العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام0%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: الصفحات: 230
المشاهدات: 87309
تحميل: 4124

توضيحات:

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87309 / تحميل: 4124
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حازت المجد والشرف بذلك، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتها له.

وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه، وجاءته بالضياء والطعام، فأبى أن يأكل، فقد مزّق الأسى قلبه الشريف، وأيقن بالرزء القاصم، وتمثّلت أمامه الأحداث التي سيواجهها، وقد شغل فكره الإمام الحسينعليه‌السلام الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.

ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته، فأنكر عليها ذلك، وسألها عن السبب فأبت أن تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان والمواثيق بالكتمان، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها، وينال الجائزة منها، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الأعراف، والأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف، وحمايته من كل مكروه، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر الجاهلي، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الأخلاقية والانسانية ليس عنده فحسب، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الإنسان من القيم الكريمة.

وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام حياته، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به، فعند ذلك أيقن بدنوّ

١٤١

الأجل المحتوم منه.

الإفشاء بمسلم:

ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الإمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث وهو من الأسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً، فأسره بالأمر، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة، وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالأمر الخطير، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً:

« ما قال لك: عبد الرحمن؟.. ».

فقال وقد ملأ الفرح اهابه:

« أصلح الله الأمير البشارة العظمى ».

« ما ذاك؟ مثلك من بشّر بخير ».

« إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة ».

وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة، وأخذ يمني ابن الأشعث بالمال والجاه المزيّف، قائلاً له:

« قم فأتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى ».

وسال لعاب ابن الأشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لإلقاء القبض على مسلم.

١٤٢

الهجوم على مسلم:

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، محمد بن الأشعث، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية، وينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم.

ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، وتقلّد سيفه، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم.

واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم، وأخرجهم من الدار، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين، عدا الجرحى، وكان من قوته النادرة، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الإنسانية مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوة، وليس ذلك غريباً عليه، فعمّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أشجع الناس، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من

١٤٣

فوق سطوح بيوتهم، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم، ولكنها كانت في الأزقة والشوارع، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم، فقد أشاع فيه القتل والدمار، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم، وبهر الطاغية، وأخذ يندد بقيادة ابن الأشعث قائلاً:

« سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة ».

وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً:

« أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام ». وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز:

أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا

وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

أو يخلط البارد سخناً مرّا

ردّ شعاع الشمس فاستقرا

كلّ امرئ يوماً يلاقي شرّاً

أخاف أن أكذب أو أغرا

أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الأباة والأحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة، ورفعت شعار الحرية، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان، وخضعوا للعبودية والذل، لقد أردت أن تحررهم، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة، فأبوا ذلك، وعدوا عليك يقاتلونك، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم، ومقومات حياتهم.

١٤٤

ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً:

« إنّك لا تكذب، ولا تخدع، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك، ولا ضاريّك ».

فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين من بين يديه، وهو يحصد رؤوسهم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم:

« ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة، كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار، ويلكم أما ترعون حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذريته ».

إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الأمم والشعوب، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.

وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار، وضاق بابن الأشعث أمره، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً:

« يا بن عقيل لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي ».

ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء، فردّ عليه قائلاً:

« يا بن الأشعث لا أعطي بيدي أبداً، وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً ».

وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب، وأخذ العطش

١٤٥

القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً، فجعل يقول:

« اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي ».

وتكاثرت الجنود على مسلم، وقد استولى عليهم الرعب والخوف، وصاح بهم ابن الأشعث:

« إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة ».

فحمل الأوغاد اللئام على مسلم، وجعلوا يطعنونه برماحهم، ويضربونه بسيوفهم، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى السفلى، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

أسره:

وأعيى مسلماً نزيف الدم، وقد أثخن بالجراح، فانهارت قواه، ولم يتمكّن على المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الأقزام، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن، ويحررهم من جور الأمويين وظلمهم، وطار ابن مرجانة فرحاً، فقد ظفر بخصمه، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلى عبد الأمويين وعميلهم، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته، وأعطته العهود والمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك، وراحوا يقاتلونه.

وانتهى بمسلم إلى قصر الامارة، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد، فالتفت إلى من حوله فقال لهم:

١٤٦

« اسقوني من هذا الماء ».

فانبرى له اللئيم الدنس عميل الأمويين مسلم بن عمرو الباهلي، فقال له:

« أتراها ما أبردها، والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم ».

ودلّت هذه البادرة وغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الإنسانية، ومن المؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الأنبياء والمصلحين، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له:

« من أنت، ».

فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً:

« أنا من عرف الحق، إذ تركته، ونصح الأمة والامام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو الباهلي ».

أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي، وهو والأكثرية الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه، قد غرقوا في الباطل والمنكر ان غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً:

« لامك الثكل، ما أجفاك وأفظّك، وأقسى قلبك، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي ».

وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح، وناوله إلى مسلم، وكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً، فقال: لو كان لي الرزق المقسوم لشربته.

١٤٧

مع ابن مرجانة:

وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة، فسلّم على الحاضرين، ولم يسلّم عليه، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً:

« هل تسلّم على الأمير؟ ».

فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولأميره قائلاً:

« اسكت لا أمّ لك، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه »

وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول:

« لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّك مقتول ».

إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار، وهي محالاً تخيف الأحرار أمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الأمة، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بين مسلم، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته، وعدم انهياره أمام الطاغية، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ.

إلى الرفيق الأعلى:

والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم فقال له: خذ مسلماً، واصعد به إلى أعلى القصر، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم، فقد بقي رابط الجأش، قويّ العزيمة، مطمئنّ النفس، فصعد به إلى أعلى القصر، وهو يسبّح الله، ويقدّسه، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه، ورمى بجسده ورأسه إلى الأرض،

١٤٨

وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، ودفاعاً عن كرامة الإنسان، وقضاياه المصيرية، وهو أوّل شهيد من الأسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين، ولم يهبوا لإنقاذه والدفاع عنه.

إعدام هانئ:

وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم، بإعدام الزعيم الكبير، والعضو البارز في الثورة هانئ بن عروة، فأخرج من السجن، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً:

« وامذحجاه ».

« واعشيرتاه ».

ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لإنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالأب، والذي قدّم لها جميع الخدمات، ولكنها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً، ولا عهد لها بالشرف والكرامة.

وجيء بهانئ إلى ساحة يباع فيها الأغنام، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الإعدام، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدم الشهادة لقد استشهد هانئ دون مبادئه وعقيدته، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الإسلام.

السحل في الشوارع:

وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانئ في الشوارع والأزقة، وذلك لإخافة العامة وشيوع الإرهاب بين

١٤٩

الناس، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والأمن والرخاء بين الناس، وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الأحكام العرفية في بلادهم، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة، ويأخذ البريء بالمذنب، كما فعل أبوه زياد من قبل، وقد ساقهم كالأغنام لأفظع جريمة عرفها التأريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسينعليه‌السلام .

* * *

١٥٠

إلى أرض الشهادة

١٥١

١٥٢

وغادر الإمام الحسينعليه‌السلام مكّة، ولم يمكث فيها، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الإرهابيين لاغتياله، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام، وفي الشهر الحرام، وبالإضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة، وان أهلها يترقّبون قدومه، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.

وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيتعليهم‌السلام الذين يمثّلون القوة والعزم والإباء، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضلعليه‌السلام فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.

وواصل الإمام سيرته الخالدة، وقد طافت به هواجس مريرة، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب، فسلّم عليه وحيّاه، وقال له:

« بأبي أنت وأمّي يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أعجلك عن الحجّ؟ ».

١٥٣

فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً:

« لو لم أعجل لأخذت ».

وسارع الإمام قائلاً:

« من أين أقبلت؟ »

« من الكوفة ».

« بيّن لي خبر الناس »

كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة، وانّها لا تبشّر بخير، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً:

« على الخبير سقطت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء وربّنا كل يوم هو في شأن ».

واستصوب الإمام حديث الفرزدق، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة، وانه ماضٍ قدماً في جهاده، وذبّه عن حرمة الإسلام، فان نال ما يرومه فذاك، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له:

«صدقت لله الأمر من قبل، ومن بعد، يفعل الله ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته، والتقوى سريرته » وأنشأ الإمام هذه الأبيات :

لئن كانت الدنيا تعدّ نفيسة

فـدار ثواب الله أعلى وأنبل

وان كانت الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل

وان كانت الأرزاق شيئاً مقدراً

فقلة سعي المرء في الرزق أجمل

وان كانت الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

١٥٤

ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد، والشهادة في سبيل الله.

إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته، والالتحاق بموكبه، واختار الحياة على الشهادة، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.

وصول النبأ بمقتل مسلم:

وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى ( زرود ) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة، فلمّا رأى الامام الحسينعليه‌السلام عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان، والمنذر بن المشمعل الأسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله، فأدركاه، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما: إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالإمام، فلما نزل الثعلبية قالا له:

« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية، وان شئت سرّاً ».

ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين فقال:

« ما دون هؤلاء سرّ ».

١٥٥

« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس؟ »

« نعم وأردت مسألته ».

« والله استبرأنا لك خبره، وهو أمرؤ منّا ذو رأي، وصدق، وعقل، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم، وهانئ ورآهما يجرّان في الأسواق بأرجلهما ».

وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع، وانفجروا بالبكاء واللوعة، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء، وسالت الدموع كالسيل، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم:

« ما ترون فقد قتل مسلم؟ ».

ووثبت الفتية كالأسود، وهي تعلن استهانتها بالموت، وسخريتها من الحياة، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين:

« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم ».

راح أبو الأحرار يقول بمقالتهم:

« لا خير في العيش بعد هؤلاء ».

وقال متمثلاً:

« سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

فان مُتّ لم أندم وإن عشت لم ألم

كفى بك عاراً أن تذل وترغما »

لقد مضيت ـ يا أبا الأحرار ـ قدماً إلى الموت، بعزم وتصميم، وأنت مرفوع

١٥٦

الرأس، ناصع الجبين في سبيل كرامتك، ولم تخضع، ولم تلن لأولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.

النبأ المفجع بشهادة عبد الله:

وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل، فقد ألقت الشرطة القبض عليه، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس:

« اصعد المنبر، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب، حتى أرى رأيي فيك ».

وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الأمة، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً:

« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ ».

واسترسل في خطابه الثوري، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والذبّ عنه، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم، وسلب حريته وإرادته، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر، فأخذته الشرطة، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق من الحياة، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.

١٥٧

ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك، ويئس من الحياة، وعلم أنّه يسير نحو الموت، وأمر بجمع أصحابه، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً:

«أمّا بعد: فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام ».

وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.

لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.

لقد كان الإمامعليه‌السلام ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر.

الالتقاء بالحرّ:

وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها، ففعلوا ذلك، وسارت القافلة، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير، فاستغرب الامام منه، وقال له:

« لمَ كبّرت؟ »

١٥٨

« رأيت النخل ».

وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممن عرف الطريق، فقال له:

« ليس ها هنا نخل، ولكنها اسنّة الرماح، وآذان الخيل » ...

وتأمّلها الإمام، فطفق يقول: وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه فقال لأصحابه:

« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه، فنجعله وراء ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد ».

وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له:

« بلى هذا ذو حُسم(١) إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فان سبقت إليه فهو كما تريد ».

ومال موكب الإمام إليه، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام، وإلقاء القبض عليه، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ، فرقّ عليهم الإمام، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء، ويرشفوا خيولهم، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً، أو أربعاً، أو خمساً، عزلت، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.

__________________

(١) ذو حسم: ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك.

١٥٩

لقد تكرّم الإمامعليه‌السلام على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل، ولم تهزّهم هذه الأريحية وهذا النبل، فقابلوه بالعكس، فمنعوا الماء عنه، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.

خطاب الإمام في الجيش:

وخطب الإمامعليه‌السلام خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الأمويين وظلمهم، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام، وهذه فقرات من خطابه الشريف:

« أيّها الناس، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ، وإليكم، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم ».

وأحجموا عن الجواب لأن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.

وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الإمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له:

« أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ ».

فقال الحرّ بأدب:

١٦٠