الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة0%

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 207

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 20848
تحميل: 6955

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20848 / تحميل: 6955
الحجم الحجم الحجم
الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَفِي الرِّقَابِ والغَارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللهِ و ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيم ) (١) .

والمراد من "الموَلّفة قلوبهم": الذين كانوا في صدر الاِسلام ممّن يظهرون الاِسلام، يتألَّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. وهناك أقوال أُخر فيهم متقاربة، والكلّ يهدف إلى الاِعطاء لمن لايتمكن إسلامُه حقيقةً إلاّ بالعطاء(٢) .

ي ـ المولُّون أمام الكفّار:

إنّ التولّي عن الجهاد والفرار منه، من الكبائر الموبقة التي ندّد بها سبحانه بقوله:

( يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الاَدْبار * وَمَنْ يُوَلِّهمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفاً لِقِتَالٍ أو مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير ) (٣)

إنّ التحذير من التولّي والفرار من الزحف، والحث على الصمود أمام العدو، لم يصدر من القرآن إلاّ بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي في غزوة "أُحد" و "حنين".

أمّا الاَوّل: فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد، قال: "ثم أنّبهم بالفرار عن نبيهم وهم يُدعون، لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال:( إذْ

____________

(١) التوبة: ٦٠.

(٢) تفسير القرطبي: ٨|١٨٧، المغني لابن قدامة: ٢|٥٥٦.

(٣) الاَنفال: ١٥ ـ ١٦.

١٢١

تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُم ) (١)

وأمّا الثاني: فقد قال ابن هشام فيه أيضاً: فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلّم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان بن حرب: لاتنتهي هزيمتهم دون البحر، وصرخ جبلة بن حنبل: ألا بَطَلَ السحرُ اليوم...(٢)

أفبعد هذا يصح أن يعدّ جميع الصحابة، بحجة أنّهم رأوا نور النبوة، عدولاً أتقياء؟

قال القرطبي في تفسيره: قد فرّ الناس يوم "أُحد" وعفى الله عنهم وقال الله فيهم يوم حنين: (ثم وليتم مدبرين ) ثم ذكر فرار عدّة من أصحاب النبي من بعض السرايا(٣) .

هذه هي الاَصناف العشرة من صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لايمكن توصيفهم بالعدالة والتقوى، أتينا بها في هذه العجالة مضافاً إلى الاَصناف المضادة لها.

ولكن نلفت نظر القارىَ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة وسورة النساء وغيرها من الآيات القرانية فيرى فيها أنّ الاِيمان بعدالة الصحابة بأجمعهم خطأ في القول، وزلّة في الرأي، يضاد نصوص الذكر الحكيم، ولم يكن الصحابة إلاّ كسائر الناس فيهم صالح تقي بلغ القمة في التقى والنزاهة، وفيهم طالح شقى سقط إلى هوّة الشقاء والدناءة. ولكن الذي يميّز الصحابة عن غيرهم أنّهم رأوا نور النبوّة وتشرّفوا بصحبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأمّ أعينهم، ولاَجل ذلك تحمّلوا مسوَُولية كبيرة أمام الله وأمام رسوله وأمام الاَجيال المعاصرة لهم واللاحقة بهم، فإنّهم ليسوا كسائر الناس، فزيغهم وميلهم عن الحق أشد ولا يعادل زيغ أكثر الناس وانحرافهم. وقد قال

____________

(١) آل عمران: ١٥٣.

(٢) سيرة ابن هشام: ٣|١١ و ٤|٤٤٤، ولاحظ التفاسير.

(٣) تفسير القرطبي: ٧|٣٨٣.

١٢٢

سبحانه في حق أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا نِسَاءَ النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النّساء ) (١) فإن انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور، ولمسوا الحقيقة، وشتّان بينهم وبين غيرهم.

الصحابة في السنّة النبوية :

ونذكر في المقام بعض ماورد في مصادر أهل السنّة أنفسهم حول بعض الصحابة وليس كلّهم والعياذ بالله .

ففى صحيح البخاري: في تفسير سورة المائدة بسنده عن ابن عباس قال: خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال: ـ ويجاء برجال من أُمتى فيوَخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يارب أصحابى، فيقال إنّك لا تدري ما أحدَثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:( وَكُنْتُ عَلَيْهِم شَهيداً مَادُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم ) (٢) فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على(٣) أعقابهم منذ فارقتهم .

ورواه الترمذي في تفسير سورة الاَنبياء أيضاً وجاء في موطأ مالك: عن أبي النضر أنّه بلغه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لشهداء أُحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر: ألسنا يارسول الله إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي.

فبكى أبو بكر ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟(٤)

وهل أتى الشيعة الاِمامية بجديد إذا كانوا يفرّقون في الحب والمودة بين جماعة وأُخرى، وقد أمر القرآن بذلك في أكثر من آية؟

____________

(١) الاَحزاب: ٣٢.

(٢) المائدة: ١١٧.

(٣) صحيح البخاري: ٣|١٢٧.

(٤) الموطأ: ١|٣٠٧، كتاب الجهاد ـ الشهداء في سبيل الله .

١٢٣

ثم إنّ "جبرين" وأمثاله لماذا يغمضون عيونهم عن حقائق القرآن ولا يصارحون الناس بها بدل اتّخاذ هذا الموقف الشريف الذي يمليه الحق والاِنصاف؟ لماذا يعمد إلى تكفير طائفة كبرى من طوائف المسلمين وهم الشيعة الاِمامية ويراهم مستحقّين للقتل والاِبادة، ولا يوجّه مثل هذه الفتوى ضد الصهاينة في فلسطين، والاَمريكان الذي يدنّسون بأحذيتهم الصليبية أرض وبلد المقدّسات؟

لماذا لا يحارب الفساد الاَخلاقي والسياسي في مشرق الاِسلام ومهجر الرسول، ولا يفكر في تسيّب الشباب هناك وتسرّب اللاّدينية، والانحراف العقيدي إلى أذهانهم البريئة؟!

لماذا تصدر هذه الفتوى في هذا الظرف الذي انهارت فيه الشيوعية، واعترف "غورباتشوف" بأن السبب الرئيسي وراء هذا المصير القائم في الاتحاد السوفيتي هو نسيان الله وتجاهل الفطرة التي فطر الناس عليها كما قال في خطاب الاستقالة موَخراً؟! وهو الاَمر الذي ذكَّرَه به الاِمامُ الراحلُ الخميني في رسالَتهِ التاريخية إليه.

لماذا في مثل هذا الظرف الهامّ الذي يتوجّه العالم إلى الاِسلام ويتطلَّع المستضعفون إلى المسلمين، وهو أمر يفرض العمل الجاد لتوحيد صفوف المسلمين وإظهارهم في مظهر الاَُمة الواحدة القوية على اختلاف مذاهبها ومسالكها التي تتمحور حول أُصول الاِيمان وتتّفق فيها وإن اختلفت في بعض الاجتهادات الفرعية العلمية؟!

أقول: لماذا ينبري مجلسُ الاِفتاء السعودي متمثّلاً بالمدعوّ "جبرين" وبعض زملائه إلى شق عصا المسلمين وإثارة النعرات الطائفية، وعزل أكبر قطعة من جسم الاَُمّة الاِسلامية التي هي الآن صخرة صمّاء أمام تلاطم أمواج الكفر والاستكبار رافعة راية لا إله إلاّ الله ، كلمةً وعملاً وظهرها ومتكأها هو الباري صاحب الكلمة، فأين يا تري موقفه أمام أعداء الاِسلام اليوم وكيف سيواجه خالقه وقد أفرح بفعلته هذه قلوب المستكبرين والظلمة والمنافقين؟!!

١٢٤

وهل أذنب الشيعةُ إذا هم اتّبعوا وأحبوا مَن أمرَ القرآن باتّباعهم ومحبّتهم من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهراً والذين فرض محبتهم ومودتهم بقوله:( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (١) ؟

المطلوب موَتمر للحوار العلمي الديني :

نحن ندعو علماء الوهابية إلى حوار علمى صريح وبنّاءٍ يحضره علماء المسلمين لمناقشة ما يعتقدونه، أوّلاً، وما يرمون به المسلمين ويكفّرونهم بسببه ثانياً، إنهاءً لهذه المواقف المضرّة بالمسلمين وقطعاً لدابر الفتنة والاختلاف.

نحن نهيب بمفكري الاَُمّة الاِسلامية وبالشباب في البلاد الاِسلامية أن يضغطوا على مجلس الاِفتاء السعودي ليقبل بالدخول مع علماء الشيعة الاِمامية بصورة خاصة، وعلماء الطوائف الاِسلامية الاَُخرى بصورة عامة في حوار علمي جادّ... لوضع حدٍّ لمُسلَسل التكفيرات والمذابح الناشئة عنها، ونحن نحمّل المسلمين كلّ الجرائم التي ستنشأ من هذه التكفيرات التي تعكس أهداف الاستعمار الحاقد، لو سكتوا وتركوا الاَمر.

وإنّنا لنحذّر المسلمين بأنّ هذا الموقف الصادر من "الجبرين" ونظرائه الذين لايهمّهم إلاّ تكفير المسلمين ورميهم بالشرك تاركين الصهاينة والصليبيّين يسرحون ويمرحون في بلاد الاِسلام، لن يقتصر على الشيعة الاِمامية بل سيشمل الطوائف الاَُخرى، لاَنّ الوهابيين الذين يرفعون شعار التوحيد يكفرّون عامة المسلمين إلاّ أنفسهم، فهل من مدّكر؟!.

____________

(١) الشورى: ٢٣.

١٢٥

الجهة العاشرة : في الوحدة الاِسلامية

إنّ الاِسلام يوَكد على وحدة المسلمين، والتمسّك بالعروة الوثقى ونبذ كل مايهدم هذه الوحدة من التهم والظنون أو التكفير والتفسيق، ويراها أمراً ضرورياً للمسلمين، وترى الترغيب في الاَُلفة والوحدة إذا تدبّرت معانى الآيات النازلة في هذا المجال حيث قال سبحانه:

١ـ( إنَّما المُوَْمِنُونَ إخْوَة ) (الحجرات ـ ١٠) .

٢ـ( وَالمُوَْمِنُونَ والمُوَمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْض ) (التوبة ـ ٧١) .

٣ـ( مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم ) (الفتح ـ ٢٩) .

٤ـ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (آل عمران ـ ١٠٣) .

فهذه الآيات كلّها تدعو إلى الوحدة والاَُلفة، وهناك آيات تنبذ الفرقة وتردّها قال سبحانه:

١ ـ( وَلا تَكُونُوا كَالّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِمَا جَاءَهُمُ البيّناتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ) (آل عمران ـ١٠٥) .

٢ ـ( إنَّ الّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيء إِنَّما أمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِما كَانُوا يَفْعَلُون ) (الاَنعام ـ ١٥٩) .

٣ ـ( أنْ أقِيمُوا الّدِينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه ) (الشورى ـ ١٣) .

٤ ـ( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ) (الاَنعام ـ ١٥٣) .

وكما أنّ الكتاب يدعو إلى الوحدة ويحذّر عن التفرّق فهكذا السنّة تتلو تلو الكتاب.

١٢٦

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "لا تدخلون الجنّة حتى توَمنوا، ولا توَمنون حتى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"(١)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "الدين النصيحة" قالوا: لمن يارسول الله ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولاَئمة المسلمين ولعامّتهم والذي نفسي بيده لا يوَمن عبد حتى يحب لاَخيه ما يجب لنفسه"(٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم فمن أخْفَر(٣) مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة صدق ولا عدل"(٤)

وقال: "إيّاكم والظّن فانّ الظّن أكذب الحديث، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولاتدابروا، ولاتباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثةأيام"(٥)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه يوم القيامة"(٦) .

إلى غير ذلك من الاَحاديث الحاثّة للمسلمين على الوئام والتالف والتوادد ونبذ الفرقة والاختلاف والتشاجر والتشاحن، والطرد والاِقصاء.

____________

(١) المتقى الهندي: كنز العمال: ١٥|٨٩٢ و ٣|٤١٣.

(٢) المتقي الهندي: كنز العمال: ١٥|٨٩٢ و ٣|٤١٣.

(٣) أخفر: نقض عهده.

(٤) الحاكم: المستدرك: ٢|١٤١، ومسند أحمد: ١|١٢٦ و ١٥١.

(٥) المتقي الهندي، كنز العمال: ١٦|٨٦ و ١|١٥٠.

(٦) المتقي الهندي، كنز العمال: ١٦|٨٦ و ١|١٥٠.

١٢٧

هذه هي الآيات الكريمة والسنّة النبوية المشرَّفة تدعو إلى الوئام، وبينما نحن على العكس ندعو بأفعالنا وأقلامنا إلى الفرقة والاختلاف، فيتّهم ويسب ويكفّر بعضنا بعضا، وكأنّ الجميع قد نسوا أنّ العدو الذي يتحيّن الفرص لسحقهم، هو غير الشيعي والسنّي، وإنّما هو معسكر الغرب وأذنابه ودعاته وموَيّدوه، وقد نصبوا شراكهم لعامّة الفرق الاِسلامية بدون استثناء ليصبحوا فريسة لاَهدافهم.

إنّ بعض أصحاب القلم من المسلمين قد انسحبوا من جبهة الصراع مع أعدائهم الحقيقيّين ولجأوا إلى جبهة معارضة ضد إخوانهم وكأنّه ليس لهم على وجه البسيطة عدو سواهم، وهذا موَسف جداً.

إنّ الوحدة الاِسلامية أُمنية كل مسلم عاقل عارف بما حِيْك للمسلمين من مصائد في هذه الاَيام لاستغفالهم، ولاتتحقّق الوحدة إلاّ بالتفاهم بين الفرق لوجود الاَُصول المشتركة بينهم ثم السماح لكلّ فرقة أن تجتهد في غيرها.

فمثلاً، انّ المتعة والزواج الموَقت مسألة فرعية دام الاختلاف فيها منذ عصر الخلفاء وحتى يومنا هذا، وهي مسألة فقهية قرانية حديثية، فمن قائل بكونها حلالاً في عصر الرسول باقية على حكمها إلى عصرنا هذا، إلى قائل بأنّها نسخت في عصر الرسول وكانت حلالاً سنين وشهوراً، إلى ثالث بأنّها نهى عنها الخليفة عمر بن الخطاب، والتحريم سنّة له.

ولكلٍّ حجّته ودليله، فللمصيب أجران وللمخطىَ أجر واحد، ومع ذلك نرى أنّ هذه المسألة أوجدت ضجة كبرى بين المعارضين للشيعة، وكأنّ القول بالحلّية إفتاء بالكفر، فما أكثر الخلاف في المسائل الفرعية بين أئمة المذاهب، فلماذا يتّخذ ذلك الخلاف كقميص عثمان ضد شيعة أهل البيت.

إنّ أعلام الشيعة منذ منتصف القرن الثالث ملاَوا رسائلهم بنفي التحريف عن الكتاب العزيز، وربما وجد فيهم من اغترّ ببعض المراسيل الموجودة في كتب الفريقين الروائية، ومع ذلك نجد أنّ المعارض يذكر الاَخير ويتناسى تصريح مئات علماء الشيعة على عدم التحريف.

١٢٨

نحن الشيعة كلّما تكلّمنا عن تغلّب معاوية على الاَُمّة وابتزازه الاِمرة عليها بغير رضا منها وقتله شيعة عليعليه‌السلام تحت كل حجر، وأخذه بالظنّة والتهمة، وقتله الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي الذي أنهكه الورع والعبادة، والصحابي العظيم الآخر: عمرو بن الحمق بالوحشية والقسوة، إلى غير ذلك من فظائع الاَعمال، وقبائح الاَفعال.

قام أصحاب القلم من السنّة بتبرير أعماله بالاجتهاد، وأنّه كان مجتهداً فيما رأى وعمل.

وكلّما تكلّمنا عن عمرو بن العاص وخيانته التي ارتكبها في مسألة التحكيم والخدعة التي قام بها بوجه أبي موسى الاَشعري، برّروا عمله بأنّه صدر منه عن اجتهاد.

وكلّما تحدّثنا عن جمل البصرة، وراكبته، وقائدة الجيش الجرّار ضد الاِمام المختار من قبل المهاجرين والاَنصار، بل الاِمام المنصوص عليه من قبل الله يوم الغدير في محتشد عظيم، قالوا: إنّها كانت مجتهدة عارفة بوظيفتها.

وإذا قلنا: إنّه سبحانه يأمرها بلزوم البيت النبوي بقوله عزّ من قائل:(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ) (الاَحزاب ـ ٣٣) قالوا: إنّ أساس عملها الاجتهاد، وإن كانت خاطئة.

فإذا كان باب الاجتهاد واسعاً إلى هذا الحد الذي يُبرَّر به قتل النفوس الموَمنة، وتخضيب الاَرض بالدماء الطاهرة، واستئصال الصحابة العدول، فلماذا لا يبرَّر به اجتهاد الشيعة في الفروع والاَحكام العملية، في مجال تجويز المتعة والتقية، ومسح الاَرجل، وترك التثويب وقبض اليد اليسرى باليمنى، إلى غير ذلك من الفروع التي اختلفت فيها كلمات فقهاء الشيعة عن أهل السنّة. فلماذا باؤكم تجرُّ وباؤنا لا تجر (تِلكَ إذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ).

ففي هذا الجو المفعم بالعداء والتباغض وسوء الظن لاتتحقّق الوحدة، بل تتقوّى الفرقة وتنثلم العروة الوثقى.

١٢٩

إنّ الشيعة في عصري الاَمويين والعباسيين كانوا فريسة للظالمين، ولم يكن لهم محيص إلاّ التقية فإنّها سلاح الضعيف وعليها جُبلت طبيعة البشر وشرّعها الاِسلام في الظروف الحرجة، وربما تحرم التقية التي جاء بها القرآن الكريم في سورتين مباركتين(١) وأطبق على جوازها كل المفسّرين، إذا توقف حفظ الكرامة وصيانة الحق على تركها، ومع ذلك نرى أنّه يشنّع بها على الشيعة ويُزدرى بها عليهم كأنّهم جاءوا بأمر فظيع.

وأنت إذا قرأت تاريخ الشيعة وما حاقت بهم من بلايا ومصائب من أخذهم بالظنّة والتهمة، وقتلهم تحت كل حجر ومدر، وصلبهم على مشانق البغي، تقف على أنّه لم يكن لهم محيص للحفاظ على حياتهم إلاّ التقية.

نعم كان هناك رجال رجّحوا التضرّج بالدماء على الحياة مع الظالمين.

فلو كان هناك ذنب في اعمال التقية فالبادىَ بها أظلم، أي من دفعهم إلى العمل بها.

فيا أيّها المسلمون كونوا أنصار الوحدة والاَُلفة، ولاتكونوا دعاة التفرقة( وَلاتَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السّلاََم لَسْتَ مُوَمِناً ) (٢) . وارفضوا سوء الظن بإخوانكم، واسمحوا لهم ما سمحتم لاَنفسكم.

____________

(١) آل عمران: ٢٨، النحل: ١٠٦.

(٢) النساء: ٩٤.

١٣٠

وفي الختام نحمده سبحانه ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وكفى بالله رقيباً وحسيباً.

وأسأله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى: إنّه بذلك قدير، وبالاِجابة جدير.

قم ـ موَسسة الاِمام الصادقعليه‌السلام

٣ ـ شوال المكرّم ١٤١٥ هـ. ق

١٣١

رسالة في حياة السيد المسيحعليه‌السلام بعد الرفع

بسم الله الرحمن الرحيم

إهداء:

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّه وعترته الطاهرين وعلى عباده الصالحين.

نقدّم هذه الدراسة العلمية حول السيد المسيح على نبينا وآله وعليه السلام، التي جاءت استجابة لطلب شاب فلسطينى مسلم ونجيب على سوَاله، في الوقت الذي يواصل الشباب الفلسطينيون وأطفال ثورة الحجارة جهادهم المقدس في أرض فلسطين ضدّ تلك الطغمة الفاسدة المفسدة، التي دنّست أرض القداسة بعهرها وفجورها، ورجال المقاومة الفلسطينية الاَبطال يقبعون خلف أسوار السجون الحديدية، وقد تهشّمت عظامهم، وتورّمت أكتافهم تحت سياط ولكمات شذّاذ الآفاق وأعداء الاِنسانية والمسيحية والاِسلام... أولاد الاَفاعي، ومصّاصي دماء الشعوب ...

أجل نقدّم هذه الدراسة للطبع ونحن نسأل الله تعالى أن يعجّل بإزالة هذا الكابوس عن صدر الاَُمّة الاِسلامية عاجلاً لا آجلاً.

الموَلف

١٣٢

حياة السيد المسيحعليه‌السلام بعد الرفع في ضوء الكتاب والسنّة

كتب إلينا شاب فلسطيني من ألمانيا، يسأل عن حياة المسيح بعد ما رفعه الله سبحانه إليه، ويقول: إنّ المعروف هو أنّهعليه‌السلام حي يرزق، وينزل في آخر الزمان، ولكن يفهم من بعض الآيات خلاف ذلك حيث يقول سبحانه:( إنّي مُتَوَفّيكَ ورافِعُكَ إلىّ ) (١) ومثله غيره مما ورد فيه لفظ "التوفّى".

أضف إليه: أنّ الموت سنّة إلهية جارية على الجميع حتى النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول سبحانه:( إنّكَ مَيّتٌ وإنّهُم مَيّتون ) (٢) وكذلك سائر الآيات التي توَكد على أنّ الموت والفناء سنّة إلهية جارية في كل شىء فما هو الجواب في المقام؟ فإنّ البحث حول هذا الموضوع هو بحث قرآني أوّلاً، وعقائدي ثانياً.

____________

(١) سورة آل عمران: الآية ٥٥.

(٢) سورة الزمر: الآية ٣٠.

١٣٣

الجواب:

اتفق أغلب المفسّـريـن الاِسلاميـين ـ إن لم نقـل جميعـهم ـ على أنّ السيـد المسيح حيّ يُرزق وسوف ينزل عند ما شاء سبحانه نزوله إلى الاَرض، غير أنّه ظهر في الآونة الاَخيرة من بعض المعنيين بتفسير القرآن الكريم إنكار هذه الحقيقة، منهم: المراغي في تفسيره(وسيوافيك كلامه في ثنايا البحث) والاَُستاذ الشيخ محمود شلتوت (في رسالته التي حررها جواباً على سوَال ورد إلى مشيخة الاَزهر) فقال في الجواب: إنّ كلمة "توفّى" وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها، المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى، إلاّ وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر.

ثم سرد بعض الآيات التي استعمل فيها التوفّى بمعنى الموت وقال: إنّ كلمة "توفّيتني" في الآية:( فَلَمّـا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِم ) تحملُ على هذا المعنى المتبادر وهو الاِماتة العادية التي يعرفها الناس، ويدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد، وإذاً فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه، لما كان هناك مبرر للقول بأنّ عيسى حيّ لم يمت(١) .

فإذا كان الدليل الوحيد لهما هو ظهور التوفّى في الموت فيجب تحليل معناه لغة وقرآناً.

وقبل ذلك نسرد الآيات الواردة في هذا المجال فنقول:

إنّ الآيات التي تتعرض لهذه المسألة لا تتجاوز خمس آيات وهي:

١ ـ( إذ قَالَ اللهُ ياعِيسَى إنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا

____________

(١) لاحظ: إزالة الشبهات: ص ٣. نُشر جوابه في كتابه "الفتاوى".

١٣٤

وَجاعِلُ الّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَومِ القِيامَة ) (١) .

٢ ـ( وَقَولِهِمْ إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكِن شُبّهَ لَهـُم ) إلى أن يقول:( وما قَتَلُوهُ يَقِينا * بَل رَفَعَهُ اللهُ إليه... ) .(٢)

٣ ـ( ما قُلتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبْدُوُا اللهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتَ فِيهِم فَلَمـّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنت الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنتَ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهِيد ) (٣) .

٤ ـ( وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُوَْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ... ) (٤) .

٥ ـ( وإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمـْتَـرُنَّ بِها و اتّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم ) (٥) .

هذه هي الآيات التي تتعرض لمسألة السيد المسيح في هذا المجال وإليكم البحث في كل واحدة منها على الترتيب.

تفسير الآية الاَُولى:

أمّا الآية الاَُولى وهي قوله سبحانه:( إذ قال الله ياعيسى إنّى متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .

فالكلام فيها يقع حول لفظ "التوفّي" فهل التوفّي ـ في هذه الآية ـ بمعنى الاِماتة؟

أو أنّ للتوفّي معنى آخر ينطبق على الموت تارة وعلى غيره أُخرى؟

____________

(١) سورة آل عمران: الآية٥٥.

(٢) سورة النساء: ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٣) سورة المائدة: الآية ١١٧.

(٤) سورة النساء: الآية ١٥٩.

(٥) سورة الزخرف: الآية ٦١.

١٣٥

وقد نصّ بذلك بعض أئمة أهل اللغة قال ابن منظور في "اللسان": وتُوفّى فلان وتوفّاه الله : إذا قبض نفسه، وفي الصحاح: إذا قبض روحه، وقال غيره: تَوَفّى الميت: استيفاء مدته التي وفيت له وعدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا. وتَوفَّيت المال منه واستوفيته: إذا أخذته كلّه، وتوفّيت عدد القوم إذا عددتهم كلّهم. وانشد أبو عبيدة لمنظور الوبري:

إنّ بني الاَدْرَد ليسوا من أحَدْ

ولا توفاهم قريش في العدد

أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم(١) .

إنّ القدر الجامع المستقيم لما ورد في القرآن من مشتقات هذه الكلمة هو: الاَخذ والاستيفاء، وهو يتحقق بالاِماتة تارة، وبالنوم أُخرى، وبالاَخذ من الاَرض والرفع من العالم البشري إلى عالم آخر (سواء أكان ذلك العالم الآخر عالم السماء أو عالماً آخر ثالثاً).

ومحاورات القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك، كما يلاحظ في الآيات التالية:

يقول الله سبحانه:( اللهُ يَتَوفّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوتها وَالّتي لَـمْ تَـمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الّتي قَضى عَلَيْها المَوتَ وَيُرْسِلُ الاَُخرى إلى أَجَلٍ مُسَمّى ) (٢) ويقول سبحانه:( وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِالَّيلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحتُمْ بِالنَّهار ) (٣) ولا شك أنّ لفظة "والتي" معطوفة على "الاَنفس" وتقدير الآية هو: "ويتوفّى التي لم تمت في منامها" ولو كان التوفّى بمعنى "الاِماتة" لما استقام معنى الآية، إذ يكون معناها ـ حينئذ ـ الله يميت الاَنفس حين موتها، ويميت التي لم تمت في منامها. وهل هذا إلاّ التناقض؟

____________

(١) لسان العرب: ١٥|٤٠٠، مادة "وفي" وسيوافيك لفظ الطبرى في تفسير معنى "التوفّى".

(٢) سورة الزمر: الآية ٤٢.

(٣) سورة الاَنعام: الآية ٦٠.

١٣٦

ولاَجل ذلك، لامناص من تفسير "التوفي"، "بالاَخذ" وهو ينطبق على الاِماتة (الموت) في الفقَرة الاَُولى وعلى الاِنامة (النوم) في الفقرة الثانية من الآية.

ومثله قوله تعالى في سورة الاَنعام:( وهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِالَّيْلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحتُمْ بِالنَّهارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إليهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) .

فإن تَوَفّى الناس بالليل لا يكون بالاِماتة، بل بمعنى أخذهم بالنوم، ثم يبعثهم الله باليقظة في النهار، ليقضوا بذلك آجالهم المسماة، ثم إلى الله مرجعهم، بواسطة الموت والمعاد.

وكذلك قوله سبحانه في سورة النساء:( واللاّتى يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَا سْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوت حَتَّى يَتَوفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجعَلَ اللهُ لَـهُنَّ سَبِيلا ) (١) .

ولا معنى لتفسير "التوفّى" بأنّه "يميتهنّ الموت" فلابد من القول بأن التوفّى ليس مرادفاً للموت والاِماتة في محاورات القرآن واستعمالاته، وإنّما هو: أخذ الشيء وافياً كاملاً برمّته. وعلى ضوء ذلك ليس للتوفّى إلاّ معنى واحداً، وهو الاَخذ للشيء تماماً ووافياً إمّا من عالم الحياة، أو من عالم اليقظة، أو من عالم التواجد بين البشر.

فإذا كان لفظ "التوفّى" موضوعاً لمعنى جامع، وكان صالحاً للانطباق على الاِماتة، والاِنامة، والاَخذ من بين الناس، فليس حمله على المورد الاَوّل وتطبيقه عليه بلا قرينة ولا شاهد، صحيحاً، كما ارتكبه المستدلّ وفسّـره بالموت، بل قوله سبحانه:( ورافعك إلىَّ ) شاهد على أنّ المراد هو الثالث فيكون المتبادر من الآية هو: إنّي آخذك وقابضك بين الناس ورافعك إلىَّ. فتصير الآية دليلاً على رفع المسيح حياً. لا إماتته ورفعه كما يتعاطاه المستدلّ حيث جعل ما هو ظاهر ـ بعد الاِمعان ـ في رفعه حياً، دليلاً على الاِماتة، وما هذا إلاّ لاَنّه اتّخذ رأيا مسبّقاً في حقّ المسيح، فساقه الرأي إلى تفسير الآية بخلاف ظاهرها.

____________

(١) سورة النساء: الآية ١٥.

١٣٧

ومـمّن تفطّن لهذا المعنى، هو ابن جرير في تفسيره حيث قال: وقال آخرون: معنى ذلك: إنّي قابضك من الاَرض فرافعك إلىّ. قالوا: ومعنى الوفاة: القبض، كما يقال: تَوَفّيت من فلان مالي عليه، بمعنى قبضته واستوفيته، قالوا: فمعنى قوله: إنّي متوفّيك ورافعك: أي قابضك من الاَرض حياً إلى جوارى واخذك إلى ما عندي بغير موت ورافعك من بين المشركين. ـ ثم إنّه بعد ما ذكر وجوهاً في تفسير الآية ـ قال: قال أبو جعفر الطبري: وأولى هذه الاَقوال بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إنّي قابضك من الاَرض ورافعك إلىّ، لتواتر الاَخبار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجّال ثم يمكث في الاَرض مدّة(١) .

ومـمّن نبّه بذلك واستعرض الموضوع عرضاً تحقيقيّاً العلاّمة البلاغيقدس‌سره (٢) .

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى الوجهين اللّذين نقلهما المراغي من المفسّـرين حول اللفظين "متوفّيك" و"رافعك"، ومبنى الوجهين كون التوفي بمعنى الاِماتة على ما اخترناه.

١ـ "إنّ فيهـا تقديماً وتأخيـراً، والاَصل: إنّي رافعـك إلىَّ ومتوفّيك، أي إنّى رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك، وعلى هذا فهو قد رفع حيّاً بجسمه وروحه، وإنّه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفّاه الله " .

____________

(١) لاحـظ تفسير الطبري: ٣|٢٠٣، وتفسير الرازي: ٢|٤٨١، ط مصر. وتفسير ابن كثير: ١|٣٦٦، نقلاً عن قتادة. وتفسير النيشابوري، (المطبوع بهامش الطبري) : ٣|٢٠٧.

(٢) آلاء الرحمان: ١|٣٣ ـ ٣٥ في مقدمات تفسيره.

١٣٨

٢ ـ "إنّ الآية على ظاهرها، وأنّ التوفّى هو الاِماتة العادية وأنّ الرفع بعده للروح، ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الاِنسان والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والاِنسان إنسان لاَنّ روحه هي هي.

والمعنى: إنّي مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال تعالى في إدريسعليه‌السلام :( وَرَفَعناهُ مَكَاناً عَلِيّاً ) (١) .

وحديث الرفع، والنزول آخر الزمان، حديث آحاد يتعلّق بأمر اعتقادي، والاَُمور الاعتقادية لا يوَخذ فيها إلاّ بالدليل القاطع من قرآن وحديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منها.

أو أنّ المراد بنزوله وحكمه في الاَرض، غلبة روحه، وسرّ رسالته على الناس، بالاَخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها"(٢) .

ويلاحظ على هذا الكلام: أنّ كلا الوجهين غير تامّين:

أمّا الاَوّل: فلاَنّه مبني على تفسير "متوفّيك" بمعنى "مميتك" ولذلك التجأ إلى القول بأنّ في الآية تقديماً وتأخيراً لتقدّم رفعه على إماتته التي تتحقّق بعد النزول من السماء في الحين الذي قدّر له.

____________

(١) سورة مريم: الآية ٥٧.

(٢) تفسير المراغي: ٣|١٦٩.

١٣٩

وهذا النوع من التفسير لا يليق بشرف كلامه سبحانه، إذ لا وجه لتقديم الاِماتة على الرفع مع كون الحقيقة على العكس.

وأمّا الثاني: فلأنّ الرفع تعلّق بـ "عيسى" وهو علم للشخص الخارجى، أعني البدن الماثل أمام الاَبصار وكون حقيقة الاِنسان هي الروح لا يصحح الخطاب للشخص الخارجي.

فإذا قال شخص: جاء زيد وأكل عمرو، فلا تصح نسبة الفعلين إلى الروح بحجّة أنّ حقيقة الاِنسان هي الروح، بل الظاهر أنّ المسيح رفع بعنصره الخارجى وشخصه وهيكله الماثل بين الاَصدقاء والاَعداء، كما لا يصح تفسير الآية بتعلّق الرفع بالروح كذلك لا يصح تفسيرها بعلو الدرجة، وكون الرفع رفعاً معنوياً قياساً على قوله تعالى:( وَرفَعناه مَكَاناً عَلِياً ) فإنّ قوله: (مكاناً علياً ) ربّما يكون شاهداً في المقيس عليه لا في المقيس(١) .

على أنّ الرفع هناك معنوي لا حسّـي بخلاف المقام، فإنّ القرينة فيه على العكس، وإنّ الرفع حسّـي وعلى هذا ينحصر تفسير الآية على الوجه التالي:

"متوفّيك": أي آخذك، ومخلّصك من أيدى الاَعداء، ولما كان أخذه وتخليصه يتوقف على نقله إلى مكان آخر، أشار إلى مكانه بقوله: (ورافعك إليّ): أي إلى نقطة عالية ولا تعنى لفظة "إلىّ" من هذه الجملة أو لفظة "إليه" في الآية التالية: "بل رفعه الله إليه" سوى ما يعنيه قوله في حقّ الشهداء المقتولين في سبيل الله بأنّهم:( أحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرزَقُون ) .

____________

(١) قال العلاّمة الطباطبائي: المراد بالمكان العلى الذي رفع إليه، درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادّي والصعود إلى أقاصى الجو البعيدة أينما كان. وقيل إنّ المراد بذلك ـ كما ورد به الحديث ـ إنّ الله رفعه إلى بعض السماوات وقبضه هناك، وفيه إراءة آية خارقة وقدرة إلهية بالغة وكفى به مزية. الميزان: ١٤|٦٦ ـ ٦٧.

١٤٠