الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 68225
تحميل: 7266


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68225 / تحميل: 7266
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

دمه البيضاء وكذلك الفترة التي استغرقها تخثر بلازما الدم) (1) .

( الاضطرابات الروحية التي توجب توقف المبيض عن العمل: أثبتت تجارب الحرب العالمية الأخيرة أن البقاء في المعسكرات الكبيرة لمدة طويلة يسبب انقطاع النزيف الشهري الذي يتسبّب من تغيرات دورية تحصل في المبيض، في حين أن هذا الاضطراب يرجع إلى حالته الأولى بمجرد الرجوع إلى الحياة الاعتيادية من دون حاجة إلى علاج أصلاً) (2) .

( يقول في البحث عن العوارض البدنية الناتجة من مرض روحي خاص: إنه يسبب اختلال جميع العضلات والأعصاب، يسبب زيادة التبول في بعض المراحل، ونقصانه بشدة في مراحل أخرى، يؤدي إلى الأرق أحياناً وإلى شدة النعاس أحياناً. وهكذا يضطرب النشاط الجنسي أيضاً، فقد يشتد تارة وقد يقل ويخمد. وحتى البشرة لا تسلم من تغيرات هذا الاختلال، حيث تظهر على الجلد بعض الدمامل التي لا تعالج بأي دواء أصلاً، في حين تزول من تلقاء نفسها في بعض مراحل المرض. هذه هي العوارض العديدة لهذا الداء الفتّاك) (3) .

الأمراض النفسية:

إن الإسلام يعتبر الانحرافات الخلقية والصفات الرذيلة أمراضاً. ولهذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تعبّر عنها بالأمراض. إنه يعتبر المكر والخداع مرضاً فيقول في وصف المنافقين:

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول. ترجمة عادل شفيق ص 116.

(2) هورمونها ص 33.

(3) جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحي وعصبي ص 13.

١٠١

( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا... * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) (1) .

وكذلك عندما منع القرآن نساء النبي وحريمه من التكلم بالرقة واللين، فإنه علّل ذلك من ناحية الخوف من طمع المستهترين الذين لا يعرفون للعفة وزناً ولا يدركون للشرف معنى، فنراه يقول: ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (2) .

وهكذا يصرح الإمام علي (ع) بالنسبة إلى الحقد، (الحقد داء دوي ومرض موبي) (3) .

ويقول بالنسبة إلى متابعة هوى النفس: (الهوى داء دفين) (4) .

وإليك نصاً عن أحد علماء الغرب بهذا الصدد:

(لا يقل خطر الحسد عن ميكروب الطاعون الرئوي؛ لأنه يجعل صاحبه يعمل لإضرار الآخرين أكثر من العمل لجلب المنفعة لنفسه. وهكذا الحقد والبغضاء وغيرهما من الصفات الرذيلة تعتبر معاول هدامة لا أكثر) (5) .

مظاهر الأمراض النفسية:

إن الأمراض الروحية والانحرافات النفسية يظهر أثرها على روح المريض نفسه قبل كل شيء، ولكل منها مظاهر وعوارض خاصة. فالاضطراب والحيرة والاستيحاش والجمود واليأس والجبن ونحوها تعد من الحالات المرضية، وقد يشتد أثر هذه الاضطرابات والانحرافات فيؤدي إلى الجنون. (وهناك نوع من الجنون يظهر في الأشخاص السالمين

____________________

(1) البقرة: 9 - 10.

(2) الأحزاب: 32.

(3) راه ورسم زندكى ص 114.

(4) مستدرك الوسائل، ج12، ص 113.

(5) سورة الأحزاب |32.

١٠٢

والمعتدلين في سلوكهم. إن تحليل أدمغة هؤلاء بأقوى الميكروسكوبات يثبت سلامة أدمغتهم، وعدم وجود أي نقص في أنسجة المخ عندهم. فلماذا يا ترى يفقد هؤلاء عقولهم؟ لقد ألقيت هذا السؤال على كبير الأطباء في إحدى المستشفيات العقلية عندنا. فأجاب ذلك العالم الذي كان له الكثير من التحقيقات الواسعة والتجارب الدقيقة في أحوال المجانين، أجاب بصراحة بأنه لم يفهم بعد السبب في فقدان الناس عقولهم ولم يتوصل أحد إلى سر الموضوع بالضبط. ومع ذلك فهو كان يقول بأن كثيراً من هؤلاء المجانين الذين عالجتهم وجدت أن الجنون يرضي فيهم الشعور بالأنانية، فكأنهم يجدون في عالم الخيال ما هم محرومون منه في حياتهم الاعتيادية. ثم نقل لي هذه القصة فقال: توجد هنا تحت العلاج سيدة أصيبت بحادث مزعج في حياتها الزوجية، حيث كانت تأمل أن تحرز منزلة عالية في المجتمع بعد الزواج والحصول على الأولاد والعيش المرفّه، لكن حوادث الدهر هدمت قصر آمالها، فهجرها زوجها إلى درجة أنه لم يرغب في أن يتناول الطعام معها، فأجبرها على أن تسكن الغرفة الواقعة في الطابق السفلي من العمارة. هذا الحادث دفع بها إلى الجنون، والآن ترى نفسها في عالم الخيال وكأنها تطلّقت من زوجها السابق، وتزوّجت من مليونير إنكليزي، وتصر على أن نسمّيها: الليدي سميث. أضف إلى أنها تتصور في كل ليلة أنها ولدت طفلاً. فمتى ما تراني تقول لي: سيدي الدكتور لقد ولدت البارحة طفلاً) (1) .

وهكذا، فإن الذين يغمرون نفوسهم بآمال طوال، ويبقون في أسْر الميول المفرطة، يجب أن يعلموا أنهم مصابون بمرض خُلقي وانحراف روحي. وكما قال الإمام علي (ع): (الهوى داء دفين) هذا الداء يؤدي إلى الجنون

____________________

(1) آئين دوست يابى ص 36.

١٠٣

أحياناً، وقد يجر في بعض الأحيان إلى الموت الحتمي، يقول الإمام علي (ع): (مَن جرى في عنان أمله عثر بأجله) (1) .

وما أكثر الذين قتلوا حتف آمالهم الطويلة البعيدة، وما أكثر الرجال والنساء المنتحرين لعدم تحقيق أمنياتهم وعدم وصولهم إلى آمالهم غير الناضجة!!.

تأثير السلوك في الجسم:

والأثر الثاني للأمراض الخلقية هو رد الفعل الحاصل منها في أجساد المصابين بها، فالرجل السيِّئ الخُلق ليس مأسوراً للانحراف الروحي فقط، بل إن ذلك الانحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة.

إن العلم الحديث يعتبر هذه القضية من المسائل القطعية المسلمة، وسنبحث عنها بالتفصيل إن شاء الله في المحاضرات القادمة عند حديثنا عن أسلوب التربية الصحيحة. وهنا نكتفي بنقل نص بسيط إلى القارئ الكريم:

(هناك بعض العادات التي تقلّل من القدرة على الحياة، كالأنانية والحسد والتعوّد على الانتقاد في كل شيء واحتقار الآخرين وعدم الاطمئنان بهم. لأن هذه العادات النفسية السلبية تؤثّر على الجهاز السمبثاوي الكبير والغدد الداخلية، وبإمكانها أن تؤدّي إلى اختلالات عملية وعضوية أيضاً) (2) .

إن الروايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) قد أكّدت على هذه الناحية وصرحت بأن الأخلاق السيئة تجعل جسد صاحبها مريضاً وضعيفاً، وعلى سبيل المثال نذكر بعض الروايات الواردة عن الإمام أمير المؤمنين (ع) حول الحسد وتأثيره السيّئ في أبدان الحساد:

____________________

(1) سفينة البحار للقمي مادة (أمل) ص 30.

(2) راه ورسم زندكى ص 87.

١٠٤

1 - (العَجب لغفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد) (1) .

2 - (الحسد يُذيب الجسد) (2) .

3 - (الحسد يفني الجسد) (3) .

4 - (الحسود دائم السقم) (4) .

5 - (الحسود أبداً عليل) (5) .

نستنتج مما سبق عدة أمور:

1 - إن الروح والجسد مرتبطان، ويؤثر كل منهما على الآخر.

2 - تعتبر الأخلاق الرذيلة والصفات المذمومة أمراضاً في عرف الدين والعلم.

3 - لهذه الأمراض - مضافاً إلى عوارضها الروحية - آثار على الجسد فتؤدي إلى انحراف صحة المصابين بها أيضاً.

والآن وبعد أن أخذنا جولة واسعة في موضوع الأمراض الروحية وكيفية انتقالها بالوراثة، نرجع إلى صلب الموضوع، وهو دور الأم في تحقيق سعادة الطفل وشقائه.

تأثير حالات الأم على الجنين:

إن جميع الحالات الجسدية والنفسية للأم تؤثّر على الطفل؛ لأن الطفل في رحم الأم يعتبر عضواً منها. فكما أن الحالات الجسمانية للأم والمواد التي تتغذى منها تؤثّر على الطفل، كذلك أخلاق الأُم فإنها تؤثّر في روح الطفل وجسده كليهما. وقد يتأثّر الطفل أكثر من أمه بتلك الأخلاق. فإذا أصيبت الأم في أيام الحمل بخوف شديد، فالأثر الذي تتركه تلك الحالة النفسية على

____________________

(1) سفينة البحار مادة (حسد) ص 251، وغرر الحكم ص 42.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 23.

(3) المصدر السابق ص 22.

(4) المصدر نفسه ص 85.

(5) المصدر نفسه ص 20 طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.

١٠٥

بدن الأم لا يزيد على اصفرار الوجه ، أما بالنسبة إلى الجنين فإنه يتعدى ذلك إلى صدمات عنيفة.

« إذا حدث للمرأة في أيام الحمل حادث مخيف فإنه يتغير لونها ويقشعر بدنها لكن تظهر على جسم الجنين آثار امتقاع اللون تسمى بالخسوف » (1) .

وهكذا فإن هموم الأم وغمومها ، غصب الأم واضطرابها ، تشاؤم الأم وحقدها ، حسد الأم وأنانيتها ، خيانة الأم وجنايتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الرذيلة للأم وكذلك إيمان الأم وتقواها ، طهارة قلب الأم وتفؤلها ، صفاء الأم وحنانها ، مروءة الأم وإنسانيتها إطمئنان الأم وراحة بالها ، شجاعة الأم وشهامتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الحميدة للأم جميع هذه الصفات خيرها وشرها تترك آثارها في الطفل ، وتبني أساس سعادة الجنين وشقائه. وهنا يتحقق قول النبي (ص) الذي استشهدنا به في المحاضرة الثالثة : « الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ».

وإليك النص الآتي كشاهد من العلم الحديث :

« إن الاضطرابات العصبية للأم توجه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولده ، إلى درجة أنها تحوله إلى موجود عصبي لا أكثر. ومن هنا يجب أن نتوصل إلى مدى أهمية التفات الأم في دور الحمل إلى الابتعاد عن الأفكار المقلقة ، والهم والغم ، والاحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار » (2)

إن الاسلام قام بجميع الاحتياطات اللازمة في موضوع الزواج للاهتمام بطهارة الأجيال الاسلامية ، وأمر بتعاليم دقيقة في الزيجات حول الجهات الروحية والجسدية للرجال والنساء. ولقد رأينا فيما مضى كيف أن الاسلام منع من التزوج من المصابين وبالحمق والجنون والمدمنين على الخمرة ولكنه لم

__________________

(1) إعجاز خوراكيها ص 172.

(2) ما وفرزندان ما ص 27.

١٠٦

يكتف في سبيل ضمان النشء الاسلامي بذلك الحد بل منع ـ في مقام الاستشارة ـ من تزويج الرجل سيء الخلق :

« عن الحسين بن بشار الواسطي قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ان لي قرابة قد خطب إلي وفي خلقه سوء ، قال : لا تزوجه إن كان سيء الخلق » (2) .

الامراض الوراثية :

لسلوك الأم تأثير عميق في سعادة الأطفال وشقائهم. وعليه فرّجه الذي يأمل أن يحصل على ولد شريف وطاهر القلب لا بد له من أن يمتنع من التزوّج من النساء البذيّئات (2) .

« لقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أن من بين الأطفال المصابين بتلك الأمراض يوجد 26% منهم وروثوها من أمهاتهم. إذ لو كانت الأم ذات جهاز عصبي سالم ، فإن الطفل يكون سالماً أيضاً. فلو كانت تفكر الأم في صحة طفلها وسلامة جهازة العقلي فلا بد وأن تفكر في سلامة نفسها قبل تولده ». (3)

إن هناك سلسلة من القوانين المتقنة والقوية تحكم الكون ، وتلك القوانين هي التي أوجدت هذا النظام العظيم المحير للعقول في مختلف الكائنات والتي أخصعت جميع أجزاء العالم لحكمها. فكل موجود مضطر إلى الانقياد لها وإطاعتها.

__________________

(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 5|10.

(2) والسر في ذلك واضح لأن الفلاح الذي يريد الحصول على ثمرة صالحة لا بد له من أن يبذر بذرته في تربة صالحة. وإلا ففساد التربة يؤثر في الثمرة ، لانها تحيط بها وهي مصدر غذائها.

(3) صحيفة ( إطلاعات ) الايرانية العدد 10355.

١٠٧

السنن الآلهية :

وهكذا يعمل قانون ( الحياة ) بدقة عجيبة ، ونظام متقن تحت سلسة من الشروط الدقيقة على إكساء المادة الجامدة لباس الوجود. وفي قباله قانون ( الموت ) يعمل على سلب الوجود من تلك الموجودات تحت شروط معينة أيضاً. وكذلك قانون ( الوراثة ) فإنه يعمل بدقة وحكمة على نقل صفات الجسم الحي ـ من نبات أو حيوان أو إنسان ـ وخصائصه إلى الأجيال اللاحقة.

إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الكون ( التي تعتبر قانون الحياة وقانون الوراثة من ضمنها ) بالسنن الآلهية ويرى فيها أنها ثابتة غير خاضعة للتغير والتبديل (1) : « فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً » (2)

ويعتبر الانسان جزءاً ضئيلاً جداً من هذا المنهاج العالمي العام ، وعليه أن يخضع ـ كسائر أجزاء الكون ـ للقوانين العامة والسنن الالهية.

الانقياد للقوانين والسنن :

والانسان يتأثر بتلك القوانين من اللحظة الأولى التي تنعقد نطفته في رحم أمه إلى يوم الولادة ، وهكذا من دور الرضاعة إلى المراهقة إلى الكهولة إلى الشيخوخة إلى الموت. فالسنن الالهية ترافقه خطوة خطوة ، وتصدر أوامرها غير القابلة للعصيان إليه. فإذا قرر أن يتخلف عن قانون الخلقة فانه يجد عقابه على قدر عصيانه.

فعلى العاقل أن يطيع قوانين الخلقة ولا يتخلف عنها ، بل يعمل على

__________________

(1) لايضاح الربط الدقيق بين الارادة الالهية والعلل المادية في تسيير هذه القوانين وإيجاد هذه السنن الكونية يرجع شبهة ( إما الله والسنن الطبيعية ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم.

(2) سورة فاطر |43.

١٠٨

التوفيق بين ميوله ورغباته وبين السنن الالهية. فيجتنب عما يخالف الموازين والتعاليم الصحيحة كيما يضمن لنفسه حياة سعيدة هانئة.

أما الجاهل فعلى العكس من ذلك يغض النظر عن تلك السنن ويطلق العنان لميوله ورغباته ويأمل في أن يخضع العالم كله له في شهواته وأهوائه وبما أن هذه الرغبة ليست قابلة للتطبيق فلا يمر زمن طويل حتى يلاقي حتفه عندما يصطدم بقوانين الخلقة.

يقول الامام علي (ع) : « إن الله يجري الأمور على ما يقتضيه ، لا على ما نرتضيه » (1) .

إن الخمر ـ السم المهلك ـ يترك آثاراً خطرة على أنسجة الجسم ، على المخ والأعصاب ، والكلية والكبد وغيرها من الأعضاء ، وهذا هو أحد قوانين الخلقة. فالرجل العاقل يجب أن يصون نفسه من التخلف عن هذا القانون فيجتنب عن الخمرة كي يبقى إلى آخر العمر في حصن منيع من عواقبها الوخيمة. ولكن الجاهل ظناً بالقدرة على المقاومة أو اعتماداً على تحقيق اللذة العاجلة يلوث نفسه بها فيتسمم تدريجياً ، ولا تمضي مدة طويلة حتى يقضي أعز أيام شبابه في زاوية المستشفى مع جسم نحيف وكبد ملتهب ومتورم ، وأعصاب مختلة ومرتعشة ، وبتلك الصورة يتجرع آخر لحظات حياته غصصاً وهموماً لقاء تخلفه عن القانون الكوني.

يقول النبي العظيم (ص) : « لا تعادوا الأيام فتعاديكم » (2) .

وكذا ورد عن الامام علي (ع) أنه قال : « من كابر الزمان غلب » (3) فالذي يعاند الزمان يهلك.

وعن الامام الجواد (ع) راوياً عن جده (ص) : « من عتب على الزمان

__________________

(1) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 219.

(2) سفينة البحار مادة ( يوم ) ص 741. وواضح أن العداء مع الأيام لا يعني إلا التخلف عن قوانينها وعدم الانقياد للسنن الكونية الصارمة.

(3) تحف العقول ص 85.

١٠٩

طالت معتبته » (1) . فالذي ينظر إلى الدنيا نظرة المتشائم المتنكر ويعاتب الدنيا سخطاً عليها ، فإن عتابه سيطول من دون جدوى.

ومن هنا يتحتم على الآباء والأمهات الذين يأملون أن ينشأ منهم أطفال عقلاء سالمون أن يراعوا جميع القوانين التكوينية من الجانبين الجسدي والروحي. فكل عيب أو انحراف يظهر في سلوك الأطفال ـ مهما كان حقيراً ـ فان العلة في ذلك هو التخلف عن بعض السنن الالهية في هذا الكون العظيم.

ومن خلال الحديث الذي أملاه الامام الصادق (عليه السلام) على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في موضوع التوحيد ، نقتطف الفقرة التالية فقد كان الامام يتحدث عن بلوغ الأولاد وإنبات الشعر في وجوههم فسأله المفضل قائلاً : « يا مولاي ، فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر. فقال : ذلك بما قدمت إيديهم وإن الله ليس بظلام للعبيد » (2) ومنه يتضح أن إنبات الشعر في وجه الرجال بعد البلوغ لما كان قانوناً من قوانين الخلقة ، فإن تخلفه في مورد ما ، لا بد أن يكون معلولاً لعوامل بشرية.

الأطفال المنحرفون :

إنه بالرغم من وجود الوسائل العلمية والعملية التي يملكها الغربيون في أوربا وأمريكا نجد الأطفال المصابين بالعيوب والانحرافات يتولدون بنسبة هائلة. واليك الخبر الآتي : ـ

« يولد في الولايات المتحدة الأمريكية 4200000 طفل سنوياً. ولكن مئات الألوف منهم مصابون بنواقص وعيوب ناشئة قبل الولادة. وأكثرهم يشكون من الأمراض القلبية ، والشلل العصبي ، والصرع ، والعمى ، والصمم ، وغير ذلك.

__________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 17|101 الطبعة القديمة.

(2) بحار الأنوار ج 2|20.

١١٠

ومصافاً إلى ذلك فمن بين خمس نساء حوامل لا تفلح واحدة منهم في ولادة طفل حي والسبب في ذلك أمران : أحدهما الاجهاض. والآخر موت الطفل حين الولادة. هذه الحقائق ولدت مشاكل شخصية وطيبة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحتل جانباً مهماً من اهتمام الأطباء » (1) .

إن الدول الأوروبية والولايات السوفياتية لا تقل إصابة بهذه المشاكل والمصائب من أخواتها الولايات المتحدة الأمريكية. فلو كان أولئك يضعون إحصائياتهم تحت متناول من يشاء كما يفعل الأمريكان ، لعلمنا أنه ينشأ فيها سنوياً ما لا يقل عن مئات الألوف من المنحرفين والمصابين بالعيوب والنواقص.

والحق أن تولد مئات الألوف من الأطفال المنحرفين في السنة مصيبة عظيمة ومشكلة عويصة لدولة. ومما لا شك فيه أن جرائم الأبوين وعدم رعايتهما للقوانين الأخلاقية والكونية والالهية وتماديهم في تناول المسكرات وتلبية نداء الشهوة من دونما رادع ، ومقامراتهم واضطراباتهم العصبية هي العوامل الأساسية لهذا الشقاء العظيم.

__________________

(1) مجلة ( أخبار هفته ) الايرانية الصادرة بتاريخ 28|2|1338 هجرية شمسية. وبعد مثل هذه الاحصائيات نرجو أن يحكم القارئ الكريم من هم التقدميون؟!!.

١١١

١١٢

المحاضرة الخامسة

حول القضاء والقدر - الأطفال اللاَّشرعيُّون

قال الله تعالى: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (1) .

ركنا السعادة:

سندخل من اليوم في بحث التربية والأدوار التي بعد الولادة. إن التربية أحد ركني السعادة، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما: الوراثة والتربية. وفصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى. ولكنا في هذه المحاضرة وما يليها من المحاضرات سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد، وهو التربية.

إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بإمكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما. فتتغلّب عليه وتضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها وأصالتها، إلاّ في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي (أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية) ففي هذه الصور، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً وقدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً.

ولأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح، لا بد من البحث بصورة موجزة عن القضاء والقدر والمصير، ثم ندخل إلى صلب الموضوع. فهناك الكثيرون ممن يؤدّي بهم الجحود أو

____________________

(1) سورة الإسراء |24.

١١٣

الجهل إلى أن ينكروا تأثير القضاء والقدر إنكاراً تاماً، زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر. كما أن هناك طائفة أخرى - في قبال هذه الطائفة - تخضع جميع الوقائع والأحداث، جهلاً بحقائق الدين والعلم، إلى القضاء والقدر الحتميين، ويرون أن البشر عاجزون عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها. ولكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء والقدر، وعلى أساس مقاييس وقوانين دقيقة.

معنى القدر:

يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (1) . فأصغر الذرَّات الأرضية وأكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق وتقدير صحيح، كلٌ قد انتظم في مكانه الخاص به.. وهذا هو معنى القدر. إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم والحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف ومقداره قبل أشهر عديدة. فإذا لم يكن وضع الشمس وحركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغيّر، فإنه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ. وبهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس والقمر فيقول: ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (2) .

وهكذا، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً وثابتاً، وإذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض، وإذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة، وإذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الإنسان فتتحول إلى موجود كامل... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الإلهية، وكلها مظاهر لقضاء الله وقدره. إذن، فالعالم يسير بموجب القضاء والقدر، وكل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإلهي.

____________________

(1) سورة القمر |49.

(2) سورة الرحمن |5.

١١٤

الجبر والتفويض:

وأحد الموجودات في هذا العالم هو الإنسان، ترتبط كل قواه وأفعاله، وجميع حركاته وسكناته، بالقضاء والقدر الإلهيين. فدقات القلب ودوران الدم، والإحساس في العصب، والهضم في المعدة، والتصفية في الكبد، والإبصار بواسطة العين، والسماع بواسطة الأذن... كل أولئك يسير حسب قضاء الله وقدره، ولكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء والقدر ينقسم بالنسبة إلى الإنسان إلى قسمين:

فقسم منه يتسم بطابع الحتمية والجبرية حيث يجري من غير إرادة الإنسان واختياره، وقسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا وخاضعاً لاختيارنا. ولنأخذ مثلاً على ذلك: اللسان. فهو عضو من أعضائنا وجزء من بدننا وله مقدَّرات كثيرة. فأحد تلك المقدَّرات جريان الدم في عروقه. ومنها أيضاً تكلّمه. أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا واختيارنا، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا. وهنا (في دوران الدم في اللسان) قضاءان: الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإلهي. والثاني جبرية هذا الدوران وحتميَّته في اللسان بالتقدير الإلهي أيضاً، حيث لا مجال لإرادتنا واختيارنا فيه.

هذا هو أحد المقدَّرات بالنسبة إلى اللسان، وقد عرفنا التقدير الإلهي فيه.

وأما المقدَّر الآخر، فهو صدور التكلّم منه. ولكن الواضح أن التكلّم نفسه خاضع لإرادتنا، فبإمكاننا أن نتكلم، وبإمكاننا أن نسكت. كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا، ونستطيع أن نكذب. فهنا أيضاً (في تكلُّم اللسان) قضاءان: الأول صدور التكلّم من اللسان بالتقدير الإلهي. والثاني اختيارية التكلم، وإراديته أيضاً بالتقدير الإلهي.

ومن هنا يتضح جلياً أن القضاء والقدر قد يجريان بصورة جبرية.

١١٥

وأحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا. فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم وحتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإلهي، وهو صريح قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) . ولكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي وانقطاع النشاط الحيوي. كما يمكن أن يتم بإرادة واختيار من قبل شاب يملك من القوة وسلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقْدِم على الانتحار.

وهكذا فالشيخ الذي عمر مئة سنة حتى مات حتف أنفه، والشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته واختياره، متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله وقدره. مع فارق واحد وهو أنه في الصورة الأولى كان القضاء والقدر حتميين غير اختياريين، بينما في الصورة الثانية استغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء والقدر وأنهى بذلك حياته.

وعلى هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا (ع) حيث يقول: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (كان علي بن الحسين (ع) إذا ناجى ربه قال: اللَّهُم إني قويت على معاصيك بنعمك) (1) . ومعنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية والاختيار التي وهبها الله له بالقضاء والقدر استغلالاً سيئاً، فيصاب بالانحراف.

إرادتنا واختيارنا:

النقطة التي تزل عليها الأقدام غالباً، هي أن الناس متى سمعوا اسم القضاء والقدر ظنوا أنه حتمي وجبري. في حين أن الحق ليس كذلك، فقد يتمثل القضاء والقدر الإلهي في اختيار الناس وإرادتهم. وهناك حديث عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) يؤيد هذا الموضوع بوضوح: عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل - سأله بعد انصرافه من الشام - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟ قال (عليه

____________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 3|ص3.

١١٦

السلام): (نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره.. ).

(فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟) أي: فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله...؟

فيجيب الإمام (ع):

(مه يا شيخ، فإن الله قد عظّم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم؟! لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد) (1) .

فنجد الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الإرادية للبشر إلى القضاء والقدر الإلهي. ولكنه مع ذلك يقول: إن هذا القضاء لم يكن حتمياً، والقدر لم يكن لازماً.

وبنفس المضمون ورد حديث آخر عن الإمام الرضا (عليه السلام) يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول: فما أمر بين أمرين؟ فقال: (وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا وترك ما نهوا عنه) (2) .

الأمر بين الأمرين (3) :

وهنا يسأل الراوي: (فقلت له: فهل لله (عزَّ وجلَّ) مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال: (أما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها: الأمر بها، والرضا لها،

____________________

(1) تحف العقول ص468.

(2) بحار الأنوار ج 3|5.

(3) تنقسم المذاهب الإسلامية بالنسبة إلى موضوع (حرية الإرادة عند الإنسان) إلى ثلاث فرق: فطائفة ترى أن للإنسان الحرية الكاملة في إتيان ما يريد وترك ما يشاء، وهؤلاء هم (المفوِّضة) حيث يقولون بأن الله فوَّض إليهم الأمور. و طائفة ثانية ترى أن الإنسان لا يملك أي حرية في أفعاله، بل أفعاله في الحقيقة هي أفعال الله التي خلقها فيه، وهؤلاء هم (المجبِّرة) حيث يقولون بأن الله أجبرهم على أفعالهم. و الطائفة

=

١١٧

والمعاونة عليها. وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها، والخذلان عليها).

فهذه الفقرة تبيّن إرادة الله في أعمال البشر وكيفية التأثير عليها... (قلت: فلله (عزَّ وجلَّ) فيها القضاء؟! قال: (نعم، ما من فعل يفعله العبد من خير وشر إلاَّ ولله فيه قضاء). قلت: فما معنى هذا القضاء؟! قال: (الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة) (1) .

فنجد أن الإمام الرضا (عليه السلام) يسند جميع الأفعال الصالحة والطالحة للبشر إلى القضاء الإلهي بكل صراحة، فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم... تلك الحرية، وذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة والعقاب في المعصية.

____________________

=

الثالثة تقف موقفاً وسطاً بين الإفراط في حق الإرادة الإنسانية والتفريط فيها، وهي التي ترى أن (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين)، وهؤلاء هم (الإمامية).

وأول مَن عبَّر عن هذا الاصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق (رئيس المذهب الجعفري). ولقد كثر البحث والنقاش في الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة، ولكن المثال الآتي يؤيد صحة استناد أفعالنا إلى إرادتنا وحريتنا، في حين كونها مسيرة بإرادة الله أيضاً ويثبت حقانية مذهب الأمامية في الموضوع:

لنفرض إنساناً كانت يده شلاَّء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب بأن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً. فتحريك المريض يده والطبيب يمده بالقوة في كل آن يوضح الأمر بين الأمرين، حيث لا تستند الحركة إلى الرجل مستقلاً؛ لأنها موقوفة على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب. ولا تستند إلى الطبيب مستقلاً، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ولم يفوّض إليه الفعل لأن المدد من غيره، وهكذا فالأفعال الصادرة منا بمشيئتنا، ولكننا لا نشاء شيئاً إلاّ بمشيئة الله. ولتفصيل الموضوع يراجع كتب العقائد والكلام المفصّلة. وكذلك تجد رد شبهة الجبر بالتفصيل في كتاب (دفاع عن العقيدة) ص 135 - 151، للمترجم.

(1) بحار الأنوار ج 3|5.

١١٨

القضاء الإلهي:

ولأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار. فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلَّطة بالرُّخام، وقال في نفسه: لو كان المقدّر لي أن أموت فاني أُلاقي حتفي وإن لم أرم بنفسي من فوق السطح، وإن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة وإن رميت نفسي من على السطح... ففي ذلك خطأ فظيع. لأن لله تعالى عدة مقدَّرات جبرية بهذا الشأن، ومقدّر اختياري واحد. أما المقدرات الجبرية، فهي عبارة عن:

1 - أن القضاء والقدر الإلهيَّين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً وقوياً.

2 - خلقت جمجمة الإنسان بموجب القضاء والقدر من عظم دقيق قابل للتهشّم.

3 - القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء، إليها.

4 - أن القضاء والقدر الإلهيَّين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته ويتلاشي مخه.

5 - القضاء والقدر الإلهيَّين يقضيان بموت الإنسان عند تلاشي مخه.

هذه هي الأقدار الإلهية الحتمية والجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار.

6 - القضاء والقدر الإلهيَّين يحكمان بأن للإنسان الإرادة والاختيار الكاملين، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة.

إذن، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض: إن القضاء الإلهي بالنسبة إلى موتك وحياتك يتبع إرادتك واختيارك. فإن اخترت الإلقاء بالنفس من السطح فالمقدّر أن تموت. وإن اخترت الهبوط على السلم فالمقدّر لك أن تبقى حياً. وعلى كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء والقدر.

١١٩

ومن خلال الحديث الثاني نتبيّن حرية الإرادة الإنسانية، بالرغم من جريان القضاء والقدر على جميع الأمور، لأن للإنسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر. فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك. عن ابن نباتة قال: إن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر. فقيل له: يا أمير المؤمنين، تفر من قضاء الله؟! قال: (أفر من قضاء الله إلى قدر الله عزَّ وجلَّ) (1) .

حرية البشر:

إن أهم ما يمتاز به الإنسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه. فجميع الترقيات وأوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة. تمر قرون مديدة على النَحلة ولا تزال تبني بيتها على شكل سداسي، وستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة؛ لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً. تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها. ولكن الإنسان الحر لا يزال يتكيّف مع بيئته وظروف حياته، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ، ومنها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم. ومن المؤمل أن نفصّل القول حول الحرية البشرية والاختيار الفطري للإنسان في محاضرة خاصة إن شاء الله.

للإنسان أن يُقرِّر مصيره:

إن جانباً من القضاء والقدر يرجع إلى إرادتنا واختيارنا، وإن الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الإرادية. ولهذا فإن الثواب والعقاب من قبل الله نظير الجزاء والعقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر واختيارهم.

____________________

(1) بحار الأنوار ج 3|33.

١٢٠