الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة0%

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 207

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 20856
تحميل: 6956

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20856 / تحميل: 6956
الحجم الحجم الحجم
الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إذا افترضنا صحة تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن، إذاً تصبح الشريعة غرضاً للاَهواء المختلفة، لاَنّ كل ذي هوى يدّعي أنّ الحق معه. وأنّ المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم. أُنظر إلى ما يقولون حول المفاهيم الاِسلامية وإنّهم كيف يتلاعبون بها فالوضوء عبارة عن موالاة الاِمام، والتيمم هو الاَخذ من المأذون عند غيبة الاِمام الذي هو الحجة، والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية ٤٥ من سورة العنكبوت:( إنّ الصَّلوةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَر ) والغسل تجديد العهد ممّن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والكعبة النبي، والباب على، والصفا هو النبي، والمروة على، والميقات الايناس، والتلبية إجابة الدعوة، والطواف بالبيت سبعاً موالاة الاَئمة السبعة، والجنة راحة الاَبدان من التكاليف، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف(١) فإذا كان ما ذكروه حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والاِلحاد حد فاصل. هذه نماذج من تأويلات الباطنية اقتصرنا على هذا المقدار. ٤ـ التفسير حسب تأويلات المتصوفة: ومن القسم الثاني ما جاء به ابن العربى شيخ الصوفية في عصره فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه فيقول: إنّ جبرائيل هو العقل العقال، وميكائيل هو روح الفلك السادس، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع، وعزرائيل هو روح الفلك السابع .(٢)

____________

(١) المواقف: ٨ | ٣٩٠

(٢) تفسير ابن عربي: ١ | ١٥٠ .

١٨١

هذا و هو يفسّر قوله سبحانه:( مَرجَ البَحرين يَلتقيان بَينَهُما بَرزخٌ لا يَبغيان ) (١) أنّ مرج البحرين هو بحر الهيولي الجسمانية الذي هو الملح الاَُجاج، وبحر الروح المجرد هو العذب الفرات، يلتقيان في الموجود الاِنسانى، وإنّ بين الهيولى الجسمانية والروح المجردة برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها، ولا في كثرة الاَجساد الهيولائية وكثافتها، ولكن مع ذلك لايبغيان أي لايتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته فلا الروح المجردة تجرد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً(٢)  ٥ـ التفسير حسب الاَُصول العلمية الحديثة : وهناك تفسير بالعقل باسم التفسير العلمي أكثر منه الشيخ محمد عبده، والسيد سير أحمد خان الهندي، والطنطاوي الجوهري، ونحن نكتفي هنا بنماذج من تفسير "المنار" الذي جمعه تلميذه السيد محمد رشيد رضا منشىَ المنار. ١ ـ كتب الاَُستاذ في تفسير قوله سبحانه:( وَلَقَد عَلِمتُمُ الّذِينَ اعتَدَوْا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كُونُوا قِرَدةً خاسئِين فَجَعَلناها نَكالاً لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظةً للمتَّقين ) (٣) كتب ما يلي: "إنّ السلف من المفسرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.

____________

(١) الرحمن: ١٩ ـ ٢٠

(٢) تفسير ابن عربي: ٢ | ٢٨٠

(٣) البقرة: ٦٥ ـ ٦٦ .

١٨٢

وإنّما نسب هذا المعنى إلى السلف، لاَنّه يصطدم بالمنهج الذي اختاره الاَُستاذ في تفسير القرآن، ولاتصدقه أنصار الحضارة المادية الّذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة، ولاَجل ذلك مال الاَُستاذ إلى رأي مجاهد الذي قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى:( مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التَّوريةَ ثمَّ لَم يَحمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أسفاراً ) (١) ثم أخذ في نقد قول الجمهور ـ إلى أن قال ـ: "فما قاله مجاهد هو الاَوفق بالعبرة والاَجدر بتحريك الفكرة(٢) ". ولا يخفى أنّه إذا صحّ هذا التأويل فيصح لكل من ينكر المعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل، وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين. ٢ ـ نقل صاحب المنار عن بعض المفسرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالاَعمال من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة وهو أنّ هذا النمو في النبات لم يكن إلاّ بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والاِنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الاِلهية في إيجاده فإنّما قوامه بروح إلهى، سُمّى في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمى هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لايعرف من عالم الاِمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.

____________

(١) الجمعة: ٥

(٢) تفسير المنار: ١ | ٣٤٣ ـ ٣٥٤ .

١٨٣

وقال الاَُستاذ عبده بعد نقل نظير هذه التأويلات: ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق(١) ولايخفى أنّ هذا التأويل لو صح في بعض الاَحاديث لما يصحّ في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها وما هذا التأويل إلاّ للخضوع للمنهج الخاص الذي اختاره الاَُستاذ في تفسير القرآن. ولنكتف بهذه النماذج من التفسير بالعقل غير المرضي، والمراد بالعقل ما يقابل التفسير بالنقل سواء اعتمد على المدارس الكلامية، أو تأويلات الباطنية أو الصوفية أو على الاَُصول العلمية الحديثة أو غير ذلك. إنّ التفسير بالعقل وإن صحّ ببعض صوره لكنه غير وافٍ في إيقاف الاِنسان على حقائق الكتاب العزيز ولا غنى لمن يستند بالعقل عن الاستناد إلى النقل أيضاً. كلمة في التفسير بالرأي : التفسير بالرأي الذي يدخل تحته أكثر ما تقدم من التفسير بالعقل، هو الذي أجمع الفريقان على منعه تبعاً للاَثر المتضافر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال: "اتّقوا الحديث إلاّ ما علمتم، فمن كَذِبَ عَلىَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(٢) ". وعلى ضوء هذا الحديث الذي رواه الفريقان، يجب على المفسر أن يتجرد من الآراء المسبقة، ويُوَطّن نفسه على قبول ما تفيده الآية وتدلّ عليه ولايُخضِع القرآن لعقيدته، بل يعرض عقيدته على القرآن، لاَنّه حجّة الله على

____________

(١) المنار: ١ | ٢٧٣ ، طبع مصر سنة ١٣٧٣ هـ ق

(٢) سنن الترمذي: ٢ | ١٥٧ ، أبواب التفسير.

١٨٤

خلقه وعهده إلى عباده، إليه يتحاكمون وعن حكمه يصدرون، ولاَجل ذلك لايجوز له تأويل الآية وإخراجها عن ظاهرها ليوافق عقيدته ويلائم مذهبه، فإنّ موقف المتصدّي لتفسير كلام الله موقف المتعلم من المعلم ومجتني الثمرة من الشجرة، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم فيأخذه خطة وقاعدة ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها. من البدع الذائعة في بعض التفاسير طلب الوجوه البعيدة في الاِعراب، أو حمل اللفظ على المعاني التي لاتتفق وسياقها، أو سبب نزولها وتطبيق الآيات على موارد ومصاديق بعيدة ـ كلها ـ لاَجل أغراض ودعايات وأهداف طائفية أو سياسية أو شخصية. عصمنا الله من ركوب الهوى والعصبية. هل التفسير الاِشاري من قبيل التفسير بالرأي؟ هناك منهج اصطلحوا عليه بالتفسير الاِشاري أو التفسير الفيضي، وعرّفوه بأنّ نصوص القرآن محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة(١) . وبعبارة أُخرى: ما يظهر من الآيات بمقتضى إشارات خفية تظهر لاَرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. وبعبارة ثالثة: القائل بالتفسير الاِشاري لاينكر كون الظاهر مراداً ولكن يقول بأنّ في هذه الظواهر، إشارات إلى معانٍ خفية تفهمه عدّة من أرباب السلوك وأولو العقل

____________

(١) سعد الدين التفتازاني : شرح العقائد النسفية: ١٤٢ .

١٨٥

والنهي وبذاك يمتاز عن تفسير الباطنية فإنّهم يرفضون كون الظواهر مرادة ويأخذون بالبواطن هذا هو حاصل التفسير الاِشاري. وربما يوَيد ذلك ما ورد عن نبي الاِسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ للقرآن ظهراً وبطناً، وظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق(١) وربما يوَيد أيضاً بقول سبحانه:( فَما لِهوَلاءِ القَومِ لا يَكادُونَ يَفقَهُونَ حَديثاً ) (٢) . وقوله تعالى:( أفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كَثيراً ) (٣) وقوله تعالى:( أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلوبٍ أقفالُها ) (٤) فهذه الآيات تشير إلى أنّ القرآن له ظهر وبطن وذلك لاَنّ الله سبحانه حيث يصف الكافرين بأنّهم لايكادون يفقهون حديثاً لايريد بذلك أنّهم لا يفهمون نفس الكلام، لاَنّ القوم كانوا عرباً والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره بلا شك، وإنّما أراد بذلك أنّهم لايفهمون مراده من الخطاب فحضّهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم(٥)

____________

(١) الكافي: ٢ | ٩٢٣٨

(٢) النساء: ٧٨

(٣) النساء: ٨٢

(٤) محمد.

(٥) التفسير والمفسرون ، نقلاً عن الموافقات: ٣ | ٣٨٢ ـ ٣٨٣ .

١٨٦

ولايخفى أنّ الاستدلال بهذه الآيات غير تام جداً فإنّها تدعو إلى التدبر في نفس المفاهيم المستفادة من ظاهر الآيات وكون القرآن عربياً، وكون القوم عرباً لا يكفي في فهم القرآن الكريم من دون التدبر والاِمعان فهل يكفي كون القوم عرباً في فهم مغزى قوله سبحانه:( هُوَ الاَوّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالباطِنُ وَهُوَ بِكلّ شَيءٍ عَلِيم ) (١) أو في فهم قوله سبحانه:( وَما كَانَ مَعهُ مِن إلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِما خلَقَ ولَعَلا بَعضُهُم عَلى بَعضٍ سُبحانَ اللهِ عَمّا يَصفون ) (٢) أو فهم قوله سبحانه:( لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسدَتا فَسُبحانَ اللهِ ربّ العَرشِ عَمّا يَصِفُون ) (٣) فالدعوة إلى التدبر لا يدلّ على أنّ للقران وراء ما تفيده ظواهره بطناً. أضف إلى ذلك أنّه يمكن أن يكون الاَمر بالتدبر هو تطبيق العمل على ما يفهمونه من القرآن فربَّ ناصح يُدلى بكلام فيه نصيحة الاَهل والولد، ولكنّهم إذا لم يطبقوا عملهم على قول ناصحهم يعود الناصح إليهم، ويقول: لماذا لا تتدبرون في كلامى؟ لماذا لاتعقلون؟ مشعراً بذلك أنّكم ما وصلتم إلى ما أدعوكم إليه وإلاّ لتركتم أعمالكم القبيحة وصرتم عاملين بما أدعو إليه. وأمّا ما روى عن النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ للقرآن بطناً وظهراً فالحديث فيه ذو شجون وأنّه يحتمل وجوهاً على نحو مانعة الخلو. ١ ـ المقصود من البطن هو أنّ ما ورد في القرآن حول الاَقوام والاَُمم من القصص، وما أصابهم من النعم والنقم، لاينحصر على أُولئك الاَقوام، بل هؤلاء

____________

(١) الحديد: ٣

(٢) المؤمنون: ٩١

(٣) الاَنبياء: ٢٢ .

١٨٧

مظاهر لكلامه سبحانه وهو يعم غيرهم ممن يأتون في الاَجيال فقوله سبحانه:( وضَربَ اللهُ مَثلاً قَريةً كانَت آمنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيها رِزقُها رَغَداً مِن كُلّ مَكانٍ فَكَفَرت بِأنعُمِ اللهِ فأذاقها اللهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِما كانُوا يَصنَعونَ وَلَقد جاءَهُمْ رَسولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمون ) (١) وإن كان وارداً في قوم خاص، لكنّها قاعدة كلية مضروبة على الاَُمم جمعاء. ٢ ـ المراد من بطـن القرآن هو الاهتـداء إلى المصاديـق الخفيـة التي يحتاج الوصول إليها إلى التدبر، أو تنصيص من الاِمام، ولاَجل ذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يقول في تفسير قوله سبحانه:( وإن نَكَثُوا أيْمانَهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم وطَعَنُوا في دِينِكُم فَقاتِلُوا أئمَّةَ الكُفْرِ إنّهُم لا أيْمانَ لَهُم لَعَلّهُم يَنتَهُون ) (٢) "إنّه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم" وفي رواية قال علىعليه‌السلام : "عذرنى الله من طلحة والزبير بايعاني طائعين، غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته" ثم تلا هذه الآية(٣) ٣ ـ وهناك احتمال ثالث للبطن وهو حمل الآية على مراتب مفهومها وسعة معناها واختلاف الناس في الاستفادة منها حسب استعداداتهم وقابلياتهم لاحظ قوله سبحانه:( أنزَلَ مِن السّماءِ ماءً فَسالت أوديةٌ بِقَدَرِها فاحتَملَ السَّيلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ في النّارِ ابتغاءَ حِليةٍ أو متاعٍ زَبَدٌ مِثلُهُ كَذلِكَ يَضربُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ فأمّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيمكُثُ فِي الاَرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللهُ الاَمثال ) (٤)

____________

(١) النحل: ١١٢ ـ ١١٣

(٢) التوبة: ١٢

(٣) البرهان في تفسير القرآن: ١ | ١٠٥

(٤) الرعد: ١٧ .

١٨٨

إنّ للآية مراتب ودرجات من التفسير كل يستفيد منها حسب قابليته والكل يستمد من الظاهر، ونظيره آية النور(١) فقد خاض المفسرون في تفسير الآية وتطبيقها على موارد مختلفة وكل استفاد من نورها حسب موَهلاته وكفاءاته. وحاصل القول في التفسير الاِشاري أنّ ما يفهمه المفسر من المعانى الدقيقة إنّ كان لها صلة بالظاهر فهو مقبول سواء سمّي تفسيراً على حسب الظاهر أو تفسيراً إشارياً وعلى كل تقدير فالمفسر على حجّة من ربّه في حمل الآية على ما أدرك، وأمّا إذا كان مقطوع الصلة عن الظاهر، المتبادر إلى الاَذهان، فلايصح له حمل القرآن عليه إلاّ إذا حصل له القطع بأنّه المراد وعندئذ يكون القطع حجّة له لالغيره وإن كان مخالفاً للواقع، ولاِيضاح الحال نأتي بأمثلة: يخاطب سبحانه أُمّ المسيح بقوله:( وهُزّي إلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطباً جَنيّاً ) (٢) فلو قال أحد: إنّه سبحانه هيّأ مقدمات الولادة وموَخراتها لاَُمّ المسيح، حتى الرطب في غير فصله من الشجرة اليابسة ومع ذلك أمرها أن تَهزَّ بجذع النخلة مع أنّ في وسع المولى سبحانه أن يرزقها الرطب بلا حاجة إلى الهزِّ، ـ أمرها بالهزّ ـ هذا لتفهيمها أنّها مسوَولة في حياتها عن معاشها، وأنّه سبحانه لو هيّأ كل المقدمات فلا تغني عن سعيها وحركتها ولو بالهز بجذع النخلة. هذا ما ربما يعلق بذهن بعض المفسرين ولابأس به لاَنّ له صلة بالظاهر. روي أنّه بعدما نزل قوله سبحانه:( اليومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتمَمتُ عَليكُمْ نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الاِسلامَ ديناً ) فرحَ الصحابة وبكى بعضهم فقال: الآية تنعي إلينا برحلة النبي(٣)

____________

(١) النور: ٣٥

(٢) مريم: ٢٥

(٣) الآلوسي: روح المعاني: ٦ | ٦٠ والآية ٣ من سورة المائدة.

١٨٩

والنماذج الواضحة لهذا النوع من التفسير الاِشاري مايذكره المفسرون حول الآيتين آية الرعد واية النور ترى أنّ المعاني المذكورة في كتب التفاسير تختلف وضوحاً وخفاءً وبساطة وعلوياً، والكل يسند المعاني إلى اللفظ وبينها وبين لفظ الآية صلة، ولعل الاَمر بالتدبر في القرآن يعود أيضاً لهذا النوع من التفسير التي لايصل إليها المفسر إلاّ بعد الاِمعان وهذا ما يقال فيه: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء". نعم هناك تفاسير باسم التفسير الاِشاري لايصح إسناده إلى الله سبحانه كتفسير "الَم" بأنّ الاَلف إشارة إلى الله واللام إلى جبرئيل والميم إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه أشبه بالتفسير بالرأي إلاّ إذا كان هناك نصّ من المعصوم. ولو صحّ هذا التفسير فيمكن تفسيره بوجوه كثيرة بأنّ يقال الاَلف إشارة إلى ألف الوحدانية، واللام إلى لام اللطف، والميم إشارة إلى الملك، فمعنى الكلمة: من وحّدني تلطفت له فجزيته بالملك الاَعلى، وأسوأ من ذلك تفسير قوله سبحانه:( والجارِ ذِي القُربَى والجارِ الجُنُبِ وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ و ابنِ السّبِيل ) (١) بأن يقال:(والجار ذي القربى ) هو القلب، (والجار الجنب) هو الطبيعة، (والصاحب الجنب) هو العقل المقتدي بالشريعة، (وابن السبيل ) هو الجوارح المطيعة لله فمثل هذا النوع من التفسير يلتحق بتفاسير الباطنية التي سوف نبحث عنها في المستقبل. وخلاصة الكلام: أنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكر والتأمل في نفس الآية ومفرداتها وسياقها منه سواء كان معنى أخلاقياً أو اجتماعياً أو سياسياً نافعاً بحال المجتمع، إذا كان له صلة بالظاهر غير منقطع عنه فهو تفسير مقبول وفي

____________

(١) النساء: ٣٦ .

١٩٠

غير هذه الصورة يكون مردوداً. ولعل كون القرآن كتاب القرون والاَجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاِشاري ولاَجل ذلك لم يزل كتاب الله طريّاً في غضون الاَجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس، بل هو طرىّ ما دامت السموات والاَرض ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الاِنسان بالتعمق في دلالاته اللفظية: المطابقية والتضمنية والالتزامية وإن كان السلف في الاَعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني، ولعله إلى ذلك يشير الصادقعليه‌السلام في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لايزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ بقوله: "لاَنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس وهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة"(١) وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز وبالتالى يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى، ومقصور المراد، لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.

____________

(١) البحار: ٩٢ ، باب فضل القرآن، الحديث ٨ ، نقلاً عن عيون أخبار الرضا، عن أبيه موسى الكاظمعليهما‌السلام .

١٩١

المنهج الثاني: التفسير بالنقل

وصوره:

١ـ تفسير القرآن بالقران.

٢ـ التفسير البياني للقران.

٣ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.

٤ـ تفسير القرآن بالمأثور عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاَئمّةعليهم‌السلام .

وإليك بيان هذه الاَقسام:

١ ـ تفسير القرآن بالقران:

إنّ هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه:

( وَنَزّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلّ شَيءٍ ) (النحل ـ ٨٩) .

فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء، فهو موضِّح لنفسه أيضاً، كيف والقرآن كلّه "هدى" و "بيّنة" و "فرقان" و "نور" كما في قوله سبحانه:

( شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرانُ هُدًى لِلنّاسِ وَبيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان ) (البقرة ـ ١٨٥) .

وقال سبحانه:

( وأنزَلنا إلَيكُمْ نُوراً مُبيناً ) (النساء ـ ١٧٤) .

١٩٢

وعن النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "إنّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً" وقال علىعليه‌السلام في كلام له يصف فيه القرآن: "كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض، ولايختلف في الله ولايخالف بمصاحبه عن الله(١) ".

وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه:( وأمطَرنا عَلَيهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ المُنذَرين ) (الشعراء ـ ١٧٣) بالحجارة الواردة في آية أُخرى في هذا الشأن قال: ( وأمطَرنا عَلَيهِم حِجارَةً مِن سِجِّيل ) (الحجر ـ ٧٤) .

وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم عند الاستدلال بالآيات على كثير من الاَحكام الشرعية الفرعية وغيرها.

وقد قام أحد الفضلاء باستقصاء جميع هذا النوع من الاَحاديث المتضمنة لهذا النمط من التفسير.

ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج.

١ ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفرعليه‌السلام عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنّه سبحانه يقول:( وَلَيْسَ عَلَيكُم جُناح ) (٢) لم يقل افعلوا؟

فأجاب الاِمامعليه‌السلام بقوله: "أوليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة:( فَمَن حَجَّ البَيتَ أوِ اعتَمرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما ) (٣) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض" . (٤)

____________

(١) نهج البلاغة: الخطبة: ١٢٩ .

(٢) الاَحزاب: ٢٥ .

(٣) البقرة: ١٥٨ .

(٤) الوسائل: ٥ ، الباب ٢٢ ، من أبواب صلاة المسافر، الحديث ٢.

١٩٣

٢ ـ روى المفيد في إرشاده: أنّ عمر أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها فقال له أمير الموَمنينعليه‌السلام : "إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إنّ الله تعالى يقول:( وَحَملُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً ) (١) ويقول:( وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أراد أن يُتِمَّ الرّضاعَة ) (٢) .

فإذا تمّ، أتمّت المرأة الرضاع لسنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستة أشهر"، فخلّى عمر سبيل المرأة(٣)

أقول: هذا النمط من التفسير كما يتحقّق بالتفسير الموضوعي، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات، يتحقّق بالتفسير التجزيئي أي حسب السور، سورة بعد سورة وهذا هو تفسير "الميزان" كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن، لكن على حسب السور، دون الموضوعات فبيّن إبهام الآية بآية أُختها.

ولكن الصورة الكاملة لهذا النمط من التفسير يستدعي الاِحاطة بالقران الكريم، وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد، حتى تتجلّـى الحقيقة من ضمّ بعضها إلى بعض، واستنطاق بعضها ببعض، فيجب على القائم بهذا النمط، تفسير القرآن على حسب الموضوعات، وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير، وقد قام العلامة المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب السور.

ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربّما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهوقدس‌سره قد استخرج الآيات حسب الموضوعات، وشرحها بوجه إجمالي.

____________

(١) الاَحقاف: ١٥ .

(٢) البقرة: ٢٣٣ .

(٣) نور الثقلين: ١٤٥. الدر المنثور للسيوطي: ٧ | ٤٤١ ، طبع دار الفكر بيروت .

١٩٤

ولكن النمط الاَوسط منه هو قراءة القرآن من أوّله إلى آخره، والدقة في مقاصد الآيات، ثم تصنيف الآيات حسب ما ورد فيها من الاَبحاث والموضوعات، ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنّف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة، وهذا بخلاف ما قام به العلامة المجلسي، فهو صنّف الآيات حسب الموضوعات جادت بها فكرته، أو جاءت في كتب الاَحاديث والاَخبار.

وهذا النمط من التفسير لايعني قول القائل: "حسبنا كتاب الله " المجمع على بطلانه من عامة المسلمين، لاهتمامهم بالسنّة مثل اهتمامهم بالقرآن، وإنّما يعني أنّ مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.

وأمّا أنّه كاف لرفع جميع المبهمات حتى مجملات الآية ومطلقاتها فلا، إذ لاشك أنّ المجملات كالصلاة والزكاة يبين بالسنّة والعمومات تخصص بها، والمطلقات تقيد بالاَخبار إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السنّة.

هذا بعض الكلام في هذا المنهج، وقد وقع مورد العناية في هذا العصر، فقد أخذنا هذا النمط في تفسيرنا للذكر الحكيم، فخرج منه باللغة العربية أجزاء سبعة باسم "مفاهيم القرآن" وباللغة الفارسية إثنا عشر جزءاً وانتشر باسم "منشور جاويد" ولا ننكر أنّ هذا العبء الثقيل يحتاج إلى لجنة تحضيرية أوّلاً، وتحريرية ثانياً، وإشراف من الاَساتذة ثالثاً، رزقنا الله تحقيق هذه الاَُمنية.

وإنّ تفسير ابن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر، كما أنّ الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حرر بقلم تلميذه اتّبع هذا المنهج في بعض الاَحايين.

والاَكمل من التفسيرين في اتّباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلامة الطباطبائي فقد بنى تفسيره على تفسير الآية بالآية.

١٩٥

غير أنّ هذه التفاسير الثلاثة كما عرفت كتبت على نحو التفسير التجزيئي، أي تفسير القرآن بسورة بعد سورة لا على تفسيره حسب الموضوعات.

وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقران يتحقّق على النمط الموضوعي كما يتحقّق على النمط التجزيئي غير أنّ الاَكمل هو اقتفاء النمط الاَوّل.

٢ ـ التفسير البياني للقران:

هذا المنهج الذي ابتكره ـ حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطىَ ـ أُستاذها الاَمين الخولي المصري ـ عبارة عن استقراء اللفظ القرانى في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الاسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البيانى.

وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط وهي:

ألف ـ التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن ويُبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سورٍ وايات في الموضوع المدروس.

ب ـ ترتب الآيات فيه حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّـر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.

ج ـ في فهم دلالات الاَلفاظ يقدر أنّ العربية هي لغة القرآن فتلتمس الدلالة اللغوية الاَصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية.

ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.

د ـ وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً ويعرض عليه أقوال المفسرين فيقبل منها ما يقبله النص.

١٩٦

هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الاَُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطىَ فخرج من هذا المنهج كتاب باسم "التفسير البيانى للقران الكريم" في جزأين تناول تفسير السور التالية في الجزء الاَوّل: "الضحى، والشرح، الزلزلة، النازعات، العاديات، البلد، التكاثر" كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية: "العلق، القلم، العصر، الليل، الفجر، الهمز، الماعون".

ولاشك أنّه نمط بديع بين التفاسير إذ لايماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الاَخير الذي عرف فيه تفسير الاِمام عبده وتفسير المراغي، فهذا النمط لايشابه التفاسير السابقة غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً وتفسير القرآن بالقران ثانياً، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القراني في كل مواضع وروده في الكتاب.

وبعبارة أُخرى يهتم المفسر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الاَصيل وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الاَلفاظ. مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه:( ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك ) كل آية ورد فيها مادة "الشرح" بصورها أو كل آية ورد فيها مادة "الصدر" بصيغه المختلفة وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناه واضحاً عندنا لكنّه لايعتني بهذا الوضوح، بل يرجع إلى نفس القرآن ثم يطبّق عليه سائر الضوابط من تدبر سياق الآية وسياق السورة، وسياق الآية العام في القرآن كله.

والذي يوَخذ على هذا النوع من التفسير أنّه أمر بديع قابل للاعتماد غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة لاَنّها عمومات فيها مخصصها، أو مطلقات فيها مقيدها أو مجملات فيها مبينها.

نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الاَبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون لاَنّ المفسر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ من التدبر في النص القراني نعم معاجم العربية وكتب التفسير يعينه في بداية الاَمر.

وما ورد في روايات أهل البيت في مواضع، ما يوجد هذا النوع من النمط وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.

١٩٧

١ ـ روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال:

قلت لاَبي جعفرعليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: "يازرارة قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ لاَنّ الله عزّ وجلّ قال:(فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل ثم قال:( وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلامين فقال: (وامسَحُوا بِروَُوسِكُم) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان "الباء" ثم وصل الرجلين بالرأس، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضها، ثم فسر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس فضيعوه"(١)

____________

(١) الوسائل: ١ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء، الحديث ١. والآية ٦ من سورة المائدة.

١٩٨

٢ ـ روى الكليني بسند صحيح عن حماد بن عيسى عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية:( والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقطَعُوا أيْدِيَهُما ) وقال:( فاغسِلُوا وجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) قال: فامسح على كفيك من حيث موضع القطع(١)

فقد استظهر الاِمام في التيمم كفاية المسح على الكفين بحجّة أنّه أطلق الاَيدي في آية السرقة والتيمم ولم تقيّد بالمرافق وقال:( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيّباً فَا مسَحُوا بِوجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه ) (٢) فعلم أنّ القطع والتيمم ليس من المرفقين.

٣ ـ سأل أبو بصير أحد الصادقينعليهما‌السلام هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر الله سبحانه أو لا ؟ قال: "نعم، ألا ترى أنّ الله تعالى يقول:( وَما جَعَلنا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيها إلاّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول " ) (٣)

٣ ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية:

ففي هذا المنهج يهتم المفسر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها، لاَنّه ينبعث عن تحريف القراءة، تحريف اللفظ القرآني المنزل، ومن ثم تحريف المعنى.

فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني، وصيانته من شبهة أو تحريف.

____________

(١) الوسائل: ٢ ، الباب ١٣ من أبواب التيمم، الحديث ٢. والآيتان ٣٨ و ٦ من سورة المائدة.

(٢) المائدة: ٦ .

(٣) الوسائل: ٣ ، الباب ٢ من أبواب القبلة، الحديث ٢ ، والآية ١٤٣ ، من سورة البقرة.

١٩٩

والاهتمام بالقراءة يستدعي ـ منطقياً ـ الاهتمام بالصنعة النحوية، في النص القراني إذ أنّ هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات، إنّما يقصد أساساً إلى المعنى، فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها فالفاعل يرفع والمفعول به ينصب وما لحقه من الجرِّ بسبب من أسبابه يجر.

فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً، لاَنّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.

ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الاِعراب القراني، يتضح مفاد الآية في هذا الاِطار الخاص مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً، وتوضيح معانيها الاَصيلة.

وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية:

١ ـ معاني القرآن تأليف ابن زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت ٢٠٧ هـ) ففسّر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج وقد طبع الكتاب في جزأين، حقّقهما محمد على النجار وأحمد يوسف نجاتي.

ويبدو من ديباجة الكتاب أنّ الفراء شرع في تأليفه سنة (٢٠٤هـ) .

والكتاب قيم في نوعه، وإن كان غير وافٍ بعامة مقاصد القرآن الكريم.

٢ ـ مجاز القرآن لاَبي عبيدة معمر بن المثنى (ت ٢١٣ هـ) وقيل غير ذلك.

يقول في مقدمة الكتاب: قالوا: إنّما أُنزل القرآن بلسان عربى ومصداق ذلك في آية من القرآن وفي آية أُخرى:( وَما أرسَلنا مِن رَسُولٍ إلاّ بِلسانِ قَومِه ) (١) غلا فَلم يحتج السلف ولا الّذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه لاَنّهم كانوا عرب الاَلسن فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه،

____________

(١) إبراهيم: ٤ .

٢٠٠