شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة0%

شرح حكم نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 313

  • البداية
  • السابق
  • 313 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60524 / تحميل: 4058
الحجم الحجم الحجم
شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك.(١) و قد أخذ هذا المعنى شيخنا البهائيّ، و نظمه بالفارسيّة في كتاب « نان و حلوا » ٢: نوجوانى از خواص پادشاه إلى آخره.

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٩٢.

(٢) تمام الحكاية هكذا (انظر « كليّات شيخ بهائيّ »، ص ١٩):

نوجوانى از خواص پادشاه

مى‏شدى با حشمت و تمكين به راه

دل ز غم خالى و سر پر از هوس

جمله اسباب تنعّم پيش و پس

بر يكى عابد در آن صحرا گذشت

كو علف مى‏خورد چون آهوى دشت

هر زمان در ذكر حىّ لا يموت

شكر گويان كش ميسّر گشت قوت

نوجوان سويش خراميد و بگفت

كاى شده با وحشيان در قوت جفت

سبز گشته چون زمرّد رنگ تو

چونكه نايد جز علف در چنگ تو

شد تنت چون عنكبوت از لاغرى

چون گوزنان چند در صحرا چرى

گر چو من بودى تو خدمتكار شاه

در علف خوردن نمى‏گشتى تباه

پير گفتش كاى جوان نامدار

كت بود از خدمت شه افتخار

گر چو من تو نيز مى‏خوردى علف

كى شدى عمرت در اين خدمت تلف؟

١٦١

و من كلام الحكماء: قاوم الفقر بالقناعة، و قاهر الغنى بالتعفّف، و طاول عناء الحاسد بحسن الصنع، و غالب الموت بالذكر الجميل.(١) و قال الشاعر:(٢)

أنا كالثعبان جلدي ملبسي

لست محتاجا إلى ثوب الجمال

فالخمول العزّ و اليأس الغنى

و القنوع الملك هذا ما بدا لي

١٩٠ قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه.(٣) قال الرضيّ: هذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة، و لا توزن بها حكمة، و لا تقرن اليها كلمة.(٤) الغرض من هذا الكلام التحريض و الترغيب في أعلى ما يكتسب من الكمالات النفسانيّة و الصناعات و نحوها، فإنّ أرفع الناس في نفوس الناس منزلة أعظمهم كمالا، و أنقصهم درجة أحسنهم فيما هو عليه من حرفة أو صناعة و نحو ذلك.

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٩٢.

(٢) البيت للغزّيّ، انظر شرح ابن أبي الحديد ٢٠ ٢٤٤.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٨١.

(٤) نهج البلاغة، ص ٤٨٢.

١٦٢

١٩١ و ١٩٢ و ١٩٣ قلّة العيال أحد اليسارين، و التّودّد نصف العقل، و الهم نصف الهرم.(١) اليسار الثاني كثرة المال، يقول عليه السلام: إنّ قلّة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقيّ مع كثرتهم، فإنّ العيال أرضة المال كما في أمثال الحكماء.(٢) و أمّا التودّد، و هو جميل المعاشرة و حسن الصحبة و المسامحة و المعاملة بين الناس على الظاهر، و هو نصف العقل أي العقل العمليّ،

فلا يحتاج إلى بيان.

و أمّا الهمّ نصف الهرم، فلأنّ الهرم إمّا طبيعيّ و إمّا لسبب من خارج و هو الهمّ و الحزن و الخوف المستلزم له، فهو اذن قسيم للسبب الطبيعيّ للهرم و قسم من أسبابه، فصار بمنزلة النصف له، أي نصف سبب الهرم.(٣) ١٩٤ قد بصّرتم إن أبصرتم، و قد هديتم إن اهتديتم، و أسمعتم إن استمعتم.(٣) قال اللّه تعالى: وَ أمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلى

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ١٤١ و ١٤٢ و ١٤٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٣٣٩.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ١٥٧.

١٦٣

الْهُدى‏.(١) و قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ.(٢) ١٩٥ قد أضاء الصّبح لذي عينين.(٣) هذا الكلام جار مجرى المثل و مثله: و الشمس لا تخفى عن الأبصار.(٤) ١٩٦ و ١٩٧ قليل تدوم عليه أرجى (مدوم عليه خير) من كثير مملول منه.(٥) لا ريب أنّ من أراد حفظ كتاب مثلا، فحفظ منه قليلا قليلا،

و دام على ذلك، فإنّ ذلك أنفع له و أرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا و لا يدوم عليه لملاله إيّاه و ضجره منه، و التجربة تشهد بذلك.

و القول في غير الحفظ كالقول في الحفظ، نحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع إلى غير ذلك.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ

____________________

(١) سورة فصّلت (٤١) ١٧.

(٢) سورة البلد (٩٠) ١٠.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ١٦٩.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٣٩٥.

(٥) انظر نهج البلاغة، الحكمتين ٢٧٨ و ٤٤٤.

١٦٤

المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى.(١) و يعجبني نقل كلام السعدي و لو كان بالفارسيّة ها هنا:(٢)

به چشم خويش ديدم در بيابان

كه آهسته سبق برد از شتابان

سمند باد پاى از تك فرو ماند

شتربان همچنان آهسته مى‏راند

١٩٨ قطع العلم عذر المتعلّلين.(٣) أي العلم بالدين و ما بلّغه الرسول صلّى اللّه عليه و آله من البشارة و النذارة،

فإنّ ذلك قاطع لعذر من عساه يقول:

إنّا كنّا عن هذا غافلين، و يعلّلون أنفسهم بالباطل و يقولون: إنّ الربّ كريم رحيم، فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة.

١٩٩ القلب مصحف البصر.(٤) أي كما أنّ الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه، كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنّه يرى قلبه بوساطة رؤية الخطّ الذي في المصحف ما يدلّ الخطّ عليه.

قال الشاعر:(٥)

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ ٩٤.

(٢) كليّات سعدي، ص ٢٠٢.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٢٨٤.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٤٠٩.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ ٤٦.

١٦٥

إنّ العيون لتبدي في تقلّبها

ما في الضمائر من ودّ و من حنق

١ و قال آخر:(٢)

تخبّرني العينان ما القلب كاتم

و ما جنّ بالبغضاء و النظر الشّزر

٣

____________________

(١) الحنق: البغض.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ ٤٦.

(٣) نظر شزر: فيه إعراض كنظر المعادي المبغض، و قيل: هو النظر بمؤخّر العين،

و أكثر ما يكون النظر الشزر في حال الغضب. (لسان العرب ٧ ١٠٧ شزر)

١٦٦

حرف الكاف

٢٠٠ كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر فيركب، و لا ضرع فيحلب.(١) ابن اللّبون: ابن الناقة الذكر إذا استكمل السنّة الثانية و دخل في الثالثة، و هو لا يكون قد كمل و قوي ظهره على أن يركب، و ليس بأنثى ذات ضرع فتحلب و هو مطّرح لا ينتفع به.

و أيّام الفتنة هي أيّام الخصومة و الحرب بين رئيسين ضالّين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك و ابن الزبير، و فتنة الحجّاج و ابن الأشعث و نحو ذلك، فأمّا إذا كان أحدهما صاحب حقّ فليست أيّام فتنة كالجمل و صفّين و نحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحقّ ببذل المال و النفس.

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ١.

١٦٧

و في الكلام حذف، تقديره: له.(١) ٢٠١ كن سمحا و لا تكن مبذّرا، و كن مقدّرا و لا تكن مقتّرا.(٢) كلّ كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه: وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.(٣) و نحو قوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوانَ الشَّياطيِنِ.(٤) و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَواماً.(٥) ٢٠٢ كلّ معدود منقض، و كلّ متوقّع آت.(٦) الفقرة الأولى إشارة إلى أنفاس العباد و حركاتهم، و الثانية تخويف بما يتوقّع من الموت و توابعه.

٢٠٣ كم من مستدرج بالإحسان إليه، و مغرور بالسّتر عليه،

و مفتون بحسن القول فيه و ما ابتلى اللّه أحدا بمثل الإملاء له.(٧)

____________________

(١) يعني: لا ظهر له فيركب، و لا ضرع له فيحلب.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٣٣.

(٣) سورة الإسراء (١٧) ٢٩.

(٤) سورة الإسراء (١٧) ٢٧.

(٥) سورة الفرقان (٢٥) ٦٧.

(٦) نهج البلاغة، الحكمة ٧٥.

(٧) نهج البلاغة، الحكمة ١١٦.

١٦٨

المستدرج: المأخوذ على غرّة. و الإملاء: الإمهال و تأخير المدّة.

و لمّا كانت غاية الابتلاء بهذه الأمور التي كلّها نعم في الحقيقة، إمّا شكرها أو كفرها، و كان الشكر هو الغاية الخيريّة المطلوبة بالذات نبّه المبتلى بالنعمة الأولى على وجوب شكرها بأنّه كثيرا ما يستدرج بها فينبغي أن لا يغفل عنها. و نبّه المبتلى بالثانية على أنّها كثيرا ما يكون سببا لغرّته باللّه و الأمن من مكره فينهمك في المعاصي. و نبّه الثالث بكون نعمته قد يكون سببا لفتنته و ارتكابه لرذيلة العجب بنفسه. و نبّه الرابع بكون نعمته أعظم ما يبتلى به من النعم.(١) ٢٠٤ كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و العطش [ و الظمّأ خ ل ]، و كم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السّهر و العناء، حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم.(٢) إنّما مدح نوم الأكياس و إفطارهم، لأنّ الكيّس هو الذي يستعمل ذكاه و فطنته في طريق الخير و على الوجه المرضيّ للشارع، و يضع كلّ شي‏ء موضعه، و من كان كذلك كان نومه و إفطاره و جميع تصرّفاته في عباداته موضعة موضعها من رضاء اللّه و محبّته بخلاف الجاهلين باللّه و بشرائط العبادة، فإنّ نصيبهم من الصيام و القيام ما ذكره أمير

____________________

(١) مأخوذ من شرح ابن ميثم ٥ ٣٠٣ ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ١٤٥.

١٦٩

المؤمنين عليه السلام.

قال تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً(١) و ورد: ربّ تال القرآن، و القرآن يلعنه.(٢) ٢٠٥ كم من أكلة منعت (تمنع خ ل) أكلات(٣) هذا حقّ و قد أخذ هذا المعنى بلفظه الحريريّ، فقال في المقامات:

ربّ أكلة هاضت الآكل، و منعته مآكل.(٤) و أخذه ابن العلاّف الشاعر فقال في سنّوره الذي يرثيه:(٥)

أردت أن تأكل الفراخ و لا

يأكلك الدهر أكل مضطهد

يا من لذيذ الفراخ أوقعه

ويحك هلاّ قنعت بالغدد

كم أكلة خامرت حشا شره

فأخرجت روحه من الجسد

٦ و العرب تعيّر بكثرة الأكل، و تعيب بالجشع و الشره و النهم، و قد كان فيها قوم موصوفون بكثرة الأكل، منهم معاوية، كان يأكل حتّى يستلقي و يقول: يا غلام، ارفع فلأنّي و اللّه ما شبعت و لكن مللت.(٧)

____________________

(١) سورة الغاشية (٨٨) ٣ ٤.

(٢) بحار الأنوار ٩٢ ١٨٤، نقلا عن جامع الأخبار.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ١٧١.

(٤) مقامات الحريريّ، المقامة الكوفيّة، ص ٤١. و فيه: حرمته مآكل.

(٥) و فيات الأعيان ٢ ١١٠، حياة الحيوان للدميري ٢ ٤٠٣.

(٦) في الوفيات: « كم دخلت لقمة حشا شره » بدل المصراع الأول.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٣٩٨.

١٧٠

قال الشاعر:

و صاحب لي بطنه كالهاويه

كأنّ في أمعائه معاويه

و كان عبيد اللّه بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهنّ خيبة (؟) بعسل، و يوضح بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده.(١) و كان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل. حكي أنّه دخل الحمّام فأطال، ثمّ خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا، ثمّ قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنّه لم يأكل شيئا.(٢) و نوادر آثاره في الأكل كثيرة.

و كان الحجّاج و هلال بن أشعر المازنيّ و هلال بن أبي بردة و عنبسة و ميسرة الرأس موصوفين بكثرة الأكل و لهم نوادر أوردها ابن أبي الحديد في الشرح.(٣) و كان أبو الحسن العلاّف والد أبي بكر العلاّف الشاعر المحدّث أكولا، دخل يوما على الوزير أبي بكر محمّد المهلبيّ، فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح و يطبخ بماء و ملح، ثمّ قدّم له على مائدة الوزير،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٣٩٨.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٤٠٠ ٤٠١.

١٧١

فأكل و هو يظنّه لحم البقر، و يستطيبه حتّى أتى عليه، فلمّا خرج ليركب طلب الحمار، فقيل له: في جوفك.(١) و كان أبو العالية أكولا، نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية خبيصا، فولدت غلاما، فأحضرته، فأكل جفان خبيصا، ثمّ أمسك، و خرج، فقيل له: إنّها كانت نذرت أن تشبعك، فقال: و اللّه لو علمت ما شبعت إلى الليل.(٢) ٢٠٦ كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم، فإنّه يتّسع به.(٣) الأوعية المحسوسة لمّا كانت متناهية الاتّساع، فمن شأنها أن يضيق بما يجعل فيها، و أوعية العلم معقولة و هي النفوس، و قوّة إدراك العلوم فيها غير متناهية، و كلّ مرتبة من إدراكها تعدّ لما بعدها إلى غير النهاية، فبالواجب أن يتّسع بالعلم و يزيد بزيادته.

٢٠٧ كفى بالقناعة ملكا، و بحسن الخلق نعيما.(٤) استعار لفظ الملك للقناعة لأنّ غاية الملك الغناء عن الخلق،

و الترفّع عليهم بذلك. و الالتذاذ و القناعة مستلزمة لهذه الغايات،

و كذلك استعار لفظ النعيم لحسن الخلق باعتبار استلزامها للالتذاذ.

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٤٠٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٤٠١.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٢٠٥.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٢٢٩.

١٧٢

و ما ورد في فضل القناعة أكثر من أن يحصى.

و سئل عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جل: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً،(١) فقال: هي القناعة.(٢) و ذلك لأنّه لا ريب أنّ الحياة الطيّبة هي حياة الغنى، و الغنى هو القنوع، لأنّه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلّهم حاجة إلى الناس، و لذلك كان اللّه تعالى أغنى الأغنياء، لأنّه لا حاجة به إلى شي‏ء، و على هذا دلّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

ليس الغنى بكثرة العرض، إنّما الغنى غنى النفس.(٣) ٢٠٨ الكرم أعطف من الرّحم.(٤) أي الكريم بكرمه أعطف على المنعم عليه من ذي الرحم على رحمه، لأنّ عاطفة الكريم طبع و عاطفة ذي الرحم قد يكون تكلّفا و قد لا يكون أصلا.

و مثل هذا قول أبي تمّام لابن الجهم:(٥)

إلاّ يكن نسب يؤلّف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

____________________

(١) سورة النحل (١٦) ٩٧.

(٢) نهج البلاغة، ص ٥٠٩.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٩ ٥٥.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٢٤٧.

(٥) ديوان أبي تمّام، ص ٨٦ و فيه: « أو يفترق » بدل « إلاّ يكن ».

١٧٣

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا

عذب تحدّر من غمام واحد

٢٠٩ كلّ معاجل يسأل الإنظار، و كلّ مؤجّل يتعلّل بالتّسويف.(١) قال اللّه سبحانه: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ ربِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فيما تَرَكْتُ كَلاّ... الآية.(٢) فهذا سؤال الإنظار لمن عوجل، فأمّا من أجّل فإنّه يعلّل نفسه بالتسويف، و يقول: سوف أتوب، سوف أقلع عمّا أنا عليه، فأكثرهم يخترم(٣) من غير أن يبلغ هذا الأمل. و تأتيه المنيّة و هو على أقبح حال و أسوئها، و منهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت، و أولئك الذين ختمت عاقبتهم بخير، و قليل ما هم جعل اللّه عواقب أمورنا خيرا بمحمّد و آله صلوات اللّه عليهم.

٢١٠ كفى بالأجل حارسا.(٤) استعار له لفظ الحارس باعتبار أنّ الإنسان لا يهلك ما دام أجله كالحارس.

و كان عليه السلام يقول: إنّ عليّ من اللّه جنّة حصينة، فإذا جاء يومي

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ٢٨٥.

(٢) سورة المؤمنون (٢٣) ٩٩ ١٠٠.

(٣) يقال: اختر مته المنيّة من بين أصحابه: أخذته من بينهم. (لسان العرب ٤ ٧٧ خرم)

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٣٠٦.

١٧٤

أسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم، و لا يبرأ الكلم.(١) و عن مناقب ابن شهر آشوب: كان مكتوبا على درع أمير المؤمنين عليه السلام:

أيّ يوميّ من الموت أفر

يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أخشى الوغى

يوم قد قدّر لا يغني الحذر

٢ ٢١١ الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تحزن ذهبك و ورقك، فربّ كلمة سلبت نعمة و جلبت نقمة.(٣) كان يقال: لا خير في الحياة إلاّ لصموت واع، أو ناطق محس.(٤) و قيل لحذيفة: قد أطلت سجن لسانك فقال: لأنّه غير مأمون.(٥) و من أمثال العجم: زبان سرخ سر سبز مى‏دهد بر باد(٦) ٢١٢ كلّ مقتصر عليه كاف.(٧) هذا من باب القناعة، و إنّ من اقتصر على شي‏ء و قنعت به نفسه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩ ٢١٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ ٢٩٨، العقد الفريد ١ ٩٦.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٣٨١.

(٤) و (٥) شرح ابن أبي الحديد ١٩ ٣٢٢.

(٦) أمثال و حكم ٢ ٨٩٣.

(٧) نهج البلاغة، الحكمة ٣٩٥.

١٧٥

فقد كفاه، و قام مقام الفضول الّتي يرغب فيها المترفون.

٢١٣ كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك.(١) و قد قال عليه السلام نظير هذه الكلمة، فراجع به.

٢١٤ كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك.(٢) الغرض من العقل العمليّ هو ما ذكره عليه السلام، و كفى به.

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ٤١٢.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٤٢١.

١٧٦

حرف اللاّم

٢١٥ لنا حقّ، فإنّ أعطيناه، و إلاّ ركبنا أعجاز الإبل، و إن طال السّرى.(١) قال السيّد الرضيّ رضى اللّه عنه: و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه،

و معناه: أنّا إن لم نعط حقّنا كنّا أذلاّء، و ذلك أنّ الرديف يركب عجز البعير، كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما.(٢) انتهى.

قد فسّر كلامه عليه السلام على وجهين: أحدهما أنّ راكب عجز البعير يلحق مشقّة و ضررا، و هذا قريب ممّا فسّره الرضيّ. و الثاني أنّ راكب عجز البعير إنّما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير، و راكب الظهر متقدّم على راكب العجز، فأراد أنّا إذا منعنا حقّنا تأخّرنا و تقدّم

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ٢٢.

(٢) نهج البلاغة، ص ٤٧٢.

١٧٧

غيرنا علينا، فكنّا كالراكب رديفا لغيره، و أكّد المعنى على كلا التفسيرين بقوله: « و إن طال السرى » السرى: سير الليل، أي المشقّة.

و هذا الكلام قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيّام، و قيل: قاله يوم الشورى.(١) ٢١٦ لا قربة بالنّوافل إذا [ ما خ ل ] أضرّت بالفرائض.(٢) هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه، فإن حمل على حقيقته فمعناه: لا يصحّ التنفّل ممّن عليه قضاء فريضة فاتته، و هذا مذهب كثير من الفقهاء. و أمّا إذا حمل على مجازه فإنّ معناه: يجب الابتداء بالأهمّ و تقديمه على ما ليس بأهمّ، نحو أن تقول لمن توصيه: لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك، فإنّك إنّما تروم القربة للملك بالخدمة، و لا قربة إليه في تأخير خدمة ولده و تقديم خدمة غلامه.

٢١٧ لسان العاقل وراء قلبه، و قلب الأحمق وراء لسانه.(٣) قال الرضيّ (ره): و هذا من المعاني العجيبة الشريفة، و المراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرويّة، و مؤامرة الفكرة،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٣٩.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٤٠.

١٧٨

و الأحمق تسبق حذفات لسانه، و فلتات كلامه، مراجعة فكره،

و مما خضة رأيه، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، و كأنّ قلب الأحمق تابع للسانه.(١) قال: و قد روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر، و هو قوله عليه السلام:

٢١٨ قلب الأحمق في فيه، و لسان العاقل في قلبه.(٢) و معناهما واحد. انتهى.

الكلام في العقل و الحمق أكثر من أن يذكر و نحن نذكر ها هنا نبذا يسيرا على حسب دأبنا في هذا الشرح.

قالوا: كلّ شي‏ء إذا كثر رخص إلاّ العقل، فإنّه كلّما كان أكثر كان أعزّ و أغلى.(٣) و كان عبد الملك يقول: أنا للعاقل المدبر أرجى منّي للأحمق المقبل.(٤) قيل لبعضهم: العقل أفضل أم الجدّ؟ فقال: العقل من الجدّ.(٥) و قال أرسطو: العاقل يوافق العاقل، و الأحمق لا يوافق العاقل،

____________________

(١) نهج البلاغة، ص ٤٧٦.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٤١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٥٩.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٥٩.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٦٠.

١٧٩

و الأحمق(١) كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم، فأمّا المعوجّ فإنّه لا ينطبق على المعوجّ و لا على المستقيم.(٢) قلت: و منه قول الطغرائيّ في « لاميّة العجم »:

و شان صدقك عند الناس كذبهم

و هل يطابق معوجّ بمعتدل

٣ قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه: إنّ حمق الرجل يعرف بخصال أربع: طول لحيته، و بشاعة كنيته، و نقش خاتمه، و إفراط نهمته.

فدخل عليه شيخ طويل العثنون، فقال هشام: أمّا هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي، قالوا له: ما كنية الشيخ؟ قال: أبو الياقوت، فسألوه عن نقش خاتمه، فإذا هو: وَ جَاؤُوا عَلَى قَميصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ(٤) فقيل له: أي الطعام تشتهي؟ قال: الدبّاء(٥) بالزيت، فقال هشام: إنّ صاحبكم قد كمل.(٦) و أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة، فجاء سابقا، فقيل له:

سمّه باسم يعرف به، فقام ففقأ عينه، و قال: قد سمّيته الأعور، فقال

____________________

(١) كذا في المتن. و الصحيح: و لا أحمق، كما في شرح ابن أبي الحديد.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٦٠.

(٣) معجم الأدباء ١٠ ٦٧.

(٤) سورة يوسف (١٢) ١٨.

(٥) الدبّاء: القرع.

(٦) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٦٠ ١٦١.

١٨٠