الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 68220
تحميل: 7265


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68220 / تحميل: 7265
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المحاضرة الثانية عشرة:

الاختبار النفسي

قال الله تعالى:

( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (1)

لقد تطرّقنا في المحاضرة السابقة إلى قصة الأم التي أنكرت ولدها الحقيقي، وقد استند الإمام أمير المؤمنين ( ع ) إلى قوة الوجدان الأخلاقي في مقام القضاء، واكتشف الضمير الباطن للمرأة وجعلها تقر بأمومتها ولما للاختبار النفسي والوصول إلى الأسرار الباطنية من أهمية كبيرة في البحوث النفسية والتربوية؛ فأننا نخصّص بحثنا في هذه المحاضرة لذلك.

العقدة النفسية:

هناك بعض الأسرار التي توجد عقدة في باطن الأشخاص حيث لا يمكن اكتشافها من جهة، وإن كتمانها يسبّب القلق والاضطراب من جهة أخرى، وهي تجعل الحياة أحياناً مرة وجحيماً لا يطاق، وأحياناً تسبب أمراضاً نفسية. إن السبيل الوحيد للعلاج منحصر في اكتشاف ذلك السر المكتوم وحل تلك العقدة، وهذه مهمة شاقة جداً.

____________________

(1) سورة القيامة |1-2.

٣٠١

الضمير الباطن والظاهر:

ولإيضاح معنى الضمير الباطن والضمير الظاهر من زاوية علم النفس نجد من الضروري أن نمثّل لهما بمثال: تصوّروا أسرة متوسطة مسلمة عاشت حياتها في طهارة وشرف، فالزنا والاستهتار يعدّان عملا شنيعاً في أنظار أفراد الأسرة. ولم يسبق لهم أن دنّسوا أذيالهم بتلك الجريمة. تتعارف فتاة من هذه الأسرة مع شاب بصورة سرية، وبعد عدة لقاءات عادية يتفقان على أن يقضيا نهاراً كاملاً معاً. تخرج الفتاة بحجة التذاكر في الدروس والذهاب إلى بيت إحدى زميلاتها وتذهب مع رفيقها للنزهة إلى ( سد كرج )، يتنزهان لساعتين أو ثلاث، ويتلذّذان بمشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة... وعند الظهر يذهبان إلى بيت ما للاستراحة وتناول طعام الغذاء. المحيط الهادئ وانعدام الرقيب عليهما يهيّجان عواطف الشباب و - بصورة موجزة - ينال وطره من الفتاة. وبالرغم من أن الفتاة لم تكن تملك فكراً هادئاً من أول الصباح وكانت تحس بالقلق في باطنها، لكن فقدان بكارتها سبب لها انهيار شديد، ولكن الآوان قد فات، وقد وقع ما كان واجباً أن لا يقع. وعند المغرب يرجعان إلى المدينة. كان غياب الفتاة هذا اليوم للمطالعة والتذاكر العلمي في الظاهر، ولكن قد وقع في الباطن اتصال غير مشروع. إن الفتاة تحس باضطراب شديد من جراء عملها هذا، وتشعر بأن شرفها مهدد بالخطر، فإن أفشي سرها فإن ذلك سيجر لها فضيحة عظيمة. إنها تفكّر، وتخطّط، وتصمّم في النهاية - خلاصاً من الفضيحة - أن لا تتزوج مدى العمر وتحتفظ بهذا السر وتصحبه معها إلى القبر. ولتنفيذ خطتها هذه تبدأ بالتمهيد للموضوع، تتحدث عن مشاكل الزواج أحياناً. ثم لا يمضي بضعة أشهر حتى يجيء إليها من يطلب يدها. الفتاة تختفي عن الخاطبات، وتخبر أبويها وأفراد أسرتها عن امتناعها عن الزواج وتتحدّث عن تصميمات دائماً: لا أتزوج، الرجال غير أوفياء، لا يوجد رجل في مجتمعنا. لماذا أتزوج؟ لماذا أرمي بنفسي في دوامة المشاكل والآلام؟ وما أكثر الفتيات اللاتي تزوجن ورجعن بعد عدة أشهر إلى بيوت آبائهن حوامل، وقضين حياة ملؤها الكدر والأسى. إني لا أرمي بنفسي في هوة الشقاء والتعاسة أبداً! وتكثر من الحديث عن أمثال هذه القضايا وتستشهد ضمناً

٣٠٢

بحياة بعض الفتيات، ولكنه يوجد في باطن الفتاة ضمير مستتر آخر تكتمه عن كل أحد. ولكنها حين تختلي بنفسها أو تذهب إلى الفراش تتحدث إلى نفسها: ما أشأم ذلك اليوم! لماذا ألقيت بنفسي في هذه المخاطر؟ كيف أديت بنفسي إلى الشقاء والتهلكة؟! كيف أعيش عمري وحيدة محرومة من لذة الحياة الزوجية؟! تتحدث مع نفسها عن الماضي دائماً وتظهر الندم والأسف باستمرار، وقد تهمي الدموع لذلك!!

يوجد في باطن هذه الفتاة ضميران: أحدهما ظاهر، والآخر ضمير باطن. لقد رتّبت الأحاديث في ضميرها الظاهر وأينما جلست تتحدث قائلة: لا أتزوج، الرجال غير أوفياء، لا يوجد رجل في مجتمعنا أصلاً، لا أسبّب الشقاء لنفسي، وما شاكل ذلك من الأحاديث. أما في ضميرها الباطن، فتوجد أشياء لا ترضى بأن تخبر عنها أحداً، وهي المطلعة عليها فحسب. لماذا خرجت للنزهة؟ لماذا عاشرت رفيق السوء؟ لماذا أشقيت نفسي مدى العمر؟ وما شاكل ذلك...

رقابة الضمير الباطن:

ولأجل ألا يطلع شخص على أسرار ضميرها الباطن، فإن الفتاة تراقب حركاتها وألفاظها تماماً، وتتكلم بكل حيطة وحذر، وتنفر من الكلمات التي ترتبط بسرها، وتحاول أن لا تستعملها في أحاديثها أصلاً، ومثلاً على ذلك فإنها تتألم وتتنفر من كلمات: السد، كرج، البحيرة، المحرّكات، الجسر، البساتين، وتتجنب ذكرها دائماً، وعلى ما يقول علماء النفس فإن ضميرها الظاهر يضع ضميرها الباطن تحت رقابة شديدة.

تمر سنة أو سنتان على هذا الوضع، ولكن القضية تكسب لوناً جديداً بالتدريج. فمن جهة تصاب الفتاة - على أثر الضغط الروحي الدائم، والألم الباطن، والاضطراب والأرق - بالاضطراب الفكري، والانزجار النفسي، وتفقد طاقتها بالتدريج. ومن جهة أخرى فإن والديها وأسرتها يرون هذا الوضع الشاذ نتيجة عدم الزواج، ويلحون عليها في أن تتزوج وتنهي كلماتها الباطلة. وهكذا تؤدي هذه المجموعة من العوامل الداخلية والخارجية إلى أن

٣٠٣

تصاب الفتاة بمرض روحي وتصاب بالجنون في النهاية. يراجع أهلها الطبيب، ولكن المرض يشتد يوماً فيوماً، وإن الطريق الوحيد للعلاج هو اكتشاف السر الذي تعرفه الفتاة فقط، وهي غير مستعدة لإفشاء ذلك السر بأي ثمن كان.

إن اكتشاف الضمير الباطن للفتاة، والوصول إلى سرها الذي يقع تحت رقابة شديدة مهمة شاقة جداً، ويجب الاستفادة من بعض الآثار والعلامات التي تنبع من أعماق روحها في حالات خاصة.

( يجب لهذا العمل التصدي لاكتشاف الشواهد والإمارات. وكما يمكن أن نتوصل إلى وجود حيوان عظيم يسبح تحت ماء المحيط المظلم المتراكم، من بعض حركات الماء أو الارتفاع المؤقّت في سطح الماء، فلا بد من ممارسة ودقة كثيرتين للاستفادة من بعض الظواهر المؤقتة في كشف بعض الأسرار. وأخيراً فبالإمكان أن يترصّدوا - بكل صبر وتحمل - اللحظة الخاطفة التي يفقد المصاب وعيه ويكشف عن السر عندما لا يحس بأي رقابة عليه) (1) .

طرق اكتشاف السر الباطن:

يمكن الاستفادة من بعض الوسائل العديدة في الوصول إلى اكتشاف الأسرار الباطنية للأشخاص، ما عدا التعذيب فإنه عمل غير إنساني، وإليك بعض النماذج:

1 - لقد وجدنا - في المحاضرة السابقة - كيف استفاد الإمام أمير المؤمنين ( ع ) من قوة الوجدان وقبح التزوّج مع الابن في اكتشاف سر المرأة، إذ أجبرها على أن تعترف بأمومتها بصراحة وتعلن الأساليب الشاذة التي ارتكبتها لإنكار ذلك.

2 - القصة المعروفة التي جرت بين ( ابن سينا ) والمريض بمرض العشق: لقد حضر ابن سينا عند مريض كان يخفي في ضميره عشقاً شديداً لا يستطيع

____________________

(1) فرويد ص 34.

٣٠٤

إظهاره، أخذ نبضه في يده وطلب ممن كان يعرف أسماء محلاّت المدينة أن يذكرها واحدة بعد الأخرى، وعندما وصل إلى اسم إحدى المحلات أخذ نبض المريض يدق بسرعة شديدة. فأمر ( ابن سينا ) أن يذكر أسماء أزقة تلك المحلة. ولقد أدى ذكر اسم أحد الأزقة إلى الإسراع في نبض المريض. وأخيراً طلب أن يذكر له أسماء البيوت التي في ذلك الزقاق. وأسماء الساكنين في تلك البيوت، حتى جاء ذكر فتاة، فاشتد نبض المريض بصورة فائقة. وهناك توجه ( ابن سينا ) إلى الحاضرين وقال لهم: إن هذا المريض يعشق فتاة ذلك البيت وأغرم بها. لقد توصّل ( ابن سينا ) إلى اكتشاف سر المريض عن طريق دقات نبضه واكتشف عشقه وغرامه لتلك الفتاة (1) .

2 - يمكن إخضاع المريض للتنويم الاصطناعي، وإجباره على إفشاء أسراره الباطنية بعد سلب إرادته واختياره.

4 - تغير سحنات الوجه: فمن الممكن التوصل إلى الأسرار الباطنية عن طريق ملاحظة التغيرات الطارئة على سحنات الوجه والحركات غير الاعتيادية التي تصدر منهم في بعض الأحيان. فمثلاً يقرأ أحد أفراد الأسرة صحيفة بصوت عال والكل يصغون إليه، ويصل في الأثناء إلى حادثة فتاة أغفلها شاب وفعل معها كذا وكذا. إن جميع أفراد الأسرة يتلقون الحادثة بصورة اعتيادية تماماً ويتعجّبون منها أو يتأثرون بالمقدار العادي، ولكن الفتاة الآنفة الذكر التي أغفلت وفقدت شرفها وعفافها تضطرب عند سماع القصة المشابهة لقصتها، ويمتقع لونها، وتصاب بالقلق والذهول، لا ترغب في سماع القصة. ولكيلا يطّلع الآخرون على قلقها واضطرابها تظهر بمظهر الغافلة عن الحادثة، وتشغل نفسها بشغل آخر في ذلك الوقت، أو تنادي طفلة جيرانهم بصوت عال. وبصورة موجزة: فإنها تحاول أن تتظاهر بأنها غير مصغية للصحيفة وتتشاغل بشغل آخر، وهي غافلة عن أن هذه الأعمال إنما هي علائم وضعها الشاذ، وهي تكشف بذلك قلقها الباطن.

الخلاصة: إن تغير سحنات الوجه والقيام بالحركات غير الطبيعية

____________________

(1) دائرة معارف دهخدا الفارسية - مادة ( أبو علي ) ص 644.

٣٠٥

والمرتبكة، من أهم وسائل اكتشاف أسرار الأشخاص وضمائرهم الباطنة.

أما فرويد:

لقد استند فرويد لاكتشاف أسرار الأشخاص، إلى طريقين أكثر من غيرهما، وهما: الكلمات أو الأفعال التي تصدر في غير محلها، والتي تقع سهواً ومن دون إرادة، و الأحلام وتفسيرها.

لقد ظن بعض علماء الغرب أن فرويد أول من استند إلى فلتات اللسان، وتفسير الأحلام في الوصول إلى الضمير الباطن وربما يقع بعض الباحثين في بلادنا أيضاً في نفس الخطأ، في حين أن الإسلام سبق فرويد إلى العمل بهما. وقد ذكرت تطبيقات عليهما في بعض الكتب الدينية. هذا مضافاً إلى أن نظرية فرويد حول تفسير الأحلام ناقصة وغير ناضجة. أما نحن فسنحاول أن نتكلم في هذه المحاضرة بشيء من الإسهاب والوضوح حول الموضوع.

فلتات اللسان:

ولأجل أن يتضح دور فلتة اللسان في فضح أسرار الإنسان، نستشهد بنفس قصة الفتاة. لما كانت الفتاة تحمل في داخلها خاطرة سوداء وذكريات مرة عن حادثة ( كرج ) وتخاف من انفضاح أمرها بشدة، فهي تصمم على أن لا تتحدث عن ( كرج ) ولا عما شاهدته هناك. وتلاقي لذلك عنتاً شديداً وتراقب نفسها دائماً. ويصادف أن تذهب إلى زيارة عمها بصحبة أبويها، وذلك بمناسبة عودته من زيارة الإمام الرضا ( ع ) بخراسان. وتذهب العشيرة كلها بصورة تدريجية لزيارته. الغرفة مكتظة بالزائرين، والكل يباركون قدوم الزائر الجديد. وعلى الفتاة أن تتكلم بكلمة أو كلمتين وتحيي عمها بذلك، وفي اللحظة المناسبة، وعندما يلتفت عمها نحوها ترفع صوتها وتقول مع كمال الأدب: لقد شرفت يا عمي العزيز، أهلاً وسهلاً بك، قرت الأعين بك، تقبل الله الزيارة، أرجو أن تكون قد استأنست كثيراً بزيارة ( كرج ). العم يبتسم، ثم يشكرها. ولكنه يقول: أنا لم أذهب إلى كرج بل كنت ذاهباً إلى مشهد، وهنا تضطرب الفتاة وتحس بارتباك شديد وتعتذر من خطأتها.

٣٠٦

إن الإتيان بكلمة ( كرج ) بدلاً من ( مشهد ) يمكن أن يعد أمراً اعتيادياً جداً في أنظار الناس، وربما يحمل الأمر عندهم على خطأة لفظية، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى عالم نفساني. فإن لكلمة ( كرج ) التي فلتت من لسان الفتاة جذوراً في نفسها. فيجب البحث عن منشأ هذه الكلمة، خصوصاً وأن الفتاة قد تغير لونها وارتبكت بعد أن عرفت أنها أخطأت، فإن عينيها المضطربتين ووضعها المرتبك يكشفان عن بركان ثائر في باطنها.

قد تنبعث من النار المستورة بالرماد شرارة ترشدنا إلى أن في قلب الرماد ناراً، وإن فلتان اللسان والحركات غير الإرادية تشبه الشرارة المنبعثة من باطن الرماد والتي يمكن الاستناد إليها في الوصول إلى الضمير الباطن.

( من المتاهات التي أخضعها فرويد لبحوثه في بدء اختراعاته هي الأفعال الساهية. إن المراد من الأفعال الساهية في اصطلاح النفسيين، هو الأفعال التي تصدر من الإنسان وهي فاقدة للأهمية في بداية الأمر. كالاشتباه في استعمال الألفاظ أو العبارات. إن علم النفس القديم كان يعزو - عبثاً - هذه الاشتباهات وهذا النوع من السهو في الكلام إلى الصدفة والتعب الفكري، والذهول وعدم الدقة. أما فرويد، فلم يكتف بهذه الإيضاحات وأخذ يبحث بدقة أكثر، لماذا ينفضح الذهول؟ وما معنى الذهول أصلاً؟ أليس سوى ظهور الأفكار والتوجيهات التي لا يراد لها الظهور في وقت ما؟ لماذا لا يقع عمل إرادي، ويقع بدلاً منه عمل من دون أن يريده شخص؟ نحن نفكر، نريد أن نتكلم وفجأة نعبر بعبارة أخرى غير التي كنا قد أعددنا لها في أذهاننا، لماذا؟ لا بد من ميكانيكية تجعلنا نتفوّه بكلمة بعيدة عن ذهننا تماماً بدل الكلمة التي نريد استعمالها كقطعة النقد الزائفة. لا بد من وجود ميكانيكية خاصة توجد انحرافاً في خواطرنا في نفس اللحظة التي نريد أداء الكلمة المقصودة ).

٣٠٧

( إن العمل العابث ليس كما تظن الغالبية عملاً ناشئاً من الذهول والارتباك في التفكير، بل إنه أحد الموارد التي تظهر فيها الفكرة المكبوتة من أعماق عالم اللاشعور. هذه الأخطاء إنما هي نماذج مما تحاول الإرادة الشعورية إخفاءه بصورة دائمة).

( من هنا يستنتج: أن العمل العابث والساهي يفضح أمر صاحبه دائماً تقريباً ) (1) .

إن الفتاة كانت تريد أن تقول ( مشهد ) ولكن فلتت على لسانها كلمة ( كرج ). ومع الانتباه إلى سوابق الفتاة وأنها تعيش حياتها في اضطراب وتشويش بال لفترة غير قصيرة، وأنها مصابة بمرض نفسي وتبتعد عن الزواج وعن ذكره، فإن الإتيان بتلك الكلمة أمر يسترعي الانتباه، فباستطاعة الوالدين أن يكتشفا ضميرها الباطن ويطلعان على سرها المكتوم. ولقد ظن البعض أن فرويد هو أول من التفت إلى هذه النكتة مستعيناً بفلتات اللسان في الوصول إلى كشف الأسرار. يقول ( فليسين شاله ) في موضوع السهو والاشتباه، ما يلي: ( إن فرويد ينسب إلى جميع هذه الأفعال التي تعتبر لأول وهلة مجرد مصادفة واعتيادية، طابعاً لم يتوصل إليه فكر أحد، ويكتشف في وراء تلك الأفعال عن قضايا مخبوءة أو استياء، أو ميل نحو أمر مضاد ) (2) .

لقد صرّح الإمام أمير المؤمنين ( ع ) بهذه الحقيقة النفسية في كمال الوضوح حين قال: (ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (3) .

____________________

(1) فرويد ص 35.

(2) فرويد وفرويديسم ص 48.

(3) نهج البلاغة ص 518.

٣٠٨

يمثَّل فرويد للكلام الساهي العابث بمثال ننقطه نصاً:

( يقف معلم في حصة الإنشاء بالنسبة إلى موضوع إنشائي أعده أحد تلاميذه. على سبيل التمجيد به، ويقول خطأ: ( لا أعلم كيف أذم! ) إن المعلم بحسب فحواه الإرادية وأفكاره الشعورية لما كان في مقام التمجيد فلا بد أنه كان يريد أن يقول: ( أمدح ). ولكنه لما كان عالماً بتفاهة الموضوع الإنشائي الذي كتبه التلميذ فكان مقصوده متوجهاً نحو ( المذمة ) نفسها. وعلى هذا فإن فلتة المعلم في كلامه كشفت عن نيته الأصلية والباطنية تلك النية التي كان يريد أن يسترها بإرادته الشعورية لمبررات خاصة ويظهرها في صورة المدح والتمجيد. وفي الحقيقة فإنه في حين ارتكاب تلك الخطأة قد عبّر عن عقيدته التي كان يبطنها، ولكنه كان يتفادى ظهورها ) (1) .

وإذا حاول أحد أن يختصر هذه العبارة، ويوجز هذا النص فلن يستطيع أن يأتي بأجمع وأشمل من كلام الإمام أمير المؤمنين ( ع ). فسلام على روح طاهرة من إمام كشف كثيراً من الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرناً في عبارات قصيرة وجمل مفيدة.

لقد أخطأ ( فليسين شاله ) حين ادعى أن هذا الموضوع لم يخطر ببال أحد حتى زمان فرويد. إن حديثه لا يستند إلى بحث علمي متين، فليس ( فرويد ) أول مَن تنبّه إلى فلتات اللسان، لقد سبقه إليها قائد الإسلام العظيم في عبارة قصيرة جداً بكل صراحة، وأوضح دورها في كشف الأسرار المخبوءة.

هناك أحاديث أخرى في الكتب الدينية في هذا الموضوع. وبالرغم من أنه لم يصرّح فيها بالكلمات الساهية وفلتات اللسان، إلاّ أنه يمكن استفادة هذا الموضوع منها، يقول الإمام أمير المؤمنين ( ع ): (إن أحببت سلامة نفسك وستر معايبك، فأقلل كلامك، وأكثر صمتك) (2) إن الإنسان لا يكشف عن

____________________

(1) فرويد ص 37.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم طبعة دار الثقافة. النجف الأشرف ص 274.

٣٠٩

عيوبه الباطنية مع إرادته واختياره أبداً، ولكنه حين يثرثر فقد تفلت من بين كلامه - ودون اختيار أو قصد - بعض أسراره وعيوبه، وكذلك ورد عنه (ع): (قلة الكلام تستر العِوَار، وتؤمن العِثَار) (1) . ويقول الإمام الجواد (ع) راوياً عن جده: (المرء مخبوء تحت لسانه) (2) أي أن اللسان يستطيع أن يكشف سر الإنسان إما عمداً أو سهواً.

وعن الإمام علي بن أبي طالب (ع): (إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرّك عليك من أعدائك ما سكن) (3) .

الأحلام وتفسيرها:

إن الطريقة الثانية التي اعتمد عليها فرويد كثيراً في اكتشاف الضمير الباطن هي تفسير الأحلام، ولقد كانت توجد - ولا تزال - عقائد مختلفة في الماضي والحاضر حول الأحلام. ولقد تطرّق فرويد نفسه في كتابه "تفسير الأحلام" ، وكذلك كل مَن كتب عن نظريات فرويد، إلى بيان آراء العلماء الآخرين ونظرياتهم في هذا الموضوع بإسهاب. ولأجل أن يتَّضح الموضوع للمستمعين الكرام، نرى لزاماً أن ننقل هنا بعض العبارات من تلك النظريات المختلفة:

(كان المعروف فيما مضى أن الأحلام تلهم إلى النفوس بواسطة قوة فوق طاقة الإنسان. كانوا يعتبرون منشأ الإلهام وجوداً غير أرضي، وخارجاً عن طاقة الإنسان. وحيث كانوا يعتبرون المظهر لكل إرادة خارجة عن قدرة الإنسان الخارجة عن الأرض متمثلاً في الآلهة، اضطروا لاعتبار الأحلام نوعاً من الظهور الجسماني لإرادتهم، حيث كانوا يبشّرون الأفراد بالخير والأمل أو يتنبّئون لهم بوقوع المآسي والحوادث المؤلمة. وبالتدريج فقد برز الكهنة في تأويل إشارات الحلم الغامضة،

____________________

(1) غرر الحكم ودرر الكلم ص 537، ط النجف.

(2) بحار الأنوار ج 17|101.

(3) غرر الحكم ودرر الكلم ص 155.

٣١٠

وتفسير أسراره الدقيقة، ومن هنا صار علم تفسير الأحلام من العلوم البدائية في المجتمع الإنساني، علماً له أهمية في الحياة اليومية الناس: لأن الكهنة - على خلاف علماء النفس المعاصرين الذين يسعون في تفسير الأحلام إلى البحث عن حياة الإنسان الماضية - كانوا يعملون في تفسير الأحلام على اصطناع أخبار عن المستقبل على لسان الآلهة ونشرها) (1) . إن بعض الفلاسفة لم يبتعدوا كثيراً عن طريق الكهنة في تفسير الحلم على ضوء عالم ما وراء الطبيعة، ويقولون بأن منشأ الحلم هو نشاط خاص للروح التي تصعد إلى العالم الأعلى كما يقول (شوبر): إن النوم عبارة عن انطلاق الخاطر عن قيد العالم الخارجي وخلاص الروح من أسر المادة) (2) .

(أما الأطباء الذين يكتبون حول الأحلام، فإنهم - بخلاف الفلاسفة - لا يعتبرون الحلم عملاً روحياً. بل يرون أن صور الأحلام هي نتاج حركات الجسم والحواس التي تصل من العالم أو من اختلاج الأعضاء الباطنية إلى النائم، وعلى هذا يجب اعتبار الحلم أمراً تافهاً شبيهاً بلحن يخرجه إنسان لا يجيد الضرب على الآلة الموسيقية. كما يقول (بينز): إن الحلم عمل جسماني تافه دائماً، وناشيء من المرض في الغالب. يقولون: إن العوالم الخاصة بالأحلام هي نتاج النشاط المشوّش للأفكار اليقظة في دماغ الشخص النائم. والمتحركة على أثر الحركات الجسمانية) (3) .

(يرى فرويد أن الحلم برزخ بين حياتنا المخفية وحياتنا المعقولة والمنطقية. ولهذا فإننا إذا دقّقنا البحث ونظرنا إلى الموضوع من قريب أمكننا أن نصل إلى نتائج مهمة ).

____________________

(1) فرويد ص 38.

(2) تفسير الأحلام تأليف فرويد ص 4.

(3) المصدر السابق ص 5.

٣١١

(ويرى فرويد أنه لا يمكن اعتبار أي حلم عبثاً وباطلاً وبغير معنى، بل وعلى العكس من ذلك لما كان نتيجة عمل روحي فلا بد أن يكون له معنى ومفهوم خاص. وفي النهاية فليس الحلم مظهراً من إرادة فوق طاقة البشر، بل إنه نموذج عن الإرادة المخفية للإنسان) (1) .

الإسلام والأحلام:

إن الروايات الإسلامية لا تنظر إلى جميع الأحلام نظرة واحدة، بل إنها تقسّم الأحلام إلى ثلاثة أقسام: قسم منها عبارة عن الأفكار العادية أو الأسرار المخفية للإنسان، التي تظهر بنفسها أحياناً. أو تظهر بصورة أخرى أحياناً لعلل خاصة. هذا النوع من الأحلام فقط هي التي لها قيمة علمية عظيمة في نظر التحليل النفسي وعلماء النفس، وبواسطتها يمكن الوصول إلى الضمير الباطن للأشخاص، وتعيين الجذور الأصلية للأمراض الروحية.

و القسم الثاني من الأحلام، عبارة عن الأفكار المشتّتة والمضطربة التي تتطرق إلى ذهن الإنسان في اليقظة أحياناً، وخصوصاً في حالات المرض ولا قيمة علمية ونفسية لها، وقد عبر عنها بـ (أضغاث أحلام) أو الأفكار الشيطانية.

و القسم الثالث هو الأحلام التي لها جانب إلهامي، والتي ينكشف بواسطتها بعض الحقائق المجهولة من كل جهة.

يقول الرسول الأعظم (ص): (الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله، وتحزين من الشيطان، والذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه) (2) .

التحليل النفسي قبل فرويد:

ليس مقصودنا من هذا البحث، الحديث عن الرؤيا وتفسيرها، بل إن مرادنا هو بيان أن قسماً من الأحلام هي التي تكشف أسرار الإنسان وتفضح

____________________

(1) فرويد ص 39.

(2) بحار الأنوار ج 14|441.

٣١٢

الضمير الباطن للأفراد، ولنثبت أن هذا الموضوع ليس من اختراعات فرويد، بل إن أولياء الإسلام وبعض علماء المسلمين قد سبقوه إلى ذلك؛ ولأجل أن يتنبه المستمعون الكرام في بداية الحديث إلى هدف البحث نستشهد بمثال من قصة الفتاة المخدوعة:

لقد أوردت الحادثة المزعجة والمكتومة ضربة قاضية نحو شرف الفتاة وعفتها، فقد أغفلها شاب في (كرج) وأزال بكارتها، والفتاة لم تذكر هذا السر لأحد بل احتفظت به في ضميرها الباطن. وفي عالم الرؤيا يريد ذلك السر أن ينكشف، ولكن الفتاة لم تكن في حال اليقظة مستعدة لأن تكشف ذلك السر لأحد، وكان ضميرها الظاهر مخضعاً ضميرها الباطن للرقابة الشديدة، فهي في حالة النوم كأنها تدرك تلك الفضيحة، لكن قوة مجهولة لا تسمح بأن تنكشف المخزاة بلا ستار، لذلك فإن صورة الحقيقة المرة تتبدل، وتظهر بمظهر غير مخز تماماً.

(إن حلم الشخص البالغ مخفي خلف آلاف الأستار من الكذب والتزوير والأخلاق والقوانين والأنظمة الاجتماعية، وإن هناك نوعاً من (فوق الأنا) تراقب أفعال الشخص ولو في عالم الرؤيا. لهذا فإن الإنسان يرتكب جريمته في الحلم خلف ستار من (فوق الأنا) فيخفي نفسه عن نفسه، وفي عالم كهذا حيث يتم كل شيء بالنكاية والاستعارة وإخفاء الحقائق وراء أقنعة عديدة، فإن التعبير الصحيح والبسيط والمجرد عن الأقنعة لا يمكن أن يظهر أصلاً في الضمير الإنساني ).

(في أحلام الشخص البالغ تريد بعض الأحاسيس أن تخرج إلى الوجود، ولكنها لا تملك الجرأة على الخروج بذلك المظهر بصورة صريحة حرة، بل إنها تراقب (فوق الأنا) الأخلاقية والاجتماعية، وتضطر إلى أن ترسل التنبؤات المختلفة والصور الخداعة والمتباينة إلى ضميرنا) (1) .

____________________

(1) فرويد ص 43.

٣١٣

ولهذا فإن منتزه (كرج) وغرفة الدار، وصورة الشاب الذي خدعها والعمل المنافي للشرف والعفة. وبصورة موجزة فإن القصة الحقيقية للجريمة لا تأتي إلى خاطر الفتاة في الحلم. وعلى فرض أنها رأت حلماً كذلك فإنها لا تخبر أحداً به، ولكنها ترى في الحلم أنها في بستان كبير متعلقة بغصن شجرة، وتحت قدميها هوة سحيقة ومظلمة مليئة بالوحل والطين، وهي مضطربة لأجل ذلك وتخاف من أن يفلت الغصن من يدها وتسقط في الهوة، ولكنها تقع في ما كانت تحذر منه ويفلت الغصن من يدها فجأة وتسقط في تلك الحفرة المظلمة وتتحطم وسط الأوحال!

تحرير الضمير الباطن:

هذا الحلم هو مظهر الضمير الباطن، وانعكاس لتلك القصة الواقعية التي كانت تخشى الفتاة من إظهارها، مع فارق بسيط هو أن القصة نفسها لما كانت مخزية وقبيحة فإن لباسها يتغير، وتتبدل صورة الاتصال الجنسي بشاب أجنبي إلى شكل التعلق بغصن شجرة، ويبدو التردي الاجتماعي الناشىء من ذلك الاتصال في إطار السقوط في الوحل.

(هناك رابطة العلية والمعلولية بين ظلمة صور الأحلام وحالة الكبت النفسي. والنتيجة أنه إذا كان الحلم مظلماً فذلك لأن طائفة من الأفكار الباطنة والمكبوتة قد منع الوجدان من ظهورها) (1) .

هذا الحلم يبدو - في نظر الأفراد العاديين - تافهاً لا قيمة له، ولكن الذي يستطيع تفسير الأحلام وتحليلها يرى في هذا الحلم مفتاحاً لمخزن أسرار الفتاة، وبذلك يتمكن من اكتشاف الضمير الباطن لها.

لقد أعطى فرويد أهمية كبيرة للحلم وتفسيره من حيث الوصول إلى الضمير الباطن، وإن قسماً كبيراً من مدرسته في التحليل النفسي أشغله هذا الفصل. وقد قوبل هذا لموضوع بأهمية بالغة في أنظار طائفة من الغربيين

____________________

(1) تفسير الأحلام، تأليف فرويد ص 71.

٣١٤

وكتبوا حوله البحوث المطولة، ظانين أن (فرويد) هو أول من تنبه إلى هذا الأمر. واليكم بعض النماذج:

(إن تفسير الأحلام هو الطريق الصحيح للوصول إلى الضمير الباطن في الحياة النفسانية، ويمكن ملاحظة هذه المعادلة الغامضة في أول أثر لفرويد حول الحلم. إنه ربط ظهور الأحلام في إحدى كتاباته التي انتشرت في الشطر الثاني من حياته بالتحليل النفسي. هذا العلم الحديث لم يوجد قاعدة أساسية أو أدق قابلية للقياس مع أصول الأحلام. إنه أرض مجهولة تنشأ من العقائد العمومية والتصرف) (1) .

(إن الحلم عبارة عن نوع من الاعتراف، لكنه اعتراف مصحوب بلحن مناسب، وعلى هذا يجب تصحيحه. هذه الأفكار المختفية تسلط - فور اكتشافها - أضواء ساطعة على جميع أجزاء الحلم. وتكمل النقائص الموجودة بين تلك الأجزاء وتجعل المجموعة الاعتيادية منها قابلة للفهم. هذا هو الأسلوب الذي يتبعه فرويد في تفسير الأحلام) (2)

(أما الموضوع الأساسي فهو: أنه كيف نستطيع أن نرسو في هذا البحر الخضم المتلاطم؟ كيف نبسط شيئاً لا يرى بصورة واضحة تماماً؟ كيف يستطيع البصيص الضعيف الذي يظهر على صفحة الحلم المظلمة لبضع لحظات أن يكشف عن حقيقة خفية وغامضة تماماً؟ إن اكتشاف هذه الرموز والوصول إلى هذه الأسرار الخفية والمبهمة تحتاج إلى فراسة وذكاء من شخص ساحر ماهر، أو مخبر عن الغيب، فريد في نوعه ).

(أما فرويد فبدون أن يتشبث بالسحر أو يعرف نفسه كمطلع على الغيوب، يوجد في أعماله رمز لا يقف في سبيله رادع أو

____________________

(1) فرويد وفرويديسم ص 58.

(2) المصدر السابق ص 61.

٣١٥

مانع. إن سر نجاح فرويد يكمن في أنه يبدأ في حل أغمض الأسرار من أبسط المقدمات) (1) .

يستفاد من هذه العبارات مدى اهتمام الغربيين بفرويد وأساليبه في تفسير الأحلام... ومدى تأثرهم بوجهات نظره.

التحليل النفسي في الإسلام:

لقد وجد في الإسلام بالإضافة إلى التفسيرات التي أدلى بها الأئمة (عليهم السلام) عن بعض الأحلام أحياناً، أفراد عاديون كانوا يستطيعون اكتشاف الضمير الباطن للأشخاص، والوصول إلى أسرارهم عن طريق تفسير أحلامهم. هؤلاء لم يكونوا ساحرين، ولا مدعين للعلم بالغيب، بل إنهم كانوا أشخاصاً عاديين تماماً، ولكن أذكياء في نفس الوقت. وأن بعض نماذج تفسيرهم للأحلام مهمة وراقية إلى درجة أنه قلما نجد لها مثيلاً في جميع كتب علم النفس في العصر الحديث.

من الأشخاص الذين اشتهروا في تفسير أحلامهم (ابن سيرين) لقد بدأ التحليل النفسي عن طريق الحلم قبل ثلاثة عشر قرناً، وأوضح الحقائق الغامضة الكثيرة عن هذا الطريق (اسمه محمد، وكان معاصراً للحسن البصري. وكان أبوه (سيرين) صفّاراً) (2) .

وقبل أن نعرض لبعض النماذج عن تفسير الأحلام في الإسلام من وجهة التجليل النفسي، لا بد من أن نتطرق إلى نكتتين:

أ - ربط الحلم بالعواطف:

إن العواطف الدينية والثقافة العامة تختلف في كل أمة عن غيرها من الأمم، فهناك فرق شائع بين مشاعر فرد مسلم متعرف على تعاليم القرآن الكريم، وبين ياباني بوذي... وطبيعي أن تكون أحلام المسلم ممتزجة

____________________

(1) فرويد ص 41.

(2) قاموس دهخدا الفارسي ص 321 - ابن سيرين.

٣١٦

بالعواطف الإسلامية والمشاعر القومية له، وأن تظهر أحلام الياباني البوذي في صور متناسبة مع اعتقاداته القومية والدينية.

والشخص المفسِّر للأحلام يستطيع أن يقوم بمهمته بصورة جيدة، متى ما كان عارفاً بالعواطف الدينية والثقافة القومية للشخص الحالم. ولهذا فإن المفسرين الإسلاميين للأحلام، يستندون إلى الآيات القرآنية والأحاديث الدينية التي تستند إليها عواطف الناس ومشاعرهم.

(يعتقد فرويد أن الذين يكونون على مستوى واحد من الثقافة يستعملون إشارات وعلائم متشابهة في معالم الوجدان الباطن لهم، ويجب اكتشاف هذه الإشارات والرموز من خلال أحلامهم) (1) .

ب - الرموز والكنايات في الحلم:

غالباً ما لا يسمح الإدراك الوجداني للقبح، والنفور الاجتماعي، أو الأخلاق والآداب العامة في ظهور محتويات الضمير الباطن بالصورة الحقيقية في الحلم، لذلك فإن الأفكار المخفية تظهر في صورة المظاهر المختلفة وعلى شكل رموز أو كتابات. فعلى المفسر أن يكون على جانب كبير من الفراسة والذكاء لكي يستطيع أن يكتشف من الصورة الظاهرية للحلم والتي ملئت رموزاً وكنايات، الحقيقة التي تكمن وراءها، ويفسّر الحلم بذلك تفسيراً كاملاً.

(إن أسلوب الحديث في هذا العالم اللاشعوري لا بد وأن يختلف عن أسلوب الحديث في الحياة الظاهرية التي تعوّدناها اختلافاً بيناً. وإننا لا نستطيع في بادئ الأمر أن ندرك المقصود من تلك الأحاديث فيجب في الوهلة الأولى أن نسعى لتفسير وتوجيه مظاهرها بحسب الألفباء المصطلحة عندنا؛ لأن لغة الأحلام تشبه اللغات البدائية كالمصرية، والكلدانية، والمكسيكية، في أنها مكونة من رموز وعلائم، ولا بد من

____________________

(1) أنديشه هاى فرويد ص 38.

٣١٧

تفسير هذه الرموز في كل مرة حسب الاصطلاح الجاري والمعمول به عندنا) (1) .

وقد جاء في الحديث: (للرؤيا كنى وأسماء، فكنوها واعتبروها بأسمائها) (2) .

(إن تبدل الشكل الباطن إلى الصورة الظاهرة نسميه بالحلم. والعمل المعاكس له أي تبديل الصورة الظاهرة بالباطن نسميه بالتحليل) (3) .

والآن نعرض لبعض نماذج من الأحلام المعبرة من حيث التحليل النفسي في الإسلام:

1 - قال رجل لعلي بن الحسين (ع): رأيت كأني أبول في يدي. قال: (تحتك محرَم). فنظروا فإذا بينه وبين امرأته رضاع (4) . في هذا الحلم نجد أن اليد (وهي عضو من أعضاء البدن) كناية عن الأخت (وهي عضو الأسرة) والبول رمز للمني. والإمام (عليه السلام) فسّر البول في اليد بنكاح المحرم. فإن كان الرجل يعرف أن زوجته هي أخته في الحقيقة، فإن تفسير الحلم يعتبر اختباراً نفسياً واكتشافاً للضمير الباطن للرجل. وإن لم يكن يعرف ذلك، فهو الإلهام.

2 - أتى إلى أبي عبد الله (ع) رجل فقال: يابن رسول الله، رأيت في منامي كأني خارج عن مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكأن شيخاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه، وأنا أشاهده فزعاً مرعوباً. فقال له (ع): (أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته. فاتق الله الذي خلقك ثم يُميتُك). فقال الرجل: أشهد أنك قد أوتيت علماً واستنبطته من معدنه. أخبرك يابن رسول الله عما قد فسّرت لي. إن رجلاً من جيراني جاءني

____________________

(1) فرويد ص 39.

(2) بحار الأنوار 14|436.

(3) تفسير الأحلام ص 18.

(4) المستطرف من كل فن مستظرف ج 2|89.

٣١٨

وعرض علي ضيعة، فهممت أن أملكها بوكس كثير لمَّا عرفت أنه ليس لها طالب غيري) (1) .

3 - جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت له: رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب فتخرج فراريج. فقال ابن سيرين: ويلكِ اتقي الله فإنك امرأة توفقِّين بين الرجال والنساء فيما لا يحبّه الله عَزَّ وجَلَّ، فقيل له: من أين أخذت ذلك؟ قال: من قوله تعالى في النساء: ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) وشبه المنافقين بالخشب: ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) . فالبيض النساء. والخشب: هم المفسدون، والفراريج: هم أولاد الزنا (2) .

وكان الأمر كما ذكره ابن سيرين، وانكشف سر المرأة بتلك الرؤيا.

4 - روي عن ابن سيرين أنه أتاه رجل فقال: رأيت كأني أقشّر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها. فقال ابن سيرين: هذا رجل نباش للقبور، فقيل له: من أين أخذت هذا؟ فقال: البيضة: القبر. والصفار: الجسد. والبياض: الكفن. فيلقي الميت ويأكل ثمن الكفن وهو البياض) (3) .

لقد ظهرت الخيانة الخفية للرجل الذي كان يشق القبور ليلاً ويسرق الأكفان بصورة حلم، مع تغيير شكل الضمير الباطن. ولقد استطاع (ابن سيرين) العالم الحاذق، أن يفسّر تلك الرؤيا ويكتشف ذلك السر.

5 - جاء رجل إلى (ابن سيرين) ومعه جراب، فقال له: رأيت في النوم، كأني أسد الزقاق سداً وثيقاً شديداً فقال له: أنت رأيت هذا قال: نعم، فقال لمن حضره: ينبغي أن يكون هذا الرجل يخنق الصبيان وربما يكون في جرابه آلة الخنق، فوثبوا عليه، وفتشوا الجراب، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً فسلموه إلى السلطان (4) .

____________________

(1) روضة الكافي ص 293. والاغتيال هنا بمعنى: الخديعة.

(2) حياة الحيوان للدميري ج 1|234 - دجاج.

(3) حياة الحيوان للدميري ج 1|234 - دجاج.

(4) المستطرف ج 2|88 مطبعة الاستقامة القاهرة 1383 هجرية.

٣١٩

6 - جاء رجل إلى (ابن سيرين) قائلاً: رأيت فيما يرى النائم أني أجامع فأرة، ويخرج من شرجها تمرة. فقال له ابن سيرين: هكذا أفهم أنك متزوج بامرأة زانية. قال: نعم. قال له: إنها حامل. وأبشرك بأنها تلد لك ولداً طاهراً شريفاً) (1) .

7 - وجاءه رجل فقال له: رأيت كأني أسقي شجرة زيتون زيتاً، فاستوى جالساً، فقال: ما التي تحتك؟ قال: علجة اشتريتها. وفي رواية جارية وأنا أطؤها، فقال: أخاف أن تكون أمك، فكشف عنها فوجدها أمه) (2) .

يتضح من استعراضنا لهذه النماذج القليلة من تفسير الأحلام أن الاختبار النفسي والوصول إلى الضمائر الخفية للأفراد عن طريق تفسير أحلامهم ليس أمراً جديداً حتى يتصور أن فرويد أول مَن ابتكرها وتختص بمدرسته... وأن في الإسلام أفراداً أذكياء ونوابغ طرقوا هذا الباب قبله. ومنهم مفسر الأحلام الشرقي (ابن سيرين) حيث بدأ تجاربه وأعماله الرائعة قبل 13 قرناً.

نصيحة في نقل الحلم:

للرسول الأعظم (ص) نصيحة دقيقة في الرؤيا. إنه يقول: (لا تقصّها إلاّ على وادٍ، أو ذي رأي) (3) . أما بالنسبة إلى الواد (الصديق) فإنه إن لم يكن يعرف طريقة تفسير الحلم، فلا أقل من أنه لا يعجل للإنسان بفكرة مشئومة، وخاطرة سيئة، (وإن لم يكن عالماً بالعبارة، لم يعجل بما يغمك)... ثم يتطرق (ص) إلى بيان فوائد ذكر الحلم لمن يجيد تفسيره فيقول: (ولعله أن يكون في تفسيرها موعظة يردعك عن قبيح ما أنت عليه).

فرويد ونظريته البتراء:

إن الموضوع الجدير بالانتباه هو أن نظرية فرويد حول الأحلام بتراء

____________________

(1) نامه دانشوران ج 2|176.

(2) المستطرف ج 2|88.

(3) البحار ج 14|437.

٣٢٠