بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 601
المشاهدات: 109023
تحميل: 4113


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109023 / تحميل: 4113
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 6

مؤلف:
العربية

كلّ يوم شاة فيتصدّق منه و يأكل هو و عياله ، و إنّ سائلا صوّاما محقّا ، له عند اللّه منزلة و كان غريبا مجتازا اعترّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه : أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم هتف بذلك مرارا و هم يسمعونه و لم يصدّقوا قوله ، فلمّا يئس أن يطعموه و غشيه الليل استعبر و شكا جوعه إلى اللّه تعالى ، و بات طاويا و أصبح صابرا ، و بات يعقوب و آله شباعا بطانا و أصبحوا و عندهم فضلة من طعامهم ، فأوحى تعالى إلى يعقوب : أذللت عبدي ذلّة استجررت بها غضبي و استوجبت بها أدبي ، و نزول عقوبتي عليك و على ولدك يا يعقوب ، ان أحبّ أنبيائي إليّ من رحم مساكين عبادي و أطعمهم ، و كان لهم مأوى و ملجأ ، يا يعقوب أما رحمت عبدي بات طاويا حامدا لي ، و أنت و ولدك شباع و عندكم فضلة ، أو ما علمت ان العقوبة إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي ، و ذلك حسن النظر منّي لأوليائي و استدراج منّي لأعدائي ، أما و عزّتي لأجعلنّك و ولدك غرضا لمصائبي ١ « أ أقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر » كان المسلمون يوم القادسية و سعد بن أبي وقاص أميرهم كان في القصر ينظر إليهم ، فقال بعضهم :

فأبنا و قد آمت نساء كثيرة

و نسوة سعد ليس فيهنّ أيم

و في ( الكافي ) ، عن حمّاد بن عثمان : أصاب أهل المدينة غلاء و قحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير و يأكله و يشتري ببعض الطعام ، و كان عند أبي عبد اللّه عليه السلام طعام جيد قد اشتراه أوّل السنة ، فقال لبعض مواليه : اشتر لنا شعيرا فاخلط بهذا الطعام أو بعه فإنّا نكره أن نأكل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الصدوق في العلل ١ : ٤٥ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٨١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

جيدا و يأكل النّاس رديّا ١ .

« أو أكون أسوة لهم » أي : قدوة « في جشوبة » أي : غلظة « العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات » إنّما خلق الإنسان لعبادة ربّه و عرفانه لا للأكل ، و إنّما جعل له الأكل ليحيا ، و بينهما بون بعيد .

« كالبهيمة المربوطة همّها علفها أو » البهيمة « المرسلة شغلها تقمّمها » أي :

رتعها و أكلها بشفتيها ، فمن حسب أنّه خلق لكي يأكل ، فانّه كما قال عليه السلام أحد حيوانين مربوطا أو مرسلا ، قال تعالى : و يأكلون كما تأكل الأنعام ٢ « تكترش » أي : تملأ كرشها ، أي ، معدتها « من أعلافها و تلهو » أي : تغفل « عمّا يراد بها » من الذبح ، و نظير قوله عليه السلام قول الآخر :

إن هي إلاّ كالمعلوفة للمدى

لا تعرف ماذا يراد بها

إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ ٣ .

« أو أترك سدى » بالضم أي : مهملا أ يحسب الإنسان أن يترك سدى .

ألم يك نطفة من منيّ يمنى . ثمّ كان علقة فخلق فسوّى . فجعل منه الزّوجين الذّكر و الانثى . أ ليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى ٤ .

« أو أهمل عابثا » أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً و أنّكم إلينا لا ترجعون ٥ .

« أو أجرّ حبل الضلالة » أي : أترك مع حبل الضلالة .

« أو اعتسف » أي : أسير على غير الطريق « طريق المتاهة » المفازة

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٥ : ١٦٦ ح ١ .

( ٢ ) محمد : ١٢ .

( ٣ ) الفرقان : ٤٤ .

( ٤ ) القيامة : ٣٦ ٤٠ .

( ٥ ) المؤمنون : ١١٥ .

٤٨٢

يتاه فيها .

« فاتق اللّه يا ابن حنيف ، و لتكفك أقراصك لتكون من النار خلاصك » . في ( المروج ) : دخل شريك يوما على المهدي فقال له : لابدّ أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال قال : و ما هنّ ؟ قال : إمّا أن تلي القضاء ، أو تحدّث ولدي و تعلّمهم ، أو تأكل عندي أكلة . ففكر ثمّ قال : الأكلة أخفّهنّ على نفسي ، فاحتبسه و قدم إلى الطباخ أن يصلح له ألوانا من المخّ المعقود بالسكر الطبرزد و العسل ،

فلما فرغ من غدائه ، قال له القيمّ على المطبخ : ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا . قال الفضل بن الربيع : فحدّثهم و اللّه شريك بعد ذلك ، و علّم أولادهم ، و ولّي القضاء لهم .

و لقد كتب بأرزاقه إلى الجهبذ ، فضايقه في النقص ، فقال له الجهبذ : إنّك لم تبع بزا . قال له شريك : بلى و اللّه لقد بعت أكبر من البز ، لقد بعت ديني ١ .

١٣

الخطبة ( ١٢٤ ) و من كلام له ع لما عوتب على التسوية في العطاء :

أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ اَلنَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَ اَللَّهِ مَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي اَلسَّمَاءِ نَجْماً وَ لَوْ كَانَ اَلْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا اَلْمَالُ مَالُ اَللَّهِ أَلاَ وَ إِنَّ إِعْطَاءَ اَلْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ يَضَعُهُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُكْرِمُهُ فِي اَلنَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَمْ يَضَعِ اِمْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لاَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اَللَّهُ شُكْرَهُمْ وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ اَلنَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٣١٠ .

٤٨٣

فَشَرُّ خَدِينٍ وَ أَلْأَمُ خَلِيلٍ الخطبة ( ١٤٠ ) و من كلام له عليه السلام :

وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ اَلْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ اَلْحَظِّ إِلاَّ مَحْمَدَةُ اَللِّئَامِ وَ ثَنَاءُ اَلْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ اَلْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اَللَّهِ بَخِيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اَللَّهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ اَلْقَرَابَةَ وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ اَلضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ اَلْأَسِيرَ وَ اَلْعَانِيَ وَ لْيُعْطِ مِنْهُ اَلْفَقِيرَ وَ اَلْغَارِمَ وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى اَلْحُقُوقِ وَ اَلنَّوَائِبِ اِبْتِغَاءَ اَلثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ اَلْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ اَلدُّنْيَا وَ دَرْكُ فَضَائِلِ اَلْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ أقول : الأصل فيهما ما رواه الكافي في ( كتاب زكاته ) في باب وضع المعروف موضعه مسندا عن أبي مخنف قال : أتى أمير المؤمنين عليه السلام رهط من الشيعة فقالوا : لو أخرجت هذه الأموال ، ففرّقتها في هؤلاء الرؤساء و الأشراف و فضّلتهم علينا ، حتى إذا استوسقت الامور عدت إلى أفضل ما عوّدك اللّه من القسم بالسوية و العدل في الرعية . فقال عليه السلام : أتأمروني و يحكم أن أطلب النصر بالظلم و الجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام ، لا و اللّه لا يكون ذلك ما سمر السمير ، و ما رأيت في السماء نجما ، و اللّه لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم فكيف و إنّما هي أموالهم .

ثم أرم ساكتا طويلا ثم رفع رأسه فقال : من كان فيكم له مال ، فإيّاه و الفساد ، فإنّ أعطاءه في غير حقّه تبذير و إسراف ، و هو يرفع ذكر صاحبه في النّاس و يضعه عند اللّه ، و لم يضع امرؤ ماله فى غير حقّه و عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم ، و كان لغيره ودّهم ، فإن بقي معه منهم بقيّة ممّن يظهر الشكر له و يريه النّصح فإنّما ذلك ملق منه و كذب ، فإن زلّت بصاحبهم النّعل

٤٨٤

ثمّ احتاج إلى معونتهم و مكافأتهم فآلم خليل و شرّ خدين ، و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و عند غير أهله إلاّ لم يكن له من الحظّ فيما أتى إلاّ محمدة اللئام و ثناء الأشرار ما دام عليه منعما مفضلا ، و مقالة الجاهل ما أجوده و هو عند اللّه بخيل ، فأيّ حظ أبور و أخسر من هذا الحظ ؟ و أي فائدة معروف أقلّ من هذا المعروف ؟ فمن كان منكم له مال فليصل به القرابة و ليحسن منه الضيافة و ليفكّ به العاني و الأسير و ابن السبيل ، فإنّ الفوز بهذه الخصال مكارم الدنيا و شرف الآخرة و روى تحف العقول لابن أبي شعبه ، مثله ١ .

و ما رواه ( أمالي المفيد ) بإسناده عن الثقفي بإسناده عن المدائني بإسناده عن ربيعة و عمارة و غيرهما : إنّ طائفة من أصحاب علي عليه السلام مشوا إليه عند تفرّق النّاس عنه و فرار كثير منهم إلى معاوية طلبا لما في يديه من الدّنيا ، فقالوا له : إعط هذه الأموال ، و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم ، و من تخاف خلافه عليك من النّاس و فراره إلى معاوية .

فقال عليه السلام لهم : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور ، لا و اللّه لا أفعل ما طلعت شمس و لاح في السماء نجم ، و اللّه لو كانت أموالهم لي لواسيت بينهم فكيف و إنّما هي أموالهم ثم أرم عليه السلام طويلا ساكتا ثم قال : من كان له مال فإيّاه و الفساد ، فإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف ، و هو و إن كان ذكرا لصاحبه في الدنيا فهو يضعه عند اللّه عزّ و جلّ ، و لم يضع رجل ماله في غير حقّه و عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه تعالى شكره ، و كان لغيرهم ودّه ، فإن بقي معه من يؤدّه و يظهر له الشّكر فإنّما هو ملق و كذب يريد التقرّب به إليه لينال منه مثل الذي كان يأتي إليه من قبل ، فإن زلت بصاحبه النّعل و احتاج إلى معونته أو مكافأته ، فشرّ خليل و ألأم خدين ، و من صنع المعروف فيما آتاه اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٤ : ٣١ ح ٣ ، و تحف العقول : ١٨٥ .

٤٨٥

فليصل به القرابة و ليحسن فيه الضيافة و ليفكّ به العاني و ليعن به الغارم و ابن السبيل و الفقراء و المجاهدين في سبيل اللّه و ليصبّر نفسه على النوائب و الخطوب ، فإن الفوز بهذه الخصال أشرف مكارم الدنيا و درك فضائل الآخرة . و روى كتاب ( غارات الثقفي ) مثله ١ .

و في ( تاريخ خلفاء ابن قتيبة ) بعد ذكر ترغيبه عليه السلام النّاس للعود إلى صفين و تثبّطهم قام رجال من أصحابه فقالوا : إعط هؤلاء هذه الأموال ،

و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي ممّن يتخوّف خلافه على النّاس و فراقه ، و إنّما قالوا له هذا للذي كان معاوية يصنعه لمن أتاه ، و إنّما عامّة النّاس همّهم الدّنيا ، و لها يسعون و فيها يكدحون ، فاعط هؤلاء الأشراف فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم . فقال عليه السلام :

أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام ، فو اللّه لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، و اللّه لو كان لهم لسوّيت بينهم فكيف و إنّما هي أموالهم ٢ .

قول المصنف في الأوّل : « و من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء » هكذا في ( المصرية و ابن ميثم ) ، و زاد ( ابن أبي الحديد ) عليه « و تصييره النّاس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات و الشرف » ٣ ، لكن الظاهر كونه حاشية خلط بالمتن ، إما في نسخة نهجه أو نسخة الشرح .

و كيف كان فعدله عليه السلام في القسمة بالسويّة و عدم إعطائه من ليس بذي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي المفيد : ١٧٥ ، ح ٦ ، المجلس ٢٢ ، و الغارات ١ : ٧٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الامامة و السياسة ١ : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٩ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٠ .

٤٨٦

حقّ كان سبب نفرة النّاس عنه عليه السلام . روى الطبري في ( ذيله ) عن عطاء ، قال :

قال رجل لأبي عبد الرحمن السّلمي : أنشدك اللّه متى أبغضت عليّا عليه السلام ، أليس حين قسّم قسما بالكوفة فلم يعطك و لا أهل بيتك ؟ قال : أمّا إذا نشدتني اللّه ،

فنعم ١ .

كما إنّ سبب تقدّم معاوية و المتقدّمين عليه السلام مصانعة النّاس على خلاف الدين ، فقد ذكر نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) أنّه : أتى ابن مسروق العكي إلى معاوية في صفّين فقال له : إجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين و من هلك فابن عمّه مكانه لنقرّ اليوم عينك قال : ذلك لك ٢ .

و لما اشترطت عك و الأشعرون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة و العطاء ، فأعطاهم ، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض ، إلاّ طمع في معاوية و شخص بصره إليه ، حتى فشا ذلك ، و بلغ ذلك عليّا عليه السلام فساءه إلى أن قال قال معاوية : و اللّه لأستميلنّ بالأموال أهل ثقات علي ، و لأقسمنّ فيهم المال حتّى تغلب دنياي على آخرته .

و روى المدائني كما نقله ابن أبي الحديد في شرح « و من خطبة له عليه السلام في استنفار النّاس » عن فضيل بن الجعد قال : آكد الأسباب في تقاعد العرب عنه عليه السلام أمر المال ، فإنّه لم يكن يفضّل شريفا على مشروف و لا عربيا على عجمي ، و لا يصانع الرؤساء ، و أمراء القبائل كما يصنع الملوك ، و لا يستميل أحدا إلى نفسه ، و كان معاوية بخلاف ذلك ، فترك النّاس عليّا عليه السلام و التحقوا بمعاوية ، فشكا علي عليه السلام ذلك إلى الأشتر فقال له الأشتر : إنّا قاتلنا أهل البصرة و رأي النّاس واحد ، و قد اختلفوا بعد و تعادوا و ضعفت النيّة و قلّ العدد ، و أنت

ــــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل : ١٤٧ .

( ٢ ) وقعة صفين : ٤٣٣ .

٤٨٧

تأخذهم بالعدل و تعمل فيهم بالحقّ ، و تنصف الوضيع من الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع ، فضجّت طائفة ممّن معك من الحقّ إذ عموا به و اغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه ، و رأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء و الشرف فتاقت أنفس النّاس إلى الدنيا و قلّ من ليس للدنيا بصاحب ،

و أكثرهم يجتوي الحقّ و يشتري الباطل و يؤثر الدّنيا ، فإن تبذل المال تميل إليك أعناق الرجال و تصفو نصيحتهم لك .

فقال عليه السلام : أما ما ذكرت من عملنا و سيرتنا بالعدل ، فإن اللّه تعالى يقول :

من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها و ما ربّك بظلامٍ للعبيد ١ و أنا من أن أكون مقصّرا فيما ذكرت أخوف .

و أما ما ذكرت من أن الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك ، فقد علم اللّه أنّهم لم يفارقونا من جور و لا لجأوا إذ فارقونا إلى عدل ، و لم يلتمسوا إلاّ دنيا زائلة عنهم كانوا فارقوها ، و ليسئلنّ يوم القيامة آلدّنيا أرادوا أم للّه عملوا .

و أما ما ذكرت من بذل الأموال و اصطناع الرجال فإنّه لا يسعنا أن نؤتي أمرا من الفي‏ء أكثر من حقّه و قد قال سبحانه و قوله الحقّ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه ، و اللّه مع الصابرين ٢ ، و قد بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده فكثّره بعد القلّة و أعزّ فئته بعد الذلّة ، و إن يرد اللّه أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه و يسهّل لنا حزنه ، و أنا قابل من رأيك ما كان للّه عزّ و جلّ رضا ، و أنت من آمن النّاس عندي و أنصحهم و أوثقهم في نفسي إن شاء اللّه ٣ .

و روى الإسكافي في ( نقض عثمانيّته ) و قد نقله ابن أبي الحديد في

ــــــــــــــــــ

( ١ ) فصلت : ٤٦ .

( ٢ ) البقرة : ٢٤٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٩٧ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٨٨

شرح قوله عليه السلام « دعوني و التمسوا غيري » إنّه عليه السلام قال بعد بيعة النّاس له و خطبته : ألا ، لا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدّنيا فاتخذوا العقار و فجّروا الأنهار و ركبوا الخيول الفارهة و اتخذوا الوصائف الروقة ، فصار ذلك عليهم عارا و شنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم إلى حقوقهم التي كانوا يعلمون ، فينقمون ذلك و يستنكرون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا . ألا و أيّما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته ، فإنّ الفضل النير غدا عند اللّه و ثوابه و أجره على اللّه . و أيّما رجل استجاب للّه فصدّق ملتنا و دخل في ديننا و استقبل قبلتنا ، فقد استوجب حقوق الاسلام و حدوده ، فأنتم عباد اللّه ، و المال يقسم بينكم بالسوية ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، و للمتقين غدا أحسن الجزاء و أفضل الثواب ، لم يجعل اللّه الدنيا للمتقين أجرا و ثوابا و ما عند اللّه خير للأبرار . و إذا كان غدا فاغدوا علينا ، فإنّ عندنا مالا نقسّمه فيكم و لا يتخلفنّ منكم أحد عربي و لا عجمي ، كان من أهل العطاء أو لم يكن إذا كان مسلما حرّا .

قال : و كان هذا أوّل ما أنكروه من كلامه ، و أورثهم الضغن عليه ،

و كرهوه من القسم بالسويّة ، فلمّا كان من الغد غدا و غدا النّاس لقبض المال .

فقال لعبيد اللّه ابن أبي رافع ( كاتبه ) ابدأ بالمهاجرين ، فنادهم واعط كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، و من يحضر من النّاس كلّهم الأحمر و الأسود فاصنع به مثل ذلك . فقال سهل بن حنيف : هذا غلامي بالأمس و قد اعتقته اليوم . فقال عليه السلام : نعطيه كما نعطيك فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير و لم يفضّل أحدا على أحد .

و تخلّف عن هذا القسم يومئذ طلحة و الزبير و ابن عمر و سعيد بن العاص و مروان و رجال من قريش و غيرها ، و سمع عبيد اللّه بن أبي رافع ابن الزبير يقول لأبيه و لطلحة و مروان و سعيد : ما خفي علينا أمس من كلام علي

٤٨٩

ما يريد . فقال سعيد و التفت إلى زيد بن ثابت إيّاك أعني و اسمعي يا جارة فقال ابن أبي رافع لسعيد و ابن الزبير : إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه و لكنَّ أكثرهم للحقّ كارهون ١ ثم أخبر عليّا عليه السلام بذلك فقال : و اللّه إن بقيت و سلمت لهم لاقيمنهم على المحجّة البيضاء و الطريق الواضح إلى أن قال فقال عمار و أبو الهيثم و أبو أيوب و سهل بن حنيف له عليه السلام : أنظر في أمرك و عاتب قومك هذا الحي من قريش ، فانّهم قد نقضوا عهدك و اخلفوا وعدك ، و قد دعونا في السير إلى رفضك ، و ذلك لأنّهم كرهوا الاسوة و فقدوا الأثرة ، و لما آسيت بينهم و بين الأعاجم أنكروا و استشاروا عدوّك و عظّموه و أظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة و تألّفا لأهل الضلالة . فخرج علي عليه السلام فدخل المسجد و صعد المنبر مرتديا بطاق مؤتزرا ببرد قطري ، متقلّدا سيفا متوكّيا على قوس ، فقال :

« هذا كتاب اللّه بين أظهرنا و عهد رسول اللّه و سيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلاّ جاهل ، عامد عن الحقّ ، منكر ، قال تعالى يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ٢ ثم صاح بأعلى صوته ، أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول فإن توليتم فإنّ اللّه لا يحبّ الكافرين .

ثم قال : يا معشر المهاجرين و الأنصار ، أتمنّون على اللّه و رسوله بإسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين . ثم قال : أنا أبو الحسن و كان يقولها إذا غضب إلى أن قال : فأمّا هذا الفى‏ء فليس لأحد على أحد فيه أثرة و قد فرغ اللّه من قسمته فهو مال اللّه ، و أنتم عباد اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الزخرف : ٧٨ .

( ٢ ) الحجرات : ١٣ .

٤٩٠

المسلمون و هذا كتاب اللّه به أقررنا و له أسلمنا و عهد نبينا بين أظهرنا ، فمن لم يرض به فليتولّ كيف شاء ، فانّ العامل بطاعة اللّه و الحاكم بحكم اللّه لا وحشة عليه إلى أن قال : قال عليه السلام لطلحة و الزبير في جملة كلام طويل فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي ؟ قالا : خلافك عمر بن الخطاب في القسم ، إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا و سوّيت بيننا و بين من لا يماثلنا فيما أفاءه اللّه تعالى بأسيافنا و رماحنا و أوجفنا عليه بخيلنا ، و ظهرت عليه دعوتنا و أخذناه قسرا عمّن لا يرى الإسلام إلاّ كرها . فقال عليه السلام لهما : أما القسم و الاسوة ، فان ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء ، و قد وجدت أنا و أنتما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحكم بذلك و كتاب اللّه ناطق به ، و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، و أمّا قولكما جعلت فيئنا و ما أفاءته سيوفنا و رماحنا سواء بيننا و بين غيرنا ، فقديما سبق إلى الاسلام قوم و نصروه بسيوفهم و رماحهم ، فلا يفضّلهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في القسم و لا آثرهم بالسّبق ، و اللّه سبحانه موف السابق و المجاهد يوم القيامة أعمالهم ، و ليس لكما و اللّه عندي و لا لغير كما إلاّ هذا ١ .

قوله عليه السلام « أ تأمروني أن أطلب النصر » على الأعداء « بالجور في من ولّيت عليه » بأن أعطي مال الضعفاء للأقوياء . كلامه هذا دالّ على أن عدم التسوية جور و ظلم ، و أنّ إحداث عمر لذلك أحد بدعه في الدين ، خلافا لكتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما عرفت تفصيله ، و إنّ طلحة و الزبير قالا له خالفت في ذلك عمر ، فقال عليه السلام بأنّه لم يكن أوّل من خالف عمر ، بل خالفه قبله كتاب اللّه تعالى و سنّة رسوله ، إلاّ أنّه أين من ألقى السمع و هو شهيد ؟

و من العجب هنا قول ابن أبي الحديد إنّ رأي علي و أبي بكر في المسألة

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٣٧ ٤٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٩١

واحد و إليه ذهب الشافعي ، و أمّا عمر ففضّل السابقين على غيرهم ، و مهاجري قريش على غيرهم ، و المهاجرين على الأنصار ، و العرب على العجم ، و الصريح على المولى ، و قد كان عمر أشار على أبي بكر أيام خلافته بذلك ، فلم يقبل أبو بكر ، فعمل عمر بها في أيّامه . و ذهب كثير من الفقهاء إلى قول عمر ، و للإمام أن يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، و إن كان اتّباع علي عندنا لا سيما إذا عضدته موافقة أبي بكر أولى ، و إن صحّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سوّى فقد صارت المسألة منصوصا عليها لأنّ فعل النبي كقوله .

فإن كان فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التسوية ممّا لا ريب فيه ، و قد كان أمير المؤمنين عليه السلام يستدل به من يوم قام بالأمر إلى يوم وفاته ، فكيف فكانوا يطلبون ذلك منه مرّة بعد اخرى يوم بايعوه ، و في الجمل و صفين ، و بعدهما و الأخبار في طلبهم المتكرّر منه بذلك متواترة ، و قد عرفت رواية الإسكافي أنّه عليه السلام لما قال لطلحة و الزبير ما الذي نقمتما علي ؟ فقالا له : خلافك عمر في القسم ، قال عليه السلام لهما : قد وجدت أنا و أنتما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحكم بذلك .

و لكون حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فعله بالتسوية واضحين لم يجترئ أبو بكر على المخالفة مع إشارة عمر عليه بذلك و خاف طعن النّاس عليه ، كما أن حكم الكتاب بذلك أيضا واضح و قد مرّت آياته .

و ذكر ( تاريخ اليعقوبي ) أنّه بعد فتحه عليه السلام يوم الجمل ما نصّه : و أعطى علي عليه السلام النّاس بالسوية لم يفضّل أحدا على أحد ، و أعطى الموالي كما أعطى الصليبة ، و قال قرأت ما بين الدفتين فلم أجد لولد اسماعيل على ولد إسحق فضل هذا و أشار إلى عود أخذه من الأرض فوضعه بين أصبعيه ١ .

و لم ينحصر اجتهاد فاروقهم في مقابل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسألة

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٣ .

٤٩٢

التسوية ، بل اجتهد في مقابل قوله حين وفاته « إيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم ما لا تضلّوا بعده أبدا » بأن طلبه لدواة و صحيفة هجر و هذيان ١ ، كما اجتهد هو و صدّيقهم في قبال قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « جهّزوا جيش أسامة لعن اللّه من تخلّف عنه » ٢ بأنّا لا تطيب أنفسنا أن نفارقه و نسأل عنه الركبان و لعمر اللّه إنّ دين إخواننا ، دين أبي بكر و عمر ، لا دين اللّه و دين رسوله ،

لأنهم دائرون مدارهما ، فما قبلاه من الكتاب و السنّة يقبلوه و ما خالفاه منهما يخالفوه أ ليس الثاني قال لهم « متعتان كانتا على عهد النبي و أنا احرّمهما » ٣ فحرّموهما ؟

و لأنّهم على دينهما دون دين اللّه و كتابه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكترثوا بأقواله عليه السلام و ان خالفا الكتاب و السّنّة على وجه العموم أو الخصوص ، فلقد طوى عليه السلام كشحه عن حقّه الثابت بصريح العقل و صحيح النقل يوم الشورى لمّا اشترطوا عليه سنّة الرجلين لينبّههم على حقيقة الأمر ، و كذلك أفصح عليه السلام عن الأمر في بيعة أصحابه الثانية معه بعد انفصال الخوارج عنهم ، فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي و كان شهد معه الجمل و صفين و معه راية خثعم فقال له : بايع على كتاب اللّه و سنّة رسوله ، و على سنّة أبي بكر و عمر .

فقال عليه السلام له : ويلك لو أن أبا بكر و عمر عملا بغير كتاب اللّه و سنّة رسوله لم يكونا على شي‏ء . ثم قال له : أما و اللّه لكأنّي بك و قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، و كأنّي بك و قد وطئتك الخيل بحوافرها . فقتل يوم النهر و قد وطأته

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه البخاري في صحيحه ١ : ٣٢ و ٤ : ٧ و ٢٧١ ، و مسلم في صحيحه ٣ : ١٢٥٩ ح ٢٢ و غيرها .

( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٧٥ ، و الشهرستاني في الملل ١ : ٢٩ و غيرهما .

( ٣ ) أخرجه الطحاوي في معاني الآثار و أبو صالح كاتب الليث في نسخته ، عنهما منتخب كنز العمال ٦ : ٤٠٤ ، و غيرهما بلفظ « أنا أنهي عنهما » .

٤٩٣

الخيل و سوّته بالأرض كما في ( تاريخ الطبري ) و ( الخلفاء ) ١ ، إلاّ أنّه عليه السلام و إن بيّن في أكثر من موضع ، و لكنّ اللّه تعالى قال لنبيّه : و ما أنت بمسمع من في القبور ٢ .

هذا ، و روى الصولي في ( أدب كتّابه ) تفصيل تفضيله عن عوانة ، و تسميته أزواج النبي آله ، و تفضيل عائشة على البواقي لكونها المؤسسة لأمرهم و إمارتهم ، و جعل أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو كنفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كبني اميّة أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جعل بني امية أقارب النبي كبني هاشم . ففي خبره ثم كثر المال على عمر فقالوا : بمن تبدأ ؟ قال : أشيروا علي . فقالوا : إبدأ بنفسك . فقال : بل بآل رسول اللّه . فكتب عائشة في اثني عشر ألفا في كلّ سنة و كتب سائر أزواج النبي في عشرة آلاف لكلّ واحدة ، و كتب بعد ازواج النبي عليّا في خمسة آلاف و من شهد بدرا من بني هاشم و من مواليهم ، ثم كتب عثمان بن عفّان في خمسة آلاف و من شهد بدرا من بني امية و مواليهم على حدّ سواء .

ثم قال : قد بدأت بآل النبي و أقاربه ، فبمن ترون أن نبدأ بعدهم ؟ قالوا :

بنفسك . قال : بل بآل أبي بكر . فكتب طلحة في خمسة آلاف و بلالا في مثلها .

ثم قال للناس : بمن أبدأ ؟ قالوا : بنفسك . قال : صدقتم فكتب لنفسه و لمن شهد بدرا من بطون قريش خمسة آلاف خمسة آلاف ، ثم كتب لمن شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف ، فقالوا : قد قصّرت بنا عن إخواننا المهاجرين . قال : لا أجعل الذين قال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من اللّه و رضوانا و ينصرون

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٦ ، سنة ٣٧ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٤٦ .

( ٢ ) فاطر : ٢٢ .

٤٩٤

اللّه و رسوله أولئك هم الصادقون ١ كمن كانت الهجرة في داره ، فرضوا .

ثم كتب لمن شهد أحدا بثلاثة آلاف لكلّ واحد منهم ، ثم فرض لمن شهد فتح مكة في ألفين ألفين .

و يظهر من التدبّر فيه امور أشرنا إلى بعضها : منها أنّ قوله « إبدأ بآل الرسول » كان إنكارا لآل الرسول و حطّا لمرتبتهم و سترا لفضائلهم ، فهل عائشة و كذا ابنته اللتان قال تعالى فيهما و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير ٢ و قال جلّ و علا فيهما : ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط ٣ هما آل الرسول ، دون أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنصّ القرآن و تصريح الرسول ، و دون الحسنين عليهما السلام اللذين هما ابنا النبي بنصّ القرآن ، و أقرب الخلق إلى اللّه منذ طفولتيهما حيث باهل بهما ، و سيدا شباب أهل الجنّة في متواتر قول النبي ٤ فأعطى عائشة اثنى عشر و ابنته عشرا و أمير المؤمنين عليه السلام خمسا ، فعل ذلك بعائشة شكرا لها على فعلها لتمهيدها الأمر له و لصاحبه يوم وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، كما مهّد هو لها برفع درجتها و كونها من آل رسول اللّه ممّا جرّأها على أن تقوم يوم الجمل في مقابل أمير المؤمنين عليه السلام ، كما انّه جعل بني اميّة كبني هاشم في كونهما من أقارب النبي تمهيدا لانتقال الأمر إلى عثمان إلى السفيانية ثم إلى المروانية ، كما انّه جمع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الحشر : ٨ .

( ٢ ) التحريم : ٤ ، و قد أضاف ( عمر ) واوا عليها .

( ٣ ) التحريم : ١٠ .

( ٤ ) قوله تعالى في آل عمران : ٦١ ، و حديث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنّة » الذي أخرجه الترمذي في سننه ٥ : ٦٥٦ و ٦٦٠ ح ٣٧٦٨ و ٣٧٨١ ، و ابن ماجة في سننه ١ : ٤٤ ح ١١٨ ، و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٦٦ و ١٦٧ ، و غيرهم .

٤٩٥

يوم الشورى بينه عليه السلام و هو أوّل مجاهد عن اللّه تعالى و رسوله و بين عثمان و هو أوّل محام عن بني اميّة أعداء اللّه و أعداء رسوله و أعداء دينه لكونهما من بني عبد مناف .

ثمّ لم حط الأنصار عن المهاجرين و كانا كفرسي رهان ، قال تعالى فيهما :

و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار ١ لقد تاب اللّه على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة ٢ ، فإن فضّل المهاجرين لما تلاه ، فقد قال تعالى في الأنصار : و الّذين تبوّؤا الدار و الإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ٣ .

ألم يقل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم حنين لما بذل غنائم حنين في المؤلفة من قريش و غيرهم ، و لم يعط الأنصار شيئا ، فوجدوا في أنفسهم حتى قال بعضهم :

لقي رسول اللّه قومه ، فأمر سعد بن عبادة فجمعهم و قال لهم : مقالة بلغتني عنكم و موجدة وجدتموها في أنفسكم ألم آتكم ضلاّلا فهداكم اللّه و عالة فأغناكم اللّه و أعداءا فألّف اللّه بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى . فقال : ألا تجيبوني ؟

قالوا : و بماذا نجيبك و للّه و لرسوله المنّ و الفضل قال : أما و اللّه لو شئتم لقلتم فصدقتم و لصدّقتم ، أتيتنا مكذّبا فصدقناك ، و مخذولا فنصرناك ،

و طريدا فآويناك ، و عائلا فآسيناك ، وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، و وكلتكم إلى اسلامكم ، أفلا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ١٠٠ .

( ٢ ) التوبة : ١١٧ .

( ٣ ) الحشر : ٩ .

٤٩٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس بالشاء و البعير و ترجعون برسول اللّه إلى رحالكم ، فو الذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت أمرءا من الأنصار ، و لو سلك النّاس شعبا ، و سلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار ، اللّهمّ ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم و قالوا : رضينا برسول اللّه قسما و حظا الخ ١ .

و قال صلّى اللّه عليه و آله في الأنصار ما لم يقله في المهاجرين ، فلو اريد الترجيح كان الترجيح لهم ، و قد كان أبو بكر مقرّا لهم بذلك ففي صدر خبر عوانة الذي رواه الصولي « إنّ مالا من البحرين جاء إلى أبي بكر فساوى فيه بين النّاس ،

فغضبت الأنصار و قالوا له : فضّلنا . فقال لهم : صدقتم ، إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتم للدنيا . و اللّه يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا : إنّا آويناكم و شاركناكم في أموالنا و نصرناكم بأنفسنا لقلتم ، و إنّ لكم من الفضل ما لا نحصيه عددا الخبر .

مع إنّ قول عمر « لا أجعل من قال اللّه فيه ما قال ، كمن كانت الهجرة في داره » مغالطة ، فهل كانت هجرة المهاجرين إلاّ فرارا من شدّة كانوا فيها و هو أمر يفعله جميع النّاس ، إلاّ أنّ ما فعله الأنصار من إشراك المهاجرين في أموالهم و ديارهم لا يفعله إلاّ الأوحدي من النّاس ، مع أنّ الآية التي تلاها إنّما هي : للفقراء المهاجرين ٢ ، و هو أراد تفضيل الأغنياء ابن عوف و طلحة و الزبير و عثمان و نظرائهم ، إلاّ إنّه حرّف الآية إثباتا لهواه فقال « للفقراء و المهاجرين » .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الواقدي في المغازي ٢ : ٩٥٦ ، و ابن هشام في السيرة ٤ : ١٠٦ ، و الطبري في تاريخه ٣ : ٣٦١ سنة ٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الحشر : ٩ .

٤٩٧

لكن عمل معهم ذاك العمل لأن رئيسهم ، سعد بن عبادة ، لم يبايعهم و كان هواهم مع أمير المؤمنين عليه السلام ، حتى أراد هو و صاحبه ألا يوليا أحدا منهم لذلك . ففي تاريخ اليعقوبي بعد ذكر مشورة أبي بكر مع عمرو بن العاص في خروج طليحة عليه ، و وصف عمرو له رجالا من قريش للإمارة لدفعه ،

و لا سيما ، خالد بن الوليد و تركه ذكر الأنصار فقام ثابت بن قيس الأنصاري و قال : يا معشر قريش ، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له ، أما و اللّه ما نحن عميا عمّا نرى و لا صمّا عمّا نسمع ، و لكن أمرنا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر ، فنحن نصبر . و قام حسّان فقال :

يا للرجال لخلفة الأطوار

و لما أراد القوم بالأنصار

لم يدخلوا منّا رئيسا واحدا

يا صاح في نقض و لا امرار ١

« و اللّه ما » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « لا » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٢ « أطور به » أي : لا أحوم حوله و لا أدنو منه « ما سمر سمير » قال الجوهري : السمر : اسم الحديث بالليل « و لا أفعله السمر و القمر » أي : ما دام النّاس يسمرون في ليلة قمراء ٣ . و قال ابن دريد : « لا اكلّمه السمر و القمر » أي : ما أظلم الليل و طلع القمر ، ثمّ كثر في كلامهم حتى سموا الليل و النّهار ابني سمير ، و من أمثالهم « لا أكلّمه ما سمر ابنا سمير » أي : ما اختلف الليل و النّهار ٤ .

« و ما أمّ » أي : قصد « نجم في السماء نجما » و قال بعض المتأخرين « لا أفعله ما طلع النجم في الخضراء و نجم الطلع في الغبراء » .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٩ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٩ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ١٠٣ « ما » .

( ٣ ) صحاح اللغة ٢ : ٦٨٨ ، مادة ( سمر ) .

( ٤ ) جمهرة اللغة ٢ : ٣٣٧ .

٤٩٨

و قال زهير :

و لو لا ظلمة ما زلت أبكي

سجيس الدهر ما طلع النجوم

و الجملتان في كلامه عليه السلام « ما سمر سمير و ما أمّ نجم نجما » كنايتان عن الدّوام ، و نظيرهما في الكناية عنه قولهم « سجيس عجيس » و قولهم « ما غبا غبيس » ، قال :

فاقسمت لا آتي ابن ضمرة طائعا

سجيس عجيس ما أبان لساني

أيضا :

و في بني أمّ زبير كيس

على الطعام ما غبا غبيس ١

« لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف و إنّما المال مال اللّه » يعني إنّه عليه السلام لا يرتكب ما يكون خلاف المروة و مكارم الأخلاق مع إباحته ، فكيف يمكن ارتكابه محظورا من اللّه تعالى في شريعته .

« ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير » و الأصل فيه بذر الحبّ في الأرض ،

و قال تعالى : و لا تبذّر تبذيرا . إنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربّه كفورا ٢ .

« و إسراف » و لا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين ٣ قيل الأصل فيه « سرف » إذا أكلته السرفة ، يقال : يفعل السرف بالنشب ، ما يفعل الشرف بالخشب .

« و هو » أي : إعطاء المال في غير حقّه « يرفع صاحبه في الدنيا » عند أهلها كما فعل عمر « و يضعه في الآخرة » لمسؤوليته ، ثمّة « و يكرمه في النّاس و يهينه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أوردها لسان العرب ٦ : ١٠٤ و ١٥٣ ، مادة ( سجس ) و ( غبس ) .

( ٢ ) الاسراء : ٢٦ ٢٧ .

( ٣ ) الانعام : ١٤١ .

٤٩٩

عند اللّه » فعثمان تبع عمر في التفضيل و زاد عليه بما لا حساب له ، فلذا كانت قريش تحبّه حبّ العاشق للمعشوق . قال الشاعر :

أحبك آن و الرحمن

حبّ قريش عثمان

« و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و لا عند » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

« و عند » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ « غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودّهم » كما أنّ من لم يضع ماله في حقّه و عند أهله اضطره اللّه أن يضع أضعافه في غير محلّه ، فمن لم ينفق درهما في حقّ ينفق درهمين في باطل .

« فان زلّت به النّعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين » أي : صديق « و ألأم خليل » كما في أعطية عثمان لطلحة و غيره ، ففي ( تأريخ الطبري ) : لمّا حصر النّاس عثمان كان أشدّ النّاس عليه طلحة ، و قد كان وهب له خمسين ألفا » ٢ .

هذا ، و قد عرفت ممّا نقلنا من أسانيد العنوان أنّ الثاني جزء الأوّل و تتمّته .

قوله عليه السلام في الثاني « و ليس لواضع المعروف في غير حقّه و عند غير أهله من الحظّ » أي : النصيب « إلاّ » هكذا في ( المصرية ) ، و فيها سقط و الأصل « فيما أتى إلاّ » كما يشهد به ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٣ « محمدة » أي :

حمد « اللئام و ثناء الأشرار و مقالة » أي : قول « الجهال ما دام منعما عليهم » و لم يتخلّله قطع « ما أجود يده » مقول المقالة ، أي : الجهال يقولون ما أجوده ما دام لم يقطع عنهم يده .

« و هو عن ذات اللّه بخيل » قد عرفت أنّ ( الكافي ) نقله « و هو عند اللّه بخيل » ٤ ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٩ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ١٣١ نحو المصرية .

( ٢ ) جاء هذا المعنى في تاريخ الطبري ٣ : ٤١١ ، سنة ٣٥ .

( ٣ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٧٤ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ١٨٠ نحو المصرية .

( ٤ ) الكافي ٤ : ٣٢ .

٥٠٠