الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ٢

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 377

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 31307
تحميل: 6626


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31307 / تحميل: 6626
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحياة، ويعجز عن إيجاد مفرّ من الآلام التي تعتريه، ولا يريد أن يتحمل عبء المسئولية. وهكذا نخلص إلى أن الانتحار كالإجرام مظهر من مظاهر الشعور بالأنانية وعبادة الذات) (1) .

درس الجلد والثبات:

يجب أن يلقن الطفل منذ اليوم الأول درس الجلد والثبات ويعوّد على كيفية مجابهة مشاكل الحياة برحابة صدر. يجب أن يتربى شجاعاً وصلباً، وعلى الوالدين أن يهتما بذلك أيما اهتمام، فإن الإعجاب بالنفس لا ينسجم وقوة الإرادة بحال من الأحوال.

إن غريزة حب الأولاد حجاب يُسدل على العقل فيمنعه عن مشاهدة الحقائق، فإذا انضم إلى ذلك الجهل والإهمال من قبل الوالدين في تطبيق الأساليب التربوية الصالحة، أدى ذلك إلى انحرافهما عن الصراط المستقيم الذي يجب عليهما أن يسلكاه في التربية، فتجدهما يهملان الجوانب الدينية والعلمية المهمة، ويفرطان في معاملة الطفل بالحب والحنان، الأمر الذي يتضمن بين طياته آلاف المشاكل والصعوبات. وفي الحقيقة فإن هذا الإفراط في المحبة لا يعدو أن يكون عداءً في مظهر الحب.

إن تربية كهذه لا يرضى بها الدين ولا يوافق عليها العلم. إن الآباء والأمهات الذين يظلمون أولادهم بالإفراط في المحبة تجاههم، يتسبَّبون في نشأتهم على الإعجاب بالنفس، ولذلك فهم مسئولون أمام الله في تعريض أطفالهم إلى الانحراف والشفاء.

تذكروا دائماً حديث الإمام الباقر (عليه السلام)، يحث يقول: (شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط).

____________________

(1) چه ميدانيم؟ جنايت ص 24.

٢٠١

٢٠٢

المحاضرة الرابعة والعشرون:

الاعتماد على النفس

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (1) .

يتضمن الإفراط في الحب من قبل الوالدين تجاه الطفل عوارض وخيمة له، فإنه يؤدي إلى شقائه وتعاسته طيلة أيام عمره. من هذه العوارض الوخيمة أن الطفل ينشأ معجباً بنفسه ومدللاً. وقد بحثنا عن مساوئ ذلك بالتفصيل في المحاضرة السابقة.

ومن عوارض الإفراط في المحبة تجاه الطفل أيضاً أنه ينشأ طفيلياً وعالة على غيره، ولا يشعر بالاعتماد على النفس، ولا ينزع إلى الاستقلال. إن خطر هذه الصفة البذيئة للأطفال إن لم يكن أكبر من خطر الإعجاب بالنفس، فليس أقل منه.

الشعور بالمسئولية:

إن الشعور بالمسئولية والاعتماد على النفس أحد الأركان المهمة لسعادة الفرد والمجتمع. إن الانتصارات العظيمة التي أحرزها الرجال الأفذاذ في العالم، والترقيات العلمية والاجتماعية والاقتصادية التي حصلوا عليها، مدينة إلى وعي المسئولية الفردية من قبلهم وما يستتبع ذلك من نشاط دائب وجهد متواصل.

____________________

(1) سورة الطور | 21.

٢٠٣

إن الانتصارات العلمية إنما تنال الأشخاص الذين يطمئنون إلى أنفسهم بالمواصلة والسهر والجد والجهد. والطالب الذي لم يدرس جيداً، ولم يجهد نفسه بالمقدار الكافي، ثم يدخل قاعة الامتحان معتمداً على الآخرين، ومستنداً على مساعدة المصحّح، وتسامح المراقب، لا ينال المدارج العلمية الراقية.

وهكذا فالتقدم الاقتصادي يكون من حصة أولئك الذين يعتمدون على جهودهم فقط، ولا يتوقعون المساعدة من أحد. إن من يفقد الاعتماد على النفس ويكون عالة على غيره، ويرتزق من حصيلة غيره، لا يستطيع أن ينال التقدم الاقتصادي مطلقاً.

(الاعتماد على النفس أساس كل تقدم وترقٍ. فإن اتصف أكثر أفراد الشعب بهذه الفضيلة كان ذلك الشعب قوياً وعظيماً، وكان السرّ في ارتقائه وتقدمه وقدرته هو تلك الخصلة فقط. لأنّه في هذه الصورة يكون عزم الإنسان قوياً، وفي صورة الاعتماد على الآخرين ضعيفاً. إن المساعدات التي تصل الفرد من الخارج تضعف فيه روح المثابرة والعمل غالباً، لأن الإنسان في هذه الآلة لا يرى داعياً للجد والعمل خصوصاً عندما تتجاوز المساعدات الخارجية عن الحد الضروري. حينئذٍ تفقد الأعصاب قوتها، وتموت روح العزيمة والمثابرة في نفسه. إن أحسن الشرائع والقوانين، هي تلك التي تجعل الإنسان مختاراً في حياته، وتمنحه الحرية في الاعتماد على نفسه وإدارة حياته) (1) .

الاعتماد على النفس:

إن المراد من الاعتماد على النفس، الذي شاع في الآونة الأخيرة بين الناس، ويلوح للعين في الكتب النفسية والتربوية دائماً، هو أن يعتمد كل فرد في

____________________

(1) اعتماد بنفس ص 14.

٢٠٤

ضمان سعادته المادية والمعنوية على نفسه، ويستند إلى إرادته وعمله، فيقطع الأمل عن الجار والصديق وجميع الناس، ولا يلتجأ إلى أحد في ذلك. الاعتماد على النفس عبارة عن أن يرى كل فرد نفسه مسئولاً عن أعماله، فيقوم بواجباته خير قيام، ويعلم أن مثابرته وجهده، ومواصلته واستمراريته، كل ذلك أساس نجاحه وتقدمه. وعلى العكس فإن تسامحه وكسله، ويأسه وتهاونه، أساس شقائه وتعاسته.

ليس هذا الأمر بالجديد تماماً، حتى يتصور البعض أن عالم الغرب هو الذي توصل إليه وأكد عليه أمام سكان العالم. بل إن الشريعة الإسلامية الغراء علّمت معتنقيها هذه الحقيقة الناصعة التي هي أساس سعادة الفرد والمجتمع بكل صراحة، وذلك قبل أربعة عشر قرناً. وإن الانتصارات الباهرة التي أحرزها المسلمون في ذلك العصر المظلم مدينة إلى هذه الثروة العظيمة، وهي الاعتماد على النفس والشعور بالمسئولية الفردية.

المسئولية الفردية:

إن التعليم والتربية في الإسلام يرتكزان على المسئولية الفردية، وأداء الواجب، والاعتماد على النفس. لكل مسلم تكاليف معينة في شئونه الدينية والدنيوية، ويجب عليه لضمان سعادته أن يعتمد على نفسه، وعلى نيته، ويقتصر على عمله في مراعاة تطبيق تلك الوظائف.

ترتبط سعادة كل فرد في الإسلام بعقائده وأعماله، وإن المآسي التي يلاقيها الإنسان تستند إلى نواياه الفاسدة وأعماله المنحرفة. كذلك المكافآت والعقوبات الدنيوية والأخروية التي يحصل عليها الأفراد تعود إلى الأعمال الصالحة أو الفاسدة التي ارتكبوه. هذا الموضوع من أوضح المسائل الدينية وأشدها بداهة، وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث كثيرة، نذكر بعضها على سبيل الشاهد.

٢٠٥

1 - قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (1) .

2 - وقال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) .

3 - وقال تعالى: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) (3) .

من هذه الآيات الثلاث ندرك بوضوح المسئولية الشخصية، وقيمة أفعال كل شخص بالنسبة إليه. إن الله تعالى يصرح في هذه الآيات بأن تبعة الأفعال الصالحة أو الطالحة لكل فرد إنما تعود عليه نفسه، وأن سعادة كل فرد رهينة بعمله، وهو هو المعنى الكامل والجامع للاعتماد على النفس، والشعور بالمسئولية الفردية.

4 - يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (قَدرُ الرجل على قدر همته) (4) .

أي أن قيمة شخصية كل فرد يجب أن يُبحث عنها في مستوى اعتماده على نفسه، ودرجة علو همته، وكلما كانت حصة الإنسان من هذه الفضيلة الخلقية أكبر كانت قيمته أكثر. وبهذا الصدد يقو الشاعر:

كن كالشمس في استنادك إلى نفسك

فإن نور الشمس يشع من نفسه

يعتبر الإسلام كل فرد مسئولاً عن سعادته وشقائه. فهو الذي يستطيع أن يقوم بواجباته خير قيام في ظل جده وسعيه، فيقود نفسه إلى شاطئ السعادة والنجاح، وهو الذي يستطيع أن يحطم شخصيته بالأعمال السيئة والنوايا الفاسدة وينتهي بنفسه إلى الشقاء واستحقاق العذاب الإلهي.

____________________

(1) سورة البقرة: 286.

(2) سورة المدثر: 38.

(3) سورة النجم: 39 - 40.

(4) نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص 1100.

٢٠٦

النهي عن الاعتماد على الناس:

لم يكتف الإسلام في سبيل إيجاد الاعتماد على النفس، ببيان المسئولية الفردية وضرورة إحياء كل فرد شخصيته، بل نهي كثيراً عن النقطة المقابلة لذلك وهي عبارة عن الاعتماد على الناس، وحذر الجميع عن هذه الصفة الذميمة. وبهذا الصدد يقول الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس) (1) .

إن الاعتماد على النفس، والاستناد إلى الجهد الشخصي، والسعي وراء تحقيق السعادة المادية والمعنوية أسس استقلال الشخصية، والمحبوبية عند الله والناس. وعلى العكس فإن الاعتماد على الناس والطفيلية وانتظار العون والمساعدة من الآخرين، أساسُ الحرمان المادي والمعنوي للشخص، ويسبب الذل والهوان عند الله، وفي أنظار الناس.

عن أبي عبد الله (عليه السلام): (اليأس ممّا في أيدي الناس عز للمؤمن) (2) .

القدرة على المقاومة:

إن الأفراد الحقراء والمتقاعسين لا يملكون القدرة على المقاومة في خضم الحياة وصراعه. إنهم يندحرون بسرعة، وينسحبون من المعركة بأتم الخذلان والفشل. أما ذوو الهمم العالية، الذين يعتمدون على أنفسهم فإنهم يقاومون مصاعب الحياة ومشاكلها ببسالة وبطولة، يتحملون الآلام بكل جلد، وينجحون في نهاية الجولة.

1 - عن علي (عليه السلام): (الحلمُ والأناة توأمان، ينتجهما عُلّو الهمّة) (3) . أي أنه إذا كانت همة الإنسان عالية ظهرت عنده خصلتان الحلم والأناة.

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|148.

(2) المصدر السابق.

(3) نهج البلاغة شرح الفيض الأصفهاني ص 1287.

٢٠٧

2 - وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء...) (1) .

3 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظمُ أجراً من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) (2) .

الفرار من المسئولية:

إن الأفراد الذين يتميزون بضعف النفس، والفاقدين للاعتماد على النفس، المصابين بالحقارة يتهربون من المسئولية بالانزواء وبالتطرف ويعيشون حياة ملؤها الحرمان. أما الأفراد ذوو الشخصية، والمعتدون على أنفسهم المتميزون بالبسالة والبطولة فإنهم بتحملهم المسئولية والتزامهم الصبر والأناة في مواجهة مصائب الحياة، ينالون النجاح الباهر في ما يبغون من الأمور الدنيوية من جانب، ويستحقون الأجر والثواب الكبير عند الله تعالى على حد تعبير الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).

إن ركائز الاستقلال والاعتماد على النفس تصب منذ أولى أدوار الطفولة في روح الطفل. وكذلك الطفيلية والاعتماد على الناس فإنهما ينبعان من التربية الخاطئة التي تعود إلى أيام الطفولة. على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تحقيق السعادة الحقيقية لأولادهم أن يكونوا واعين في جميع تصرفاتهم، ويحذروا من القيام بما من شأنه تعويدهم على الطفيلية وانعدام الشخصية.

الأولاد الصالحون:

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية عن الطفل الذي أحسنت تربيته بـ (الولد الصالح). على الآباء والأمهات أن يربوا أولاداً صالحين. ومعنى الصلاح أن يكون واجداً لجميع الصفات الخيرة الجسمية والروحية.

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج1|47.

(2) مجموعة ورام ج1|9.

٢٠٨

إن الآباء والأمهات الذين يكونون صالحين من الناحية النظرية والعملية يستطيعون تربية أطفال صالحين، لأن مجموعة أقوالهم وأفعالهم هي التي تعتبر قدوة للطفل بحيث تبني صفاته وعاداته وسلوكه. فإن كانت صالحة وطيبة نشأ صالحاً، وإن كانت فاسدة وبذيئة نشأ - بموجبها - فاسداً، عن أبي جعفر (عليه السلام): (يُحفَظ الأطفال بصلاح آبائهم) (1) ، وفي حديث آخر عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الله ليُفلحُ بفلاح الرجل المؤمن وُلَده وولُده) (2) .

من صفات الأولاد الصالحين إحساسهم بالمسئولية واعتمادهم على أنفسهم. إن الآباء والأمهات الذين يتميزون بشخصية رصينة يستطيعون أن يلقنوا أولادهم هذا الدرس التربوي القيم، ويجعلوهم ينشئون على الاعتماد على النفس، نسأل الله عز اسمه أن تكونوا جميعاً واجدين لهذه السجية الخلقية الحميدة، وأن توفقوا في ظل تعاليم الإسلام القيمة إلى تربية أبنائكم تربية صحيحة.

ضعف الطفل:

إن الطفل في رحم أمه، موجود طفيلي وقائم بوجود أمه، ولا يملك استقلالاً وإرادة من نفسه. إن حياته ترتبط بحياة أمه، يتغذى من الغذاء الذي تناوله، ويتبعها في القوة والضعف. أما بعد الولادة، فإنه وإن انفصل عن أمه وحصل على استقلال عضوي، لكنه لا يزال ضعيفاً، ولضعفه فهو مضطر إلى أن يعيش طفيلياً على أمه لمدة، لا يدرك فيها الخير أو الشر، ولا يستطيع دفع الضرر عن نفسه أو جلب النفع إليها. إنه يحتاج أمه في غذاءه، ونظافته، وطرد العدو عنه.. وبصورة موجزة: في جميع الحاجات الحياتية. في حين يوجد في باطن الطفل استعداد للتكامل ونيل الاستقلال، وبالتدريج يحصل على استقلاله.

هناك تضاد لا مفر منه في وجود الطفل، فمن جهة يفقد الاطمئنان إلى نفسه

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15|178.

(2) نفس المصدر.

٢٠٩

لِمَا يشعر به من الضعف والذلة، ولذلك فهو يحتاج دائماً إلى من يملك القدرة على تحقيق ما يريد، ويحب أن يكون في حمايته وكنفه، وهذا الأمر يضطره إلى التسليم لأوامر صاحب القدرة دائماً. ومن جهة أخرى فإنه يميل بفطرته إلى التفوّق والحصول على القدرة، يحب أن يصبح مستقلاً، وأن يعتمد على نفسه، ويتخلص من الذلة والحقارة، وهذا لا يتحقق إلا في ظل القوة والقدرة.

التكامل التدريجي:

إن التكامل الطبيعي للطفل ورشده يمنحانه القوة بصورة تدريجية. ذلك أن الميل نحو الاستقلال يدفع الطفل إلى استغلال القوى المكتسبة، وبالتدريج يصبح الميل الفطري نحو الاستقلال والتفوق فعلياً، فيخلص الطفل من كونه عالة على غيره وطفيلياً، وينجو به بهذه الصورة من الشعور بالحقارة. وكلما ازدادت قوة الطفل، كان قد خطا خطوة في طريق الاستقلال، وفتّتَ قيداً من قيود الاعتماد على الغير.

لا توجد للطفل لذة أعلى من لذة الإحساس بالقوة والحصول على الاستقلال، فكلّما حصل على قوة ووجد أنه استطاع القيام بعمل ما لوحده كان ذلك مبعث سرور وارتياح في نفسه. عندما تتفتح أصابعه ويستطيع أن يمسك شيئاً بيده يفرح كثيراً. وعندما يحرك بيده الصغيرتين (خرخاشته) فينبعث الصوت منها يضحك من دون اختيار، وتظهر أمارات الفرح والسرور على عينيه ووجهه:

يقول برتراند رسل: (عندما يستطيع الطفل أن يثبّت عينيه نحو الأشياء فإنه يلتذ كثيراً من مشاهدة الأشياء المتحركة، والذرات المتقلبة عند هبوب الرياح. في هذه المرحلة بالذات يفرح الطفل للأصوات الرتيبة والجديدة).

(تعتبر حركة الأصابع في بداية الأمر من الأفعال الانعكاسية فقط. لكن الطفل يكتشف فيما بعد أنه يستطيع أن يحركها متى شاء. إنها تبعث الفرح والسرور في نفس الطفل بقدر ما يبعث استيلاء إمبراطور مستعمر على دولة من الدول الارتياح في نفسه. في هذه

٢١٠

الحالة تخرج الأصابع عن حالتها المغتربة وتصبح جزء من الوجود. لقد لاحظت هذه الحالة في ولدي بصورة قطعية في السن الخامسة الأول مرة، وذلك عندما استطاع بعد محاولات عديدة أن يرفع الجرس الذي كان ثقيلاً نوعاً ما من فوق المنضدة ويضعه على نحو ينبعث منه الصوت. وإذ توصل إلى هذه النتيجة السارة أخذ ينظر إلى من حوله بابتسامة ذات مغزى) (1) .

يعتبر كل من خروج الأسنان، والقدرة على مضغ الطعام، والتكلم والمشي، والشروع في الجري، واللعب، نجاحاً مستقلاً سيحصل عليه الطفل بالتدريج، ويبعث فيه السرور واللذة كلّ على حدة.

يجب على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تنشئة أطفالهم على الاستقلال بالاعتماد بالنفس أن يستفيدوا من هذا القانون الفطري المودع في الطفل بالأمر الإلهي، وأن يؤسسوا منهجهم التربوي على أساس الميل الفطري له، ومن الضروري أن يربياه على الاستقلال التربوي جنباً إلى جنب مع الاستقلال الطبيعي ليقف بذلك أمام أي اضطراب أو فوضى.

إحياء فطريات الطفل:

على الوالدين أن يمنحا الطفل شيئاً من الحرية، مراعيين في ذلك درجة وعيه وتكامله. ينبغي أن يسمحا له بإحياء حس الابتكار والميل نحو الاستقلال الفطري في أثناء اللعب والجري. وفي نفس الوقت ينبغي أن يراقباه مراقبة جدية، بحيث لا تخرج الحرية عن الحد المسموح به، ولا يسيء التصرف في ذلك.

إن الآباء والأمهات الواعين يتركون الطفل حراً في مثل هذه المناسبات حتى تخرج استعداداته الكامنة إلى حيز الفعلية، وتتفتح أكمام الشعور بالابتكار في

____________________

(1) در تربيت ص 63.

٢١١

باطنه، وينشأ إنساناً مستقلاً ومعتمداً على نفسه. أما الآباء والأمهات الجاهلون، فإنهم بتشددهم أو إهمالهم يتسببون في شقاء الطفل وتعاسته. إنهم يفسحون المجال له كثيراً أحياناً، ويضيقون عليه كثيراً أحياناً أخرى، وبذلك يوردون نقصاً كبيراً على استقلاله واعتماده على نفسه.

الإفراط في فسح المجال:

هناك بعض الآباء يفرطون في فسح المجال لأطفالهم فراراً من عبء المسئولية أو رغبة في التظاهر بالحب الفارغ، فيتركونهم وشأنهم في جميع أفعالهم وأقوالهم. ولكن لا يمضي زمن طويل حتى يترعرع الطفل وهو جاهل لأبسط واجبات الحياة. عند ذاك يقوم الوالدان بتنبيهه على واجباته واحدة بعد الأخرى، ومن دون أن يؤدي ذلك إلى نتيجة مرضية، لأن أوان التربية قد فات.

(هناك أطفال يجب تكرار كل موضوع عدة مرات معهم: قم، انظر، لا تقتل نفسك، نظف أظفارك وأذنيك، اعتن بنظافة أنفك، سر مستقيماً، لا تمزّق كتبك، لا توسّخ دفاترك، كن مؤدباً في حديثك مع الناس، لا تتكلم كثيراً.. وغير ذلك. هؤلاء - وحتى أولياؤهم - يتعبوننا، إننا لا نعلم من هو الذي يستحق اللوم. لكنه لا ريب في ضرورة توجيه اللوم للوالدين؛ لأنهما لم يبدءا في تربية طفلهما في الوقت المناسب، ولم يعيرا أهمية تذكر لأفعاله. وبهذه الصورة فإن الأطفال الذين كان بالإمكان أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع: يصبحون عالة على الغير، ومما يؤسف له أنهم ليسوا قابلين للإصلاح) (1) .

هؤلاء الأطفال لا يملكون اعتماداً على أنفسهم، ويفقدون الشعور بالاستقلال، بل هم يعيشون عالة على غيرهم في حياتهم دائماً على أثر سوء التربية التي اتخذها الوالدان بحقهم. إنهم مصابون بعقدة الحقارة، ويظلون يئنون من ويلات ذلك مدى العمر.

____________________

(1) جه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 72.

٢١٢

الوالدان المتزمتان:

في النقطة المقابلة للآباء الذين ذكرنا فسْحَهم المجال للطفل، يوجد آباء وأمهات متزمتون، لا يسمحون للطفل بالحرية بالمقدار الكافي، ويسدّون طرق طرق الابتكار والنشاط الفردي عليه. يتدخلون في جميع شئون الطفل، صغيرها وكبيرها، فيقتلون بذلك الشعور بالاستقلال والاعتماد على النفس عنده. وهذا بدوره يؤدي إلى أن يقف الطفل في مستوى محدود من التكامل، وهو بلا شك عداء في لباس الحب. هؤلاء الآباء والأمهات يقودون أطفالهم نحو الحضيض بتزمتهم وسلوكهم ذاك.

وبالمناسبة يقول (جلبرت روبين): (لا ريب في أن الطفل زينة حياتنا، ولكن يجب أن لا ننظر إليه كنظرتنا إلى فاكهة أو وردة على الشجرة، لأنه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا، لكنه ليس جزء من شجرة وجدونا، بل انه نبتة مستقلة، يجب أن نقطع الجذور والأغصان الصغيرة التي تربطنا به حتى لا نقف أمام نموه، ونمنع - بدورنا - من وصول العصارة النباتية إليه).

(إن الأم الشابة تقول بكل غرور: (إنه من دمي ولحمي)، ولكن ما يؤسف له أنه لا يمضي وقت طويل حتى تتحسر بآهة من أعماق قلبها لأن هذا الارتباط قد قطع. إننا نسمع هذه الجملة غالباً: (إني أحبه كثيراً لأني لا أملك في الدنيا أحداً غيره) في حين أنه يجب إبعاد الطفل عن مثل هذه العواطف. يجب أن لا نكون أنانيين، ولكن ينبغي أن نعلم بأن طفلنا يملك حياة مستقلة تمام. حتى إن التعبير عنه بـ: (طفلنا) زائد أيضاً؛ لأننا ننجح في تربيته متى ما أدركنا أنه ليس لنا، بل هو متعلق بشخصه، وله حياة مستقلة تدعوه إلى نفسه. وبصورة موجزة: فإنه يجب أن يتربّى لنفسه لا للآخرين. هلموا إذن للتخلي عن اعتبار الطفل ملكاً لنا، لمّا لم نكن أكثر من حلقة وصل في هذه الحياة) (1) .

____________________

(1) چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 61.

٢١٣

المساعدة المعقولة:

إن المساعدة المعقولة التي يبذلها الوالدان للتلميذ الذي لم يستوعب الدرس من معلمه في المدرسة، هي أن يدرساه في البيت مرة ثانية، ويحاولا إفهامه الدرس تماماً. أما عندما يعمد الأب أو الأم بقصد مساعدة الطفل إلى حلّ التمارين الرياضية التي كلّف بحلها من قبل المعلم، أو كتابة القطعة الإنشائية بدلاً منه وإعطاءها له لينقلها في دفتره، فإنه يستحيل أن يصبح هذا التلميذ في عداد العلماء فيما بعد. ولا شك أن هذه المساعدة ظلم لا يُتدارك بالنسبة إلى الطفل.

إن المساعدات غير المعقولة للوالدين تجاه الطفل تعود على الطفل بالضرر وتمنع من نمو شخصيته. فالحب التافه والمساعدة غير المتزنة يطفئان جذوة الاستقلال والاعتماد على النفس في ضمير الطفل، وبالتالي ينشأ إنساناً طفيلياً وتافهاً.

(احذروا من أن تحرموا الطفل من الفرص المناسبة التي يستطيع من خلالها أن يتعلم بعض التجارب بنفسه، بمعنى أن لا تساعدوه في أداء كل عمل. هذه المساعدات التي تتجاوز الحد المقرر لها أحياناً، تعوّده على مساعدة الآخرين دائماً، وتنشئه عالة على الغير، فيفقد قدرته الشخصية في النهاية، ويعجز عن إنقاذ موقفه المتأزم لوحده؛ بسبب من هذا الضعف والتعوّد على مساعدة الآخرين له) (1) .

إن أفضل الفرص لإحياء الشعور بالمسئولية الفردية، وإيجاد الاستقلال والاعتماد على النفس هو دور الطفولة. يجب على الوالدين أن يعلما أن طفلهما إنسان واقعي ومستقل، وعليهما أن يعاملاه معاملة إنسان حقيقي. ويؤسسا قواعد التربية على هذا المنهج المستقيم، حتى ينشأ الطفل مستقلاً وشاعراً بالمسئولية منذ البداية.

____________________

(1) ما وفرزندان ما ص41.

٢١٤

التشجيع والتوبيخ:

على الوالدين أن يقوما بنصيحة الطفل في الأعوام الأولى من عمره حسب رشده وإدراكه، ويفهماه بأنه هو المسئول عن أفعاله الصالحة أو الفاسدة. عليهما أن يشجعاه على الأفعال الحسنة بالمقدار الذي يستحقه، ويوبخاه على الأفعال السيئة بالمقدار المناسب. كما عليهما أن يحذرا من الإفراط في المحبة والإكثار من الشدة. عليهما أن يكررا هذا الأسلوب التربوي بكل صراحة حتى يطمئن الطفل إلى استقلاله ويقف على مسئوليته. إن طفلاً يتلقى تربية كهذه عندما يبلغ العاشرة من عمره يصبح إنساناً معتمداً على نفسه، ويدرك معنى الشخصية بصورة واضحة.

(إن المربي يعدّ الطفل للحياة، إذن يجب ترجيح الطفل على تصوراته الخاصة. إن المربي سوف يصغي إلى أوامر قلبه وعقله، وسيسلك مع الطفل سلوكاً إنسانياً، ذلك أنه يجب ألا نترك الجانب الإنساني مطلقاً. يجب أن نسلك سلوكاً إنسانياً من دون أي إثرة أو أنانية، يجب أن نكون إنسانيين ومحايدين في آن واحد).

(إن الوالدين والمربي العادل هم القادرون على أن يهبوا الطفل نصائح محايدة، وأن يجعلوا منه إنساناً كاملاً لا اتكالياً، إنهم يحبون الأطفال لا حباً أعمى، بل حباً معقولاً يقودهم نحو الطريق الصحيح في الحياة).

(إن محبة كهذه لا تغفل عن أسس عملها أبداً، بل تحافظ على الاعتدال دائماً، ذلك أن العدل والإنصاف هما بمنزلة الملجأ للطفل).

(إذا كان الأب عادلاً فإن جدّه وتشدّده لا يخلفان أثراً سيئاً في الحياة. إن طريق الطفل يمكن أن يكون مليئاً بالعقبات

٢١٥

والعراقيل، لكن لما كان أساسه التربوي متيناً فإنه لن يتضرر من ذلك) (1) .

التأدب في الصغر:

لقد أكد الأئمة (عليهم السلام) ضمن بيان المناهج التربوية للأطفال على أهمية إحياء المسئولية الشخصية، والتنشئة على الاستقلال، وأوصوا أتباعهم بجميع التعاليم اللازمة في هذا الصدد.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (قال لقمان: يا بنيّ، إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً. ومن عنى بالأدب اهتم به، ومن اهتم به تكلّف علمه، ومن تكلف علمه اشتد له طلبه، ومن اشتدّ له طلبه أدرك به منفعة) (2) .

ثم يستمر في نصائحه فيقول: (يا بُنّي، ألزم نفسك التوْءَدة في أمورك. وصبّر على مؤنات الإخوان نفسك. فإن أردت أن تجمع عزّ الدنيا فاقطع طمعك مما في أيد الناس؛ فإنما بلغ الأنبياء والصدّيقون ما بلغوا بقطع طمعهم) (3) .

وفيما يتعلق بالقيام بالواجبات والحرص على أدائها يقول: (يا بُنيّ، إنما أنت عبد مستأجر قد أمرتَ بعمل، ووُعدت عليه أجراً، فأوف عملك واستوف أجرك) (4) .

هذه الجمل القصار للإمام (عليه السلام) تتضمن بيان قيمة التربية في دور الطفولة، والسعي في تلقي التربية، وإسداء الأب النصائح للولد، وإيجاد الشعور بالمسئولية الشخصية، وإحياء روح الاستقلال عند الطفل، وتنمية الاعتماد على النفس والانقطاع عن الناس، والجدّ في أداء الواجبات، وأجر القيام

____________________

(1) جه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 60.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج5|323.

(3) نفس المصدر والصفحة.

(4) المصدر نفسه ح5|324.

٢١٦

بالواجب... وجميع الدقائق التربوية التي تتعلق بالشخصية والاعتماد على النفس.

ظهور الاستعدادات:

يعتبر الاستقلال في الإرادة والاعتماد على النفس منشأ لظهور الاستعدادات الداخلية. هذا الخلق الفاضل يحبب صاحبه إلى الناس ويمنحه جمالاً اجتماعياً خاص. وعلى العكس من ذلك فإن الطفيلية تكبح المواهب والقابليات الباطنية ونسبب الكراهية للفرد من قبل الآخرين. إن الوالدين الواعيين مسئولان عن تربية طفلهما على الاستقلال والإرادة بحيث يستطيع العيش بكل فخر وعز، وهذه التربية إنما هي من الحقوق الدينية للأولاد على آبائهم. قال الإمام السجاد (عليه السلام): (.. فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا) (1) أي عليك أن تسلك مع الطفل سلوكاً يسبب الافتخار والمباهاة له في المجتمع.

النشاط الفردي:

يستند ضمان السعادة الروحية والوصول إلى الكمال المعنوي إلى المسئولية الفردية، شأنه في ذلك شأنه في ذلك شأن السعادة الدنيوية. فكما أن النجاح المادي لكل إنسان يرتبط بنشاطه الفردي ومقدار الجهد الذي يبذله، كذلك نجاحه المعنوي وتكامله الروحي فإنه يرتبط بمستواه من الإيمان والجهد الذي يبذله في ذلك المجال.

والى هذا المعنى يشير القرآن الكريم: ( وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) (2) .

كما أننا نلاحظ في الدنيا أخوين، يحصل أحدهما على الدرجات العالية بفضل اعتماده على نفسه وبذله الجهود المتواصلة ويعيش في النهاية حياة ملؤها العز والفخار، ويسقط الآخر عن أنظار الناس على أثر تسامحه وكسله فيعيش فقيراً

____________________

(1) تحف العقول عن آل الرسول ص 263.

(1) سورة مريم: 95.

٢١٧

محتقراً.. كذلك في الآخرة، فمن الممكن أن يصل أحدهما إلى أعلى عليين في ظل الإيمان بالله وأداء الواجب، وينحط الآخر إلى أسفل سافلين نتيجة لانحرافه وتلوّثه بالإجرام والذنب.

إن الأب الذي قام بواجباته المادية معتمداً بنفسه ومستنداً إلى شخصيته، وحصل على أثر ذلك على سمعة طيبة ودرجة رفيعة، ومنزلة سامية.. لو قام بتربية طفله على ما هو عليه من الاستقلال والاعتماد على النفس والجدّ في أداء الواجب، فإن الطفل سيسعد في حياته أيضاً.

إن السعادة المعنوية للأب والابن والقيام وبالواجبات الروحية تتطابق مع السعادة المادية والقيام بالوجبات الدنيوية من حيث المسئولية الفردية. فلو قام الوالدان المؤمنان بتربية أولادهما على الإيمان بالله والاستقامة في العمل، وقام الأولاد مع النظر إلى مسئوليتهم الشخصية بين يدي الله تعالى بأداء واجباتهم فلا شك في أنهم سيكونون كأبويهم مشمولين لرحمة الله (عَزَّ وجَلَّ)، وعنايته التي تفوق كل عناية وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم حيث قال: ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (1) .

ركيزة السعادة:

نستنتج مما تقدم أنه حسب المقاييس الدينية والعلمية فإن الشعور بالمسئولية الشخصية، والاعتماد على النفس، الجد في أداء الواجب.. تشكل ركائز السعادة المادية والمعنوية للإنسان. إن كل فرد يحصل على نتيجة عمله، وكل شخص رهين بأعماله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ. إن الوالدين اللذين يدركان هذا الأمر بنفسهما ويربّيان الطفل على الشعور بالمسئولية الشخصية منذ الطفولة يكونان قد أدّيا خدمة جبارة له، وأخذا بيده نحو طريق السعادة والتكامل والفلاح.

____________________

(1) سورة الطور: 21

٢١٨

التفاخر بالآباء:

لقد كان الناس في الجاهلية (1) يتفاخرون بآبائهم وأجدادهم، بدلاً من التفاخر بالعلم والفضل، وكانوا يستندون إلى أمجادهم أسلافهم والانتصارات التي أحرزوها بدلاً من التفاخر بالجهود والنشاطات الخاصة بكل منهم. وعندما جاء نبي الإسلام العظيم بتعاليمه القيمة كافح ضد هذه الفكرة الخاطئة التي كانت العامل الأكبر لانحطاط المجتمع حينذاك، وبذلك الجهود المضنية في سبيل تحويل الأفكار العامة عن الاعتماد على الغير والتفاخر بالآباء إلى الاعتماد على النفس. لقد أكد الإسلام للجميع بأن الكمال الإنساني والتفاخر بالشرف إنما يستند إلى ما يبذله كل فرد من جهد في طريق التكامل والتعالي. قال علي (عليه السلام): (الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية) (2) .

الاتكال على الأمل:

من المناسب أن أنبّه المستمعين الكرام، والشباب منهم بالخصوص إلى مسألة ضرورية، وهي أن المراد من الاعتماد على النفس أن يستند كل فرد في طريق الوصول إلى سعادته على علمه وأخلاقه الفاضلة وجهوده، لا على آماله الفارغة، وأمنياته غير الناضجة. وبعبارة أوضح فإن آمال كل شخص ناشئة من حالاته النفسية الخاصة به، ولكن ليس المراد من الاعتماد على النفس، الاتكال على هذه

____________________

(1) هناك تفسيرات عديدة للجاهلية:

أ - فيذهب البعض إلى أن المراد منها الجهل الذي هو في مقابل العلم.

ب - ويذهب البعض الآخر إلى أن المراد منها الجهل الذي هو في مقابل الحلم، فيكون بمعنى السفه أيضاً.

ج - ويذهب آخرون إلى أنها اصطلاح خاص بالعرب قبل الإسلام.

ولكن هذه التفسيرات الثلاثة بعيدة عن الواقع والصحيح أن يعتبر مصطلح (الجاهلية) خاصاً بكل ما يخالف الإسلام في نظرته إلى الكون والنفس والوجود، سواء كان ذلك متداولاً بين العرب أم غيرهم من الأقوام، وسواء كان ذلك قبل ظهور الإسلام أم بعده. ويدل على ذلك قوله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 87.

٢١٩

الآمال النفسية الواهية. إن الذين يعمرون قلوبهم بالآمال فقط، ويتعهدون ضمائرهم بالأماني الطوال بدلاً من أن يعمروها بالعلم والفضائل، ويتعهدوها بالجد والعمل... أفراد حقراء تافهون، ويستحيل عليهم أن يحصلوا على السعادة والكمال.

عن علي (عليه السلام): (إيّاك والاتكال على المنى، فإنّها بضائع النوكى) (1) .

وعنه (عليه السلام) أيضاً: (العاقل يعتمد على عمله، والجاهل يعتمد على أمله) (2) .

* * *

عندما نتصفح التاريخ الإسلامي نجد أن الأسر التي طبقت تعاليم الإسلام في أسلوب تربية الطفل، والتزمت بأفضل النصائح الواردة من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في هذا الصدد، توصلت إلى نتائج لامعة حيث أثبت الأولاد من الجدارة ما يؤيد ذلك. وعلى سبيل المثال نستعرض قضيتين تاريخيتين لطيفتين:

1 - الطفلة الجريئة:

غضب عبد الملك بن مروان على عباد بن أسلم البكري يوماً، فكتب إلى واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بأن يقتله ويبعث برأسه إلى الشام. فأرسل الحجاج إلى عباد يطلب حضوره لتنفيذ أمر عبد الملك بشأنه. لقد تألم عبّاد من معرفة الخبر. واضطرب كثيراً وأقسم على الحجاج في أن يتخلى عن قتله لأنه يعيل أربعاً وعشرين امرأة وطفلاً، وبقتله سوف تختل شئونهم وتضطرب حياتهم. فرقّ الحجاج لكلامه وأمر بإحضار عائلته إلى دار الإمارة. وعندما حضر أولئك إلى دار الإمارة واطلعوا على ما صمم عليه الحجاج، وشاهدوا الحالة المزرية التي كان عليها وليهم، بدءوا بالبكاء والعويل... وفجأة قامت طفلة صغيرة من بينهم - وكانت في غاية الجمال - وأرادت أن تتكلم، فقال لها الحجاج: ما هي صلتك بعبّاد!؟

____________________

(1) نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص 922.

(2) غرر الحكم ودرر الكلام للآمدي ص 43.

٢٢٠