بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 601
المشاهدات: 108974
تحميل: 4112


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108974 / تحميل: 4112
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 6

مؤلف:
العربية

« انما هو سبّ بسبّ » بأن يقال له « بل قتلك اللّه و أنت كافر » « أو عفو عن ذنب » بأن يترك على عمهه .

و قد وقع نظير ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففي ( تاريخ الطبري ) في ذهاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أحد : قال النبي لأصحابه : من يخرج بنا على القوم من كثب لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة : أنا ، فقدمه ، فنفذ به في حرّة بني حارثة ، و بين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي ، و كان رجلا منافقا ضرير البصر ، فلما سمع حسّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من معه ، قام يحثى في وجوههم التراب و يقول : ان كنت رسولا فإني لا أحلّ لك أن تدخل حائطي ،

و ذكر أنه أخذ حفنة من تراب ، ثم قال : لو أعلم أني لا اصيب بها غيرك يا محمّد لضربت بها وجهك . فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا تفعلوا فهذا الأعمى البصر الأعمى القلب . و قد بدر إليه سعد بن زيد اخو بني عبد الأشهل حين نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه ، فضربه بالقوس في رأسه فشجّه ١ .

و هذا الخارجي ، و ان نسب إليه عليه السلام الكفر حسب عقيدة الخوارج الفاسدة الوضوح عند جميع المسلمين ، أنهم كفروا بالتبرّي منه ، إلا انّه لمّا وصفه بكثرة الفقه و مدحه بذلك نهى عليه السلام عن قتله و قال : امّا سبوه بسبه و امّا اعفوا عنه و أهانه عليه السلام خارجي آخر بنسبة الجور إليه عليه السلام ، فدعا عليه بالمسخ ليصير عبرة للآخرين فإن العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين .

ففي ( خصائص المصنف ) : روى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالسا في المسجد و دخل عليه رجلان و اختصما لديه و كان احدهما من الخوارج ،

فتوجّه الحكم عليه فحكم عليه ، فقال له : و اللّه ما حكمت بالسوية ، و لا عدلت في القضية ، و ما قضيتّك عند اللّه بمرضيّة . فقال عليه السلام له و أومأ إليه بيده : إخسأ

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٩١ ، سنة ٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨١

عدوّ اللّه فاستحال كلبا أسود فقال من حضره : فو اللّه لقد رأينا تطاير لباسه عنه في الهواء ، و جعل يبصبص له عليه السلام و دمعت عيناه و رأيناه قد رقّ فلحظ السماء و حرّك شفتيه بكلام لم نسمعه ، فو اللّه لقد رأيناه و قد عاد إلى حاله و تراجعت ثيابه من الهواء حتى سقطت على كتفيه فرأيناه و قد خرج من المسجد و ان رجليه لتضطربان فبهتنا ننظر إليه فقال عليه السلام : ما بالكم تنظرون و تعجبون ؟ فقلنا : كيف لا نتعجب و قد صنعت ما صنعت . فقال : أما تعلمون أنّ آصف بن برخيا وصيّ سليمان بن داود قد صنع ما هو قريب من هذا الأمر ،

فقصّ اللّه جلّ اسمه قصّته حيث يقول : أيّكم يأتيني بعرشها إلى قوله قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ١ الآية ، فأيّما أكرم عليه نبيّكم أم سليمان ؟ قالوا : بل نبيّنا ، قال : فوصي نبيّكم أكرم من وصيّ سليمان ، و انما كان عند وصي سليمان من اسم اللّه الأعظم حرف واحد ،

فسأل اللّه تعالى فخسف به الأرض ما بينه و بين سرير بلقيس ، فتناوله في أقلّ من طرفة عين و عندنا من اسم اللّه الأعظم اثنان و سبعون حرفا ، و حرف عند اللّه استأثر به دون خلقه فقالوا : فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية ؟ فقال : بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون ، إنّ اللّه تعالى ممتحن خلقه بما يشاء . قالوا : فنهضنا و نحن نعظّم ما أتى به ٢ .

٣

الحكمة ( ٣٧ ) وَ قَالَ ع وَ قَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى ؟ اَلشَّامِ ؟ دَهَاقِينُ ؟ اَلْأَنْبَارِ ؟ فَتَرَجَّلُوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) النمل : ٣٨ ٤٠ .

( ٢ ) خصائص الرضي : ١٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨٢

لَهُ وَ اِشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ ع :

مَا هَذَا اَلَّذِي صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا فَقَالَ ع :

وَ اَللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ وَ إِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ وَ مَا أَخْسَرَ اَلْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا اَلْعِقَابُ وَ أَرْبَحَ اَلدَّعَةَ مَعَهَا اَلْأَمَانُ مِنَ اَلنَّارِ أقول : رواه نصر بن مزاحم في ( صفينه ) هكذا ، فقال : و جاء علي عليه السلام حتّى مرّ بالأنبار فاستقبله بنو خشنوشك دهاقنتها . قال سليمان « خش » طيب « نوشك » راض ، يعني « بني الطيّب الراضي » بالفارسية ، فلما استقبلوه نزلوا ثم جاؤا يشتدّون معه ، قال : ما هذه الدوابّ التي معكم و ما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟ قالوا : أمّا هذا الذي صنعنا فهو خلق منّا نعظّم به الأمراء ، و أما هذه البراذين فهديّة لك و قد صنعنا لك و للمسلمين طعاما و هيّأنا لدوابّكم علفا كثيرا . فقال عليه السلام : امّا هذا الذي زعمتم أنّه منكم خلق تعظّمون به الامراء فو اللّه ما ينفع هذا الأمراء ، و إنّكم لتشقّون به على أنفسكم و أبدانكم فلا تعودوا له ،

و اما دوابّكم هذه فان أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم ، و أما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنّا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا إلاّ بثمن . قالوا : نقوّمه ثمّ نقبل ثمنه . قال : إذن لا تقوّمونه قيمته ، نحن نكتفي بما هو دونه . قالوا : يا أمير المؤمنين فإنّ لنا من العرب موالي و معارف فتمنعنا أن نهدي لهم و تمنعهم أن يقبلوا منّا ؟ قال : كلّ العرب لكم موال و ليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديّتكم ، و إن غصبكم أحد فأعلمونا ، قالوا : يا أمير المؤمنين انّا نحبّ أن تقبل هديتنا و كرامتنا . قال لهم : و يحكم ، نحن أغنى منكم .

فتركهم ثم سار ١ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٤٣ .

٢٨٣

قول المصنف : « و قال عليه السلام و قد لقيته عند مسيره » من الكوفة « إلى الشّام » في طريقه « دهاقين الأنبار » جمع دهقان . قال الجوهري : الدهقان ،

معرب ، إن جعلت النون أصلية من قولهم « تدهقن الرجل » صرفته لأنّه فعلال ،

و ان جعلته من الدهق لم تصرفه لأنّه فعلان ١ .

قلت : لا وجه لاحتمال كونه من الدهق ، لأن الكلمة معرّبة مركبة من « ده » بمعنى القرية و « قان » مبدل « پان » مخفّف « پاينده » بمعنى الحافظ ٢ .

و في ( تاريخ الطبري ) : منوشهر أوّل من خندق الخنادق و جمع آلة الحرب ، و أوّل من وضع الدهقنة فجعل لكلّ قرية دهقانا و جعل أهلها له خولا و عبيدا و أمرهم بطاعته ٣ .

« فترجلوا له » أي : نزلوا من مراكبهم و قاموا على أرجلهم « و اشتدوا » أي : عدوا . قال الشاعر :

هذا أو ان الشدّ فاشتدّي زيم ٤

« بين يديه » أي : قدّامه « فقال عليه السلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة فليست في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٥ ، و لأنها تكرار لأنه قال أولا « و قال عليه السلام » .

« ما هذا الذي صنعتموه » من الاشتداد و العدو بين يديّ « فقالوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٥ : ٢١١٧ ، مادة ( دهقن ) .

( ٢ ) الاشتقاق الذي ذكره الشارح غير صحيح ، بل كلمة « دهقان » تعريب « دهگان » الفارسي و « دهيگان » الفهلوي ، و هو مركب من جزئين ، الأول « ده » بمعنى « القرية » و الثاني « گان » أو « ايكان » الذي يدل على النسبة و التعلّق ، فمعنى « دهگان » أو « دهيكان » هو « الزارع » أو « مالك الزرع و القرية » .

( ٣ ) تاريخ الطبري ١ : ٢٦٦ .

( ٤ ) أورده لسان العرب ٣ : ٢٢٤ ، مادة ( شدّ ) .

( ٥ ) في شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٥٦ ، « و قال » و في شرح ابن ميثم ٥ : ٢٦٠ « فقال » .

٢٨٤

خلق » بضمتين أي : عادة « منّا نعظّم به امراءنا . فقال عليه السلام : و اللّه ما ينتفع بهذا امراؤكم » بل يضرّ بهم لأنّه يحدث لهم خيلاء و كبرا « و إنكم لتشقّون » بالتشديد من المشقّة « على أنفسكم » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « به على أنفسكم » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ « في دنياكم » متعلّق بقوله « لتشقّون » « و تشقون » بالتخفيف من الشقاء « به في آخرتكم » لفعلكم العبث « و ما أخسر المشقة وراءها العقاب » فالمشقة ان لم يكن وراءها ثواب ، كالمشقة لتحصيل دنيا أو آخرة خسارة ، فان كان وراءها عقاب فهي أخسر .

« و أربح الدعة » أي : الاستراحة « معها الأمان من النار » فالدعة ان لم يكن وراءها شي‏ء ، ربح ، فإن كان معها أمان من النار ، بأن يكون ضدّها موجبا للنار و تركها الإنسان لذلك فهي أربح .

هذا ، و مرّ في فصل صفين أن حرب بن شرحبيل الشبامي أقبل يمشي معه عليه السلام و هو راكب ، فقال عليه السلام له : ارجع ، فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي و مذلّة للمؤمن ٢ .

و في ( معجم بلدان الحموي ) : قال أحمد بن يحيى بن جابر : مرّ علي بن أبي طالب عليه السلام بالأنبار فخرج إليه أهلها بالهدايا إلى معسكره فقال : إجمعوا الهدايا و اجعلوها باجا واحدا . ففعلوا فسمّي موضع معسكره بالأنبار الباج الى الآن ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٥٦ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٢٦١ ، مثل المصرية .

( ٢ ) روى الحديث ابن مزاحم في وقعة صفين : ٥٣٢ و موضعه في الفصل الثاني و الثلاثين من الكتاب .

( ٣ ) معجم البلدان ١ : ٣١٣ .

٢٨٥

٤

الحكمة ( ١٠٠ ) وَ مَدَحَهُ قَوْمٌ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ اَللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي وَ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اِغْفِرْ لَنَا مَا لاَ يَعْلَمُونَ كان عليه السلام إمام المتقين ، و من صفات المتقين انّه إذا زكّى أحدهم خاف ممّا يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربّي أعلم بي منّي بنفسي ،

اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني أفضل ممّا يظنون و اغفر لي ما لا يعلمون .

و قال ابن أبي الحديد : و قال عليه السلام لرجل مدح رجلا في وجهه « عقرت الرجل عقرك اللّه » . و قال عليه السلام : لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثني عليه في وجهه ١ .

قلت : و في الخبر « أحثوا في وجوه المدّاحين التراب » ٢ و عمل به أبوذر في من مدح عثمان ، فانّه مذموم لو كان حقّا ، فكيف لو كان باطلا

٥

الحكمة ( ٨٣ ) وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ أَفْرَطَ فِي اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ كَانَ لَهُ مُتَّهِماً أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَ فَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ أقول : قال الجاحظ في ( بيانه ) و الرضي في ( خصائصه ) : قال الأصمعي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٥٦ .

( ٢ ) أخرجه ابن داود في سننه ٤ : ٢٥٤ ح ٤٨٠٤ ، و الترمذي في سننه ٤ : ٥٩٩ و ٦٠٠ ح ٢٣٩٣ و ٢٣٩٤ ، و ابن ماجة في سننه ٢ : ١٢٣٢ ح ٣٧٤ و غيرهم بلفظ « احثوا التراب . . . » .

٢٨٦

اثنى رجل على علي عليه السلام فأفرط ، فقال علي عليه السلام و كان يتّهمه : انا دون ما تقول ،

و فوق ما في نفسك ١ .

هذا ، و روى ( الكافي ) أنّه عليه السلام بعث إلى بشر بن عطارد التميمي في كلام بلغه عنه ، فمرّ به رسوله في بني أسد فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته ،

فبعث عليه السلام إليه فأتوه به ، و أمر به أن يضرب ، فقال له نعيم : أما و اللّه ان المقام معك لذلّ و ان فراقك لكفر . فقال عليه السلام له : قد عفونا عنك ، ان اللّه عز و جل يقول :

ادفع بالتي هي أحسن السيئة ٢ اما قولك ان المقام معك لذلّ فسيئة اكتسبتها ، و أما قولك ان فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها ، فهذه بهذه ، ثم أمر أن يخلى عنه ٣ .

هذا و ذكروا أن صديقا لعيسى بن هبة اللّه البزاز كتب إليه رقعة فزاد في خطابه فأجابه :

قد زدتني في الخطاب حتى

خشيت نقصا في الزيادة

فاجعل خطابي خطاب مثلي

و لا تغيّر علي عادة

و نقل ابن أبي الحديد هنا : ان عمر كان جالسا و عنده الدّرّة ، إذ أقبل الجارود العبدي ، فقال رجل : هذا سيّد ربيعة ، فسمعها عمر و من حوله ،

و سمعها الجارود ، فلما دنا منه خفقه بالدّرة ، فقال لعمر : مالي و لك . قال : أما لقد سمعتها ، قال : و ما سمعتها فمه قال : ليخالطن قلبك منها شي‏ء و أنا أحب أن أطأطئ منك ٤ .

قلت : الجناية للمادح لا للممدوح ، فكان على عمر أن يؤنّب المادح ، مع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) البيان و التبيين ٢ : ٧٩ و خصائص الرضي : ٧٠ .

( ٢ ) المؤمنون : ٩٦ .

( ٣ ) الكافي ٧ : ٢٦٨ ح ٤ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٣٣ .

٢٨٧

ان المادح انّما يؤنب اذا كان مدح رجلا في وجهه ، و هو لم يذكر ذلك للجارود ،

بل لجلسائه ، و كلامه كان كلام حقيقة .

مع ان الضرب بالدّرّة انما يكون لمن جنى جناية لا في مثله روى ( الكافي ) عن رزين قال : كنت اتوضأ في ميضاة الكوفة ، فإذا رجل قد جاء فوضع نعليه و وضع درّته فوقها ثم دنا فتوضأ معي فزحمته فوقع على يديه ، فقام فتوضأ فلما فرغ ضرب رأسي بالدّرّة ثلاثا ثم قال : إيّاك أن تدفع فتكسر فتغرم فقلت : من هذا ؟ فقالوا : أمير المؤمنين ، فذهبت أعتذر إليه .

فمضى و لم يلتفت إليّ ١ .

و إنّما الأصل في عمل عمر مع الجارود ضغن في قلبه منه ، لما أراد عمر تضييع حدّ الشرب على قدامة بن مظعون صهره فألزمه الجارود بذلك .

٦

الحكمة ( ١٩٤ ) و كان عليه السلام يقول :

مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِينَ أَعْجِزُ عَنِ اَلاِنْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ أقول : هذا نظير قوله عليه السلام في عدم المورد في الحذر من الموت ، لأنّه ان لم يقدر في ذاك الوقت فهو لغو ، و ان قدر لم يقدر على الفرار .

و قالوا : لمّا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتل أحد اسراء قريش في بدر قالت أخته ابياتا منها قولها :

ما ضرّك لو مننت و ربّما

منّ الفتى و هو المغيظ المحنق

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٧ : ٢٦٨ ح ٤١ .

٢٨٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لو بلغني أبياتها قبل قتله ما قتلته ١ .

هذا ، و قالوا أسر معاوية يوم صفين رجلا من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا اقيم بين يديه قال : الحمد للّه الذي أمكنني منك ، فقال الرجل :

لا تقل ذلك فإنّها مصيبة ، قال : و أية نعمة أعظم من أن يكون ظفرت برجل قتل في ساعة واحدة جماعة من أصحابي ، اضربا عنقه . فقال الرجل : اللّهمّ اشهد أنّ معاوية لم يقتلني فيك ، و لا لأنّك ترضى قتلي ، و لكن قتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا ، فان فعل فافعل به ما هو أهله ، و ان لم يفعل فافعل به ما أنت أهله ، فقال معاوية : قاتلك اللّه لقد سببت فأوجعت في السبّ و دعوت فأبلغت في الدعاء ، خليا سبيله .

و قالوا : ضرب الحجّاج أعناق أسارى أتي بهم ، فقال رجل منهم : و اللّه لئن كنّا أسأنا في الذنب فما أحسنت في المكافأة فقال الحجاج : أفّ لهذه الجيف ،

أما كان فيهم من يحسن مثل هذا ؟ و كفّ عن القتل .

هذا و صفة عفوه عليه السلام كباقي صفاته ، عجيبة ، فقد ظفر بمروان و عداوته له عليه السلام و جساراته معه عليه السلام أيام عثمان لا سيّما في قضية أبي ذر و هي معروفة فعفا عنه .

و عفا عن ابن الزبير مع انّه كان يبغضه و يسبّه و قال عليه السلام فيه : إنّ أباه الزبير كان منهم ، و أنّه هو الذي قطعه عنهم .

و عفوه عليه السلام عن عائشة و أهل البصرة لا يحتاج إلى بيان .

و من كرم أخلاقه عليه السلام معاملته في الحرب مع طلحة بن عثمان يوم احد و عمرو بن عبد ود يوم الخندق و عمرو بن العاص و بسر بن ارطأة يوم صفين .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ١٤ : ١٧١ و ١٧٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨٩

و في ( تأريخ الطبري ) في الأول ضرب علي عليه السلام طلحة صاحب لواء المشركين فقطع رجله ، فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك اللّه و الرحم يا ابن عم فتركه فكبّر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لعليّ عليه السلام أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : ان ابن عمّي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه ١ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٩٤ ، سنة ٣ .

٢٩٠

الفصل الحادي عشر في تفسيره عليه السلام لآيات و لغيرها و استشهاده بآيات

٢٩١

١

الحكمة ( ٩٩ ) وَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٦ ١١ ٢ : ١٥٦ فَقَالَ إِنَّ قَوْلَنَا إِنَّا لِلَّهِ ٦ ٧ ٢ : ١٥٦ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ وَ قَوْلَنَا وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٨ ١١ ٢ : ١٥٦ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ أقول : و مثله قال الرضيّ في ( خصائصه ) ، و الأصل فيه ما رواه محمد بن يعقوب في ( الكافي ) عن علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد قال : جاء أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشعث بن قيس يعزّيه بأخ له يقال له عبد الرحمن ، فقال له :

إن جزعت فحقّ الرحم أتيت ، و إن صبرت فحقّ اللّه أدّيت ، على انّك إن صبرت جرى عليك القضاء و أنت محمود ، و ان جزعت جرى عليك القضاء و أنت مذموم ، فقال الأشعث : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون . فقال عليه السلام : أ تدري ما تأويلها ؟

قال : لا أنت غاية العلم و منتهاه فقال عليه السلام له : أما قولك « إنّا للّه » فإقرار بالملك ،

و أما قولك « و إنّا إليه راجعون » فإقرار بالهلاك .

٢٩٢

و رواه ابن أبي شعبة الحلبي في تحفه مرفوعا مثله ١ .

قول المصنّف « و سمع عليه السلام رجلا يقول : انّا للّه و انّا إليه راجعون » قد عرفت من خبر الكليني أن الرجل كان أشعث بن قيس في موت أخيه .

« فقال عليه السلام : إنّ قولنا إنّا للّه إقرار على أنفسنا بالملك » فهو الإقرار بالمبدأ ،

و قولنا : « و إنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك » فهو الإقرار بالمعاد .

و يجوز في « الملك » و « الهلك » الضم و الفتح . قال ابن السكّيت : يقال « لأذهبن فأما ملك و أما هلك » بالضم و الفتح فيهما ٢ .

قلت : لكن « الملك » في كلامه عليه السلام بمعنى المملوكية و في كلام ابن السكّيت بمعنى المالكية .

و قد فسر عليه السلام قوله تعالى قل الروح من أمر ربّي ٣ بما هو قريب من المعنى مع زيادة تفسير الروح ، ففي ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن ( فضائل أحمد بن حنبل ) : أنّ قيصرا كتب إلى عمر يسأله عن مسائل عويصة معضلة ، فكتب علي عليه السلام جوابها خلف الكتاب ، فلما قرأ قيصر الكتاب قال : ما خرج هذا الكلام إلاّ من بيت النبوّة ، فسأل عن المجيب فقيل له ابن عم محمّد ، فكتب قيصر إلى علي عليه السلام : وقفت على جوابك فعلمت أنّك من أهل بيت النبوّة ، و معدن الرسالة ، و أوثر أن تكشف لي عن مذهبكم في الروح التي ذكرها اللّه في كتابكم في قوله و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ٤ فكتب علي عليه السلام اليه : أما بعد . . . فالروح نكتة لطيفة و لمعة شريفة من صنعة باريها

ــــــــــــــــــ

( ١ ) خصائص الرضي : ٧١ ، و الكافي ٣ : ٢٦١ ح ٤٠ ، و تحف العقول : ٢٠٩ .

( ٢ ) نقله عنه الصحاح ٤ : ١٦١١ ، مادة ( ملك ) .

( ٣ ) الاسراء : ٨٥ .

( ٤ ) المصدر السابق .

٢٩٣

و قدرة منشيها ، أخرجها من خزائن ملكه و أسكنها في ملكه ، فهي عنده لك سبب ، و له عندك وديعة ، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك . و السلام ١ .

قلت : مالنا عنده هو الرزق ، و ماله عندنا هي الروح .

قال السبط : و من هنا أخذ ابن سينا قوله :

هبطت اليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزّز و تمنع ٢

٢

الحكمة ( ٢٢٩ ) وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ اَلْقَنَاعَةُ أقول : تمام الآية قبل الجملة و بعدها من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ٣ .

قلت : و إذا كانت القناعة حياة طيبة فالحرص حياة خبيثة ، و قال شاعر :

إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن

على حالة إلاّ رضيت بدونها

و من طلب العليا من العيش لم يزل

حقيرا و في الدنيا كثير غبونها

و قالوا : القانع بما قسم اللّه تعالى في حدائق النعيم . قال شاعر :

إذا شئت أن تحيا حياة حلوة المحيا

فلا تحسد و لا تحقد و لا تأسف على الدنيا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص : ١٤٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) تذكرة الخواص : ١٤٧ .

( ٣ ) النحل : ٩٧ .

٢٩٤

٣

الحكمة ( ٢٣١ ) وَ قَالَ ع : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ ١ ٦ ١٦ : ٩٠ اَلْعَدْلُ اَلْإِنْصَافُ وَ اَلْإِحْسَانُ اَلتَّفَضُّلُ أقول : و يجمعهما المروءة كما يشهد له مستند الكلام .

و روى ابن بايويه في ( معانيه ) ، و العياشي في ( تفسيره ) عن عمرو بن عثمان التيمي القاضي قال : خرج علي عليه السلام على أصحابه و هم يتذاكرون المروّة ، فقال : أين أنتم من كتاب اللّه ؟ قالوا : في أيّ موضع ؟ فقال : في قوله عزّ و جلّ إنّ اللّه يأمر بالعدل و الإحسان ١ فالعدل : الانصاف ، و الاحسان :

التفضل ٢ .

و كذلك ما رواه السبط ابن الجوزي : أن رجلا سأله عليه السلام عن المروّة فقال : إطعام الطعام ، و تعاهد الإخوان ، و كفّ الأذى عن الجيران ، ثم قرأ ان اللّه يأمر بالعدل و الاحسان ٣ .

و لا تنافي بين الخبرين في تفسير الآية ، و إنّما هما مجمل و مفصل ، فكفّ الأذى إنصاف ، و الإطعام و التعاهد إحسان .

و فسّر المروّة في السفر و الحضر بتفصيل أكثر في خبر آخر . هذا و بقية الآية و ايتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلّكم تذكرون ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) النحل : ٩٠ .

( ٢ ) معاني الاخبار : ٢٥٧ ح ١ ، و تفسير العياشي ٢ : ٢٦٧ ح ٦١ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ١٤٠ . و الآية ٩٠ من سورة النحل .

( ٤ ) النحل : ٩٠ .

٢٩٥

٤

الحكمة ( ٤٠٤ ) وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنَّا لاَ نَمْلِكُ مَعَ اَللَّهِ شَيْئاً وَ لاَ نَمْلِكُ إِلاَّ مَا مَلَّكَنَا فَمَتَى مَا مَلَّكَنَا مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنَّا كَلَّفَنَا وَ مَتَى أَخَذَهُ مِنَّا وَضَعَ تَكْلِيفَهُ عَنَّا وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قلت :

روى سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) معنى آخر لقولهم ذاك عنه عليه السلام فقال : قال علي عليه السلام في معنى « لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه » : إنّه لا حول عن معصية اللّه إلاّ بعصمته و لا قوّة على طاعته إلاّ بمعونته ١ .

و لكن رواه الخطيب في ( تاريخ بغداده ) عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و لا منافاة فهو عليه السلام و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانا نفسا واحدة كما يشهد له القرآن ٢ .

« انا لا نملك مع اللّه شيئا » قل من يرزقكم من السماء و الأرض أم من يملك السمع و الأبصار ٣ ، قل فمن يملك لكم من اللّه شيئا إن أراد بكم ضرّاً أو أراد بكم نفعاً بل كان اللّه بما تعلمون خبيراً ٤ ، لقد كفر الذين قالوا إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من اللّه شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم و أمّه و من في الأرض جميعاً و للّه ملك السماوات و الأرض و ما بينهما

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص : ١٥٧ .

( ٢ ) أخرجه ابن النجار في تاريخه و الديلمي في الفردوس ، عنهما كنز العمال ٢ : ٢٥١ ح ٣٩٤٦ و ٣٩٤٧ ، و البزار في مسنده ، عنه الفتوحات الربانية ١ : ٢٤١ ، لكن لم أجده في تاريخ بغداد .

( ٣ ) يونس : ٣١ .

( ٤ ) الفتح : ١١ .

٢٩٦

يخلق ما يشاء و اللّه على كلّ شي‏ء قدير ١ .

« و لا نملك إلاّ ما ملّكنا » في ( تحف العقول للحلبي ) : سأله عليه السلام عباية بن ربعي عن الاستطاعة التي بها نقوم و نقعد و نفعل . فقال عليه السلام له : سألت عن الاستطاعة فهل تملكها من دون اللّه أو مع اللّه ؟ فسكت عباية فقال عليه السلام : إن قلت تملكها مع اللّه قتلتك ، و إن قلت تملكها دون اللّه قتلتك ، فقال عباية : فما أقول ؟ قال :

تقول إنّك تملكها باللّه الذي يملكها من دونك ، فإن ملّكك إيّاها كان ذلك من عطائه و ان سلبكها كان ذلك من بلائه ، فهو المالك لما ملّكك و القادر على ما عليه أقدرك ٢ .

و في ( تفسير القمي ) : لما أسري بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجد ريحا مثل المسك الأذفر ، فسأل جبرئيل عنها ، فقال : إنّها تخرج من بيت عذّب فيه قوم في اللّه حتى ماتوا ، إنّ الخضر كان من أبناء الملوك ، فآمن باللّه و تخلى في دار أبيه في بيت يعبد اللّه ، و لم يكن لأبيه ولد غيره ، فأشاروا عليه أن يزوّجه ليكون له الملك في عقبه ، فخطب له امرأة بكرا و أدخلها عليه ، فلم يلتفت إليها ، فلما كان في اليوم الثاني قال لها : تكتمين ؟

قالت : نعم . قال : إن سألك أبي هل كان منّي ما يكون من الرجال إلى النساء ، قولي نعم ؟ فقالت : أفعل فسألها فقالت : نعم ، فقال له الناس مر النساء بتفتيشها ، فكانت كما كانت فقالوا : زوجت الغر من الغرة زوّجه امرأة ثيبا ،

ففعل ، فلما دخلت عليه سألها الخضر الكتمان فقالت : نعم ، و لما سألها الملك قالت : ابنك امرأة فهل تلد المرأة من المرأة فغضب ، و أمر بردم الباب عليه ، فلمّا كان اليوم الثالث حرّكته رقّة الآباء ، فأمر بفتح الباب ، ففتح فلم يجدوه ، فأعطاه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ١٧ .

( ٢ ) تحف العقول : ٢١٣ .

٢٩٧

اللّه من القوّة أنّه يتصوّر كيف شاء ، ثمّ كان على مقدّمة ذي القرنين و شرب من الماء الذي من شرب منه بقي إلى الصيحة فخرج من مدينة أبيه رجلان في تجارة ، فوقعا في جزيرة فوجدا فيها الخضر قائما يصلّي ، فلما انفتل سألهما عن خبرهما فأخبراه ، فقال : هل تكتمان على أمري إن رددتكما في يومكما إلى منازلكما . فقالا : نعم ، فنوى أحدهما أن يكتم فكتم ، و ذهب الآخر إلى الملك فأخبره ، فقال له : من يشهد لك ؟ قال : فلان التاجر ، فأحضر فأنكر فقال الأول :

إبعث معي خيلا إلى هذه الجزيرة و احبس هذا حتى آتيك بابنك ، فبعث معه خيلا فلم يجدوه ، فأطلق الرجل الذي كتم عليه .

ثمّ إنّ القوم عملوا بالمعاصي فأهلكهم اللّه و جعل عالي مدينتهم سافلها ،

و ابتدرت الجارية التي كتمت عليه أمره ، و الرجل الذي كتم عليه كلّ واحد منهما ناحية من المدينة ، فلما أصبحا إلتقيا فأخبر كلّ واحد منهما صاحبه بخبره ، فقال : ما نجونا إلاّ بذلك ، فآمنا بربّ الخضر ، و حسن إيمانهما و تزوّج بها الرجل و وقعا إلى مملكة ملك آخر ، و توصلت المرأة إلى ابنة الملك و كانت تزيّنها ، فبينا هي يوما تمشّطها ، سقط من يدها المشط فقالت « لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه » فقالت بنت الملك : ما هذه الكلمة ؟ فقالت لها : إنّ لي إلها تجري الامور كلّها بحوله و قوّته . فقالت لها : ألك إله غير أبي ؟ قالت : نعم و هو إلهك و إله أبيك فدخلت على أبيها فأخبرته ، فدعاها الملك فسألها فأخبرته ، فقال : من على دينك ؟ قالت : زوجي و ولدي ، فدعاهم الملك إلى الرجوع فأبوا ، فدعا بمرجل من ماء فأسخنه فألقاهم فيه و أدخلهم بيتا و هدم عليهم البيت ، فقال جبرئيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : فهذه الرائحة التي شممتها من ذاك البيت ١ .

و عن ( نوادر محمد بن علي بن محبوب ) : كان أمير المؤمنين عليه السلام يبرأ

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ٢ : ٤٢ ٤٤ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٩٨

من القدرية و يقول في كلّ ركعة : « بحول اللّه ( و قوّته ) أقوم و أقعد » ١ .

هذا و روى الخطيب في ( تاريخ بغداده ) في عبد العزيز التميمي عنه عن آبائه إلى تسعة آباء أنّ عليّا عليه السلام سئل عن « الحنّان المنّان » فقال : الحنّان الذي يقبل على من أعرض عنه ، و المنّان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ٢ ٣ .

٥

الحكمة ( ٤٣٩ ) و قال عليه السلام :

اَلزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ ؟ اَلْقُرْآنِ ؟ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ١ ١٠ ٥٧ : ٢٣ وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى اَلْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ اَلزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ « الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن » و قال الجاحظ في ( بيانه ) : قد جمع محمد بن علي بن الحسين أي الباقر عليه السلام صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين ، فقال : إصلاح شأن جميع التعايش و التعاشر ملأ مكيال ثلثاه فطنة ،

و ثلثه تغافل .

قال : فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير ، و لا حظّا في الصلاح ، لأن الإنسان لا يتغافل إلاّ عن شي‏ء قد فطن له و عرفه ٤ .

« قال اللّه سبحانه » في سورة الحديد « لكيلا » علّة لقوله تعالى قبله :

ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه الحر العاملي في الوسائل ٤ : ٩٦٧ ح ٧ .

( ٢ ) لم يوجد في ترجمة عبد العزيز التميمي و لا عبد العزيز آخر في تاريخ بغداد .

( ٣ ) لم يتعرض الشارح بشرح فقرة « فمتى ما ملكنا » . . . الخ .

( ٤ ) البيان و التبيين ١ : ١٠٧ .

٢٩٩

نبرأها إنّ ذلك على اللّه يسير ١ « تأسو » أي : تتأسفوا « على ما فاتكم » من الدنيا « و لا تفرحوا بما آتاكم » أعطاكم منها .

و في ( الكافي ) عن الرضا عليه السلام قال عيسى عليه السلام للحواريين : لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا ، كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم ، إذا أصابوا دنياهم .

و عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، أما إنّ زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه ممّا قسم اللّه تعالى له فيها و إن زهد ، و إنّ حرص الحريص على عاجل زهرة الحياة الدنيا لا يزيده فيها و إن حرص ، فالمغبون من حرم حظّه من الآخرة .

و عنه عليه السلام : جعل الخير كلّه في بيت و جعل مفتاحه الزهد في الدنيا ، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا .

و عنه عليه السلام : من زهد في الدنيا أثبت اللّه الحكمة في قلبه ، و أنطق بها لسانه ،

و بصّره عيوب الدنيا داءها و دواءها ، و أخرجه من الدنيا سالما إلى دار السلام ٢ .

« و من لم يأس على الماضي » الذي فات « و لم يفرح بالآتي » الذي يؤتيه اللّه « فقد أخذ الزهد بطرفيه » اللذين مرّ ذكر القرآن لهما .

و في ( تفسير القمي ) : قال يزيد لعلي بن الحسين عليه السلام : الحمد للّه الذي قتل أباك فقال عليه السلام : لعن اللّه من قتل أبي أفترى ألعن ربّي ، فغضب يزيد و أمر بضرب عنقه ، فقال عليه السلام : فإذا قتلتني فبنات رسول اللّه من يردّهن و ليس لهن محرم غيري . قال : أنت تردّهن . ثم قال يزيد و ما أصابكم من مصيبة

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الحديد : ٢٢ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ١٣٧ ح ٢٥ و : ١٢٨ و ١٢٩ ح ١ و ٢ و ٦ ، و الأخيران عن الصادق عليه السلام .

٣٠٠