الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 68218
تحميل: 7265


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68218 / تحميل: 7265
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المعنوية والمثل العليا قد فقدت أهميتها بالنسبة إلى أكثر الناس حتى يذهب بعضهم إلى أنهم في غنى عنها :

« ومنذ حل الخلق النفعي مكان الخلق الديني والنفسي ، فإن الفضيلة لا تعتبر أمراً ضرورياً في نظر المتمدنين ، بحيث يرى ( رومن ) أنه لا داعي لنا أصلاً لأن نكون أتقياء ، وإن اختيار الفضيلة سينحصر في علاقتها بالنفع واللذة الفرديين فقط » (1) .

هذا الأسلوب من التفكير يعد خطأ فظيعاً من المدينة الحديثة ، وهو أعدى أعداء الانسانية وقيمها ومثلها الرفيعة وعلى أثر اللامبالاة تجاه الإيمان والفضائل المعنوية ، فإن عالم الغرب تنتشر فيه الجرائم يوماً فيوماً والشبان ينجرفون إلى هوة سحيقة من التردي والتحلل والفساد وإن الاحصائيات السنوية في الدول الأوروبية والأمريكية لتدل على ازدياد السرقة والخيانة ، والاغتيال والانتحار إلى غير ذلك من أنواع الجرائم. وإن من المؤسف أن لا تكون بلادنا معدومة النصيب في هذه المشاكل والجرائم. وهنا يستطيع كل فرد أن يدرك أن المجتمع الذي يتمثل الهدف الأسمى من حياة أفراده في اللذائذ المادية ولا تزيد الفضائل فيه على أنها تعتبر في عداد الأوهام والخيالات ، فإن الفساد والتفسخ يسرعان كالسيل الجارف إلى غزو أولئك الأفراد ويهددان حياتهم المادية والمعنوية بالفناء والدمار.

مبدأ الواقع :

إن الاسلام يبني أساس لسعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة إنه ينظر إلى الانسان نظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية وجبلته التي جبل عليها إنه ينظر إلى الانسان من جميع جوانبه المادية والمعنوية ، الروحية والجسدية ، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص.

__________________

(1) راه ورسم زندكى للدكتور الكسيس كارل ترجمة برويز دبيري ص 79.

٤١

ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها ، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق نصف من وجود الانسان.

وكذلك الذين يرون اليوم انحصار سعادة البشر في تقويم الاقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه. فإنهم خاطئون جداً.

إن الانسان يتكون من جسد وروح ، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله : الرغبات المادية والميول المعنوية. فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الانسان ، فإنه يخل بالسعادة الانسانية بنسبة ما أهمل من رغباته. إن السعادة البشرية شأنها شأن شجرة باسقة تحمل آلاف الأغصان فبعضها يرتبط بالجانب المعنوي والروحي من الانسان ، وبعضها يرتبط بالجانب المادي منه ، والسعادة الحقيقية إنما تكون لمن تظله هذه الشجرة الطيبة بجميع غصونها وفروعها ، وتحيا فيه جميع الرغبات الظاهرية والباطنية.

إن التعاليم الاسلامية تستند إلى الفطرة الفطرة المودعة من قبل الله في خلق كل فرد ، والتي لا تتغير ولا تتبدل أصلاً :

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَ‌تَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ‌ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ‌ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .

فالاسلام هو الدين القيم والمنهج الرصين الذي يماشي قانون الفطرة والخلقة. ولهذا فإن النجاح الأكيد سيكون للاسلام ، وإنه سينتصر على المذاهب والمبادىء الأخرى بحكم الجبرية التاريخية شاء أعداؤه أم أبوا :

( هُوَ الَّذِي أَرْ‌سَلَ رَ‌سُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَ‌هُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِ‌هَ الْمُشْرِ‌كُونَ ) (2) .

__________________

(1) سورة الروم | 30.

(2) سورة التوبة | 33.

٤٢

حجر الأساس في السعادة:

ولكي نثبت نظرة الإسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الإنسان - ماديها ومعنويها - في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية:

الإيمان والأخلاق:

إن الإيمان بالله، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام، والمواظبة على التحلي بالفضائل الإنسانية، تشكِّل حجر الأساس في بناء سعادة البشر، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الإسلام في هذا المجال. وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث.

يقسم الله تعالى في سورة العصر بأن جميع الناس، من أي عنصر كانوا، وفي أي زمان عاشوا، مبتلون بالخسران والبؤس، إلاّ الذين أحرزوا بعض الصفات، أولها الإيمان بالله: ( وَالْعَـصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا... ) (1) . وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والذي بناها، والأرض والذي بسطها، والنفس الإنسانية والله الذي وازن بين عناصرها، وألهمها الخير والشر... ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (2) .

قسماً بكل هذه الآيات الإلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمَن طهَّر نفسه من الآثام ونزه روحه عن الجرائم، وأن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمـَن تلوث بالآثام والجرائم.

____________________

(1) سورة العصر |1 - 3.

(2) سورة الشمس |9 - 10.

٤٣

يقول الإمام علي (ع): (عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه) (1) .

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات، والنطفة والجنين... إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود، كلها تهدف إلى أن يوجِّه الإنسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله العظيم. وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا، أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصِّل القول في ذمها، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، ولذلك فإن الرسول الأعظم (ص) يبيَّن الواجب الذي بعث من أجله فيقول: (بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) (2) .

إن كل مسلم يعلم جيداً اهتمام الإسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق، لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الإنسان في الإسلام. إن الإسلام لا يحصر أتباعه في حلقة من المعنويات فقط، بل إنه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية. ولأجل أن نتبيَّن موقف الإسلام الصريح في هذا الموضوع، علينا أن نتحدّث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الاقتصادي ومبدأ اللذة، وهما المبدءان المتداولان في العالم المتمدن اليوم.

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية، لهو من أقوم الإرشادات الدينية. وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة. إن النبي (ص) والأئمة (ع) يقدِّرون النشاط الاقتصادي كثيراً، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً. ولأجل معرفة قيمة الاقتصاد في الإسلام نورد هنا بعض النصوص:

____________________

(1) سفينة البحار ص 410 مادة (خلق ).

(2) المصدر نفسه.

٤٤

الجهد البشري:

1 - قال رسول الله (ص): (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة) (1) فالسعي وراء المال الحلال، لضمان المعيشة واستمرار الحياة، واجب على كل فرد من المسلمين.

2 - وقال أيضاً: (مَن أكل كدَّ يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء، ويأخذ ثواب الأنبياء) (2) . وفي هذا الحديث يقارن بين مَن يكد ليحصل على قوت يومه، والنبي الذي يكد لإحياء الناس.

3 - وفي الحديث: (الكاد على عياله، كالمجاهد في سبيل الله) (3) فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي، ودفْعُ الضررين كليهما مطلوب.

4 - وسئل الرسول الأعظم (ص): أي كسب الرجل أطيب؟ فقال: (عمل الرجل بيده) (4) .

5 - كما ورد في الأسلوب الذي كان يعيشه الإمام أمير المؤمنين (ع): (كان لمَّا يفرغ من الجهاد يتفرَّغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا فرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكر الله تعالى...) (5) .

6 - عن عبد الله بن عباس: (كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل

____________________

(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 23|6.

(2) المصدر السابق.

(3) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2|424.

(4) المصدر السابق ج 2|417.

(5) المصدر السابق ج 2|417. والحائط: البستان.

٤٥

فأعجبه، قال: (هل له حرفة؟)، فإن قالوا: لا، قال: (سقط من عيني) (1) .

استغلال القوى الطبيعية:

وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والاستفادة منها:

1 - في الحديث: (إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها) (2) . فمن خلال هذا الحديث ندرك مدى اهتمام الإسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها، حتى إنه ليحث الإنسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة (أو أي جهد إنتاجي آخر) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات.

2 - قال الإمام علي (ع): (نعم المال النخل، مَن باعها فلم يخلف مكانها فإنَّ ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف). ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه، وإنما عبَّر به الإمام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية، فتراه ينهى عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل.

3 - وفي حديث عن النبي (ص): (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلاَّ كانت له به صدقة).

4 - يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (مَن وجد ماءً وتراباً ثم افتقر، أبعده الله) (3) .

____________________

(1) بحار الأنوار للعلاَّمة المجلسي ج 23|6.

(2) مستدرك الوسائل للمحدِّث النوري ج 2|501.

(3) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|19.

٤٦

فهنا نجده (ع) يندِّد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة - وهي الماء والتربة - وتتوفّر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً، فإنه يستحق غضب الله ولعنته.

وهكذا نجد الإسلام يهتم بأمر العمل والإنتاج وتشغيل عَجَلَة الاقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات. فنجد الإمام الصادق (عليه السلام) يقول لهشام: (يا هشام، إن رأيت الصَّفين قد التقيا، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم) (1) .

وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الاهتمام البالغ بشأن الاقتصاد، والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الإسلام، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الإنسانية، ولا يعطى أكثر مما يستحقه.

إن النشاط الاقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية، ليس إلاّ فرعاً من فروع شجرة السعادة في الإسلام. نعم، لابد لنا أن نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة، إلاّ أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الإنسان؛ ولذلك فهم ينزلونه - بنظرتهم هذه - عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور.

الَرَهْبَانِيَّة:

كان يظن كثير من الناس والفلاسفة في الماضي - ولا يزال الكثير منهم يظن - بأن الطريق إلى السعادة البشرية ينحصر في كبت الغرائز الحيوانية، وإطفاء الميول الجنسية. وكانت هذه العقيدة حتى زمن قريب شائعة جداً في أوروبا وأمريكا، فقد وجد في العالم المسيحي نساء ورجال كثيرون يترهَّبون باسم الدين ويتركون الدنيا وملاذِّها، ويعرضون عن قانون الخلقة المتقن، ومنهج الفطرة السليمة، أي الزواج الصحيح. وكان وقْع هذا الترهب حسناً

____________________

(1) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج 12|14.

٤٧

جداً في نفوس المسيحين... ظنِّين أنهم يتمكنون بهذا العمل أن يتخلصوا من قيود الحيوانية ويصلوا إلى الإنسانية الحقيقية فيصبحوا كملائكة السماء في الطهارة والروحانية والتجرّد:

(كان أكثر الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل فرويد ينبذون الغرائز، أي أنهم كانوا يصرّحون أحياناً، ويلمحون أحياناً أخرى، بأنها عوامل تجر الإنسان إلى الخصائص الحيوانية، وكانوا يؤكِّدون على أن التمدّن الصحيح لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلاّ بالصراع العنيف مع تلك الغرائز التي كانوا يعتبرونها (أرواحاً حيوانية). وبعبارة أخرى: فإن هؤلاء المفكرين كانوا يقولون بأن هذه الغرائز تمنع البشرية من التكامل، ولو كان يمكن أن تفقد من المجتمع بالمرة، كان من السهل إيجاد حياة اجتماعية متكافئة ومتزنة ) (1) .

إن الغرائز الحيوانية والميول الجنسية تلعب دوراً مهماً في كيان الإنسان ووجوده، فإن الله خلق البشر مع هذه الغرائز. وكل ما أودعه الله الحكيم في خلق الإنسان فلا بد وأن يكون لمصلحة معينة.

الاستجابة للغريزة الجنسية:

إن الإسلام العظيم الذي لم يغفل جانباً من جوانب الحياة، ولم يغمط الحقائق الفطرية المؤثّرة في سعادة البشر حقها... ليوصي المسلمين بالاستجابة للغريزة الجنسية وممارسة ميولهم الغريزية حسب منهج سليم، ولذلك فإنه يعتبر الامتناع عن الزوج عملاً غير مرغوب فيه. ويرى أن العزّاب يشكّلون خطراً مهماً على سلامة المجتمع، فالرسول الأعظم (ص) يقول: (شرار أمتي عزَّابها) (2) .

ومن خلال سيرة النبي (ص) تجاه العازفين عن الزواج في المدينة ندرك

____________________

(1) أنديشه هاى فرويد ص 50.

(2) مستدرك الوسائل للمحدّث النوري ج 2 |531.

٤٨

مدى اهتمام الإسلام بهذه الناحية. فقد كان هناك رجل يسمى (عكاف) قد أعرض عن الزاوج، وقد حضر مجلس الرسول (ص) مرة، فسأله النبي عن إمكانياته وظروفه المالية والبدنية، فأجاب بالإيجاب، فقال له النبي (ص) حينذاك بكل صراحة: (تزوّج وإلاّ فأنت من المذنبين) (1) .

إن الترهّب والإعراض عن الدنيا يعتبر عملاً حسناً ومرغوباً فيه من الوجهة الدينية في عالم الغرب، بينما القضية على عكس ذلك تماماً في الإسلام، فالإعراض عن الزاوج في نظره لا يعد سيئة فحسب، بل يعتبر إعراضاً عن طريق الفطرة المستقيم وانحرافاً عن سنة الرسول الأعظم (ص)، فهو يقول: (النكاح سُنَّتي فمَن رغب عن سُنَّتي فليس مني).

ومع أن الحث على الزواج والتأكيد على إرضاء النوازع الفطرية قد ورد بصورة كثيرة في القرآن الكريم والراويات العديدة، فإن الشهوة لم تعرف أصلاً ثابتاً للسعادة، بل يعتبرها السلام فرعاً من فروع شجرة السعادة لا غير.

السعي وراء اللذة:

يدعّي (فرويد) أن الشهوة الجنسية تظهر في الإنسان بصور مختلفة، واللذة عبارة عن الاستجابة للميول الجنسية في مظاهرها المختلفة، وصورها المتباينة. ويدعي آخرون: أن هناك ميولاً مستقلة، وغرائز أخرى غير الغريزة الجنسية. وعليه فيجب الاستجابة لجميع تلك النوازع والغرائز.

وعلى أية حال فالأمر الذي لا خلاف فيه، هو أن الإنسان يشعر بارتياح شديد عندما يستجيب لميوله. وهذا الشعور بالارتياح هو الذي يعبَّر عنه باللذة، والذي يبعث الحرارة والحيوية في المجتمعات البشرية ويهيج فيهم عواطفهم. ولذلك فإن المجتمعات الحديثة تعتبر جلب اللذة أسمى الأهداف التي تهضم في نفسها قسطاً كبيراً من نشاط العالم المتمدن، حتى ظن البعض أنهم لم يخلقوا إلاَّ لممارسة نشاطهم الجنسي وتحقيق اللذة.

ومن المؤسف أن الطبيعة قد رُكبّت بصورة نجد فيها امتزاجاً تاماً بين

____________________

(1) المصدر السابق.

٤٩

الآمال والآلام، واللذة والألم. وهذا ما يوجب محدودية البشر في سلوكهم: (إنه لا يُنكَر أن الاستجابة للميول الغريزية توجب الشعور باللذة عند الإنسان، ولكن في الغالب تصطدم هذه الاستجابة بآلام وليدة ظلم الطبيعة. إذن، فالحياة حتى لو شابهت حياة الحيوانات في الحرية فإنها لا توجب السعادة، ولهذا فإن الفلاسفة وعلماء الأخلاق يرجّحون أن يصرفوا بحوثهم في إيجاد الأساليب التي تهدِّئ الآلام وترفع المصاعب عن طريق الحياة، فنراهم قد وصلوا إلى هذه النتيجة، وهي: أن كل ألم معلول لإدراك معين، وعليه فيجب السعي لإزالة أو تخفيف العلل الروحية والبدنية التي تؤدّي إلى ذلك الإدراك، ولذلك فإن أول علاج يجده الإنسان في هذا السبيل هو استعمال المواد الكحولية والمخدِّرة الأخرى) (1) .

وبالرغم من وجود المشاكل العديدة في طريق تحقيق اللذة... فإن البشر لا يقتنع ولا يقف عند حد في السعي وراء رغباته الغريزية. إن الإسلام لا يكتفي بالموافقة على الاستجابة للرغبات الفطرية فحسب، بل يعتبر ذلك من شؤون تحصيل السعادة البشرية، إلاّ أنه يحسب حساباً دقيقاً لذلك. فإن إرضاء الغرائز والاستجابة لها مسموح في نظرة إلى حيث لا يؤدي إلى الشقاء والفساد، ولا تهوي بالمجتمع إلى هوة سحيقة من الإجرام والدنس.

إن من المستحيل أن يحصل الفرد - في أي مجتمع كان - على حريته المطلقة في الاستجابة لميوله وغزائزه... إذ بعد الفراغ من وجود الحواجز الطبيعية أمام ذلك، فإن الإخلال بالنظام والأمن أو الحرية الاجتماعية عامل قوي في إيقافه عند حده. ومن هنا نجد الإسلام لا يكتفي بالمنع من بعض اللذات التي يمنع منها العالم المتحضّر في القرن العشرين، بل يستنكر أشد

____________________

(1) مذكرات فرويد. وقد ترجمت إلى الفارسية تحت عنوان (أنديشه هاى فرويد) ص 108.

٥٠

الاستنكار اللَّذات التي تهدم صرح الإيمان والتقوى، وتخالف الأسس الأخلاقية والإنسانية. أما اللذات التي لا تؤدي إلى ضرر مادي أو معنوي، كالزوجة الجميلة، والطعام اللذيذ، والملابس الأنيقية، والدار الواسعة، والمركب الحسن، والرفاه في المال والمناظر الطبيعية الخلابة... وعشرات غيرها من الأمور التي تعد إرضاء للميول الغريزية بشكلها المعقول، فإن الإسلام يعتبر ذلك جزء من منهجه القويم في تحقيق السعادة البشرية.

إرضاء الميول الغريزية:

وعلى سبيل المثال نستعرض بعض الشواهد من النصوص على ما ذهبنا إليه:

1 - قوله تعالى: ( يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (1) .

2 - قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (2) .

3 - عن النبي (ص): (أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهنّ مهراً) (3) .

4 - عن النبي (ص) أيضاً: (إن من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده، والمرأة الجملاء ذات دين، والمركب الهني، والمسكن الواسع) (4) .

5 - وعنه (ص) أيضاً: (أربع من سعادة المرء: الخلفاء الصالحون، والولد البار، والمرأة المواتية، وأن تكون معيشته في بلده) (5) .

6 - عن الإمام الصادق (ع): (ثلاثة هي من السعادة: الزوجة المواتية،

____________________

(1) سورة الأعراف |31.

(2) سورة الأعراف |32.

(3) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|55.

(4) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|51.

(5) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|55. ومعنى (أن تكون معيشته في بلده) أن يكون في رفاه اقتصادي فلا يضطر للخروج إلى غير بلده للتكسُّب وطلب العيش.

٥١

والولد البار، والرزق يرزق معيشة، يغدو على صلاحها ويروح على عياله) (1) .

7 - وفي الحديث الشريف: (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه) (2) .

8 - وعن الإمام الصادق (ع): (من السعادة سعة المنزل) (3) .

9 - عن النبي (ص): (من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهي، والولد الصالح) (4) .

تجاوز حدود الفطرة:

وهكذا يتبيّن لنا أن الإسلام يعتبر إرضاء الميول الغريزية للبشر أمراً محبّذاً، ويهتم بذلك على أنه من فروع السعادة البشرية. أما أن يعتبرها أصلاً في ذلك، فلا!؛ إذ أن الذي يغرق في الملاذ، ويحصر نفسه في سجن الشهوة والغرائز فقط، يكون قد حاد عن الفطرة الإنسانية السليمة التي تأبى هذا النوع من الحياة... حياة البهائم... حياة الميوعة.

من هنا تأتي الكلمة القاطعة الصريحة للنبي (ص): (مَن لم ير الله (عَزَّ وجَلَّ) عليه نعمةً إلاّ في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ، فقد قصر عمله ودنى عذابه) (5) .

فالسعادة الحقة للبشر - في نظر المشرع الأعظم - هي في اكتمال جميع الجوانب المادية والمعنوية وإرضاء كل الميول الإنسانية المشروعة، وهكذا فمن

____________________

(1) بحار الأنوار ج 23|50. والمرأة المواتية: المطيعة.

(2) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 138. والدابة إذا توسعنا في معناها وقسنا الظروف أمكن شمولها للسيارة مثلاً في عصرنا الحاضر.

(3) مكارم الأخلاق ص 65.

(4) مكارم الأخلاق ص 65. وفي هذا الحديث (المركب البهي) بينما كان في الحديث رقم (4): (المركب الهني). والظاهر تقارب معنييهما؛ إذ الأول يدل على المركب الوقر اللائق بالراكب، والثاني يكتفي بذكر الارتياح به في ركوبه.

(5) سفينة البحار مادة (دنى) ص 464.

٥٢

يتخلّى عن ميوله المادية بحجة الالتفات إلى الجهات المعنوية فهو مخطئ في نظر الإسلام، وكذلك مَن يتخلّى عن كمالاته الروحية سعياً وراء إرواء ظمأ شهواته وغرائزه. يقول الإمام الباقر (ع): (ليس منَّا مَن ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه) (1) .

تعادل الروح والجسد:

إن حفظ التوازن بين الروح والجسد أهم عوامل النجاح والسعادة، وإن أئمة الإسلام (عليهم السلام) كانوا إذا لا حظوا إفراطاً أو تفريطاً في سلوك أصحابهم في جانب مادي أو معنوي، اهتموا بتعديل ذلك الانحراف وتسوية ذلك الخطأ.

كان في البصرة أخَوَان، أحدهما: العلاء بن زياد الحارثي، والآخر عاصم. وكانا كلاهما من المخلصين لعلي (ع)، وكانا مختلفين في السلوك، فعلاء مفرط في حبه للدنيا وجمعه للمال. أما عاصم، فكان على العكس منه مدبراً ظهره للدنيا، صارفاً جُلَّ وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحية. وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوزا الطريق المستقيم، وانحرفا عن الصراط السوي.

وذات يوم مرض (علاء) فذهب علي (ع) لعيادته، وما أن استقر به الجلوس حتى التفت الإمام إلى سعة عيشه وإفراطه في سعيه وراء المادة، فخاطبه قائلاً: (ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج). ثم قال (ع): (بلى، إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة).

لقد أثَّر هذا الدرس البليغ - بأسلوبه الهادئ المتين - في (علاء) كثيراً،

____________________

(1) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج 4|106.

٥٣

وجاشت به العواطف للشكوى من تفريط أخيه فقال: أشكوا إليك أخي عاصم بن زياد، قال: (وماله؟)، قال: لبس العباءة وتخلَّى عن الدنيا. قال: (علي به). وبعد أن أحضر عاصم بين يدي الإمام، وبَّخه قائلاً: (يا عُدَيَّ نفسه (2) لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك).

من خلال سرد هذه الحادثة التاريخية يتضح مدى استقامة المنهج الإسلامي الذي نطق به الإمام أمير المؤمنين (ع)، وهو يعبِّر عن نظرة النبي (ص) وحكم الله (عَزَّ وجَلَّ). لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مشكلة لم يجد لها حلاً، وهي كيفية التوفيق بين كلام الإمام (ع) وعمله، حيث قد زهد في الدنيا وترك الملاذ، فجاشت عواطفه وما أسرع أن قال: يا أمير المؤمنين: هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؟! قال: (إني لست كأنت! إن الله فرض على أئمة الحق أن يُقَدِّرُوا أنفسهم بِضَعَفَة الناس، كيلا يَتَبَيَّغَ بالفقير فقره) (2) .

هذه هي خلاصة سريعة لعرض الآراء المختلفة - قديمها وحديثها - حول تحقيق سعادة الإنسان وقياسها بتعاليم الإسلام العظيمة وحلوله الشافية. على أن من الضروري أن نعلم: أن الأسس الأولى لسعادة الإنسان إنما تخطَّط في رحم الأم. وإن التحقيقات العلمية الدقيقة أثبتت: أن لعالَم الرحم دوراً مهماً في تقرير سعادة الإنسان أو شقائه، ولهذا فسنحاول أن نتكلّم بشيء من التفصيل عن هذا الدور في المحاضرة القادمة إن شاء الله.

____________________

(1) عُديّ: تصغير عدو.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11|32، طبعة دار الإحياء. وقوله (يتبيغ) أي يهيج به. كما يقال: (تبيغ الدم بصاحبه) أي: هاج به.

٥٤

المحاضرة الثالثة:

السعادة والشقاء في رحم الأُم

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّاراًً ) (1) .

يتطلب هذا البحث دقة وتعمُّقاً من الجهتين: العلمية والدينية. وللتمهيد إلى صلب الموضوع لا بد من توضيح بعض الأمور التي تتعلّق بالبحث. هذا ولا يغيب عن البال أن الاكتشافات العلمية الحديثة ساعدت على فهم بعض الآيات والروايات كثيراً. ومن تلك الموارد موضوعنا اليوم، حيث نأمل أن نتمكن من الاستفادة من التجارب العلمية الحديثة للوصول إلى أسرار بعض الآيات، ونكات بعض الروايات المتعلقة بالموضوع، والآن لنبدأ بذكر المقدمات:

معنى السعادة والشقاء:

إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم، هو فهم معنى السعادة والشقاء:

السعادة: حسن الحظ، ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه والبركة.

والشقاء: سوء الحظ، ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق والشدة.

ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين واتساع دائرتيهما لكثير من المعاني

____________________

(1) سورة نوح | 26 - 27.

٥٥

ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة (الشقاء) إلى معنى فقدان الإيمان والمعصية فقط. فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي، في حين أن الجريمة إحدى مراتب الشقاء فقط. وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً أو معاصي في عرف الشرع، لكنها - مع ذلك - توجب الشقاء للإنسان. كما تصرّح بذلك بعض الروايات. نكتفي بنقل واحدة منها:

قال النبي (ص): (أربع من السعادة، وأربع من الشقاوة. فالأربع التي من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهي. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء) (1) .

وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي توجب للإنسان معصية أو جريمة. فإننا نجد الرسول الأعظم (ص) يعدهما من أسباب شقاء الإنسان. وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة الرجل، فيمكن اعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى، فإذا خلق الطفل أعمى في بطن أمه، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في أمه، فيمكن القول بأنه كان شقيَّاً في رحم أمه.

قانون الوراثة:

أدرك الإنسان منذ أمد بعيد، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق. فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق والورقة والزهرة والألوان الطبيعية لها، وبعد الإنبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأخرى. إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها، فعندما تزرع هذه البذرة وتنبت، وتأخذ بالنمو، تظهر تلك الصفات تدريجياً. وهكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها وشعرها ومخالبها.

____________________

(1) مكارم الأخلاق ص 65.

٥٦

وتَرِث صفات أسلافها. وكذلك الطفل الإفريقي فهو يشبه أبوبه في سواد البشرة وتجعّد الشعر ووضع الأنف ولون العيون، في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة والعيون والشعر ووضع الأنف وما شاكل ذلك.

وبصورة موجزة نقول: إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية. وهذا القانون هو الذي يكفل للنبات والحيوان والإنسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها. وعلى هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم.

عامل الوراثة:

حقَّقت العلوم التجريبية انتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة، وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين. ولقد ساير (علم الأجنَّة) و (البحث عن الخلية) التقدم العلمي في المجالات الأخرى في تكامله وتوسُّعه يوماً بعد يوم.

لقد استطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات (مجاهر) دقيقة، توصَّلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى (الخلية)، وهذه تتكامل تحت شروط معينة، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان. إن اكتشاف هذا السر الدفين عقَّد قانون الوراثة أكثر، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن؟

(لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية. فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة. فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصِّه الفيزياوية والكيمياوية، ومن جهة أخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتَّضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون (مندل).

٥٧

(فأين يكمن عامل الوراثة؟ وفي أي جزء من الخلية؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة؟ أي جزء من (البروتوبلازم) وأي جانب من (النواة) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه. والصفة الفلانية من أجداده (1) .

وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية (نواة) بيضية الشكل ذات جدار مرن، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند انقسام الخلية، ولقد أسموها بـ (الكروموسومات ).

(ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها، وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الإنسان تحوي 48 كروموسوماً، وخلية الفأرة 40، والذبابة 12، والحمُّص 12، والطماطم 24، والنحلة 32... إلخ) (2) .

ولقد خطا العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أخرى، فتوصَّلوا إلى أن في (الكروموسومات) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها اسم (الجينات)، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة.

____________________

(1) تاريخ علوم ص 707، تأليف: بي ييروسو، ترجمة: حسن صفاري. وهو كتاب قيِّم طبع سنة 1954م للمرة الخامسة والستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأخرى.

(2) المصدر نفسه. وهنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية، فكروموسومات خلية الإنسان 24 زوجاً، والفأرة 20 زوجاً، والذبابة 6 أزواج، وهكذا. فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها، بل يبقى ثابتاً في كل نوع، لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية والأنثوية، وهكذا تزداد في كل مرة. إلاّ أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً. وهذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي.

٥٨

فالجينات هي التي تؤثِّر في انتقال صفات الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين وغير ذلك من الصفات من الآباء والأمهات إلى الأولاد. (ولقد أثبت علم الوراثة الحديث، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات وتتوزَّع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية، وعليه فإن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى بـ (الجينات)، وهي تكوِّن العوامل الوراثية. لقد توصَّلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه (دروزوفيل) وعيَّنوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات وعرَّفوا أبعادها...) (1) .

(إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمَّى بـ (الجينات)، وإن عددها كثير جداً. هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض. فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات، بمعنى أن كلاً منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات...) (2) .

الوراثة قبل تطورها:

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى، بل كانوا يجهلون خصوصياتها، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة. إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم، وتوصَّلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بنياد أنواع ص 69.

(2) جه ميدانيم؟ سرطان ص 42.

٥٩

أسموها (الجينات) ليس أمراً جديداً كل الجدة. فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون (عليهم السلام)، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والإلهام، لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق، بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الورائة فيها اسم: (العرق). وبعبارة أوضح: فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة (الجينة) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة (العِرق)، وعلى سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات:

1 - عن النبي (ص): (انظر في أي شيء تضع ولدك، فإن العِرق دسَّاس) (1) . وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة (دسَّاس)، نجد أن بعضها - كالمنجد - يعلِّق على ذلك بالعبارة التالية: (العرق دساس، أي: أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء) (2) .

فهذا الحديث يتحدَّث عن قانون الوراثة بصراحة، ويعبِّر عن العامل فيها بـ: (العِرق). فالنبي (ص) يوصي أصحابه بألاَّ يغفلوا عن قانون الوراثة، بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة.

2 - عن الإمام أمير المؤمنين (ع): (حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق) (3) . وهذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده.

3 - وهذا محمد بن الحنفية ابن الإمام علي (ع) كان حامل اللواء في حرب الجمل، فأمره علي بالهجوم، فأجهز على العدو، لكن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدّم، فتوقَّف قليلاً... وسرعان ما وصل إليه الإمام وقال له: (احملْ بين الأسنة)، فتقدَّم قليلاً ثم توقَّف ثانية، فتأثَّر الإمام

____________________

(1) المستطرف من كل فن مستظرف ج 2|218.

(2) المنجد، مادة دس.

(3) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 167، ط دار الثقافة في النجف الأشرف.

٦٠