شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة0%

شرح حكم نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 313

  • البداية
  • السابق
  • 313 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60219 / تحميل: 3993
الحجم الحجم الحجم
شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

شرح حكم نهج البلاغة

الشيخ عباس القمي

١

٢

كلمة المؤسّسة

انّ نهج البلاغة الّذي هو من أعلى المصادر الاسلامية شأنا في الثقافة الاسلامية فيجب أن تتوفّر عند الباحث تلك المقدرة العلمية حتى يستطيع دراسة كلّ أبعاده و زواياه و سبر أغوار كلام الامام عليه السلام و من ثمّ يستنير به في فلسفته الالهية و الايدئولوجية الاسلامية و يهتدي الى صراط للحياة السعيدة.

و هذه مهمّة تفوق طاقة انسان واحد، فيجب أن يكرّس رهط من العلماء جهودهم في سبيل هذا المنشور.

و ممّا منّ اللّه علينا تأسيس مؤسسة نهج البلاغة في عام (١٣٥٥ ه. ق) و اجتمع فيها اخوة مخلصون و بدأوا العمل لتحقيق الأهداف التّالية:

١ تصنيف المعارف العلوية السامية الّتي يحتوي عليها نهج البلاغة.

٣

٢ إعداد البطاقات عن المواضيع المستخرجة من نهج البلاغة.

٣ إعداد تفسير موضوعي عن المعارف الكامنة في نهج البلاغة.

٤ إعداد دروس في الحقول المختلفة من نهج البلاغة من أجل استفادة كلّ الفئات في المجتمع.

٥ تأسيس مؤسّسة للمراسلة و نشر دروس عن نهج البلاغة و سائر المعارف الاسلامية من أجل التعريف بالاسلام من نافذة نهج البلاغة و المصادر الاسلاميّة الاخرى.

٦ تحقيق نصّ نهج البلاغة و طبعه طبعة محققة على أحسن المناهج المتبعة في تحقيق النصوص.

٧ إعداد ترجمة فارسية من نهج البلاغة ترجمة دقيقة تخلو قدر المستطاع من كلّ عيب و نقص.

٨ ترجمة نهج البلاغة إلى اللّغات العالمية الحية.

٩ نشر التّرجمات القديمة الموجودة من نهج البلاغة.

١٠ تحقيق و نشر شروح نهج البلاغة الّتي ظلّت غير مطبوعة حتى الآن.

و غيرها من البرامج و الاعمال اللازمة الّتي جاءت في خلال منشوراتنا و ساير المراكز الاعلامية.

و لتحقيق هذا الهدف الأخير، قام فرع من المؤسسة بمسؤولية جمع من الأفاضل و المحققين الذين لهم نشاط واسع في العلوم الاسلامية

٤

بتحقيق شروح نهج البلاغة التي عيّن لهم اللجنة العليا للطّرح و البرنامج في مؤسسة نهج البلاغة كشرح الكيذرى البيهقي المسمى ب « حدائق الحقايق » و غيره.

و في هذه الفرصة نقدّم الى القارئ الكريم، شرحا آخر للمحدث الخبير و المؤلف الألمعى و هو المحقق القمي رحمه اللّه الذي كتب شرحه على الحكم على الترتيب الأبجدي، و هو مع اختصاره مغني و مع قلته مكفي.

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا بحفظ تلك الكلمات في الرّوح و العمل انشاء اللّه تعالى.

طهران مؤسسة نهج البلاغة ١٣٧٥

٥

٦

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدّمة التحقيق

الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصي نعماءه العادّون، و لا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن.(١) ثمّ الصلاة و السلام على رسوله محمّد المصطفى أشرف الأنبياء،

و على آله و عترته سادات الأتقياء، لا سيّما ابن عمّه و وصيّه و وارث علمه عليّ بن أبي طالب سيّد الأوصياء.

و بعد، فيعتبر « نهج البلاغة » عند العلماء و المفكّرين إحدى الذخائر الإسلاميّة الكريمة، بعد كتاب اللّه و السنّة النبويّة، و من كنوز الإسلام النفيسة. فهو كتاب « يتضمّن من عجائب البلاغة، و غرائب الفصاحة، و جواهر العربيّة، و ثواقب الكلم الدينيّة و الدنيويّة ما لا

____________________

(١) من الخطبة ١ من خطب نهج البلاغة.

٧

يوجد مجتمعا في كلام، و لا مجموع الأطراف في كتاب ».(١) قال محمد بن طلحة الشافعيّ (٦٥٢ ق): الفصاحة تنسب إليه و البلاغة تنقل عنه و البراعة تستفاد منه، و علم المعاني و البيان غريزة فيه.(٢) و قال سبط ابن الجوزي (٦٥٤ ق): كان عليّ عليه السلام ينطق بكلام قد حفّ بالعصمة، و يتكلّم بميزان الحكمة، كلام ألقى اللّه عليه المهابة، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه، و قد جمع اللّه له بين الحلاوة و الملاحة و الطلاوة و الفصاحة، لم يسقط منه كلمة و لا بارت له حجّة، أعجز الناطقين و حاز قصب السّبق(٣) في السابقين، ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة و يحيّر الأفهام و الألباب.(٤) و قال الشيخ محمّد عبده أحد شرّاح نهج البلاغة في مقدّمة شرحه:

و ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأنّ كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام و أبلغه بعد كلام الله تعالى و كلام نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أغزر مادّة، و أرفعه أسلوبا، و أجمعه لجلائل المعاني. ٥

____________________

(١) من خطبة الرضيّ (ره)، نهج البلاغة ٣٤.

(٢) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ٤٧.

(٣) أطلق على كلّ مبرّز و مشمّر. (أقرب الموارد قصب)

(٤) تذكرة الخواصّ ١١٩ ١٢٠.

(٥) شرح الشيخ عبده على النهج ١ ٥.

٨

و لذا نرى اهتمام كثير من العلماء و المفكّرين في جمع خطب الإمام و رسائله و أقواله قبل الشريف الرضيّ (ره)، حتّى أنّ المعاجم و كتب الفهرست تحتفظ بذكر رجال تصدّوا إلى جمع كلام الإمام علي عليه السلام،

ذكر السيّد عبد الزهراء الخطيب في كتابه « مصادر نهج البلاغة » ١١٤ كتابا من المؤلّفين الذين تصدّوا إلى جمع كلام الإمام و تأليفه قبل أن يولد الشريف الرضيّ(١) و من الواضح أنّ كلمات الإمام عليه السّلام كانت معروفة لدى العلماء و متداولة بين الأدباء، و قديما استعان به كبراء العربيّة لأدبهم و تفكيرهم، كعبد اللّه بن المقفّع، و عبد الحميد الكاتب، و ابن نباتة و أضرابهم من الكتّاب و البلغاء و الأدباء.

و من المجمع عليه أنّ كلام الإمام عليّ عليه السّلام مل‏ء قلوب العلماء و الأدباء و مل‏ء أسماعهم و أبصارهم، استهوتهم روائعه، و سحرتهم أساليبه و ألوانه، فوصفوه بما يدلّ على بعد أثره فيهم و إعجابهم به.

قال الجاحظ البصريّ (٢٥٥ ق) في البيان و التبيين: قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: « قيمة كلّ امرئ ما يحسن ».(٢) فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة، لوجدناها كافية شافية، و مجزية مغنية، بل

____________________

(١) مصادر نهج البلاغة ١ ٢٨ ٤١.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٨١.

٩

لوجدناها فاضلة على الكفاية، و غير مقصّرة عن الغاية. و أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، و معناه في ظاهر لفظه.(١) و قال الجاحظ أيضا: حدّثني ثمامة، قال: سمعت جعفر بن يحيى،

و كان من أبلغ الناس و أفصحهم، يقول: الكتابة ضمّ اللفظة إلى أختها،

ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر، و قد تفاخرا: أنا أشعر منك لأنّي أقول البيت و أخاه، و أنت تقول البيت و ابن عمّه ثمّ قال: و ناهيك حسنا بقول عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: « هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار ».(٢) و كان جعفر يعجب أيضا بقول عليّ عليه السّلام: « أين من جدّ و اجتهد،

و جمع و احتشد، و بنى فشيّد، و فرش فمهّد، و زخرف فنجّد »(٣) قال: ألا ترى أنّ كلّ لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها،

دالّة عليها بذاتها قال أبو عثمان: فكان جعفر يسمّيه فصيح قريش.(٤) و قال ابن أبي الحديد (٦٥٦ ق) في ديباجة شرحه على نهج البلاغة: و أمّا الفصاحة فهو عليه السّلام إمام الفصحاء، و سيّد البلغاء، و في كلامه قيل: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين.

____________________

(١) البيان و التبيين ١ ١٠٦.

(٢) نهج البلاغة، من الخطبة ٨٣ المسمّاة بالخطبة الغرّاء.

(٣) احتشد: اجتمع. نجّد: زيّن.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٦ ٢٧٧ ٢٧٨.

١٠

و لمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس،

قال له: ويحك كيف يكون أعيا الناس فو اللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.(١) و قال الشريف الرضيّ بعد الخطبة ١٦ من خطب نهج البلاغة: إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، و فيه زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، و لا يطّلع فجّها إنسان.(٢) و قال أيضا بعد الخطبة ٢١: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام اللّه سبحانه و بعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بكلّ كلام لمال به راجحا، و برّز عليه سابقا.(٣)

تأثير كلام الإمام عليّ عليه السّلام في الأدب العربيّ:

و بما أنّ الإمام عليّا عليه السّلام كان بحرا لا ينزف، و غمرا لا يسبر،

يؤاتيه الكلام و يتابعه، و لا يطاق لسانه، و كلامه عليه السّلام بيّن المنهج و سهل المخرج، مطّرد السياق و القياس، « على أمثلته حذا كلّ قائل خطيب،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ ٢٤.

(٢) نهج البلاغة ٥٨.

(٣) نهج البلاغة ٦٣.

١١

و بكلامه استعان كلّ واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصّروا، و قد تقدّم و تأخّروا، لأنّ كلامه عليه السّلام الكلام الّذي عليه مسحة(١) من العلم الإلهيّ، و فيه عبقة(٢) من الكلام النبويّ ».(٣) قال ابن واضح اليعقوبيّ (٢٩٢ ق) في كتابه « مشاكلة الناس لزمانهم »: و حفظ الناس عنه الخطب، فإنّه خطب بأربعمائة خطبة،

حفظت عنه، و هي التي تدور بين الناس و يستعملونها في خطبهم.(٤) و قال المسعوديّ (٣٤٦ ق) في « مروج الذهب »: و الذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة و نيف و ثمانون خطبة يوردها على البديهة، و تداول الناس ذلك عنه قولا و عملا.(٥) و قال الكلينيّ (٣٢٨ ٣٢٩ ق) بعد نقل خطبة له عليه السّلام في التوحيد ما لفظه: و هذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه السّلام، حتّى لقد ابتذلها

____________________

(١) مسحة: أثر أو علامة.

(٢) عبقة: رائحة. قال منتجب الدين (من أعلام القرن السادس) في فهرسته،

ص ١٧٦: الشيخ القاضي جمال الدين محمّد بن الحسين قاضي قاشان فاضل فقيه، كان يكتب نهج البلاغة من حفظه، و له رسالة « العبقة » في شرح قول السيّد الرضيّ في خطبة النهج.

(٣) نهج البلاغة ٣٤.

(٤) مصادر نهج البلاغة ١ ٥٠.

(٥) مروج الذهب ٢ ٤٣١.

١٢

العامّة(١) و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها و فهم ما فيها،

فلو اجتمع ألسنة الجنّ و الإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي و أمّي ما قدروا عليه، و لو لا إبانته عليه السّلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد.(٢) و قال ابن دأب الليثيّ(٣) (١٧١ ق) في عليّ عليه السّلام: ثمّ البلاغة، مال الناس إليه حيث نزل من المنبر، فقالوا: ما سمعنا يا أمير المؤمنين أحدا قطّ أبلغ منك و لا أفصح، فتبسّم و قال: و ما يمنعني؟ و أنا مولد مكيّ، و لم يزدهم على هاتين الكلمتين.

ثمّ الخطب، فهل سمع السامعون من الأوّلين و الآخرين بمثل خطبه و كلامه؟ و زعم أهل الدواوين لو لا كلام عليّ بن أبي طالب و خطبه و بلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند و لا إلى رعيّة.(٤) و قال ابن ميثم في مقدّمة شرحه على نهج البلاغة: و أمّا الفصحاء

____________________

(١) أي اشتهرت بينهم فكأنّها صارت مبتذلة.

(٢) الكافي ١ ١٣٦.

(٣) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد، من أهل المدينة، و كان أكثر أهل عصره أدبا و علما و معرفة بأخبار الناس و أيّامهم و كان خطيبا شاعرا توفّي سنة ١٧١ ق.

(الأعلام ٥ ١١١، الكنى و الألقاب ١ ٢٨١).

(٤) الاختصاص، للشيخ المفيد ١٤٨.

١٣

فمعلوم أنّ جميع من ينسب الى الفصاحة بعده (عليّ عليه السّلام) يملؤون أوعية أذهانهم من ألفاظه، و يضمّنونها كلامهم و خطبهم فتكون منها بمنزلة ورد العقود كابن نباتة و غيره، و الأمر في ذلك ظاهر.(١) و قال ابن أبي الحديد: و أمّا الفصاحة فهو عليه السّلام إمام الفصحاء،

و سيّد البلغاء... و منه تعلّم الناس الخطابة و الكتابة. قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت.

و قال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة و كثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.(٢) و جاء أبو هلال العسكري (٣٩٥ ق) ببعض الأخذ من كلام الإمام عليّ عليه السّلام و قال:

سمع أبو تمّام قول عليّ بن أبي طالب للأشعث بن قيس: إنّك إن صبرت جرى عليك قضاء... إلى آخره ٣، و إن صبرت صبر الأكارم،

و إلاّ سلوت سلوّ البهائم ٤، فحكاه حكاية حسنة في قوله:

و قال عليّ في التعازي لأشعث

و خاف عليه بعض تلك المآثم

____________________

(١) شرح ابن ميثم ١ ٧٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١ ٢٤.

(٣) الحكمة ٢٩١ من حكم نهج البلاغة.

(٤) الحكمة ٤١٤ من حكم نهج البلاغة.

١٤

أ تصبر للبلوى عزاء و حسبة

فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم

١ و قال أبو هلال أيضا: و من حسن الاتّباع أيضا قول إبراهيم بن العبّاس حيث كتب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، و للمسي‏ء من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبة، و انقاد المسي‏ء للحقّ رهبة... أخذه من قول عليّ بن أبي طالب، أخبرنا به أبو أحمد قال: أخبرنا أبو بكر الجوهريّ عن المنقري عن ابن جرير قال: قال عليّ بن أبي طالب: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره و يتفقّد أعوانه،

حتّى لا يخفى عليه احسان محسن و لا إساءة مسي‏ء. ثمّ لا يترك واحدا منهما بغير جزاء، فإن ترك ذلك تهاون المحسن، و اجترأ المسي‏ء، و فسد الأمر، و ضاع العمل.(٢) و قال أبو هلال أيضا بعد نقل بيت ابن طباطبا: « فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه »: أخذ ابن طباطبا قول عليّ عليه السّلام بلفظه و أخرجه بغيضا متكلّفا، و الجيّد قول الآخر: « فقيمة كلّ امرئ علمه »، فهذا و إن كان أخذه ببعض لفظه، فإنّ « كلا » في بيته أحسن موقعا منه في بيت ابن طباطبا.(٣)

____________________

(١) كتاب الصناعتين ٢٣٢، ديوان أبي تمّام ٣٠٠.

(٢) كتاب الصناعتين ٢٣٥.

(٣) كتاب الصناعتين ٢٥٢ ٢٥٣.

١٥

و قال صلاح الدين الصفديّ في ترجمة أحوال محمّد بن عبد الملك بن عبد الحميد الشهير بالزاهد الفارقي (٥٦٤ ق) ما لفظه: و كان دعا الخلق إلى اللّه تعالى و كان يتكلّم على الناس كلّ جمعة بعد الصلاة بجامع القصر... و كان يحفظ كتاب نهج البلاغة و يغيّر عبارته، و كان الكبار يحضرون مجلسه و الأعيان و الفضلاء، و كان يتكلّم على لسان أهل الحقيقة بلسان عذب و كلام لطيف و عبارة رشقة و منطق بليغ فانتفع الناس به.(١) و نختم الكلام بذكر ما قاله الدكتور زكيّ مبارك في كتابه « عبقريّة الشريف الرضيّ »: إنّي لأعتقد أنّ النظر في كتاب نهج البلاغة يورث الرجولة و الشهامة و عظمة النفس، لأنّه فيض من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود.

و هناك خدمة ثانية أدّاها كتاب نهج البلاغة للّغة العربيّة، فقد كان فرصة ثمنية لحركة الأفهام و العقول.

ألا تعرفون شرح ابن أبي الحديد؟

إنّ ذلك الشرح هو من ذخائر اللّغة العربيّة: ففيه فوائد أدبيّة و لغويّة و تاريخيّة و فقهيّة لا يستهين بها إلاّ الغافلون عمّا في ماضيّنا الأدبيّ و العلميّ من أطايب و فرائد و آيات.

____________________

(١) الوافي بالوفيات ٤ ٤٤.

١٦

فإن ذكرتم أنّ نهج البلاغة شرح نحو أربعين مرّة، و إن ذكرتم أنّ فيه فصولا ترجمت إلى بعض اللغات الشرقيّة و الغربيّة، و إن ذكرتم أنّه فتح أمام النقد أبوابا و مذاهب، و إن ذكرتم أنّ له فضلا على أكثر الفصحاء من الخطباء، و إن ذكرتم أنّه أشهر مجموعة و أكبر مجموعة حفظت منسوبة إلى عصر الخلفاء، و إن ذكرتم أنّ له شرق و غرب و لم تخل منه مكتبة عربيّة أو أعجميّة من المكتبات التي تستوفي أصول المراجع، و إن ذكرتم أنّ مفنّديه لم ينكروا قيمته الأدبيّة...

إن ذكرتم كلّ هذه الخصائص عرفتم أنّ الشريف خدم الأدب و اللغة و الأخلاق بجمع أصول ذلك الكتاب الفريد.(١) هذا و قال السيّد المرتضى علم الهدى و أجاد فيما قال:(٢)

نهج البلاغة نهجة لذوي البلاغة واضح

و كلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح

العلم فيه زاخر و الفضل فيه راجح

و غوامض التوحيد فيه جميعها لك لائح

و وعيده مع وعده للناس طرا ناصح

تحظى به هذي البريّة صالح أو طالح

____________________

(١) عبقرية الشريف الرضي ١ ٢٢٣ ٢٢٤.

(٢) منهاج البراعة ١ ٢٤٣.

١٧

و قال آخر:(١)

كتاب كأنّ اللّه رصّع لفظه

بجوهر آيات الكتاب المنزّل

حوى حكما كالدرّ ينطق صادقا

فلا فرق إلاّ أنّه غير منزل

شروح نهج البلاغة:

و قد تصدّى لشرح كتاب « نهج البلاغة » كثيرون من العلماء و الفضلاء، ذكر السيّد هبة الدين الشهرستاني أنّها تنوف على الخمسين شرحا ٢، ما بين مبسوط و مختصر، منهم أبو الحسن البيهقيّ، و فخر الدين الرازيّ، و القطب الراونديّ، و كمال الدين محمّد بن ميثم البحراني، و ابن أبي الحديد من المتقدّمين، و حبيب بن محمّد بن هاشم الهاشميّ، و الشيخ محمّد عبده و محمّد نائل المرصفيّ و الشيخ محمّد تقيّ التستريّ من المتأخرين.

من هو الشريف الرضيّ؟

هو أبو الحسن محمّد بن أبي أحمد ولد ببغداد في سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة (٣٥٩) و كان نقيب الطالبيّين ببغداد، كان يلقّب بالرضيّ ذا

____________________

(١) نفس المصدر ١ ٢٤٥.

(٢) ما هو نهج البلاغة ١٣ ١٨.

١٨

الحسبين، و كان من أهل الفضل و الأدب و العلم.

قال الخطيب البغداديّ: ذكر لي أحمد بن عمر بن روح عنه أنّه تلقّن القرآن بعد أن دخل في السنّ، فجمع حفظه في مدّة يسيرة. قال:

و صنّف كتابا في معاني القرآن يتعذّر وجود مثله، و كان شاعرا محسنا،

سمعت أبا عبد اللّه الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ و كان أحد الرؤساء يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون: الرضيّ أشعر قريش. فقال ابن محفوظ: هذا صحيح، و قد كان في قريش من يجيد القول إلاّ أنّ شعره قليل، فأمّا مجيد مكثر فليس إلاّ الرضيّ.

و قال الثعالبي: ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل،

و هو اليوم أبدع أبناء الزمان، و أنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتده الشريف، و مفخره المنيف، بأدب ظاهر و فضل باهر، و حظّ من جميع المحاسن وافر، ثمّ هو أشعر الطالبيّين، من مضى منهم و من غبر على كثرة شعرائهم المفلقين... و لو قلت: إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق و سيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح،

الممتنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانة، و إلى السهولة رصانة، و يشتمل على معان يقرب جناها، و يبعد مداها.

و قال ابن أبي الحديد: كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر،

عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه، و لقّب بالطاهر ذي

١٩

المناقب، و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد، و ولي نقابة الطالبيّين خمس دفعات... عرف الرضيّ من الفقه و الفرائض طرفا قويّا، و كان (ره) عالما أديبا، و شاعرا مفلقا، فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادرا على القريض، متصرّفا في فنونه، إن قصد الرقّة في النسيب أتى بالعجب العجاب، و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره أتى بما لا يشقّ فيه غباره ١، و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره. و كان مع هذا مترسّلا ذا كتابة قويّة. و كان عفيفا شريف النفس، عالي الهمّة، ملتزما بالدين و قوانينه...

توفي الرضيّ (ره) في المحرّم سنة ستّ و أربعمائة (٤٠٦) و دفن في داره بمسجد الأنباريّين.(٢)

المحدّث القميّ الشارح:

هو المحدّث الخبير و العالم البصير، الشيخ عبّاس بن محمّد رضا القمّيّ. ولد في سنة ١٢٩٤ ق ببلدة قم و نشأ فيها، و اشتغل بالتعليم. و في

____________________

(١) يضرب للسابق المبرّز، و لمن لا قرن له يجاريه، و يراد أنّه لا غبار فيه فيشقّ و ذلك لسرعة عدوه و خفّة وطئه. (فرائد الأدب ٩٩٤)

(٢) توجد ترجمته في تاريخ بغداد ٢ ٢٤٦ ٢٤٧، يتيمة الدهر ٣ ١٣١،

شرح ابن أبي الحديد ١ ٣١ ٤١.

٢٠