الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 68099
تحميل: 7214


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68099 / تحميل: 7214
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

مجموعة المحاضرات التي ألقاها

الخطيب البارع، العلاَّمة، الشيخ محمد تقي فلسفي

في جامع سيد عزيز الله - طهران

في رمضان / 1381 هـ

هذه الترجمة مرخَّص بها من المؤلِّف، وجميع الحقوق محفوظة

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المترجم

الطفل هو اللِّبْنَةُ الأولى في المجتمع... إنْ أُحسن وضعها بشكل سليم، كان البناء العام مستقيماً مهما ارتفع وتعاظم... الطفل هو نواة الجيل الصاعد، التي تتفرع منها أغصانه وفروعه... الطفل هو الرافد الذي يمد بركة المجتمع بالرصيد الاحتياطي دائماً. وكما أن البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة! وكما أن النواة تفتقر إلى التربة والظروف المناسبة! وكما أن الرافد يعوزه إصلاح وتنظيف مجارٍ! كذلك الطفل فأنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتُصقل مواهبه، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلّقاها، والحضارة التي يتطبّع عليها، والتربية التي ينشأ عليها!

إنه عالم قائم بنفسه... يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغَّرة، في صخبها وأمنها، في سعادتها وشقائها، في ذكائها وبلادتها، في صفائها وحقدها، في تفوّقها وتأخّرها، في إيمانها وجحودها، في حربها وسلمها...

* * *

وهذا ما أشغل العلماء والباحثين، فراحوا يعدّون البحوث، ويلقون المحاضرات، ويؤلِّفون الكتب، ويوردون النظريات في مسألة (تربية الطفل). ونشأ من بينهم عدة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه وفي (كروموسوماته)...

٥

ورأى عكس ذلك آخرون، فأرجعوا كل أنماط السلوك الفردي والاجتماعي إلى البيئة والمحيط، والتربية والتنشئة. وأنكروا كل أثر إلى الوراثة ينسب... حتى ادعى العالم النفساني الأمريكي (واتسون) دعواه التي لم يسندها بدليل، حيث قال: (اعطني اثني عشر طفلاً، وهيِّئ لي الظروف المناسبة، أجعل ممَّن أريد منهم طبيباً حاذقاً، أو أستاذاً قديراً، أو مهندساً بارعاً، أو رسَّاماً... وحتى لو شئت لصاً أو شحَّاذاً...).

وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلاّ وجدته إلى إحدى المدرستين يميل، وعن أحد الرأيين يدافع، مفنداً الرأي الآخر.

ولعلك تسأل: أي الرأيين أصح؟ وأي العاملين في سلوك الطفل أهم: الوراثة أم التربية؟! فبدلاً من أن أجيبك على سؤالك هذا، أسأل بدوري أيضاً: أيهما أهم للسيارة: المحرك، أم الوقود؟!

* * *

تلك مسألة التربية... والأصح... مشكلة التربية!! فما هو رأي الإسلام فيها؟ وكم هي درجة خطورة الموقف في النظام الإسلامي الشامل؟

* * *

الجواب عن ذلك تكفّل به الكتاب الذي بين يديك، وهو معرّب عن الفارسية. ولقد حاولت في التعريب أن أفي بالمقصود أكثر من تقيُّدي بالتعبير، ووجدت من الضروري أن أضيف إلى الأصل بعض التعليقات التي لا بد منها للكتاب في شكله العربي، وربما جاءت التعليقة ممزوجة بالأصل حيث يبدو تكثير الهوامش أمراً غير مستحسن.

٦

وفي نهاية المطاف أرجو أن يسد هذا الكتاب فراغاً كانت تشكوه المكتبة الإسلامية حول المنهج التربوي للإسلام منذ أمد... كما نبتهل إلى العلي القدير في أن يوفقنا لخدمة الأمة الإسلامية، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصلاح، إنه سميع مجيب.

النجف الأشرف

في 1|12|1386 هـ.

فاضل الحسيني الميلاني

٧

٨

المحاضرة الأولى:

حول الذنب - حرية التعلم

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .

تمهيد: وسائل القرب المعنوي من الله.

اليوم هو أول يوم من شهر رمضان المبارك... شهر الرحمة، شهر الغفران، شهر الألطاف الإلهية الخاصة... يجتمع المؤمنون والمقبلون على التعاليم الإسلامية القيمة في المساجد بشوقٍ ورغبةٍ شديدين، ويقفون بين يدي الله تعالى وهم يؤدّون الفرائض والسنن الإسلامية ويزدانون بطاعة الله والانقياد إليه؛ وبذلك ليتقربوا إلى الله العظيم زلفى، ويتنعّموا في هذا الشهر برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.

ووسائل التقرّب إلى الله (عَزَّ وجَلَّ) كثيرة... كل عمل خيري يؤتى به لوجه الله يمكن أن يقرّبنا منه، وكلَّما كانت قيمة ذلك العمل أغلى، والإخلاص في نفس الشخص الذي يأتي به أكثر، كانت دائرة التقرّب إلى الله أوسع.

ربما يرغب الكثير منكم أن يعرف أي الأعمال أفضل في هذا الشهر العظيم كي يجد ساعياً في إتيانه والمواظبة عليه، وبذلك ليحرز رضى الله وليتقرّب منه زلفى.

____________________

(1) سورة البقرة |183.

٩

إذا وجهنا هذا السؤال إلى الأفراد العاديين من المسلمين، سمعنا أجوبةً مختلفةً عليه. فأحدهم يقول: أفضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن، والآخر يقول: إنه إفطار الصائم، ويرى آخرون: أفضل الأعمال هو صلة الرحم وعيادة المرضى، ويظن طائفة: إنه تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة... والخلاصة: أن كل شخص يتوسل بنوع من الأنواع الخيرة ويعتبره أفضل الأعمال في شهر رمضان.

ولننظر إلى ما يقوله الرسول الأعظم (ص):

التقوى:

في آخر جمعة من شعبان كان النبي (ص) يخطب في المسلمين وبيّن لهم واجباتهم في شهر رمضان... قال علي (عليه السلام): (فقمتُ وقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال (ص):... الورع عن محارم الله) (1) .

لقد رأينا أن أكثر الناس يبحثون عن أفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيرة الإيجابية، بينما نجد الرسول الكريم (ص) يلفت أنظار المسلمين إلى الجانب السلبي، ويعرّف أفضل الأعمال في شهر رمضان بالاجتناب عن المعاصي. ولا يخفى أن الملاك في التديّن هو نظرة الشرع المقدس، لا ما يظنه هذا ويراه ذاك. ولأجل أن نبيّن أهمية الاجتناب عن المعاصي في تحقيق السعادة البشرية، ويتضح مغزى كلام النبي (ص) بالنسبة إلى أفضل الأعمال في شهر رمضان؛ نخصّص محاضرتنا هذه بالذنب وآثاره الوضعية والشرعية.

إن التعاليم الإسلامية القيمة بشأن السعادة الإنسانية، وبيان الخير والشر، يطابق تماماً المنهج الطبي بشأن صحة الناس وسلامتهم؛ ولذا فان النبي الأكرم (ص) كان في تحقيق التكامل المعنوي للبشر كالطبيب الحاذق الطاهر القلب على رأس المريض. وفي هذا الصدد يصفه الإمام علي (ع) بقوله:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ص 164 طبعة إيران.

١٠

(طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يصنع ذلك حيث الحاجة إليه في قلوب عميٍ وآذان صم وألسنة بكم) (1) فيصف النبي (ص) بأنه كان طبيباً سياراً، يحمل معه في حقيبته المعاجين اللازمة للتضميد والمعالجة، فإذا وجد قلوباً عمياء، أو أرواحاً صمّاء، قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والانهيار الخلقي.

معالجة الانحراف:

للأطباء منهجان في معالجة المرض: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي. فيقولون للمريض في المنهج الإيجابي: احتقن بهذه الإبرة. استعمل هذا الكبسول، اشرب من هذا الشراب ملعقةً واحدةً كل ثلاث ساعات. أما في الجانب السلبي، فيقولون للمريض: لا تأكل العنب، لا تشرب الخل. لا تستعمل الأكلات الدسمة، وهكذا.

والمنهج الديني يشابه المنهج الطبيٍ تماماً، فيقول للمسلم من جهة: أقم الصلاة، أدِّ الزكاة، ليكن كسبك حلالاً، تزوّج... إلخ. ويقول له من جهة أخرى: لا تكذب، لا تفحش، لا تغتب.... فالجانب الايجابي في الدين يسمى بالواجبات، بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي.

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبي، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى، وترك القيام ببعض الأمور (الحِمْيَة)، مهماً إلى درجة أن المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه أصلاً. إن أحسن عملية جراحية يقوم بها طبيب حاذق يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة، وقد تكون فاقدة للأثر إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفّظ على الجرح من التلوث بالميكروبات مثلاً.

وحتى في الأمراض التي تنشأ من انحراف المزاج، نجد أن عدم اعتناء المريض بما يجب أن يجتنب عنه، يذهب بأثر معالجات طبيب حاذق. وأما في

____________________

(1) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 1|206.

١١

بعض الأحيان، حيث لا يتمكّن المريض من الوصول إلى الطبيب، فإنه إذا احتمى ولم يحمل مزاجه فوق طاقته، نجد المناعة الذاتية قادرة على أن تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الاعتيادي. وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط. يقول الإمام موسى بن جعفر (ع): (الحمية رأس الدواء) (1) .

نستنتج مما تقدم: أن السلامة منوطة بالمواظبة على توصيات الطبيب، الايجابية منها والسلبية. ولكن النظرة الثاقبة ترينا أن أثر الجانب السلبي في العلاج أقوى من أثر الجانب الايجابي.

هدف القرآن:

وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الإسلامية نسجها في تحقيق السعادة المعنوية. فالإنسان السعيد هو الذي يطبق التعاليم الايجابية والسلبية... يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات، ومع ذلك فإن كفَّة الابتعاد عن الذنوب (الجانب السلبي) ترجح في ميزان السعادة البشرية على كفَّة الإتيان بالواجبات (الجانب الايجابي ).

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي وآل بيته (عليهم الصلاة والسلام)، تعرّف (التقوى) أعظم رصيد للسعادة، وترى أن الغاية العظمى من القرآن وتعاليمه هي تربية الناس على التقوى، فالتقوى بمعنى اجتناب المعاصي والابتعاد عنها، و (المتَّقي) هو المجتنب عن المعاصي. فليس صيام رمضان - وهو من أهم الفرائض الإسلامية - إلاَّ مظهراً من مظاهر الاجتناب عن المفطِّرات بِنيَّة التقرّب إلى الله تعالى. ولقد أوجب الله الصيام على الأمم السالفة، وعلى الأمة الإسلامية؛ كي يتمرّن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكة التقوى، ( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

____________________

(1) سفينة البحار ص 245، مادة (حمى ).

١٢

تَتَّقُونَ ) .

وبهذا الصدد نورد بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام):

1 - عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (فيما ناجى الله (عَزَّ وجَلَّ) به موسى: ما تقرّب إليَّ المتقرِّبون بمثل الورع عن محارمي...) (1) فلا يوجد عامل يقرّب المتطهِّرين إلى الله مثل الاجتناب عن المعاصي.

2 - وعن علي (ع): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات) (2) .

3 - وعن الإمام علي بن الحسين (ع): (مَن اجتنب ما حرّم الله عليه، فهو مَن أعبد الناس) (3) .

4 - عن النبي صلّى الله عليه وآله: (لرد المؤمن حراماً يعدل عند الله سبعين حجةً مبرورة) (4) .

5 - عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): (غض الطرف عن محارم الله أفضل عبادة) (5) .

6 - ولقد سبق أن نقلنا جواب النبي (ص) على سؤال علي (ع) حين سأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان فقال: (الورع عن محارم الله).

انهيار المجتمع:

إن أغلب المآسي التي تصيب الفرد أو المجتمع ناشئة من التلوث بالذنب والمعصية. والأمم التي انهارت انهياراً تاماً، ولم يبق منها في التاريخ إلاّ اسمها، كان السبب في ذلك عدم مبالاتها بالنسبة إلى الذنوب، وهذا ما يؤكّد عليه القرآن غير مرة:

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2|80.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 57.

(3) مستدرك الوسائل للنوري ج 2|302.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

١٣

1 - ( كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) (1) .

2 - ( أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) (2) .

3 - ( فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) (3) .

إن المآسي المختلفة التي تعلق بأذيالنا - شيوخاً وشباباً - وليدة التلوث بأنواع الذنوب واللامبالاة في ارتكاب المعاصي والمحرمات. كما أن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب ويترك الحمية يبتلى ويجازى بأنواع المصائب والمشاكل الدنيوية والأخروية:

1 - ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا ) (4)

2 - ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (5)

3 - ( لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (6)

ما هو الذنب:

الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الإلهية، واتباع الأهواء والرغبات التي تلّح عليها النفس، من دون رادع أو مانع. وكقاعدة أولية وأصلٍ ثابت يجب أن نقول: إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية، فليس بإمكاننا متابعة الشهوة والرغبات النفسانية، وإطلاق العنان للإرادة النفسية بحرية كاملة. فهناك الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكننا أن نخترقها. وعلى سبيل المثال نشير إلى بعض الموانع بنماذج واضحة وأمثلة ساذجة يصادفها كل الأفراد في حياتهم اليومية.

____________________

(1) سورة الأنفال |54.

(2) سورة الدخان |37.

(3) سورة الأنعام |6.

(4) سورة الروم |41.

(5) سورة البقرة |114.

(6) سورة المائدة |33.

١٤

جزاء التخلّف عن القوانين:

(1) حمامة جائمة على سطح عمارة ذات أربعة طوابق من شارع وأنت واقف على سطح تلك العمارة أيضاً... الحمامة تحاول الطيران إلى الجانب الآخر من الشارع لتنزل على سطح عمارة مقابلة، ففي لحظةٍ واحدةٍ تحرك الحمامة جناحيها تطير... وترغب أنت في ملاحقتها والطيران مثلها، إلاّ أن رغبتك هذه تصطدم بمشكلة كبيرة، هي أنك لا تملك وسائل الطيران، ولا القدرة على مقاومة جاذبية الأرض، فالقانون الطبيعي يمنعك من هذا التصميم. فإن لم تعتن إلى منع الطبيعة إياك عن الطيران وأردت أن تثور على قانون الطبيعة، فبمجرد أن ترمي بنفسك من سطح هذه العمارة إلى جهة العمارة الأخرى - وقبل أن تبتعد من هذه العمارة بمقدار متر واحد - فإن جاذبية الأرض تسحبك إليها بأتم الخشونة والقوة وتريك جزاء تخلفك هذا... وتطرحك على الأرض في الوقت الذي يتحطّم فيه رأسك ويتلاشى مخك، وتنهي بحياتك وهي تنطق بلسانٍ فصيح يعبّر عن القانون الكوني العام: هذا جزاء المذنب والمتخلّف عن السنن الكونية.

يتساوى جميع الناس في هذا الأمر: المؤمن والكافر، الصائم والمفطر، الشيوعي والرأسمالي. فالعقلاء لأجل أن لا يتخلّفوا عن قوانين الطببيعة تنزلون ستين درجة من سلالم العمارة، ثم يصعدون في سلالم العمارة المقابلة حتى يصلوا إلى سطحها، فيثبتون - عملياً - إطاعتهم للقانون الكوني العام.

والطفل يرغب في القيام بالفعاليات والحركات الحرة بفطرته.. يحب أن يقبض بيده كل شيء، يلمس كل شيء، يعمل كما يريد... لكنه سرعان ما يلتفت إلى أنه ليس حراً مطلقاً. إنه يرغب كثيراً في ثدي أمه، وهو مصدر غذائه، لكنه عندما تتركه أمه أثناء إرتضاعه لتذهب وراء أعمالها، يفهم الطفل أن الثدي ليس في اختياره دائماً، يجب أن يصيح، أن يبكي... حتى تحن الأم إليه ويسترجع الثدي الضائع.

وعندما تتفتح أصابع الطفل فإنه يرغب - بولع شديد - أن يأخذ التفاحة ويأخذ الخبز، ولكنه حيث لا يدرك الفواصل فقد يخرج يده من المهد ليأخذ

١٥

المصباح من السقف أو القمر من السماء، وقد يمد يده إلى النار ليأخذ جمراتها المتوقِّدة فيحترق ويبكي... هنا يدرك الطفل أنه ليس حراً مطلقاً كما يظن، فحريته محدودة.

ويتدرج الطفل في نموه. ويأخذ في المشي ويقترب من الحوض فيرى الأسماك تسبح في الماء، وبحكم طبعه الطفولي الحر يرغب في أن يسبح مثل تلك الأسماك، فيلقي بنفسه في الماء... ينقطع نفسه ويشرف على الموت، فتصل الأم وتخرج طفلها المتقطع الأنفاس... وحين يثوب إليه رشده ينظر نظرة إلى الماء ويفهم أنه ليس حراً ولا يتمكَّن من أن يسبح كالسمك.

وعلى أية حال، فإن الإنسان يلاقي موانع الطبيعة منذ طفولته في كل خطوة يخطوها، وفي كل يوم يحس بتقلص حريته أكثر من ذي قبل. ويدرك أن رغباته تصطدم بجدران حديديةٍ لا تخترق. ولا يتمكن أن يمارس إرادته بحريةٍ كاملةٍ.

(2) والحاجز الثاني الذي يقف أمام الميول والرغبات الفردية، هو القوانين الصحية التي تظهر في الحمية... فإن المريض يشاهد الفواكه والحلويات والأطعمة المختلف، فيرغب في أن يأكل منها ولكنّه مصاب بمرض السكر، فإن حاول اتباع ميوله بالتناول من الفواكه والحلويات التي تكثر فيها مادة السكر فسوف يبتلى بأنواع الآلام.

أو أنه مصاب بمرض في الكبد فعليه أن يحتمي عن كثير من الأطعمة الشهية، لأن الطبيب منعه عنها... وقد يكون المرض شديداً إلى درجة يضطر المريض معها إلى أن يقنع بشيء قليل من الخضروات والفواكه المطبوخة فقط، ولا مفر له من ذلك. فأما أن يترك ميوله وشهواته، فيحفظ سلامته وصحته، أو ينقاد لها ويترك توصيات الطبيب فيلاقي جزاءه في النهاية باشتداد المرض، أو الموت أحياناً.

(3) وتعد القوانين الوضعية من الحواجز المهمة التي تقف أمام الميول البشرية، فإذا أرادت حكومة ما أن يظل قائمة وأن يكون لها مجتمع منظَّم، فعليها أن تضع القوانين التي تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته، فتسمح ما هو

١٦

ضمن القانون وتمنع ما سواه. وتعاقب المعتدي على حقوق الآخرين... وليس هذا في واقعه إلاَّ تحديداً لحرية الإنسان، وعدم فسح المجال لممارسة أهوائه وشهواته كيفما يريد.

قد يستاء البعض لمحدودية حريته تجاه القانون، فيطغى عليه ويحب أن يكون حراً ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء ويذهب أنَّى يرغب، لكن السلطة التنفيذية للقانون تجبره على الانقياد له.

يقول أحد الغربيين: القانون كاللجام الذي يوضع على فم الفرس الهائج فقد يطغى عليه، مع فارق واحد هو أن اللجام الذي يوضع للفرس يضعه الإنسان. بينما القانون يضعه الإنسان على نفسه، وقد يطغى عليه أيضاً.

لنتصور مستطرقاً جائعاً يرغب أشد الرغبة في أن يأكل من الحلويات والفواكه المنضدة في الحوانيت بحرية كاملة ليشبع بطنه، أو شاباً متميّعاً في أشد الميل لإشباع نهمه الجنسي مع امرأة تسير في الشارع، لكن القانون يراقبه ويعاقبه بشدة على ميوله غير القانونية.

* * *

هذه الأشكال الثلاثة من الحواجز والموانع عن حرية الإنسان جارية في جميع نقاط العالم، بغض النظر عن الدين والعنصر، فالخروج عليها يعتبر ذنباً وإجراماً. ولقد اعتنى الإسلام بها جميعاً، وأوجب على أتباعه اتباعها ومراعاتها. فالجري وراء الميول النفسية التي تخالف القوانين الكونية والصحية والاجتماعية ممنوع في القانون الإسلامي. والجانب الأكبر من الذنوب في الإسلام عبارة عن تنفيذ هذه الرغبات اللامشروعة.

يعتبر الانتحار بجميع صوره ذنباً في الإسلام، سواء كان برمي الإنسان نفسه من شاهق، أو الإلقاء في الماء، أو شرب السم، أو غير ذلك. وكذا الإضرار بالنفس والإلقاء باليد إلى التهلكة يعتبر ذنباً. والصوم الواجب إن كان مضراً بصحة الإنسان، فلا يسقط وجوبه فقط بل يعتبر محرماً. وهكذا الذنوب الاجتماعية والإخلال بالأمن والنظام والتجاوز على أموال الآخرين ونفوسهم

١٧

وأعراضهم.

وبصورة موجزة فإن كل الميول المنافية لسعادة المجتمع ممنوعة، وارتكابها يعد ذنباً وإجراماً.

انحطاط البشرية:

وهنا لابد من الانتباه إلى نكتة مهمة، وهي أن الذنب - بغض النظر عن الأخطار التي يتضمنها في الإخلال بالنظام العام الإضرار بالمصالح الفردية والاجتماعية - هو أهم عوامل انحطاط البشرية وتقهقرها. فالمذنبون ليسوا متمتعين بالمزايا الإنسانية الشريفة والكمالات المعنوية، فإن ظلمة الذنب تصير حجاباً يخفي نورانية القلب وصفاء الباطن. والمجرم قبل أن يلحق الضرر بالمجتمع أو بنفسه، يعمل على انهيار شخصيته ويكبت الروح الخيرة في أعماقه. فعلى مَن يرغب في الفضائل الإنسانية، ويحب الكمال والتعالي الروحي، أن ينزَّه نفسه عن ظلمة الذنب والإجرام:

يقول الإمام علي (ع): (مَن أحب المكارم اجتنب المحارم) (1) .

وفي حديث آخر عنه (ع): (مَن ترك الشهوات كان حراً) (2) .

التفكير في الذنب:

إن الإسلام يخطو خطوة أوسع في هذا المجال، ويقول بأن الإنسان الواقعي هو الذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه وفكره للتفكير في الذنب، ولا يدع الفكرة المظلمة تمر بخاطره. فإن التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق، يُوجِد ظلمة روحية في القلب ويمحو الصفاء الروحي من الإنسان.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام) (3) .

____________________

(1) الإرشاد للشيخ المفيد ص 141.

(2) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 17|67.

(3) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 203 طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.

١٨

ويقول إمامنا الصادق (ع) راوياً عن عيسى بن مريم (ع) أنه كان يقول: (إن موسى أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدِّثوا أنفسكم بالزنا؛ فإن مَن حدَّث نفسه بالزنا كان كمَن أوقد في بيتٍ مزوَّق فأفسد التزاويقَ الدخانُ وإن لم يحترق البيت) (1) ... أي أن فكرة الذنب تُوجِد ظلمة في القلب - شاء الفرد أم أبى - وتسلب صفاء النفس، حتى ولو لم يرتكبه الإنسان.

إن النكات الدقيقة التي أوردها الإسلام في موضوع السعادة الإنسانية في القرون السالفة وعلَّمها أتباعه، تستجلب أنظار العلماء المعاصرين في العصر الحديث فنراهم يفطنون إلى تلك الحقائق في كتبهم ومؤلفاتهم: (للأمل والإيمان والإرادة القوية أثر كبير على الجسم، وهو يشبه أثر البخار على القاطرة. إن النشاطات الجسدية والروحية تتكامل بدافع الحب فتكسب الشخصية قوة ورصانة وكمالاً. وعلى العكس فإن الرذائل تحط من الشخصية وتسحقها. إن الكسل والتردد في الرأي - مثلاً - من أهم العوامل على جمود الفكر، وكذلك العجب بالنفس والغرور والحسد فإنها من عوامل التفرقة والتباعد بين الناس، وهي جميعاً تمنع النفس البشرية من التكامل) (2) .

(إن المعاصي - كما نعلم - تقلل من قيمة الحياة المعنوية. وإن تحمل العيوب والنواقص خطأ فظيع. فليس كل شخص حراً في تصرفاته، وعلى هذا فالذي ينحرف عن الطريق المستقيم في الحياة ويبدو متكاسلاً مفترياً على الناس، ولا يبالي بارتكاب مختلف الذنوب، يجب أن يعتبر مجرماً عاماً. ولكل ذنب آثاره الوخيمة، حيث يؤدّي إلى الانحرافات العضوية والنفسية

____________________

(1) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج 5|37.

(2) راه ورسم زندكى ص 72. وهو ترجمة لكتاب ألَّفه بالفرنسية د. إلكسيس كارل. وترجمه إلى الفارسية د. برويز دبيري.

١٩

والاجتماعية. فكما أن العض على أنامل الندم لا يتلافى العيوب الناشئة في جسد المدمن على الخمرة أو العيوب الوراثية في أطفالهم... كذلك لا يمكن ترميم الانحرافات الناشئة عن الحسد والحقد والغيبة والأثرة والأنانية) (1) .

إن كل ما هو ممنوع في الشريعة المطهَّر، وكل ما يعتبره الإسلام ذنباً وإجراماً، يتصل إما بضرر مباشر أو غير مباشر تجاه المصالح المادية أو المعنوية للإنسانية حتماً، غاية الأمر أن البشر لم يطلعوا على جميع تلك الجوانب. ويرى البعض كثيراً من الذنوب كشرب الخمر والقمار والاتصالات اللامشروعة بين الجنسين رائجة في الدول الغربية، فيظن أن الإسلام قد حرّمها عبثاً... وهو في توهّمه هذا غافل عن أن ذلك كله حسب حساب دقيق، فقد يأتي يوم يفطن فيه الغرب إلى أضرارها فيمنعها أيضاً!

في رسالة من محمد بن سنان إلى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) يسأله فيها عن صحة ما يدعيه بعض المسلمين من عدم وجود حكمة للحلال والحرام في الإسلام، وأن المقصود من ذلك هو التعبّد والانقياد إلى الله فقط. فكتب (عليه السلام) في جوابه:

(... قد ضلَّ مَن قال ذلك ضلالاً بعيداً)، ثم يسترسل في ذكر تحريم المحرمات فيقول: (ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مفسِداً داعياً إلى الفناء والهلاك) (2) .

* * *

نتائج الذنوب:

وإذا تصفّحنا أقوال أئمة الإسلام وقادتنا الكرام (ع)، نجد أنهم يعلّلون جميع المآسي والمشاكل، والنكبات الفردية والاجتماعية، بالجرائم والذنوب التي

____________________

(1) راه ورسم زندكى ص 80.

(2) بحار الأنوار للمجلسي ج 3|118

٢٠