العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام0%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: الصفحات: 230
المشاهدات: 87310
تحميل: 4125

توضيحات:

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87310 / تحميل: 4125
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

« بلى نصلّي بصلاتك ».

وائتمّ الجيش بريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسينعليه‌السلام خطاباً رائعاً، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:

«أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فان أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ».

لقد دعاهم إلى تقوى الله، ومعرفة أهل الحقّ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لأنفسهم، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيتعليهم‌السلام روّاد الشرف والفضيلة، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله، وإذا لم يستجيبوا لذلك، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.

وانبرى إليه الحرّ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام فقال له:

« ما هذه الكتب التي تذكرها؟ ».

فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ، فبهر منها، وجعل يتأمّل فيها، وقال للإمام:

« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ».

١٦١

ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ، وقال له:

« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد ».

ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية، فثار في وجه الحرّ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك ».

وأمر الإمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك، فصاح به الحسين:

« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟ ».

واطرق الحرّ برأسه إلى الأرض، وتأمّل، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:

« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه ».

وسكن غضب الامام، وأعاد عليه القول:

« ما تريد منّا ..؟ ».

« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد ».

« والله لا أتبعك ».

« إذن والله لا أدعك ».

وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده، فقال للإمام:

« إنّي لم أُؤمر بقتالك، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».

١٦٢

واتفقا على هذا الأمر فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسية، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.

خطاب الإمام:

وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:

« أيّها الناس: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » ..

« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممن غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني، ولا تخذلوني، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكن فيَّ أسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم ».

وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على

١٦٣

حكومة يزيد، وانّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصية الخاصة، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله، وينكث عهده، ويخالف سنّة رسوله، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره، كما ندّدعليه‌السلام بالأمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا حدود الله، والإمامعليه‌السلام أحقّ وأولى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون، ولما أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:

« أنّي أذكرك الله في نفسك، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ».

وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:

« أبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول: كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أين تذهب، فانّك مقتول، فقال له:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً

ووآس الرجال الصالحين بنفسه

وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

١٦٤

ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويين وجورهم:

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ:

وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء، وهي تارة تتيامن، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية، ويدفعونه تجاه الكوفة، والركب يمتنع عليهم، وبينما هم كذلك، وإذا براكب يجدّ في سيره، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ، فسلّم الخبيث على الحرّ، ولم يسلّم على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:

« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن، ولا على غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام ».

وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الإمام، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث، وانقلاب الأوضاع إليه ان وصل الإمام إلى الكوفة، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.

وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء، فامتنع عليه الحرّ لأن نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الإمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ، فامتنع عليه الإمام، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.

١٦٥

في كربلاء

وكان ركب الإمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:

«ما اسم هذا المكان ؟ ».

«كربلاء ».

وفاضت عيناه بالدموع، وراح يقول:

«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ».

وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً:

«هذا موضع كرب وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا ».

وسارع أبو الفضل العباس مع الفتية من أهل البيتعليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي، ومخدرات النبوة، وقد خيّم عليهنّ الرعب، وأيقن بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض.

ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً:

«اللهمّ انّا عترة نبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخرجنا، وطردنا، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين ».

١٦٦

وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه، فقال لهم:

«الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون ».

يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا، وعبيد السلطة، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.

ثم حمد الامامعليه‌السلام الله وأثنى عليه، والتفت إلى أصحابه قائلاً:

«أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت، وتنكّرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (١) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما »(٢) .

لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن

__________________

(١) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.

(٢) حياة الإمام الحسين ٣: ٩٨.

١٦٧

القين وهو من أفذاذ الأحرار فقال له:

« سمعنا يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ».

ومثلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتفاني في سبيله، وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير الذي وهب حياته لله، فقال له:

يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة ».

ولا يوجد في البشرية مثل هذا الإيمان الخالص، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله.

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه، فقال:

« أنت تعلم أن جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقدر أن يشرب الناس محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل، حتى قبضه الله إليه، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه، فسر بنا راشداً معافى، مشرقاً، ان شئت أو مغرباً، فوالله ما اشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا،

١٦٨

وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك »(١) .

دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع، وإدراكه العميق للأحداث ودراسته لأبعادها فقد أعرب أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الإسلام على ألسنتهم، وكانوا يبغون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون، وحال الإمام الحسينعليه‌السلام كحال جدّه وأبيه، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم.

وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني، وقد شكرهم الامام، وأثنى عليهم، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.

خروج الجيوش لحرب الإمام الحسين:

وتمّت أحلام ابن مرجانة، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة، وتصفح الأرجاس من أذنابه

__________________

(١) مقتل المقرم: ٢٣١.

١٦٩

وعملائه، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.

وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك، وزحف إلى كربلاء، ومعه أربعة آلاف فارس، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم خيرة من في الأرض، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.

خطبة ابن زياد:

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة، وقد امتلأ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:

« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا أمير المؤمنين يزيد، قد عرفتموه حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً إلى الرعية، يعطي العطاء في حقّه، وقد أمنت السبل على عهده، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد، ويغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة، وأمرني أن أقّرؤها عليكم، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا »(١) .

لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها، ويتهالكون عليها، ويقدمون

__________________

(١) الطبري ٦: ٢٣٠.

١٧٠

أرواحهم بسخاء في سبيلها، وهي المادة التي هاموا بحبها، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.

واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.

احتلال الفرات:

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس، وقد صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم من خيرة ما خلق الله.

ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(١) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب، فكان يسمع صراخ أطفاله، وهم ينادون: العطش، العطش، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب، فقد ذبلت شفاه أطفاله، وذوي عودهم، وجفّ لبن المراضع، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:

وذئاب الشرور تنعم بالماء

وأهـل النبيّ من غير ماء

يالظلم الأقدار يظمأ قلب الليث

والليث موثق الأعضاء

وصغار الحسين يبكون في الصحراء

يا ربّ أين غوث القضاء

_________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ٨٩.

١٧١

لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم، فتنكّروا لإنسانيتهم، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال فالناس فيه جميعاً شركاء، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلامية، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان، ولكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك، فحرم الماء على آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:

« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات، والله لا تذوقه أو تموت دونه »(١) .

واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً:

« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب، وتشرب فيه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم »(٢) .

وكان هذا الوغد الأثيم ممن كاتب الإمام الحسينعليه‌السلام بالقدوم إلى الكوفة.

وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته، قائلاً:

« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ١٨٢، تأريخ ابن الأثير ٤: ٢٣٦.

١٧٢

حتى تموت عطشاً ».

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:

«اللهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً »(١) .

لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.

سقاية العباس لأهل البيت:

والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء، وأخذه بالقوة، وقد صحب معه ثلاثين فارساً، وعشرين راجلاً، وحملوا معهم عشرين قربة، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:

« ما جاء بك؟ ».

« جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه ».

« اشرب هنيئاً ».

« أفأشرب والحسين عطشان، ومن ترى من أصحابه؟. ».

« لا سبيل إلى سقي هؤلاء، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء ».

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي: ٨٦.

١٧٣

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام، وسخروا من كلامه، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل، ونافع بن هلال، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل، وقد ملأوا قربهم من الماء.

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت، وانقذهم من الظمأ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقاء ) وهو من أشهر ألقابه، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده(١) .

أمان الشمر للعباس وأخوته:

وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وأخوته الممجّدين، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم، ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار، وبذلك يضعف جيش الإمام، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب، وقد وقف أمام جيش الحسين، وهتف منادياً:

« أين بنو أختنا العباس واخوته؟ ».

وهبّت الفتية كالأسود، فقالوا له:

« ما تريد يابن ذي الجوشن؟ ».

فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:

« لكم الأمان ».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

١٧٤

وصاحوا به، وهم يتميّزون من الغيظ، فقد لذعهم قوله:

« لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أمان له »(١) .

وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الأماجد اخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان، ولم يعلم أن أخوة الحسينعليه‌السلام من أفذاذ الدنيا، الذين صاغوا الكرامة الإنسانية، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان.

زحف الجيوش لحرب الحسين:

وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال، وتدافعهم نحو أخيها، فانبرت إليه فزعة مرعوبه، فايقظته، فرفع الإمام رأسه فرأى أخته مذهولة، فقال لها بعزم وثبات:

«إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، فقال: إنك تروح إلينا ».

وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات، وانهارت قواها، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها، وراحت تقول:

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٥

« يا ويلتاه »(١) .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:

« أتاك القوم ».

وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:

«اركب بنفسي أنت يا أخي، حتى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم، وما تريدون؟ ».

لقد فدى الإمامعليه‌السلام اخاه بنفسه، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته، وعظيم منزلته، وانه قد بلغ قمّة الإيمان، وأعلى مراتب المتقين وأسرع أبو الفضل نحو الجيش، ومعه عشرون فارساً من أصحابه، ومن بينهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم، فقالوا له:

« جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه، أو نناجزكم »(٢) .

وقفل العباس إلى أخيه، فأخبره بمقالتهم، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:

« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ، وعلى رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قتلوا ذريته، وأهل بيته، المتهجّدين بالاَسحار، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار، وشيعته الأتقياء الأبرار »(٣) .

وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٤.

(٢) البداية والنهاية ٨: ١٧٧.

(٣) حياة الإمام الحسين ٣: ١٧٢.

١٧٦

« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك ».

وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له: « أتق الله يا بن قيس، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة، عترة خيرة الأنبياء ».

فأجابه عزرة:

« كنت عندنا عثمانياً فما بالك، ».

فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان:

« والله ما كتبت إلى الحسين، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولكن الطريق جمعني وإياه، فلما رأيته ذكرت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت ما تقدمون من غدركم، ونكثكم، وسبيلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة لأنّه كان عثماني الهوى، ولكنه حينما التقى بالإمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب، وصار من أنصار الإمام، ومن أكثرهم مودّة وحباً له، لأن الإمام من ألصق الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه، فقال له:

«ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة، وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٧

وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار ... ».

لقد أراد ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.

ورجع أبو الفضلعليه‌السلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.

ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والإحجام عن إجابة الإمام قائلاً:

« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه »(١) .

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان، وأيّد ابن الأشعث مقالته، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً:

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٧٨

« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم »(١) .

وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه.

الإمام يأذن لأصحابه بمفارقته:

وجمع ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:

« أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فان

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣: ١٦٥.

١٧٩

القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري »(١) .

وتمثّلت روعة الإيمان، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الأحرار، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام، فيتخذونه ستراً دون كل عين، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.

جواب أهل البيت:

ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً، وهم يعلنون ولاءهم له، وتضحيتهم في سبيله، وقد مثلهم أبو الفضل العباسعليه‌السلام فخاطب الإمام قائلاً:

« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً ».

والتفت الإمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل، فقال لهم:

« حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد اذنت لكم ».

وهبّت فيتة آل عقيل كالأسود تتعالى أصواتهم، قائلين:

« إذن ما يقول الناس:، وما نقول:، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا، وبني

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٨٠