الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ٢

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 377

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 31330
تحميل: 6626


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31330 / تحميل: 6626
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والروايات بدرجة كبيرة، حتى إن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (هل الدين إلاَّ الحب؟) (1) .

إن جميع الجهود التي بذلها الأنبياء في تبليغ رسالاتهم إلى الناس، وجميع التضحيات التي تحملها المجاهدون في ميادين الحرب، وجميع العبادات والمساعدات التي يقوم بها المحسنون تنبع من ينبوع واحد ألا هو الحب.. حب الله.. حب دين الله.

الحب هو الذي يحيل المرارة إلى حلاوة.

والحب هو الذي يهدِّئ الآلام.

والحب هو الذي يحوّل الأشواك إلى أزهار.

والحب هو الذي يجعل من السجن روضة.

والحب هو الذي يحوّل النار نوراً.

والحب هو الذي يزيل المآسي.

والحب هو الذي يجعل من الصفعة دغدغة.

والحب هو الذي يحيي الموتى.

والحب هو الذي يجعل الملك عبداً (2) .

العطف على الصغير:

إن الطفل الذي يتلقى مقداراً كافياً من العطف والحنان من أبويه، ويروى من ينبوع الحب يملك روحاً غضة ونشطة. إنه لا يحس بالحرمان في باطنه ولا يصاب بالعقد النفسية، تتفتح أزاهير الفضائل في قلبه بسهولة وإذا لم تعتوره العراقيل في أثناء طريقه، فإنه ينشأ إنساناً عطوفاً وفاضلاً يكنّ الخير والصلاح للجميع

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 23| 122.

(2) وردت في الأصل الفارسي تسعة أبيات من العشر ترجمتها نثراً ولكن أبقيت كلاً منها في سطر مستقل حفاظاً على المعنى الاستقلالي لكل بيت.

١٢١

لقد ورد التأكيد على العطف على الصغار في الأحاديث بصورة كثيرة وها نحن نقرأ بعضاً منها:

1 - عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، في خطبة له حول واجبات المسلمين في شهر رمضان: (وقّروا كباركم وارحموا صغاركم) (1) .

2 - وقال (صلّى الله عليه وآله): (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا) (2) .

3 - في ما أوصى به أمير المؤمنين (عليه السلام) عند وفاته: (وارحم من أهلك الصغير ووقّر الكبير) (3) .

4 - عن علي (عليه السلام): (لِيتأسَّ صغيركم بكبيركم، وليرأفْ كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية) (4) .

5 - وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل لَيرحُم الرجل لشدة حبه لولده) (5) .

6 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أحبّوا الصبيان وارحموهم) (6) .

7 - وجاء بيان صفاته (ص): (وكان النبي إذا أصبح مسح على رءوس ولده) (7) .

تقبيل الطفل:

1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (ص): من قبل ولده

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 163.

(2) مجموعة ورام ج1|134.

(3) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح16|154.

(4) نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص531.

(5) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 113.

(6) وسائل الشيعة للحر العاملي ح5|126.

(7) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23|114.

١٢٢

كتب الله عَزَّ وجَلَّ له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة) (1) .

2 - وقال (عليه السلام): (اكثروا من قُبلة أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة) (2) .

3 - وفي الحديث: قبّل رسول الله الحسن والحسين. فقال الأقرع بن حابس: إنّ لي عشرة من الأولاد ما قبّلت واحداً منهم. فقال: (ما عليّ أن نزع الله الرحمة منك) (3) .

4 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قُبلة الولد رحمة، وقُبلة المرأة شهوة، وقُبلة الوالدين عبادة، وقُبلة الرجل أخاه دين) (4) .

العطف في ظل الإيمان:

ورد في الحديث أن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يصلي يوماً في فئة، والحسين صغير بالقرب منه. فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (ع)، فركب ظهره ثم حرّك رجليه فقال: (حَلْ، حَلْ!) . فإذا أراد رسول الله (ص) أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه. فإذا سجد عاد على ظهره، وقال: (حَلْ، حَلْ!) فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته.

فقال يهودي: يا محمد، إنكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (ص): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان).

قال: فإني أؤمن بالله وبرسوله. فأسلم لمّا رأى كرمه مع عظم قدره (5) .

يستفاد من هذا الحديث والأحاديث المتقدمة عليه مدى أهمية الحب والعطف في أسلوب تربية الطفل. فعلى المسلمين جميعاً أن يترحموا على جميع الأطفال بصورة عامة،

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|49.

(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|126.

(3) مكارم الأخلاق للطبرسي: 113.

(4) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح23|113.

(5) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح10|83.

١٢٣

وعلى أطفالهم بصورة خاصة. فالحياة السليمة والطبيعية عبارة عن الاتباع الصحيح لقوانين الفطرة. ومن يتخلف عن القوانين الفطرية التي هي سنة الله عز وجل في هذا الكون يلاق جزاءه الصارم بلا شك. إن الحاجة إلى الطعام أمر فطري للإنسان، والامتناع عن تلبية هذه الحاجة الفطرية يؤدي إلى الضعف والعجز. وفي صورة الاستمرار على ذلك يؤدي إلى الموت. والحاجة إلى النوم فطرية للإنسان أيضاً. وإن كل محاولة للاستغناء عنها تتضمن خطر الانهيار الصحيح، وإذا استمر ذلك كان الموت بالمرصاد. الميل الجنسي أمر طبيعي بالنسبة إلى الإنسان السليم وكبت هذا الميل يستتبع مشاكل نفسية متعددة وربما أدّى إلى الجنون.

الحاجة إلى العطف فطرية:

من الميول الفطرية للإنسان، والتي تظهر في فترة الطفولة الحاجة إلى العطف والحنان. إن الاستجابة لهذا الميل الطبيعي وإشباع هذه الحاجة جزء من المنهاج الفطري. إذا نال الطفل حظاً وافراً من العطف والحنان في أيام طفولته، كان ذا روح مطمئنة ونفس وديعة، وكان سلوكه طبيعياً طيلة أدوار حياته. أما الأطفال المحرومون من الحب العائلي وعطف الوالدين، فإنهم يملكون أرواحاً ملؤها اليأس والتشاؤم، ويكونون على شفا جرف من الانحراف.

(الأسرة التي لا يشع فيها نور العطف، والبيت الذي يُحرم من روح التفاهم والتسامح، يساعدنا على البحث عن كثير من الآلام الروحية والأضرار الاجتماعية. عندئدٍ يجب أن يبذل الاهتمام الكافي لحماية القلوب المندحرة ومعالجة الحرمان الذي أصاب أصحابها بصورة معقولة).

(هؤلاء ينشئون على خواطر مرة علقت بأذهانهم من سلوك الوالدين تجاههم منذ الطفولة، وفي الغالب يكونون معرّضين للوقع في شَرَك اليأس، والتشاؤم، وعدم الانسجام، والنفور، والانتحار، والإجرام، والأمراض الروحية والعصبية) (1) .

____________________

(1) روح بشر ص 103.

١٢٤

حرمان اليتيم من العطف:

إن الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم مصابون بمشكلتين: الأولى هي العوز المادي، و الثانية هي الحرمان من العطف. إن الاحتياجات المادية لليتيم تشبع في جميع البلدان بنسب مختلفة، ولكن قلَّما يصادف أن يعيش اليتيم في أسرة ينعم فيها - بالإضافة إلى إشباع الحاجات المادية - بالعطف والحنان، بحيث يجد رب الأسرة نفسه بمنزلة الأب لذلك الطفل فيراعي عواطفه ويحن عليه كما يحن على أولاده.

تهتم المؤسسات الخيرية في الدول المتمدنة بضمان حياة الأيتام، وتقوم بإعداد وسائل الثقافة والتعليم لهم بالإضافة إلى ضمان الطعام والكساء والمأوى.. لكن يبقى هؤلاء محرومين من حنان الوالدين، هذا الحرمان يجر وراءه سلسلة من الآثار والنتائج السيئة التي تظهر تدريجياً في أقوال اليتيم وأفعاله عندما يشب.

(يضمن اليتيم نتائج وخيمة للفرد والمجتمع، سواء كان حاصلاً بفقد الأب أو موت الأم. لقد لاحظ علماء النفس والتربية بصورة عامة في التحقيقات التي أجروها في هذا المجال أن اليتم أحد العوامل المهمة للتشرد والتخلف العلمي والاجتماعي، والإجرام والفوضى).

(يذكر أحد علماء النفس الألمان ضمن بحوثه التي أجراها على أثر اليتم في التحصيل العلمي، أن من بين التلاميذ الراسبين في المدارس 44% محرومين من الآباء، و 33% محرومين من الأمهات، أي 77% من الراسبين كانوا أيتاماً. وهكذا فإن تحقيقاً مشابهاً أجري في أمريكا حول مشاكل التربية فوجد أن 25% من الأطفال المعقدين في إحدى مدارس نيويورك كانوا أيتاماً. كما أن تحقيقاً آخر حول الأطفال والراشدين المجرمين أجري في ألمانيا فكانت النتيجة أن من بين 2704 شاباً مجرماً كان 1171 شاباً منهم، وهذه النسبة تعني أكثر من 43% من المجموع. لقد أجري تحقيق آخر في أمريكا حول المساجين فوجد أن 60% من الذين أجري التحقيق معهم كانوا يرجعون إلى أسر منهارة بموت الأب أو الأم، كما توصل عالم ألماني إلى نتيجة خطيرة وهي أن من بين

١٢٥

الفتيات اللاتي ارتكبن السرقة 38% يتيمات، ومن بين الفتيات اللاتي أنشأن علاقات جنسية غير مشروعة أو خضعن للاعتداء الجنسي 40% منهم يتيمات. وفي إحدى التحقيقات الاجتماعية والنفسية التي أجريت في الولايات المتحدة نجد أن 70% من الفتيات التي يقضين حياتهن في مدارس التأديب التابعة لمحكمة الأحداث كن يتيمات: إمّا يتماً منفرداً أو مزدوجاً، أي فاقدات للأب أو الأم فقط، أو فاقدات لهما معاً) (1) .

أمارة الإنسانية:

إن حب الناس والعطف عليهم أبرز سمات العاطفة الإنسانية. من الضروري أن يتربى كل فرد من أي أمة كان، وإلى أي عنصر انتمى، على حب الخير للجميع. فحب الناس أحد الأركان الأساسية للسلام العالمي والسعادة البشرية، وهو بعد رمز للتكامل الروحي الذي يحرزه الفرد.

عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابّوا، وأدّوا الأمانة، وعملوا الحقّ) (2) .

يجب أن يتلقى الفرد درس حب الخير للجميع منذ الصغر. إن الوالدين اللذين يبذلان العطف والحنان لطفلهما يستطيعان أن يفهماه كيف يحب الآخرين. أما الطفل الذي لم ير عطفاً من أحد أبداً ولم يذق طعم الحنان، فإنه لا يفهم معنى للحب ولا يدرك هذه الحقيقة الروحية الطيبة أصلاً. إنه وجد في الحياة برودة وجفاء، وتزمتاً وعقاباً... ولذلك فهو يسلك مع الناس بتلك الصورة أيضاً، ولذلك فلا يجب أن ننتظر من فرد كهذا أن يكون محباً للناس.

إن العطف والحنان في الأسرة أساس التنمية الصحيحة لعواطف الطفل. وفي ظل المشاعر والعواطف فقط يمكن هدايته إلى الطريق المستقيم والحياة السعيدة. أما الطفل

____________________

(1) روح بشر: 93.

(2) مجموعة ورَّام ج1|12.

١٢٦

الذي حُرم من العطف والحنان، فإن مشاعره تسير نحو طريق منحرف فيصاب بالقسوة والشدة، ويشعر بالتشاؤم والاستياء، وتشب في نفسه نيران الحقد والبغضاء، وعشرات من الصفات الذميمة الأخرى.

١٢٧

١٢٨

المحاضرة الحادية والعشرون:

تنمية الإيمان في الطفل

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) (1) .

اليوم هو الحادي والعشرون من شهر رمضان، ويصادف استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نعزّي المسلمين كافة بهذه الفاجعة العظمى والمصيبة الفادحة.

لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة العقل والعواطف طاقتان إلهيتان عظيمتان، وثروتان فطريتان. ويجب الاستفادة من هاتين الطاقتين معاً في سبيل تحقيق السعادة. وكما أن العلم والعدالة، والمنطق والاستدلال، والتفكير والتعقل، ضروري للتكامل البشري، كذلك الأخلاق والفضيلة، الحب والعطف، فإنه لا يستغنى عنها. وهكذا انتهينا إلى أن الوالدين مسئولان عن رعاية عواطف الطفل وعقله في سبيل تربته، وعليهما أن يهتما بتنمية كل منهما بأسلوب دقيق.

تنمية الإيمان:

من واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الإيمانية والخلقية في نفس الطفل. يجب على الآباء والأمهات المسلمين - حسبما تصرّح به الأحاديث - أن يربّوا أطفالهم على الإيمان، ويوقظوا فيهم فطرة عبادة الله بواسطة العبادات التمرينية، فيشجعوهم على إتباع الأوامر الإلهية، والارتباط بالخالق العظيم.

____________________

(1) سورة آل عمران | 17.

١٢٩

الحقائق غير القابلة للقياس:

ينبغي أن نقدّم أمام البحث تمهيداً ييسّر لنا الدخول إلى صلب الموضوع:

إن الحقائق التي توجد في العالم يمكن تقسيمها تقسيماً علمياً إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: وتشمل الموجودات التي استطاع العلماء من قياسها بالوسائل والآلات الدقيقة والقوية في ظل التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان يوماً بعد يوم، وإخراج نتائج تلك الموازنات بصورة أرقام مضبوطة أو تقريبية.

و الطائفة الثانية: تشمل الحقائق الموجودة الأخرى التي لا يملك العلم البشري مقدرة علمية تجريبية عليها، فهي لا تخضع للقياس، ولا يستطيع العلماء من مقايستها بواسطة مقاييس مضبوطة. إن عدد الحقائق التي لا تقبل القياس العلمي في جميع الموجودات بصورة عامة، وفي تكوين الإنسان بصورة خاصة، كبيرة جداً. ويرى العلماء والباحثون أن تلك الحقائق أهم بكثير من الحقائق القابلة للقياس.

ولقد جلب الكم، المعبر عنه بـ: اللغة الحسابية ، العلمَ للإنسانية، في حين أهمل النوع. ولقد كان تجريد الأشياء من صفاتها الأولية أمراً مشروعاً، ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك. فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسه. فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي - الكيميائي لمصل الدم) (1) .

فالسل والسرطان مثلاً مرضان خطيران، وداءان وبيلان للإنسان. كل واحد منهما يكفي لإضعاف المصاب به، ونحول جسده، وتدمير حياته. لقد اكتشف الأطباء جميع الأعراض المميزة لهذين المرضين بالأدوات والوسائل العلمية، وتوصّلوا إلى طرق الوقاية منهما في المختبرات بفضل الأجهزة الدقيقة، فاستطاعوا من معرفة انتشار المرض، والظروف المساعدة لذلك، والخسائر التي يتضمنها، وكلّ ما يرتبط به بصورة مضبوطة.

والحسد أيضاً داء خطير كالسل والسرطان، وربما كان الضرر الناشىء منه أشد من الأضرار الناشئة من ذينك المرضين بكثير، إذ إنه يترك آثاراً سيئة على جسد المصاب به

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 214.

١٣٠

وروحه. إنه يفسد العقل، ويقتل الإنسانية، ويبعث الإنسان على الإجرام والخيانة. يُذهب بالصفاء والنشاط، ويسلب الراحة والنوم، ويؤدي إلى تسمم الجسم في نهاية المطاف.. فيدمر حياة صاحبه. هذا المرض ليس قابلاً للفحص والقياس في المختبرات، إنه لا يملك ميكروباً خاصاً، ولا يمكن مشاهدته تحت المجاهر القوية. الحسد عبارة عن حالة نفسية، وإحساس باطني. إنه حقيقة لا تقبل الإنكار، تتضمن عشرات العوارض على جسد المصاب به وروحه، ومع ذلك فلا يمكن قياس ذلك بواسطة الآلات والأجهزة العلمية.

إن حوادث الإخفاق والفشل، والانهيار الروحي، والعقد النفسية، ومظاهر القلق والاضطراب، تضعف الجسم كمرض الملاريا، وتتضمن عشرات العوارض المختلفة. إن مرض الملاريا يمكن فحصه ومعرفته بواسطة الأجهزة العلمية. أما الإخفاقات والعقد النفسية، فإنها ليست قابلة للفحص بالوسائل العلمية المادية.

الجماليات:

تصوروا غصناً جميلاً من الورد يتباهى في زاوية الحديقة، ويُعجب الناظرين، ويبعث اللذّة والسرور في نفوسهم من مشاهدته، ويبهرهم جماله ولطافته. للوردة حساب خاص ولجمالها حساب آخر. الوردة من الموضوعات العلمية وجمالها من المسائل العاطفية. يستطيع العلماء المتخصصون من قياس الوردة، ومعرفة مكوناتها وعناصرها الطبيعية، وإعطاء أرقام صحيحة ومضبوطة عنه. أما جمال الوردة، فلا يخضع للقياس. تلك الحقيقة المدهشة، والجاذبية الخاصة التي تجمع الناس حول الوردة وتبعثهم على استلطافها والتلذذ برؤيتها، لا يمكن أن تخضع لفحوص العلماء في المختبرات. الجمال تفهمه عواطف الإنسان، وتحسّه مشاعر بني البشر، فلا يدركه العقل أو العلم، ولا الفحص والاختبار. إن المسائل العلمية هي التي تكون قابلة للفحص والقياس، وعواطف الإنسان ومشاعره تخرج من ميدان العلوم التجريبية، ولا يمكن للأجهزة والوسائل العلمية ضبطها.

ومقال آخر نلاحظه في لوحة رسّام ماهر أجادت يد الفن صنعها ورسمها. إنها تُقدَّر بآلاف الدنانير، وربما تصرف آلاف الساعات من العمر الثمين للأشخاص في مشاهدة تلك اللوحة والاستمتاع بجماله. إن ما يخضع للقياس والنظر العلمي من هذه

١٣١

اللوحة لا يزيد على 10 غرامات من اللون الأحمر، و 100 غرام من اللون الأخضر، و50 غرام من اللون الأزرق ممزوجة حسب مقادير معينة، وشيء من القماش والخشب. وكلّ ذلك لا يساوي أكثر من بضعة دراهم، غير أن في هذه اللوحة الثمينة عنصراً آخر يجعل ثمنها يرتفع إلى آلاف الدنانير، هذا العنصر ليس علمياً أو عقلياً، وليس عنصراً كيمياوياً أو مختبرياً، إنه لا يقاس بالأجهزة والأدوات العلمية. إنه عنصر الجمال واللطافة، وهذا يجب أن يعرض في سوق الذوق، والطلب عليه يتمثل في العواطف والمشاعر. إن العناصر الكيمياوية والمواد الطبيعية للوحة قابلة للقياس والحساب العلمي. أما جمالها، فلا يقاس في المختبرات.

إن حقيقة الإيمان الساطعة، والأخلاق الفاضلة كالإيثار، والشجاعة، والكرم، والعفة، والرأفة، والمحبة وأمثالها، وكذلك السيئات الخلقية كالحسد، والتكبر، والحقد، والجشع ونظائرها من المسائل النفسية، وترتبط بمشاعر الناس وعواطفهم. إن السجايا الفاضلة والبذيئة حقائق تترك آثارها الطيبة أو الخبيثة على روح الإنسان وجسده، ومع ذلك فهي غير قابلة للقياس بالوسائل المادية والأجهزة العلمية. إن وجود حقيقةٍ ما يختلف عن إمكان قياسها، يجب أن ننظر إلى هذه الحقائق بعين البصيرة ونعترف بوجودها وإن عجزت الوسائل العلمية عن قياسها وضبطه.

(تبدو الوسيلة العلمية للنظرة الأولى غير قابلة للتطبيق على تحليل جميع وجوه نشاطنا، ومن الواضع أننا نحن المراقبين غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد إليها، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن، وإنما هي تصل فقط للمناطق التي تقع في الاتساع والزمن. إنها غير قادرة على قياس الغرور والحقد والحب والجمال أو أحلام العالم وإلهام الشاعر، ولكنها تسجل بسهولة النواحي الفسيولوجية النتائجَ المادية لهذه الحالات النفسانية. إن النشاط العقلي والروحي يعبّران عن نفسيهما بتصرف معين، أو عمل معين، أو موقف معين، نحو إخواننا في البشرية حينما يلعبان دوراً هاماً في حياتنا. ولكن من المحقق أن اتسام الأشياء بالمراوغة ليس معناه عدم وجودها) (1) .

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول: 41.

١٣٢

(ليس من الضروري أن تكون الحقيقة واضحة بسيطة. بل إنه ليس من المحقق أن نكون دائماً غير قادرين على فهمه. وعلاوة على ذلك فإنها تفترض آراء مختلفة لا حدود له. إن حالة الشعور، وعظمة الكتف، والجرح، هي أيضاً أشياء حقيقية. كما أن الظاهرة لا تدين بأهميتها إلى سهولة تطبيق الفنون العملية حين دراسته. وإنما يجب أن ترى وهي تؤدي وظيفتها، لا بالنسبة للمراقب ووسائله وإنما بالنسبة للكائن الحي. فحزن الأم التي فقدت طفلها، وجزع النفس الحائرة في (الليل البهيم) وعذاب مريض السرطان، كل أولئك حقائق واضحة على الرغم من أنها غير قابلة للقياس) (1) .

الانتصارات العلمية:

يتميز عصرنا هذا بالاكتشافات العلمية الدقيقة، والتوصل إلى رفع الستار عن الأسرار الكونية المودعة في الطبيعة. فقد فحص العلماء الذرّات الصغيرة الأرضية، والأجرام السماوية العظيمة، ووقفوا على حلّ كثير من الرموز التي كانت مجهولة لدى السابقين. في المدنية العصرية خرج العلم من مرحلة التصور والتخيل إلى مرحلة التجربة والحسن، وأخذت المختبرات العلمية تجيب عن مواليد الطبيعة بلغة الأرقام المضبوطة.

لقد أحدث العلم الحديث انقلاباً عظيماً في جميع شئون الحياة، وأرسى أسس المدنية المعاصرة. فاستطاع الإنسان أن يتغلب بسلاح العلم على الطبيعة، ويكشف النقاب عن المجهولات واحدة تلو الأخرى، ويطلع على زوايا الطبيعة المظلمة وأسرارها تدريجياً. لقد عرف الإنسان بسائط هذا العالم ومركباته، وعن طريق معرفة العلل والمعلولات استكشف دور كل منها في العالم الحي والميت. لقد عَبَر الحدود المحرَّمة للذرة، وفجّر نواتها، واستغل طاقتها الهائلة. وتغلّب على مدار جاذبية الأرض وقذف بصواريخه إلى خارج ذلك المدار. إنه يفكر في تسخير الأجرام السماوية، ويأمل في أن يأتي اليوم الذي يجد نفسه فيه مسيطراً على الكرات الفلكية بقوة العلم.

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول: 39.

١٣٣

هذه الانتصارات جميعها، استطاع الإنسان من إحرازها عن طريق العلم، العلم المستنِد إلى التجربة، العلم المحسوس، العلم المختبري، العلم الذي يستند إلى المحاسبة والقياس. لقد سيطرت العلوم التجريبية - بفضل التقدم الذي أحرزته - على أفكار الناس وعقولهم، ودعتهم إلى إنشاء الجامعات على أساس هذه العلوم. وشيئاً فشيئاً قصرت عقول الناس على الحقائق القابلة للقياس، وتُركت الحقائق غير القابلة للقياس بيد النسيان والإهمال. لقد سيطرت العلوم التجريبية على عقول بعض البسطاء وغرّتهم إلى درجة أنهم أنكروا جميع الحقائق التي لا تخضع للحسّ، فأنكروا وجود الله، وسخروا من الإيمان به وبالأنبياء، وزهدوا بأمر التكامل الروحي والتعالي المعنوي، وهذا هو نقص كبير في المدينة المعاصرة.

قصور العلم:

لقد اعترف مؤسِّسو المدنية الحديثة بصورة صريحة بأن المعلومات البشرية في هذا العالم الفسيخ ضئيلة ومحدودة جداً، وأن العلماء المعاصرين يذعنون إلى قصور العلم عن معرفة ملايين الحقائق الخفية والمودعة في وجود الإنسان والكون.

(يقول أديسون: إن من بين 1% من مجموع الحقائق لا تعرف سوى جزء من المليون جزء منه. وأما نيوتن فقد قال: إن العلم العام يشبه خليجاً لم ألتقط أنا وزملائي سوى بعض الحصى الظريفة من ساحله المترامي) (1) .

ولو فرضنا جدلاً أن الإنسان استطاع في يوم ما أن يدرك بفضل التقدم العلمي الهائل جميع الحقائق العقلائية التي تتصل به وبالكون الفسيح، وتمكن من إخضاعها لمقاييس ثابتة، فيجب أن نقول إنه أدرك جانباً واحداً من حقائق الكون والإنسان ولا يزال يجهل كل شيء عن الجانب الآخر، لأن الحقائق لا تنحصر في المسائل العقلائية، ولا يمكن معرفة جميع الأشياء بالاستدلال العقلي، والمنطق العلمي. إن المسائل العاطفية والحقائق غير العقلائية تشكل ركيزة مهمة من كيان الإنسان، ولا طريق للعقل

____________________

(1) راه ورسم زندكي ص 101.

١٣٤

والمحاسبات العلمية إليها. وعلى الرجال المثقفين والواعين أن يخلّصوا أنفسهم من أسْر الغرور العلمي إذا أرادوا أن يدركوا الحقيقة كما هي، وأن يعيروا أهمية تذكر للحقائق الإشراقية والواقعيات النفسية غير القابلة للقياس إلى جانب اهتمامهم بالحقائق العلمية والقياسية؛ حتى يستفيدوا الفائدة القصوى من هاتين الطاقتين العظيمتين في سبيل تحقيق التكامل الفردي والاجتماعي.

(في حياة العلماء والأبطال والعظماء صورة لا تقبل النفاذ من الطاقة المعنوية. هؤلاء الأفراد يشبهون القمم العالية وسط الوديان، وهم يرشدوننا إلى المستوى الذي نستطيع بلوغه من التكامل، ويشيرون إلى عظمة الهدف الذي يرغب الشعور الإنساني في تحقيقه. هؤلاء فقط يستطيعون أن يعدّوا لنا الغداء المعنوي الذي نحتاجه لحياتنا الباطنية)

(توجد في النفس الإنسانية عوامل لا يمكن وصفها بعبارات وألفاظ، وهي عبارة عن الإشراق والميول الغريزية، والإحساس الميتافيزيقي. إن المقدرة الفردية والوطنية قد تنبع من هذه الثروات المعنوية. هذه الطاقات المعنوية التي لا توصف تنعدم في الأمم التي تريد أن تصف كل شيء بمعادلات واضحة، وهي منعدمة في فرنسا في الوقت الحاضر، لأنّ الفرنسيين يرفضون كل ما هو خارج عن الحدود العقلائية، ويجهلون حقيقة الأشياء التي تعجز الكلمات عن بيانها).

(إن الذين يرغبون في إحراز الكمال المحدّد للإنسان يجب عليهم أن يتخلوا عن الغرور الفكري، ويهتموا بتنمية الشعور الجمالي والحس الديني في نفوسهم. إن حب الجمال وحب الخالق لا يمكن الوصول إليه عن طريق معادلة رياضية، ذلك أن الشعور الجمالي لا يحصل إلا بالجمال نفسه. إن حب الجمال يرفع صاحبه إلى مستوى عال جداً، لأنه يجذب قلوبنا نحو الشجاعة والاستقامة والجمال المطلق والله تعالى. وعلى أجنحة المعرفة فقط تستطيع النفس الإنسانية أن تصل إلى التكامل المنشود) (1) .

____________________

(1) راه ورسم زندكى: 101.

١٣٥

الإيمان بالله:

لقد اهتم الإسلام في تعاليمه القيمة إلى جميع الجوانب العقلائية والعاطفية للبشر. فدعا الناس من جهة إلى التعقل والتفكير، وحثهم على العلم والمنطق. ومن جهة أخرى تحدّث عن تزكية النفس والتكامل الروحي. إن الدين الإسلامي يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان، ولكن ليس الإسلام يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان، ولكن ليس الإسلام كله عبارة عن المسائل العقلائية والحقائق الخاضعة للقياس. إن روح الإسلام أسمى من العقل، وأعلى من المحاسبات العلمية.

إن الإيمان بالله الذي هو الركيزة الأولى لدين الله الذي يحصل بسلوك مرحلتين: الأولى عقلية وهي إثبات وجود الله، والثانية أسمى من الأولى وهي الإيمان بالله. في المرحلة الأولى يستفيد القرآن الكريم من قوة العقل، ويدعو الناس إلى التفكر في خلق الله وفي النظام الدقيق الذي يسود الكون؛ كي يصلوا من هذا الطريق إلى وجود الخالق الحكيم العالم، مستخدمين في ذلك الأدلة والبراهين العقلية والعلمية. أما الإيمان بالله، فإنه لا يحصل بمجرد النظر في قانون العلّية بمنظار العقل فحسب، بل يجب أن يسمو هذا الحساب العلمي إلى درجة أرقى، وينفذ من العقل إلى الروح ويستقر في القلب. عند ذاك تخرج هذه الحقيقة من صورة الاستدلال العقلي الجاف إلى حالة من الشوق والاندفاع. إلى الحب الإلهي الذي ينفذ في جميع ذرّات وجود الإنسان. يجب أن يتكامل ذلك المنطق العقلي في الضمير الباطن ويتحول إلى إيمان حقيقي وإذعان لا يوصف.

وكتطبيق للفكرة المارّة الذكر نمثّل بالصلاة:

الصلاة والاستقرار النفسي:

الصلاة من الفرائض الإسلامية المهمة، وتشتمل على الجانبين العقلي والإشراقي. أما الجانب العقلي المنظم فيتمثل في: الغسل، الوضوء، السواك، المضمضة، الاستنشاق (من حيث النظافة)، إباحة ماء الوضوء واللباس، ومكان الصلاة (من حيث النظام المالي في المجتمع)، الترتيب بين أجزاء الصلاة (من حيث

١٣٦

التعوّد على النظام)، عقد الجماعة (من حيث تشديد أواصر الصفاء بين أفراد المجتمع)، القيام، القعود، الركوع السجود (من حيث الحركات الرياضية المتزنة)، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار (من حيث الحركات الرياضية المتزنة)، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار (من حيث الإيحاءات النفسية). وأمور أخرى مشابهة لها يجمعها كونها أمور محسوسة وظاهرة للعيان وقابلة للحساب العلمي.

أما روح الصلاة وحقيقتها، فلا تدرك بالمحاسبة العلمية. إن روح الصلاة تتمثل في القرب من الله والارتباط الروحي بالخالق. الصلاة معراج المؤمن ومدعاة الصفاء الباطن، تبعث الاستقرار والهدوء النفسي في نفس المصلي. إنها أفضل الملاجئ المعنوية للمصلّين الخاضعين الخاشعين. وإن الحالة الوجدانية والسمو النفسي الذي يحصل للمصلي لا يوصف بلسان العقل، ولا يخضع للمحاسبة العلمية. وحقيقة الصلاة التي لا توصف هي التي تطهّر الضمير الباطن من كل انحراف أو إجرام، ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) .

إن طاقة الإيمان الجبارة، والقدرة التي توجدها في نفس المصلي المؤمن عظيمة إلى درجة أنها تستطيع أن تسيطر على الغرائز الثائرة، وأن تقف أمام الإفراط في الميول، وتطهر الإنسان من الرجس والدنس، وتمنعه من الانحراف حتى في الحالات التي لا يوجد أحد يراقبه.

المناجاة:

إن الحالة الروحية للرجال الأصفياء، والثورة الباطنية للعارفين، ومناجاتهم بين يدي الله تعالى في ظلمة الليل البهيم حقائق لا توصف ولا تقاس، ولكنها أساس أعظم التحولات الروحية والكمالات النفسية. فالشجاعة وضبط النفس، وصفاء القلب، وحب الخير، والتضحية. كل ذلك يحصل في ظل الإيمان وبواسطة الإشعاع النفسي: ( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) (2) .

(تظهر الحاجة إلى الله تعالى في صورة الدعاء والمناجاة، فالدعاء عبارة عن

____________________

(1) سورة العنكبوت | 45.

(2) سورة آل عمران | 17.

١٣٧

استغاثة ملهوفٍ، واستعانة متأزمٍ، ونشيد للحب، وليس عبارة عن عبارات لا نفهم معانيها. إن أثر الدعاء إيجابي في الغالب. وكأن الله يستمع لنداء الإنسان ويجيبه بصورة مباشرة. تقع حوادث فجائية، يعود التعادل الروحي إلى توازنه، تفقد الحياة وجهها الخشن الظالم وتلين، تنبع قدرة عجيبة من أعماقنا وتتصاعد. إن الدعاء يمنح الإنسان مقدرة لتحمل الآلام والمصائب وعندما تنعدم الكلمات المنطقية لتهدئة الإنسان، فإنه هو الذي يبرز ليبعث التضامن في نفسه، ويمنحه القوة للوقوف أمام الحوادث).

(تختلف دنيا العلم عن دنيا الدعاء ولكنهما لا تتباينان، كما أن الأمور العقلائية لا تتباين مع الأمور غير العقلائية، هذه المظاهر منهما خفيت عن الإدراك فإننا يجب أن نعترف بوجودها) (1) .

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن الحقائق الدينية غير المشهودة والتي لا تقبل القياس بكلمة (الغيب) ويجب على المؤمنين أن ينصاعوا لها: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (2) .

لا شك في أن الشطر الأكبر من الأنظمة الدينية من عبادات ومعاملات وعقوبات قابل للإدراك العقلي والمحاسبة العلمية. أما القسم الأصغر من الحقائق الدينية فهو فوق مستوى العقل. في حين أن قيمة جميع الأمور القياسية في الدين ترتكز على أساس الجانب غير القياسي. إن الأساس الأول والأهم للدين يتمثل في الإيمان بالله، وبديهي أن ذات الله تعالى، والحالة النفسية التي تظهر في الإيمان به كلتاهما من (الغيب).. وهما تسموان عن القياس، وترتفعان عن مستوى العقل. وكذلك أساس النبوة فإنه يرتكز على الوحي، والوحي أيضاً حقيقة غير قياسية. كذلك المعاد يوم القيامة فإنه من أركان الإيمان في حين أن أعماقه وأبعاده لا تقاس.

إن من يحاول أن ينظر إلى الدين من زواية العقل فقط، ويرغب في أن يقيس جميع العقائد والأحكام الإسلامية بالمعايير العلمية البحث، لم يدرك حقيقة الدين ولم يفهم شيئاً

____________________

(1) رواه ورسم زندكى ص 137.

(2) سورة البقرة: 3.

١٣٨

عن الروحانية الإلهية والهدف الإسلامي المقدس. فكما أن الجمال الحقيقي للوحة زيتية فاخرة لا يمكن أن يقاس بالأصباغ المكونة لها، أو التحليل الكيمياوي لمكوناتها، كذلك الجمال الروحي للدين و نور الإيمان الباهر لا يمكن أن يخضع للتحليل العلمي.

أما بحثنا اليوم [ فهو ]:

مشعل الإيمان الوضاء:

تبرز الفطرة التوحيدية والمشاعر الخلقية في ضمير الطفل قبل أن يكمل عقله وينضج لاستيعاب المسائل العلمية، ويكون مستعداً لتقبل الأساليب التربوية. على الوالدين أن يهتما بقيمة هذه الفرصة المناسبة ويستغلا تفتّح مشاعر الطفل ويقظة فطرته الإيمانية، فيعملا منذ الطفولة على تنمية الإيمان بالله في نفسه، هذا الأمر يجعل الطفل متجهاً في طريق الطهارة والإيمان قبل أن يتفتح عقله وينضج لاستيعاب الحقائق العقلانية وإدراك المسائل العلمية.

إن الإنسان يتجه إلى خالق الكون بفطرته قبل أن يستخدم الأدلة العقلية لإثبات وجود الله. إنه لا حاجة للأدلة العقلية المحكمة في إيجاد الحسّ الإيماني في الطفل؛ فالمعرفة الفطرية المودعة فيه تكفي لتوجيهه نحو الإيمان بالخالق العظيم. ومن السهولة بمكان جعله إنساناً مؤمناً بالاستناد إلى طبيعته الفطرية. وما يقال عن عدم حاجة تنمية الإيمان في نفس الطفل إلى الأدلة العقلية، يقال عن عدم حاجة تنمية الصفات الفاضلة فيه كالصدق والاستقامة، والحنان وأداء الواجب، والإنصاف ومساعدة الآخرين. فبالإمكان تعويده على تلك السجايا الحميدة بمجرد توجيهه في طريقها.

إن التنمية الصحيحة للمشاعر أساس التكامل النفسي، والوصول إلى السعادة والكمال المحدّد للإنسان لا يكون بدون تنمية الإيمان والفضائل. علماً بأن ركائز ذلك يجب أن تصب في أيام الطفولة.

(يجب أن يتنبه الآباء والمربون إلى أن الدين أعظم العوامل المساعدة في سبيل تربية الطفل، وأن الإيمان مشعل وضاء ينير أحلك الطرق، ويوقظ الضمائر ويعدل الانحرافات) (1) .

____________________

(1) ما و فرزندان ما ص 76.

١٣٩

(أن ما يدفع الإنسان إلى مصيره النهائي يكمن في المشاعر لا العقل، فالنفس تقبل التكامل بواسطة الألم والشوق أكثر من مساعدة العقل. وفي هذا السير العنيف عندما يصبح العقل حملاً ثقيلاً تلجأ النفس إلى الجوهرة الثمينة التي تنطوي عليها، وهي عبارة عن الحب).

(إن كثيراً من الأشخاص المعاصرين يقتربون إلى الحياة الحيوانية إلى درجة أنهم يحصرون اهتمامهم بالقيم المادية، ولذلك فإن حياتهم أخس من حياة الحيوانات، لأن القيم المعنوية فقط هي التي تستطيع أن تمنحنا النور والسرور) (1) .

(ليس المبدأ الأول عبارة عن تنمية القوى العقلانية، بل البناء العاطفي الذي تستند إليه جميع العوامل النفسية. ليست ضرورة الشعور الخلقي بأقل من ضرورة السمع والبصر. يجب أن نتعوّد على أن نميِّز بين الخير والشر بنفس الدقة التي نميِّز بها بين النور والظلمة، والصوت عن السكوت. ومن ثم يجب علينا أن نعمل الخير ونحذر الشر).

(إن النمو القياسي للروح والجسد لا يحصل بغير تزكية النفس. هذا الوضع الفسيولوجي والنفسي وإن بدا غريباً في نظر علماء التربية والاجتماع المعاصرين، لكنه يصنع الركن الضروري للشخصية، وفي نفس الوقت فهو المطار الذي تحلق منه النفس) (2) .

دَيْن تجاه الأطفال:

إن تنمية الإيمان والفضائل في نفس الطفل حق له على عاتق أبيه، وقد وردت روايات كثيرة في هذا الصدد:

____________________

(1) راه ورسم زندگي ص64.

(2) راه ورسم زندگي ص99.

١٤٠