : أمّا الذي برى‏ء فرجل فقيه في دينه ، و أما الّذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة .

و عن الصادق عليه السّلام ما منع ميثم رحمه اللّه من التقية فو اللّه لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمّار و أصحابه إلاّ من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان ٢ . و مرّ أنّ ميثما دعي الى البراءة .

هذا ، و روى ( ذيل الطبري ) : أنّ الحجاج قال للحسن البصري : ما تقول في أبي تراب ؟ قال : و ما عسى أن أقول إلاّ ما قال اللّه تعالى . قال : و ما قال ؟ قال : قال :

و ما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه و إن كانت لكبيرة إلاّ على الّذين هدى اللّه ٣ و كان عليّ ممّن هدى اللّه .

فغضب ، ثمّ أكبّ ينكت الأرض ، و خرجت لم يعرض لي أحد ، فتواريت تسع سنين حتّى مات ٤ .

و أمّا قوله : « و يقولون لا يجوز التبرّي منه إن كان الحالف صادقا و انّ عليه الكفّارة . . . » فخلط منه ، فإنّ كلامنا في الإكراه على التبرّي منه عليه السّلام ، و ما ذكره أمر آخر ، و هو عدم جواز الحلف بالبراءة لمن كان صادقا ، و هو لا

ــــــــــــــــ

( ١ ) اختيار معرفة الرجال : ٨٣ ح ١٣٩ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٢٢٠ و ٢٢١ ح ١ و ٢١ ، ١٥ . و الآية ١٠٦ من سورة النحل .

( ٣ ) البقرة : ١٤٣ .

( ٤ ) منتخب ذيل المذيل : ١٢٦ .

٥٨٨

يناسب هنا بل كلامه عليه السّلام في احلاف الظالم و المبطل بالبراءة من اللّه تعالى حتّى يعجل تعالى منه الانتقام .

« فإنّي ولدت على الفطرة » قال ابن أبي الحديد : ولد عليه السّلام لثلاثين من عام الفيل و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعث لأربعين منه ، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليلة ولادته عليه السّلام :

« لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح اللّه علينا به أبوابا كثيرة من النعمة و الرحمة » .

و يمكن أن يكون مراده عليه السّلام بالفطرة العصمة ، و أنّه عليه السّلام منذ ولد لم يواقع قبيحا ، و لا كان كافرا طرفة عين ، و لا مخطئا ، و لا غالطا في شي‏ء من الأشياء المغلقة ، و هذا تفسير الإمامية ١ قلت : و رواه العامة أيضا .

ففي ( مسند أحمد بن حنبل ) عن سليمان قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : كنت أنا و عليّ نورا بين يدي اللّه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام . فلمّا خلق اللّه آدم قسّم ذلك النور جزأين : فجزء أنا و جزء عليّ ٢ .

و رواه ابن المغازلي ، و في آخره بعد قوله « جزأين » « جزء في صلب عبد اللّه ، و جزء في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا و أخرج عليّا وصيّا » ٣ .

و عن ابن مسعود قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم انّي جاعلك للناس إماما إلى أن قال قال : قال « و من ذرّيتي » الى أن قال قال تعالى لا أعطيك لظالم من ذريّتك . قال إبراهيم عندها « و اجنبني و بنيّ أن نعبد الأصنام » قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : فانتهت الدعوة إليّ و إلى عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قط . فاتخذني اللّه نبيّا و اتّخذ عليّا وصيّا ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧٥ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) رواه عن مسند أحمد : ابن طاووس في الطرائف ١ : ١٥ ح ١ ، و لم يوجد فيه بل اخرجه أحمد في الفضائل ، عنه تذكرة الخواص : ٤٦ .

( ٣ ) مناقب ابن المغازلي : ٨٩ ح ١٣٢ .

( ٤ ) مناقب ابن المغازلي : ٢٧٦ ح ٣٢٢ .

٥٨٩

« و سبقت إلى الإيمان » قال المأمون كما في ( العقد ) لإسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد في ما حاجّه في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام : هل علمت أحدا سبق عليّا عليه السّلام إلى الاسلام ؟ قال إسحاق : إنّ عليّا أسلم و هو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكم ، و أبو بكر أسلم و هو مستكمل يجوز عليه الحكم .

قال له المأمون : أخبرني أيّهما أسلم قبل ثمّ أناظرك بعد في الحداثة . قال إسحاق : عليّ أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة . قال له المأمون : أخبرني عن إسلام عليّ عليه السّلام حين أسلم لا يخلو من أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم دعاه إلى الاسلام ، أو يكون إلهاما من اللّه تعالى . فأطرق .

فقال له المأمون : لا تقل إلهاما فتقدّمه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يعرف الإسلام حتّى أتاه جبرئيل عليه السّلام عن اللّه تعالى . قال إسحاق : بل دعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

قال المأمون : فهل يخلو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين دعاه من أن يكون دعاه بأمر اللّه أو تكلّف ذلك من نفسه . فأطرق .

قال له المأمون : لا تنسب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى التكلّف فإنّ اللّه تعالى يقول و ما أنا من المتكلّفين ١ قال إسحاق : أجل بل دعاه بأمر اللّه تعالى .

قال له المأمون : هل من صفة الجبّار جلّ ذكره أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه الحكم ؟ و في قياس قولك « أسلم عليّ و هو صبي لا يجوز عليه حكم » قد كلّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون ، فهل يدعوهم الساعة ، و يرتدّون بعد ساعة . فلا يجب عليهم في ارتدادهم شي‏ء ، و لا يجوز عليهم حكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أترى عندك جائزا أن تنسب هذا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟

قال إسحاق : أعوذ باللّه .

ــــــــــــــــ

( ١ ) ص : ٨٦ .

٥٩٠

قال له المأمون : فأراك يا إسحاق إنّما قصدت لفضيلة فضّل بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليّا عليه السّلام على هذا الخلق أبانه بها منهم ليعرفوا فضله ، و لو كان اللّه أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليّا . . . ١ .

« و الهجرة » قال ابن أبي الحديد : يمكن أن يريد عليه السّلام بسبقه في هجرته غير هجرة المدينة فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم هاجر عن مكّة مرارا يطوف على أحياء العرب ،

و ينتقل من أرض قوم إلى غيرها ، و كان عليّ عليه السّلام معه دون غيره إلى أن قال و أما هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى بني عامر بن صعصعة و إخوانهم من قيس عيلان . فإنّه لم يكن معه إلاّ عليّ عليه السّلام وحده ، و ذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحى تعالى إليه أخرج منها فقد مات ناصرك ، فخرج إلى بني عامر ، و معه عليّ عليه السّلام وحده . فعرض نفسه عليهم ، و سألهم النصر ، و تلا عليهم القرآن فلم يجيبوه .

فعاد إلى مكّة و كانت مدّة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيّام ، و هي أوّل هجرة هاجرها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه ٢ .

١٦

الخطبة ( ٧١ ) و من كلام له ع قاله ؟ لمروان بن الحكم ؟ ؟ بالبصرة ؟

قَالُوا : أُخِذَ ؟ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ ؟ أَسِيراً ؟ يَوْمَ اَلْجَمَلِ ؟ فَاسْتَشْفَعَ ؟ اَلْحَسَنَ ؟

وَ ؟ اَلْحُسَيْنَ ع ؟ إِلَى ؟ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع ؟ فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالاَ لَهُ يُبَايِعُكَ يَا ؟ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ ع أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ ؟ عُثْمَانَ ؟ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِكَّفِّهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ اَلْكَلْبِ أَنْفَهُ وَ هُوَ أَبُو اَلْأَكْبُشِ

ــــــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد ٥ : ٣١٩ ٣٢٠ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧٨ ٣٧٩ .

٥٩١

اَلْأَرْبَعَةِ وَ سَتَلْقَى اَلْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ « قالوا أخذ مروان بن الحكم » روى ( الروضة ) عن الصادق عليه السّلام قال :

خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حجرته و مروان و أبوه يستمعان إلى حديثه . فقال له :

الوزغ ابن الوزغ . فمن يومئذ يرون أنّ الوزغ يسمع الحديث .

و عن الباقر عليه السّلام : لمّا ولد مروان عرضوا به للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يدعو له فأرسلوا به إلى عائشة ليدعو له . فلمّا قرّبته منه قال : أخرجوا عنّي الوزغ ابن الوزغ قال زرارة : لا أعلم إلاّ أنّه قال ، و لعنه ١ .

و في ( حياة الحيوان ) للدميرى : روى الحاكم في ( الفتن و الملاحم من مستدركه ) عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد مولود إلاّ أتى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيدعو له فأدخل عليه مروان . فقال : هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون .

و عن محمّد بن زياد قال : لمّا بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان : سنّة أبي بكر و عمر . فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنّة هرقل و قيصر . فقال له مروان : أنت الّذي أنزل اللّه فيك و الذي قال لوالديه افّ لكما فبلغ ذلك عائشة . فقالت : كذب و اللّه ما هو به و لكنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن أبا مروان و مروان في صلبه ٢ .

و في ( نقض عثمانية الاسكافي ) : كان مروان مجاهرا بالإلحاد ، هو و أبوه ، و هما الطريدان اللعينان . كان أبوه عدوّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يحكيه في مشيه ،

و يغمز عليه عينه ، و يدلع لسانه ، و يتهكّم به ، و يتهانف عليه هذا و هو في قبضته و تحت يده ، و هو يعلم أنّه قادر على قتله أيّ وقت شاء . فهل يكون هذه إلاّ من

ــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٨ : ٣٣٨ ح ٣٢٣ ٣٢٤ .

( ٢ ) حياة الحيوان ٢ : ٣٩٩ ، و المستدرك ٤ : ٤٧٩ و ٤٨١ .

٥٩٢

شانئ شديد البغضة حتّى أفضى أمره إلى أن طرده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و سيّره إلى الطائف و أمّا مروان ابنه فأخبث عقيدة و أعظم الحادا و كفرا ١ .

و في ( الاستيعاب ) في هند بن أبي هالة عن هند قال : مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأبي مروان فجعل يغمزه . فالتفت فقال « اللّهمّ اجعل به وزغا » و الوزغ :

الارتعاش فرجف مكانه ٢ .

و روى المدائني خبرا طويلا في محاجّة ابن عباس في مجلس معاوية مع مروان و غيره إلى أن قال فقال مروان : يا ابن عباس انّك لتصرف بنابك و توري نارك كأنّك ترجو الغلبة و تؤمّل العافية ، و لو لا حلم معاوية عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره ، و لعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقّه منكم ، و لئن عفا عن جرائركم . فقديما نسب إلى ذلك .

فقال ابن عباس : و إنّك لتقول ذلك يا عدوّ اللّه ، و طريد رسول اللّه و المباح دمه ، و الداخل بين عثمان و رعيته بما حملهم على قطع أوداجه ، و ركوب أثباجه . اما و اللّه لو طلب معاوية ثأره لأخذك به ، و لو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله و آخره ٣ .

و في ( الاحتجاج ) : قال الحسن عليه السّلام لمروان في مجلس معاوية : و ما زادك اللّه يا مروان بما خوّفك إلاّ طغيانا كبيرا و صدق اللّه و صدق رسوله يقول اللّه تعالى و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغيانا كبيرا ٤ .

و فيه : عن محمّد بن السائب قال مروان يوما للحسين عليه السّلام : لو لا فخركم

ــــــــــــــــ

( ١ ) لم يوجد في النسخة المطبوعة من النقض .

( ٢ ) الاستيعاب ٣ : ٦٠٣ .

( ٣ ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٨٢ .

( ٤ ) الاحتجاج ١ : ٢٧٩ . و الآية ٦٠ من سورة الاسراء .

٥٩٣

بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا ؟ فوثب الحسين عليه السّلام و كان شديد القبضة فقبض على حلقه فعصره و لوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ثم تركه و أقبل الحسين عليه السّلام على جماعة من قريش فقال : أنشدكم باللّه ان صدّقتموني إن صدقت . أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم منّي و من أخي أو على ظهر الأرض ابن بنت نبيّ غيري و غير أخي . قالوا : اللّهمّ لا .

قال : و إنّي لا أعلم أنّ في الأرض ملعونا ابن ملعون غير هذا و أبيه طريدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . و اللّه ما بين جابرس و جابلق أحدهما بباب المشرق و الآخر بباب المغرب رجلا ممّن ينتحل الإسلام أعدى لله و لرسوله و لأهل بيته منك و من أبيك إذا كان ، و علامة قولي فيك أنّك إذا غضبت سقط رداؤك من منكبك ، قال : فو اللّه ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض و سقط ردائه عن عاتقه ١ .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : ذكر هشام الكلبي عن محمّد بن إسحاق قال : بعث مروان و كان واليا على المدينة رسولا إلى الحسن عليه السّلام فقال له : يقول لك مروان : أبوك الّذي فرّق الجماعة ، و قتل عثمان ، و أباد العلماء و الزهاد يعني الخوارج و أنت تفخر بغيرك . فإذا قيل لك : من أبوك تقول :

خالي الفرس . فجاء الرسول إلى الحسن عليه السّلام فقال له : أتيتك برسالة ممّن يخاف سطوته ، و يحذر سيفه . فإن كرهت لم أبلغك و وقيتك بنفسي .

فقال الحسن عليه السّلام : لا بل تؤديها ، و نستعين عليه باللّه . فأدّاها فقال له :

تقول لمروان : إن كنت صادقا فاللّه يجزيك بصدقك ، و ان كنت كاذبا فاللّه أشدّ نقمة . فخرج الرسول من عنده . فلقيه الحسين عليه السّلام فقال : من أين أقبلت . فقال :

من عند أخيك الحسن عليه السّلام . فقال : و ما تصنع ؟ قال : أتيت برسالة من عند

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحتجاج ٢ : ٢٩٩ .

٥٩٤

مروان . فقال : و ما هي ؟ فامتنع الرسول من أدائها . فقال : لتخبرني أو لأقتلنّك .

فسمع الحسن عليه السّلام فخرج ، و قال لأخيه : خلّ عن الرجل . فقال : لا و اللّه حتّى أسمعها فأعادها الرسول عليه . فقال له الحسين عليه السّلام : قل له يقول لك الحسين بن علي و ابن فاطمة : « يا ابن الزرقاء الداعية إلى نفسها بسوق ذي المجاز ،

و صاحبة الراية بسوق عكاظ ، و يا ابن طريد الرسول و لعينه إعرف من أنت ،

و من أبوك ، و من امّك » .

فجاء الرسول إلى مروان فأعاد عليه ما قالا . فقال للرسول : ارجع إلى الحسن و قل له : أشهدك أنّك ابن الرسول ، و قل للحسين : أشهد أنّك ابن عليّ بن أبي طالب .

فقال الحسين عليه السّلام للرسول : قل لمروان كلاهما لي رغما لك . قال الأصمعي : أمّا قول الحسين عليه السّلام : « يا ابن الداعية إلى نفسها » فذكر ابن إسحاق ان امّ مروان اسمها اميّة و كانت من البغايا في الجاهلية ، و كانت لها راية مثل راية البيطار تعرف بها ، و كانت تسمّى امّ حنبل الزرقاء ، و كان مروان لا يعرف له أب و إنّما نسب إلى الحكم كما نسب عمرو إلى العاص .

و أما قوله يا ابن طريد الرسول : يشير إلى الحكم بن أبي العاص بن اميّة بن عبد شمس أسلم يوم الفتح ، و سكن المدينة ، و كان ينقل أخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى الكفار من الاعراب ، و غيرهم ، و يتجسّس عليه .

قال الشعبي : و ما أسلم إلاّ لهذا ، و رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوما و هو يمشي و يتخلج في مشيته يحاكي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فقال له كذلك . فما زال يمشي كأنّه يقع على وجهه و نفاه إلى الطائف ، و لعنه . فلمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كلّم عثمان أبا بكر أن يردّه لأنه كان عمّه . فقال أبو بكر : هيهات شي‏ء فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و اللّه لا اخالفه أبدا . فلمّا ولي عمر بعده كلّمه ، فقال : و اللّه لا كان هذا أبدا . فلمّا ولي عثمان بعده ردّه في اليوم الّذي تولى فيه ، و قرّبه و أدناه ، و دفع له مالا عظيما ،

٥٩٥

و رفع منزلته . فقام المسلمون على عثمان ، و أنكروا عليه ، و هو أوّل ما أنكروا عليه . فامتنع جماعة من الصحابة من الصلاة خلف عثمان لذلك . ثمّ توفّي الحكم في خلافته . فصلّى عليه و مشى خلفه . فشقّ ذلك على المسلمين ، و قالوا ما كفاك ما فعلت حتّى تصلّي على منافق ملعون لعنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نفاه ،

فخلعوه و قتلوه .

و أعطى عثمان ابنه مروان خمس غنائم أفريقيّة خمسمئة ألف دينار ،

و لما بلغ ذلك عائشة أرسلت إلى عثمان : أما كفاك أنّك رددت المنافق حتّى تعطيه أموال المسلمين ، و تصلّي عليه و تشيّعه ، و بهذا السبب قالت : اقتلوا نعثلا قتله اللّه فقد كفر ، و كان مروان يشتم عليّا عليه السّلام يوم الجمعة على المنبر ،

و كان الحسن عليه السّلام يقعد في حجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى يفرغ ثمّ يخرج فيصلّي خلفه ١ .

و في ( الصحاح ) : خيط باطل هو الّذي يقال له لعاب الشمس ، و مخاط الشيطان و كان مروان يلقّب بذلك لأنّه كان طويلا مضطربا ٢ .

و في ( المروج ) : لمّا قتل عبد الملك عمرو بن سعيد الأشدق قالت اخته :

غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل

و كلّكم يبني البيوت على غدر ٣ .

و في ( تاريخ الطبري ) بعد ذكر أنّ الوليد رخّص للحسين عليه السّلام في الانصراف لمّا دعاه لبيعة يزيد قال مروان للوليد : إحبس الرجل ، و لا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه . فوثب عند ذلك الحسين عليه السّلام فقال : يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو ؟ إلى أن قال :

ــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص : ٢٠٧ ٢٠٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) صحاح اللغة ٢ : ١١٢٥ ١١٢٦ ، مادة ( خيط ) .

( ٣ ) مروج الذهب ٣ : ٣٠٦ .

٥٩٦

فقال مروان للوليد : عصيتني . فقال له الوليد : اخترت لي التّي فيها هلاك ديني . و اللّه إنّي لأظنّ أمرءا يحاسب بدم الحسين عليه السّلام لخفيف الميزان عند اللّه يوم القيامة . فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت في ما صنعت يقول له هذا و هو غير حامد له على رأيه ١ .

و في ( الأغاني ) : إستأذن اسماعيل بن يسار النسائي على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوما . فحجبه ساعة ثمّ أذن له . فدخل يبكي . فقال له الغمر : مالك تبكي ؟ فقال : و كيف لا أبكي و أنا على مروانيتي و مروانية أبي احجب عنك .

فجعل يعتذر إليه . و هو يبكي . فما سكت حتّى وصله الغمر بجملة لها قدر . ثمّ خرج من عنده فلحقه رجل : فقال له : ويلك يا اسماعيل أيّ مروانية كانت لك أو لأبيك . قال : بغضنا إيّاهم فامرأته طالق إن لم تكن امّه تلعن مروان و اللّه كلّ يوم مكان التسبيح ، و إن لم يكن أبوه حضره الموت فقيل له : قل : لا إله إلاّ اللّه . فقال :

لعن اللّه مروان . تقربا بذلك إلى اللّه تعالى و إبدالا له من التوحيد ، و إقامة له مقامه ٢ .

و فيه زعم أهل اليمامة و عكل و غيرهم أنّ ثلاثة نفر أبو حفصة جدّ مروان بن أبي حفصة الشاعر ، و رجل من تميم ، و رجل من سليم أتوا مروان فباعوا أنفسهم منه في مجاعة نالتهم ، فاستعدى أهل بيوتاتهم عليهم فأقرّ السلمي أنّه من العرب و أنّه إنّما أتى مروان فباعه نفسه . فدسّ إليه مروان من قتله . فلمّا رأى ذلك الآخران ثبتا على أنّهما موليان لمروان ٣ .

« أسيرا يوم الجمل . فاستشفع الحسن و الحسين عليه السّلام إلى أمير

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٢٥١ ، سنة ٦٠ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ٤ : ٤١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) الأغاني ١٠ : ٧٣ .

٥٩٧

المؤمنين عليه السّلام فكلّماه فيه فخلّى سبيله » في ( المروج ) : دخل عليّ عليه السّلام على عائشة بعد أن بعث ابن عباس اليها يأمرها بالخروج إلى المدينة ، و معه الحسن و الحسين عليه السّلام و باقي أولاده ، و أولاد إخوته ، و فتيان أهله من بني هاشم ، و غيرهم من شيعته فلمّا بصرت به النسوان صحن في وجهه ، و قلن : يا قاتل الأحبة . فقال عليه السّلام : لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذا البيت و أشار إلى بيت من البيوت قد اختفي فيه مروان ، و عبد اللّه بن الزبير ، و عبد اللّه بن عامر ،

و غيرهم فضرب من كان معه بأيديهم إلى قوائم سيوفهم لمّا علموا من في البيت مخافة أن يخرجوا فيغتالوهم إلى أن قال فسألته عائشة أن يؤمّن ابن اختها عبد اللّه بن الزبير فآمنه ، و تكلّم الحسن و الحسين عليه السّلام في مروان فآمنه ١ .

و لكن روى ( الخرائج ) : أنّ ابن عباس استشفع له ، فروى عن رجل من مراد قال كنت واقفا على رأس أمير المؤمنين عليه السّلام يوم البصرة إذ أتاه ابن عباس بعد القتال . فقال : إنّ لي حاجة . فقال عليه السّلام : ما أعرفني بالحاجة الّتي جئت فيها تطلب الأمان لابن الحكم . قال : ما جئت إلاّ لتؤمنه . قال : قد آمنته ، و لكن اذهب و جئني به و لا تجئني به إلاّ رديفا فإنّه أذلّ له . فجاء به ابن عباس مردفا خلفه كأنّه قرد . . . ٢ و كذا رواه ( جمل المفيد ) عن الواقدي فقال : قال لمّا فرغ عليّ عليه السّلام من أهل الجمل جاء فتيان من قريش يسألونه الأمان ، و أن يقبل منهم البيعة .

فاستشفعوا إليه بعبد اللّه بن العباس فشفّعه ، و أمر لهم في الدخول عليه . فلمّا مثلوا بين يديه قال لهم : ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني ؟ على أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٣٦٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الخرائج و الجرائح ١ : ١٨٦ .

٥٩٨

حكمت فيكم بغير عدل ؟ أو قسمت بينكم بغير سوية ؟ أو استأثرت عليكم ؟ أو لبعدي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ أو لقلّة بلاء منّي في الإسلام ؟ فقالوا : نحن إخوة يوسف فاعف عنّا ، و استغفر لنا . فنظر إلى أحدهم فقال : من أنت ؟ قال : أنا مساحق بن مخرمة معترف بالزلّة ، مقرّ بالخطيئة ، تائب من ذنبي . فقال عليه السّلام :

قد صفحت عنكم ، و ايّم اللّه إنّ فيكم من لا ابالي بايعني بكفّه أو باسته ، و لئن بايعني لينكثن ، و تقدم إليه مروان ، و هو متّكئ على رجل فقال له : ما بك ؟ هل بك جراحة ؟ قال : نعم ، و ما أراني إلاّ لما بي . فتبسّم عليّ عليه السّلام و قال : لا و اللّه ما أنت لما بك ، و ستلقى هذه الامّة منك و من ولدك يوما أحمر ١ .

و ظاهر خبر أبي مخنف عدم استشفاع أحد فيه ، و في جمع آخر معه .

ففي ( جمل المفيد ) أيضا : روى أبو مخنف عن العدوي عن أبي هشام ،

عن البريد عن عبد اللّه بن المخارق ، عن هاشم بن مساحق القرشي ، عن أبيه قال : لما انهزم الناس يوم الجمل إجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان .

فقال بعضهم لبعض : و اللّه لقد ظلمنا هذا الرجل ، و نكثنا بيعته من غير حدث ،

و اللّه لقد ظهر علينا . فما رأينا قط أكرم سيرة منه ، و لا أحسن عفوا منه بعد الرسول . تعالوا حتّى ندخل عليه ، و نعتذر إليه في ما صنعناه . فصرنا إلى بابه .

فاستأذنّاه . فأذن لنا . فلمّا مثلنا بين يديه جعل متكلّما يتكلّم . فقال عليّ عليه السّلام :

أنصتوا أكفكم إنّما أنا بشر مثلكم فإن قلت حقّا فصدّقوني ، و إن قلت باطلا ردّوا عليّ . انشدكم اللّه أتعلمون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبض و أنا أولى الناس به و بالناس من بعده . قالوا : اللهمّ نعم ، قال : فعدلتم عنّي و بايعتم أبا بكر فأمسكت ، و لم أحبّ أن أشقّ عصا المسلمين ، و افرّق بين جماعاتهم . ثمّ إنّ أبا بكر جعلها لعمر من بعده . فكففت و لم اهيّج الناس ، و قد علمت أنّي كنت أولى

ــــــــــــــــ

( ١ ) الجمل ٢٢٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٥٩٩

الناس باللّه و برسوله ، و بمقامه . فصبرت حتّى قتل و جعلني سادس ستّة .

فكففت ، و لم احبّ أن افرّق بين المسلمين . ثمّ بايعتم عثمان فطعنتم عليه ،

و قتلتموه ، و أنا جالس في بيتي و أتيتموني و بايعتموني كما بايعتم أبا بكر و عمر . فما بالكم و فيتم لهما و لم تفوا لي ؟ و ما الّذي منعكم من نكث بيعتهما ،

و دعاكم إلى نكث بيعتي ؟ فقالوا له : كن يا أمير المؤمنين كالعبد الصالح إذ قال لا تثريب عليكم اليوم ١ . فقال عليه السّلام : لا تثريب عليكم اليوم ، و إنّ فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث باسته يعني مروان بن الحكم ٢ .

هذا ، و كما أطلق عليه السّلام مروان بعد أسره مع عداوته تلك ، أطلق الوليد بن عقبة مع كونه مثل مروان في العداوة له .

ففي ( كنايات الجرجاني ) : أتى علي عليه السّلام بالوليد بن عقبة أسيرا يوم الجمل ، فقال لمّا رآه :

هنيدة قد حللت بدار قوم

هم الأعداء و الأكباد سود

هم أن يظفروا بي يقتلوني

و إن أظفر فليس لهم جلود

« فقالا له يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام : أ و لم يبايعني بعد قتل عثمان » و ما في ( المصرية ) « قبل قتل عثمان » غلط واضح .

في ( تاريخ اليعقوبي ) : بايع الناس بعد عثمان عليّا عليه السّلام إلاّ ثلاثة من قريش مروان ، و سعيد بن العاص ، و الوليد بن عقبة و كان لسان القوم فقال الوليد له عليه السّلام : يا هذا إنّك و ترتنا جميعا . أمّا أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، و أما سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، و أما مروان فشتمت أباه ، و عبت على عثمان حين ضمّه إليه إلى أن قال :

ــــــــــــــــ

( ١ ) يوسف : ٩٢ .

( ٢ ) الجمل : ٢٢٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632