الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 68216
تحميل: 7265


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68216 / تحميل: 7265
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقالت: كلا والله ما أملك نفسي... وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة) (1) .

هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي، وبسبب مخالفتها لنداء الفطرة والوجدان كانت تحس بالاضطراب والقلق دائماً. إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها، بل كان يوجه الضربات القاسية نحوها ليلاً ونهاراً، في اليقظة والحلم، إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل.

إن الإنسان معرض في كل مرحلة ومنزلة إلى الخطر من ناحية ميوله وأهوائه. وإن الغفلة عن نداء الضمير، والانقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الإنسان رأساً على عقب ويبعث على الانهيار والسقوط الذي لايمكن أن يعالج بأية قوة.

وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (كما من شهوة ساعة، أورثت حزناً طويلاً) (2) .

على مفترق الطرق:

قد يحتدم النزاع في باطن الإنسان بين الميول النفسانية والوجدان الأخلاقي، فإن الشهوات والغرائز تهيج الإنسان من جانب، وتحثّه على تحقيق رغباته اللامشروعة. بينما يقف الوجدان - من الجانب الآخر - في أتم القوة والفعالية مكافحاً ومعلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة.

أما عباد الشهوة والأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم، فإنهم يصممون بسرعة، ويحققون رغباتهم اللامشروعة مهملين نداء الوجدان. وأما المؤمنون والعقلاء فإنهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللامشروعة. ومن دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التوث بالجريمة والفساد، ملبين نداء الوجدان.

____________________

(1) ثمرات الأوراق لابن الحموي ج 2|106. هامش المستطرف المطبعة الميمنية القاهرة 1314 هـ.

(2) الكافي 2|451.

٣٤١

ويقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشئونها الدينية والوجدانية بمقدار ما، ولكن رصيدها الإيماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللامشروعة. فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة، ويتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين والوجدان شأنهم في ذلك شأن المؤمنين، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين.

هؤلاء يتذرّعون ببعض المبررات، وبعض الأدلة الواهية لإسكات ضمائرهم، وهم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي اضطراب داخلي أو قلق باطني... ولكنهم غافلون عن يقظة الوجدان، وأنه من الذكاء والفطنة بحيث لا تنطلي عليه التلفيقات ولا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر، ولا يكف عن واجبه المقدس، وهو توجيه اللوم إلى المجرم.

(إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير. إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي، ويستمر في القيام بعمله بكل هدوء ويستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة بإشراقة خلاّبة وغير متوقعة. فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله وعقائده وأفكاره، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية. إنه يمكن الاستعانة ببعض التعابير التي يستعملها المريض، والتي تعد فاقدة للمعنى وجنونية في الظاهر، كدليل على وجود هذا الثبات. هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء والعقل).

(إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة وفي وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً) (1) .

وفي قضية عمر بن سعد، وقيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 63.

٣٤٢

كربلاء أملاً في الحصول على حكومة الري، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه. فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي (ع) وثلة من أصحابه الأبرار والأبرياء عمل مخالف للوجدان والدين والعقل. ومن جهة أخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري وفي ذلك لذة الرياسة، والرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمَّارة. فعندما اقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الإمام الحسين (ع) اضطرب عمر لذلك وتحيّر في أمره. فلو كان فرداً مؤمناً ومتديناً لكان يرد ذلك الاقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً. وإذا كان إنساناً منحرفاً وبعيداً عن الدين بتمام معنى الكلمة، لا يقيم وزناً للوجدان والإيمان والعقل والرأي العام، فإنه كان يوافق على الاقتراح بدون ترديد ولا يقول شيئاً أبداً. ولكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب وعدم الارتياح لعمله هذا في ضميره الباطن، ولكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة والجاه. فاستمهل عبيد الله ليأتيه بالجواب النهائي.

وحين أقبل عليه المساء تنحّى زاوية خلية، وجسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله والرسول، والعقل والشرف، والوجدان والإنسانية. أما في المعسكر الآخر، فيقف حب الجاه والرئاسة، اللذة والشهوة، الحكومة وعبادة الذات، فبقي متحيّراً بين ذينك المعسكرين، فعندما كان ينظر إلى الله والوجدان والعقل كان يقول: يجب ألا أرتكب هذه الجريمة الشنيعة، أن لا أشترك في دم الحسين (ع). أما حين كان يلتفت نحو الشهوة والرئاسة كان يقول: يجب ألا أترك الفرصة تفوتني، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً... وأخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لإقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل إنسان متدين وملحد. وأخيراً حلّل القضايا من الوجهة الدينية، وكان أن قال:

يقولون أن الله خالق جنة

وتعذيب، وغل يدين

فإن صدقوا فيما يقولون، إنني

أتوب إلى الرحمان من سنتين

وإن كذبوا فُزْنا بدنيا عظيمة

وملك عقيم دائم الحجلين

فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه وجعلها ملجأ لجنايته، وتبريراً لخيانته، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل، وأنه يستطيع أن يخفيه

٣٤٣

خلف أستار المغالطات الموهومة، ويحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع، وأنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة، فالوجدان مشعل وضاء موجود في باطن الإنسان. بأمر من الله، ولا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات. إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي، ولا يدع المجرم لوحده، ولا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه ولومه وتقريعه.

ولقد صمم ابن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان، ويتجاهل وجوده تماماً، ولكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة.

(إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الإنسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان، هذا الامتناع هو الذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان. في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول) (1) .

وأخيراً! فقد صمّم على ارتكاب الجريمة، وأقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري... ولكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية، وهنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة وحز في نفسه انهياره السياسي وفشله الاجتماعي من جهة أخرى... فوقع في أسر الأمراض الروحية والاضطراب النفسية وسلبت من راحته، فأمر أن يمد فراشه طوال الليل والنهار، فكان يستلقي في الفراش تارة، ويتمشى في البيت أخرى ويتخطّى في الأزقة بلا إرادة ثالثة... وكانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوّار في ذلك الفراش، وأنهى حياته المشئومة بهذا الوضع المزري.

* * *

الهدوء النفسي:

إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه ويسيطر على رغباته، لا يحوم

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 66.

٣٤٤

حول الذنب، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان بأذن الذكاء، يعيش حياة ملؤها الهدوء والارتياح، ويغادر الحياة بروح مطمئنة ونفس هادئة... ولكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع وأمة... فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء والميول النفسانية، ونجد أن الغرائز والشهوات تسيطر بقوتها القاهرة، على أكثر طبقات المجتمع وتبعثهم على الاجرام والدنس!.

لقد فتح الأنبياء (عليهم السلام) أبواب الاستغفار والتوبة والكفارات على هؤلاء لإنقاذ المجرمين من الانهيار التام، ولإرجاعهم مرة أخرى إلى طريق السعادة والفضيلة وتخليصهم من تعذيب الضمير... ولذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو والمغفرة والرحمة من الله العظيم، ولهذا الإرشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية.

(إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية، ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية ) (1) .

إن على المجرمين إما أن يستمروا في انحرافهم ويتمادوا في طغيانهم يعمهون، ويزجّوا بأنفسهم والمجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة، والنفسية لها والاجتماعي، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو والمغفرة. ويكفوا عن الذنوب فيصبحوا أناساً طيبين طاهرين تماماً.

في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد وتعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها:

1 - خطر اليأس:

إن المجرم الذي يستلذ طعم الإجرام، ويرى أن القيام به متأصل في نفسه وغير قابل للزوال، ولا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في ارتكاب الجرائم بجسارة وجرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 66.

٣٤٥

عمل مخالف. وبديهي أن إنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة، واليأس من العودة إلى الصواب، ولجرأته في الذنوب.. وهكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه.

2 - اتهام الأبرياء:

إن المجرم يحاول - لتبرئة نفسه، وبسبب الآلام الوجدانية التي يلاقيها - أن يتهم الأبرياء، وينسب جرائمه إليهم. وهذا العمل بنفسه يعدّ جريمة أكبر من ارتكاب الجريمة ذاتها، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الاختلالات الاجتماعية، والمفاسد التي لا تدرأ، أو أن يعرّض أرواح الناس، أموالهم إلى أخطار شديدة.

(إن الجرائم تضمن أخطاراً كبيرة لمجتمع، والإحساس بالإجرام يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسية التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الاجتماعي. وإذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشة من حب البراءة، تقود الإنسان إلى اتهام الآخرين، وأن الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الاتهامات. وهكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها. وأخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي والقيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه) (1) .

3 - غفران الذنوب:

عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الإلهي، فإن الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جرّاء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر. أما في الصورة الثانية

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بيماريهاي روحي وعصبى ص 66.

٣٤٦

عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء، ويطمئن إلى المغفرة والعفو، ويظهر ندمه وتوبته بلسان الاعتذار إلى المقام الإلهي... حينذاك تحل عقدته الباطنية، ويهدأ وجدانه، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر في حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع.

(عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان، وعندما يقر المجرم بذنبه، ويستعد لإصلاح نفسه... فإن الأمل في الرحمة والمغفرة يطفئ الإحساس بالجريمة، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بهما أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الإجرام الفظيع، وينسى بذلك ماضية) (1) .

* * *

على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية، وبدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي، والفرار من دنس الجريمة وهي:

1 - الإقرار بالذنب:

على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الإلهي بصراحة، ويطلب منه العفو والمغفرة. إن الإقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب، ويجلب رحمة الله الواسعة، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع، ويحل العقدة الباطنية، ويخلص الإنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.

أما الذين يرتكبون الذنوب، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية، ويكونون مشمولين للعذاب الإلهي ومصابين بمضايقة الوجدان، واللوم والتقريع المستمرين منه.

عن أبي جعفر (عليه السلام): (والله ما ينجو من الذنب إلاَّ من أقر به) (2) .

وقد ورد عنه ( أي الإمام الباقر (ع) ) أيضاً: (ما أراد الله تعالى من

____________________

(1) بيمهاريهاى روحى وعصبى ص 67.

(2) الكافي 2|426.

٣٤٧

الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم) (1)

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (حسن الاعتراف يهدم الاقتراف) (2) .

* * *

2 - رجاء المغفرة:

يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الإجرام بالتوبة والاعتذار، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.

لقد وضع الإسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء، فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد والعجب بالنفس، وأن لا يروا أنفسهم بأمن من عذاب الله لحظة واحدة، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً. يقول الإمام الصادق (ع) بهذا الصدد: (إن من الكبائر: عقوق الوالدين، واليأس من روح الله، والأمن لمكر الله) (3) .

إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الإسلامية واسع جداً، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله. يقول الإمام أمير المؤمنين لولده (ع) مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد... (وارج الله رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك) (4) .

فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله، مهما عظمت

____________________

(1) الكافي 2|426.

(2) الارشاد للمفيد ص 142.

(3) الكافي للكليني ج 2|277.

(4) مجموعة ورام ج 1|50.

٣٤٨

ذنوبه... ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1) .

* * *

الندم وطلب المغفرة:

إن على المذنب بعد الإقرار بالذنب، ورجاء المغفرة، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة، وطبيعي أن يغفر الله الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية. فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على أعماله البذئية، فإنه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه. يقول الإمام الرضا (ع) بهذا الصدد: (من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه، فقد استهزأ بنفسه) (2) .

إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك - وفي ظل العنايات الإلهية - من دنس الذنوب، يحوزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً، يقول الإمام الصادق (ع) (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (3) .

* * *

الإيمان وتدارك الخطأ:

لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الإيمان بالله. إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الإيمان أو

____________________

(1) سورة الزمر |53.

(2) مجموعة ورام ج 2|110.

(3) سفينة البحار للقمي | مادة غفر ص 322.

٣٤٩

أنه مادي ومنكر لله أساساً، لا يوفّق لتطهير نفسه عن طريق التوبة وغفران الذنوب، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره. إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الإيمان عندهم، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي. ولذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والاستغفار. ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً.

كيف يستطيع عمر بن سعد (وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته، ويبدو وتردده في الأصول الإسلامية المسلم بها) أن يطهّر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية؟!

وعلى العكس من ذلك، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الإيمان والاعتقاد بالله، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو الله والاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية. وإذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين، والله يتقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم.

إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك:

(كان علي بن الحسين (عليه السلام) في الطواف، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: هذا محمد بن شهاب الزهري، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم، فلما قضى (عليه السلام) طوافه خرج حتى دنا منه، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): ما لك؟ قال: وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى. فقال له علي بن الحسين: لأن عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت. ثم قال له: أعطهم الدية. فقال: فعلت فأبوا. قال: اجعلها صرراً، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم) (1) .

____________________

(1) مجموعة ورّام، ج 2|4.

٣٥٠

فنجد أن الإمام (عليه السلام) يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون. بعلاج نفسي بسيط... ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات. وفي ذلك يقول الأستاذ (هنري باروك) فيما مضى من حديث: (إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية. ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظمية في الأديان السماوية).

٣٥١

٣٥٢

المحاضرة الرابعة عشرة:

التربية على أساس الإيمان

قال الله تعالى: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

لقد تعرّضنا في محاضرة سابقة إلى ضرورة استناد تربية الطفل إلى الإدراكات الطبيعية والميول الفطرية للإنسان، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة، وهي الطريق الواقعي للسعادة الإنسانية، وجرّنا هذا الحديث إلى البحث في الوجدان الفطري بصنفيه: العقيدي والأخلاقي، بإسهاب ضمن ثلاث محاضرات. ولهذا فسيدور بحثنا من اليوم فصاعداً حول كيفية الاستفادة من الفطريات في تربية الطفل.

الأساس الأول للتربية:

إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والإيمان به بلسان ساذج متيسر الفهم. لقد سبق أن بيّنا في المحاضرة العاشرة أن الحاجة للإيمان بالله موجودة في باطن كل إنسان بفطرته الطبيعية. فعندما يبدأ جهاز الإدراك عند الطفل بالنشاط والعمل، ويستيقظ حس التتبع فيه، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها، فإن نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقّي الإيمان بخالق العالم، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل.

وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثروة الفطرية، ويفهمه أن الذي خلقنا، والذي يرزقنا، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات

____________________

(1) سورة البقرة |256.

٣٥٣

والجمادات، والذي خلق العالم، وأوجد الليل والنهار، هو الله تعالى. إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات ويعاقبنا على السيئات.

هذا الحديث سهل جداً وقابل للاذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ويعتقد به. بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والالتزام ونحثه على الاستقامة في السلوك وتعلّم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج.

إن للإيمان بالله - وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الإنسان - آثاراً ونتائج مهمة في إحياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العليا، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للإيمان بالله أثرين مهمين:

(الأول) أنه يعمل على إحياء أعظم واقعية روحانية، أي الفطرة العقيدية، ويصب ركائز السعادة الواقعية للإنسان.

(والثاني): إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للإيمان، وتتحقّق في الخارج.

ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الإنسان، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الإيمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط. وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فإنها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها.

القوانين الطبيعية من سنن الله:

لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق، والحكمة المتناهية، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل. وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم. إن الصدفة (التي يستند إليها الماديون في نظريتهم) لا علم لها، ولا قدرة، ولا حافظة، ولا وجدان... وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول.

يشرح الإمام الصادق (ع) بعض آثار عظمة الله وقدرته في عالم

٣٥٤

المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي، ويستدل بها على وجود الله تعالى، وفي الأثناء يسأل المفضل من الإمام (ع) قائلاً: يا مولاي، إن قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة. فقال: (سلهم عن هذه الطبيعة، أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإن هذه صنعته. وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، فاعلم أن هذا الفعل للخالق الحكيم، وأن الذي سمّوه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه) (1) .

إن النظام الدقيق والانسجام الشامل لأرجاء الكون، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون. وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية، وتجعل كلا منها في المدار الخاص به. أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية. لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها. إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والتربتي والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة: ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عملها، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في المصرف، إنها لا تعالم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة. إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر، ولا تملك أي إرادة أو اختيار في ذلك. لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته، وسيرها لأداء هذه المهمة.

كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو اختياراً، وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً.

ولقد رأينا كيف أن الإمام الصادق (ع) استدل عن طريق القوانين

____________________

(1) بحار الأنوار ج 2|12.

٣٥٥

الطبيعية على وجود الله تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته.

العالم في نظر الإلهيين والماديين:

إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والإيمان بالله والذي يقسّم الناس إلى صنفين: مؤلِّهين وماديين، هو نظرتهم إلى الكون:

فالإلهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أُسِّس بعلم الله تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة. أما الماديون، فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء، بلا علم أو اختيار.

الإلهيون يرون أن الإنسان موجود ممتاز خلقه الله مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد، وسوّى له طريق التقدم في ظل العقل. أما الماديون، فيرون أن الإنسان وجد على أثر طائفة من العوامل الاتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة، وصار بهذه الصورة الحاضرة.

الإلهيون يرون أن الوجدان الخُلقي ثروة ثمينة أودعها الله تعالى في باطن الإنسان لضمان سعادته، وأن الخالق الحكيم الذي هيَّأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للإنسان هذه الطاقة الجبارة (الوجدان) ليميز في ظلها بين الخير والشر، ويسير في طريق التعالي النفسي، والتكامل الروحي. أما الماديون، فإنهم يرون أن الوجدان الإنساني يشبه الإنسان نفسه في كونه وليداً للصدفة، وواقعاً على سبيل الاتفاق.

الإلهيون يرون أن الانقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو انقياد للهداية التكوينية التي أوجدها الله الذي يجب الخير والسعادة للإنسان، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة، ومشعل وضاء، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان. ولذلك فإنهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة الله تعالى بعين التكريم والاحترام. ويرون طريق السعادة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها. أما الماديون، فيرون أن الوجدان - وهو معلول للصدفة العمياء الصماء - لا يتصور له أي احترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصلاً؛ لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة.

٣٥٦

الإيمان وإحياء الفطريات:

إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات. فالذين يؤمنون بالله إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره، لأنهم يرون فيه إلهاماً إليهاً، وهداية نحو السعادة.

(إن أفراد البشر في أي سن كانوا، يستجيبون للإحساس في نشاطهم أكثر من استجابتهم للمنطق، وبذلك يطيعون قوانين الحياة الصارمة إذا وجدوها مظهراً لإرادة الله تعالى لا قوة عمياء... برغبة أكثر. ولقد ثبت بالتجربة أن الانقياد إلى شخص واحد يكون أفضل بكثير من الانقياد إلى قاعدة. إن القوانين الطبيعية التي تخص حفظ الحياة ودوام التكاثر، والتعالي النفسي تلقى سنداً ونفوذاً أكثر إذا استندت إلى المشيئة الإلهية) (1) .

لقد شرحنا في محاضرات سابقة أن الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمها، وهي مجبرة على الانقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات. أما الإنسان العاقل والحر في إطاعة الإلهام الإلهي ومخالفته، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى. إن الإيمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية. إن القوة الإيمانية تستطيع أن تحفظ الإنسان في مزالق الغرائز. وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والإلهام الإلهي.

تعارض الوجدان والغرائز:

إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً... كلهم يعلمون أن الظلم قبيح

____________________

(1) راه ورسم زندكي ص 169.

٣٥٧

ويدركون أن الخيانة سيئة... الكل يرتاحون للصدق، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة: فإن الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم. ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة؛ ذلك أن الإنسان حر في إطاعة أوامر الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فإن الانقياد للوجدان أمر هيِّن. ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة، وفي الغاب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الإيمان وكان الاعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الإنسانية.

لقد تعرض الصديق يوسف في ريعان شبابه وأحرج مراحل نضجه الجنسي، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف: فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه، وعرضت عليه الاتصال الجنسي به. كانا - كلاهما - بشرين، ولكل منها رصيد ضخم من الميول الجنسية... ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستسلمت إلى ميولها، في حين نجد أن للقوة الإيمانية والبرهان الإلهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف. وبذلك حفظ شرفه، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس الانحراف ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (1) .

طغيان الغرائز واندحار الوجدان:

كان (عبد الملك بن مروان) يعيش حياة هادئة في شبابه، وكان إنساناً رحيماً وشفوقاً، يعطف على الناس، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشرٍّ، كانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها... ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الإسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام.

____________________

(1) سورة يوسف |24.

٣٥٨

ومرت الأيام بالتدريح، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه. فقد تربع أبوه (الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها) على دست الخلافة، على أثر التطورات السياسية المعروفة، ونصب (عبد الملك) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد...

ولم تمض أشهر قليلة حتى دس السم إلى مروان ومات... فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده... وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالا واسعاً للمبارزة والكفاح.

لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال اللاإنسانية. أما اليوم فقد استيقظت غرائزه، وتعالت ألسنة نيرانها، حتى اضطر وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكبوا الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر.

يذكر لنا المؤرِّخون أنه لما أرسل (يزيد) جيشاً إلى مكة لقتل (عبد الله بن الزبير) كان عبد الملك يقول: العياذ بالله أفهل يجهّز أحد جيشاً لمحاربة بيت الله الحرام؟! أمّا عندما تولّى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة الحجاج بن يوسف (المجرم المعروف) إلى مكة، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم الله ليقبض على عبد الله بن الزبير، وأخيراً فقد حزّ رأسه وأرسله إلى عبد الملك في الشام وعلّق جثته على عود المشنقة!

حينئذ يقول عبد الملك: إني كنت أمانع من قتل نملة ضعيفة. أما الآن، فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي! لقد قال أحد العلماء واسمه (الزهري) يوماً لعبد الملك: سمعت أنك تشرب الخمر! فأجابه نعم والله، أشرب الخمر، وأشرب دماء الناس أيضاً (1) .

ما أكثر الناس من أمثال عبد الملك على مر التاريخ، وحتى في عصرنا

____________________

(1) تتمة المنتهى ص 84.

٣٥٩

الحاضر! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الاعتيادية، ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم، ويطلقون العنان لميولهم النفسية، إلاّ إذا استكانوا بالإيمان وتسلّحوا به ضد طغيان الغرائز!... ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (1) .

العقل والغرائز:

والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز، وتعديل الميول النفسانية، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها. أما عندما يشتد هيجانها، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه، فإن سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الإنساني قدرته على المقاومة، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة، تسيطر على الإنسان وتوجهه كيف تشاء.

وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الإمام علي (ع) فيقول: (قد أحرقت الشهوات عقله، وأماتت قبله، وأولهت عليها نفسه) (2) .

العلم والغرائز:

يتصور البعض أن ارتفاع المستوى الثقافي، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة، والأخذ بيد الإنسان إلى الفضيلة والكمال... غافلين عن أن قوة التمدن المادية (أي العلم الفاقد للإيمان) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الإنسان بحيث أنها عندما تثور، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي.

____________________

(1) سورة يوسف |53.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 532 ط إيران.

٣٦٠