في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19628 / تحميل: 3478
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

فتستحلونه» ؟

قال: فقلت: بلى.

قال: «فتلك عبادتهم»(١)

وقد تضافرت عن أئمّة أهلِ البيتِ أحاديث كثيرةٌ في هذا المعنى وإليك بعض ما ورد عن طريقهم:

روى جابر بن عبد اللّه الاَنصاري عن أبي عبد اللّه الصادق -عليه‌السلام - ، قال سألته عن قول اللّه: (اتّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانهم أَرباباً من دونِ اللّهِ)

قال: «أما إنّهم لم يتّخذُوهم آلهة، إلاّ أنّهم أحلّوا حلالاً وأخذوا به، وحرّموا حراماً فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون اللّه»(٢)

وروي عن أبي جعفر الباقر -عليه‌السلام - في تفسير قوله: (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم) أمّا المسيح فبعضٌ عظّموه في أنفسهم حتّى زعموا أنّه إله ، وأنّه ابنُ اللّه، وطائفةٌ منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفةٌ منهم قالوا: هو اللّه.

وأمّا قوله: : «أحبارهم ورهبانهم» فإنّهم أطاعوهم، وأخذوا بقولهم، واتبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم، وتركهم ما أمرَ اللّه وكتبه ورُسله، فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهُمْ به الاَحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم، وعَصُوا اللّهَ ورسوله، وإنّما ذُكِرَ هذا في كتابنا لكي

____________________

(١)تفسير الثعلبي: مخطوط نقله عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣: ٢٤.

(٢)نور الثقلين ج٢: ٢٠٩- ٢١٠.

١٦١

نتعظَ بهم، فعيّر اللّهُ تباركَ وتعالى بني إسرائيل بما صَنعوا، يقول اللّه تبارك وتعالى:( وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبدُوا إِلهاً واحِداً لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشرِكُونَ ) (١)

وروى أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه -عليه‌السلام - عن قول اللّه عزَّ وجلَّ: (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه)

فقال: «أما واللّه ما دَعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فَعَبَدُوهم من حيث لا يشعرون»(٢) .

أي كانت طاعتهم لهم في ما أحلّوا وما حرّموا عبادة لهم، لاَنّهم بذلك أعطوا البشر شأناً من شوَون اللّه سبحانه الخاصّة به، وهو حقّ التقنين والتشريع.

٤- أهل مكّة وأوّل صنم عبدوه:

جاء في السيرة النبوية لابن هشام أنّ «عَمرو بن لُحيّ» كان أوّلَ من أدخلَ الوثنية إلى مكّة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الاَوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون بقوله: ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فَنَسْتَمْطِرُها فَتُمْطِرُنا ونَسْتَنْصِرُها فَتَنْصُرنا.

____________________

(١)نور الثقلين ج٢: ٢٠٩- ٢١٠.

(٢)الكافي ١:٢٧٥.

١٦٢

فقال لهم: أفلا تعطوني واحداً منها فأسير إلى أرض العرب فيعبدوه ؟!

ثمّ انّه استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراً يُدعى «هُبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته(١)

إنّ طلب المطر من هذه الاَوثان يكشف عن اعتقادهم بأنّه كان لهذه الاَصنام دخلٌ في تدبير شوَون الكون وحياة الاِنسان.

٥- بقايا الاعتقاد بربوبية الاَنجم:

لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبل أسفل نعالهم (أي ليلاً) فأمر رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مناديه أن ينادي: ألا صَلّوا في رحالكم، وقال -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - صبيحة ليلة الحديبية لمّا صلّى بهم: «أتدرون ما قالَ ربُّكم» ؟ قالوا: اللّهُ ورسوله أعلم.

قال: قال اللّه عزّ وجلّ: «أصبَحَ من عبادي موَمنٌ بي وكافرٌ، فأمّا مَن قال: مُطِرنا برحمةِ اللّهِ وفضلِهِ فهو موَمنٌ باللّهِ وكافرٌ بالكواكبِ، ومن قال: مُطِرنا بِنَجْمِ كذا (وفي رواية بنوء كذا وكذا) فهو موَمن بالكواكب وكافر بي»(٢)

إنّ هذا النصّ يدلّ على أنّ العرب الجاهليين - بعضهم أو كلّهم -

____________________

(١)السيرة النبوية ١:٧٩.

(٢)السيرة الحلبية ٣: ٢٥ ، قال النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هذا في الرد على من اعتقد بأنّ المطر كان من جانب نجم خاص كان في الجاهلية يعتقدون أنّه مدبر شوَون المطر وكانت بعض رواسب هذه العقيدة باقية في عقول بعض المسلمين.

١٦٣

كانوا يعتقدون في الاَنجم التي يتوجّهون إليها بالطلب، بالربوبية ويعتقدون بأنّها تملك شأناً من شوَون حياتهم كالاَمطار.

ولهذا ندّدت الآيات القرآنية الكثيرة باعتقاد المشركين هذا، ونَفَت أن يملك أيّ واحد من هذه المعبودات المُزيّفة التي كانت رائجة في الاَوساط الجاهلية شيئاً من شوَون التدبير والربوبية أو شأناً من شوَون الاِنسان فيما يتعلّق بمسيره أو مصيره.

وإليك طائفة من هذه الآيات:

الآيات المندّدة باعتقاد المشركين:

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم عن الاَوثان والاَصنام والاَنجم والكواكب أو مَن تُمَثّلهم هذه الاَوثان والاَصنام من معبودات المشركين:

١-( وَاتّخَذوا مِن دُونِه ءَالهة لا يَخْلُقُون شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَنْفُسِهِمْ ضَرّاً ولاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَياةً ولا نُشُوراً ) (١)

٢-( إنَّ الَّذِينَ تعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) (٢)

٣-( قُل أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ) (٣)

____________________

(١)الفرقان: ٣.

(٢)العنكبوت: ١٧.

(٣) المائدة: ٧٦.

١٦٤

٤-( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمير ) (١)

٥-( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ) (٢)

٦-( وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ ) (٣)

٧-( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمُ وَلاَ تَحْويلاً ) (٤) .

٨-( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرّةٍ فِي السَّماواتِ وَلاَ في الاَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِن ظَهير ) (٥) من هذه الآيات يتّضح أمران:

١- أنّ المشركين كانوا يعتقدون في معبوداتهم أنّها تملك شيئاً من الاَمور التالية كلّها أو بعضها: الحياة والموت والنشور والضر والنفع والرزق والشفاعة، حيث صرّحت هذه الآيات بأنّ هذه المعبودات الباطلة لا تملك شيئاً من هذه الاَمور بل لا تملك شيئاً، بل ولا ذرّة في السماء ولا في الاَرض، ولا هي شريكةٌ في ذلك بل لا تملك من قطمير.

٢- أنَّ مقوّم العبادة هو أن يعتقد الاِنسان في من يخضع له أو يطلبُ

____________________

(١)فاطر: ١٣.

(٢)الزمر: ٤٣.

(٣)الزخرف: ٨٦.

(٤)الاِسراء: ٥٦.

(٥)سبأ: ٢٢.

١٦٥

منه شيئاً أنّه يملك(١) شأناً من شوَون حياة الاِنسان كالحياة أو الموت أو النشور أو الضرّ أو النفع أو الرزق أو يملك شأناً من شوَونه سبحانه، وإن لم تمت إلى الحياة بصلة كالمغفرة والشفاعة. ويوَيّد هذا أنّ اللّه أمر نبيّه بأن يقول للمشركين بأنّه إنّما يعبد الذي يملك هذه الشوَون لا من لايملكها، وأن ينهاهم عن عبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يضر ولا ينفع، ولا يملك شأناً من شوَون الربوبية، يقول سبحانه:( إنْ كُنتُمْ في شَكّ مِن ديني فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفّاكُمْ ) (٢) .( وَمَاليَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٣) ( يَا أيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبُلِكُمْ ) (٤) ( ذَلِكَ اللّهُ رَبّكُمْ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْء فاعْبدُوهُ ) (٥) لقد كانت هذه العقائد الباطلة (أي الاعتقاد بمالكية الاَصنام وغيرها من معبودات المشركين لشوَون التدبير في شتّى مراتبه الكاملة والمتوسطة والجزئية) متغلغلة في نفوس المشركين وأوساطهم، وكان أضعفها هو الاعتقاد بأنّ هذا الصنم أو ذاك يملك الشفاعة والمغفرة. وممّا يوَيّد أنَّ خضوع المشركين أمام معبوداتهم كان مزيجاً باعتقاد كونهم

____________________

(١)ومعنى يملك أنّه يستقل به ويقوم به من دون إذن من أحد.

(٢)يونس: ١٠٤.

(٣)يس: ٢٢.

(٤)البقرة: ٢١.

(٥)الاَنعام: ١٠٢.

١٦٦

آلهةً صغاراً أو أرباباً وموجودات تملك شوَون الربّ كلّها أو بعضها، أنّهم كانوا يصفونها بأنّها أندادٌ للّه سبحانه، قال:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أنْداداً يُحبّونَهم كَحُبِّ اللّهِ ) (١) ولما زعموا أنّ معبوداتهم المصطنعة تضرُّهم وتنفعهم وتملك شيئاً من مصيرهم كالشفاعة والمغفرة عادوا يحبّونها كحبّ اللّه. ويقول سبحانه: إنّ المشركين كانوا يُسوُّونَ آلهَتَهم برب العالمين قال:( تَاللّه إِن كُنَّا لَفِ-ي ضَلالٍ مُبين x إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالَمينَ ) (٢) والمراد من التسوية هي التسوية في شوَون الربّ جلّها أو بعضها غير الخالقية، فقد اتَّفقت كلمةُ المشركين في أُم القُرى وغيرها على كونها من شوَون الواجب جلَّ ذكرهُ(٣) . وأمّا التسوية في العبادة فكان من شوَون ذلك الاعتقاد، فإنّ العبادة خضوعٌ من الانسان لمعبوده، ولا يتحقّق مثل ذلك الخضوع إلاّ أن يكون هناك إحساس من صميم ذاته بأنّ المعبود يملك شوَونه في آجله وعاجله. وكان المشركون في ظلّ هذه العقيدة يسوُّون أصنامهم بربّ العالمين، وبالتالي يعبدونها. وليس المراد من التسوية، التسوية في العبادة، لاَنَّ المشركين المتواجدين في عصر الرسول كانوا لا يعبُدُون إلاّ الاَصنام، لا أنّهم كانوا يعبدون اللّهُ

____________________

(١)البقرة: ١٦٥.

(٢)الشعراء: ٩٧ - ٩٨.

(٣)لاحظ قوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات قالوا ...)

١٦٧

سبحانه وغيره من الاَصنام. وتوَيّده آيات سورة «الكافرون» قال سبحانه: (قُلْ يا أيّها الكافِرون...) فكان هناك عبادتان ومعبودان أحدهما يختصّ بالنبيّ، والآخر بالمشركين، لا أنّ المشركين كانوا يعبدون اللّهَ والاَصنام معاً، نعم كانوا يعبدُون الاَصنامَ لَغرضَ التقرّب بها إلى اللّه. فإذا كانت عقائد المشركين متَّسمةً بهذه السّم-ات، كان التنديد بها لاَجل هذه الجهة، وكان دعاوَهم ونداوَهم مُتّصفاً بصفة العبادة لوجود هذا العنصر، ولاعتقاد مثل هذه الصفة في الاَوثان ومن تمثّلهم. فهل من الاِنصاف أن يحكم أحدٌ على المسلمين الموحّدين المعتقدين بعبودية الاَنبياء والاَولياء، وعدم مالكيتهم شيء أو شأن إلاّ باذن اللّه سبحانه وعدم إمكانهم على القيام بطلب الشفاعة إلاّ من بعد أن يوَذن لهم، بأنّهم مشركون؟! حصيلة البحث: إنّ العبرة في القضاء والحكم إنّما هو حقائق الاَعمال لا صورها، ومن أظلم حكماً ممّن حكم على أُمّة النبيّ الاَكرم بالشرك في العبادة بحجّة: أنَّ المشركين كانوا يتوسّلون بأصنامهم، وهوَلاء أيضاً يتوسّلون بنبيّهم. وأنَّ المشركين كانوا يدعون معبوداتهم ويستغيثون بها، وهوَلاء أيضاً يدعون نبيّهم ويستغيثون به.

١٦٨

وأنَّ المشركين كانوا يطلبون الشفاعة من آلهتهم، وهوَلاء أيضاً يطلبونها من أوليائهم. وأنَّ المشركين كانوا يقرّبون النذور لآلهتهم، وهوَلاء أيضاً يقدّمون النذور لهم. وأنَّ المشركين يحلفون باللات والعزى، وهوَلاء أيضاً يحلفون بالنبيّ والقرآن والكعبة إلى غير ذلك من وجوه المشاركة والمشابهة التي ليست بمجرّدها عماداً للقضاء ولا سنداً في الحكم، وإلاّ لم يبق على أديمِ الاَرضِ من يمكن إدراج نفسه في ديوان الموحدين، لمشابهة أكثر أعمال المسلمين لاَعمال المشركين في الاَشكال والظواهر والهيئات والصور.*

١٦٩

١٧٠

٧- الاَنبياء والاَولياءوالقدرة الغيبية المأذونة

رجال رفعتهم العبادة الخالصة. صاحب موسى والاَعمال الخارقة. أصحاب سليمان والاَعمال الخارقة. سليمان بن داود والقدرة الغيبية. المسيح والسلطة الغيبية. ما يترتّب على هذا الاَصل. رجال رفعتهم العبادة الخالصة: إنّ للّه سبحانه رجالاً مُصطفين، يُستدرّ بهم الغمامُ، ويندر أمثالهم في الدهر، وهم مُثُل للفضيلة والاِخلاص، وخزنة للعلم والاَسرار، قد منحهم اللّه سبحانه من سابق علمه، واستأمنهم على غامض علومه، ممّا لا يقوى على احتماله غيرهم، فجمعوا العلم، سرَّه وجهره، وحازوا من الفضائل، نفسيّها وخلقيّها، وبلغوا القمّة في العبادة قوليّها وعمليّها جارحيّها وجانحيّها، وأخذوا عنه سبحانه أسرار العلم وجواهر الحكمة حتّى زكت نفوسهم،

١٧١

وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين. وفي حقّهم يقول أمير الموَمنين -عليه‌السلام - : «ما برح للّه، عزّت آلاوُه، في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهُم في فِكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم»(١) أجل إنّ الاِيمان المحض والعبودية الخالصة، يرفعان بالاِنسان إلى درجة يستطيع معها صاحبها أن يتصرّف في الكون إذا أراد بإذن اللّه سبحانه، ويخرق القوانين الطبيعيّة بمشيئته تعالى. ولقد بيّن الذكر الحكيم بعض أعمالهم وأفعالهم التي تُبهر العقول وتدهش العيون، وهم بين نبيّ اصطفاه اللّه سبحانه لهداية الناس ومدّه بالبيّنات، وزوّده بالمعجزات، ورجلٍ صالح مخلص لا يُدرَك له شأوٌ ولا يُشقُّ له غبار، وهم وإن لم يكونوا بأنبياء ولكن يغبطهم بعض الاَنبياء، على منازلهم، ومقاماتهم. وها هو علي -عليه‌السلام - يُعرّفهم بقوله: «هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقةِ البصيرة، وباشَروا روحَ اليقين، واستلانُوا ما استوعَره المترَفون، وأنِسوا بما استوحَشَ منه الجاهلُون وصَحبوا الدُنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحلِّ الاَعلى، أُولئكَ خُلفاءُ اللّه في أرضه والدعاة إلى دينه»(٢) . إنّ هوَلاء الاَبدال قد مُنحوا هذه المنزلة الرفيعة بفضل العبوديّة وسلوك سبيل الطاعة، فعلِمُوا بما لم يعلم به الناس، ووقفوا على علم الحوادث

____________________

(١)نهج البلاغة، الخطبة: ٢١٧.

(٢) المصدر نفسه: قصار الحكم: ١٤٧.

١٧٢

والوقائع التي يُبتلى بها الناس، وتصرّفوا في الكون تصرّفاً بديعاً خارجاً عن السنن العادية إلى غير ذلك مما لهم من المثل والفضائل. إنّ العبادة التي يتصوّر أكثر الناس أنّ آثارها تنحصر في دفع العذاب والعقاب وجلب الثواب، تمنح النفسَ قدرةً عظيمةً يكون بها صاحبها مَثَلاً للّه سبحانه، وللّه المثلُ الاَعلى، وتعالى عن الندّ والمثل. إنّ سلوك طريق العبودية والانتهاء عن المحرّمات والالتزام بالواجبات والمستحبّات، والاِخلاص في القول والعمل ذو أثر عظيم وعميق في تزويد النفس بقدرة خاصّة خارقة للقوانين والسنن الكونية لاَهدافٍ عاليةٍ، إلى هذا يشير الحديث القدسي: «ما تَقرّبَ إليَّ عبدٌ بشيء أحبُّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وأنّه ليتقرّبُ إليَّ بالنافلة فإذا أحببتهُ، كنتُ سمعَه الذي يسمعَ به، وبصرَهُ الذي يُبصر به، ولسانَهُ الذي ينطِق به، ويدَه التي يبطش بها، إن دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيتُه»(١) فكم في الموَمنين باللّه من ذوي الرُتب العلوية، رجال وأبدال شملتهم العناية الاِلهية، فجرّدوا أنفسهم عن أبدانهم، حينما أرادوا معاينة الحقائق، واطّلعوا على الاَسرار، على غرار اطّلاع يعقوب على مصير ابنه، واطّلاع يوسف على الغامض من حياة صاحبيه في السجن. وها هنا نعرّف ببعض من وصل إلى ذلك المقام على ضوء القرآن الكريم:

____________________

(١)الوسائل: ج٣، الباب ١٧ من أبواب اعداد الفرائض برقم ٦.

١٧٣

١- صاحب موسى -عليه‌السلام - وأعمالهُ الخارقة:

إنّ الذكر الحكيم يتعرّض لذكر عبدٍ من عباد اللّه أعطاهُ اللّه سبحانه رحمةً من عنده وعلّمهُ من لدنه علماً، وبلغ في العلم إلى درجة أنّ كليم اللّه -عليه‌السلام - طَلَبَ منه أن يتّبعه حتّى يعلّمه مما عَلِمَ ويسترشد برشده، ولكنّه رفض ذلك قائلاً: بأنّه لا يستطيع معه صبراً وكيف يصبر على ما لم يحط به خبراً. غير أنّ الكليم أصرَّ على التبعية والمصاحبة، ووعده بأن يجده صابراً ولا يعصي له حكماً. غير أنّ ذلك العبد الصالح اشترط عليه بأنّه إن رأى منه فعلاً عجيباً لا يسأله عن سببه حتّى يكون هو الذي يشرح له.

فركبا في السفينة، فخرق ذلك العبدُ الصالح السفينة من دون سبب ظاهر فاستولت الوحشة على موسى فقال له معترضاً:( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرقَ أَهْلَهَا لَقَد جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) ، فأجابه بأنّه قد خالف ما أخذه عليه من الشرط.

فلما نزلا من السفينة لقيا غلاماً فقتله ذلك الرجلُ من دون جُرم بيّ-ن واستولت على موسى الدهشة ثانية، وقال:( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) ، فأجابه بما قاله له في المرة الاُولى.

ثمّ إنّهما أتيا قريةً واستطعما أهلها، فأبوا أن يضيّفُوهُما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ ويتهاوى فأقامه من دون أُجرة فاعترض عليه موسى بقوله:( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً ) ، فقال المُصاحَبُ:( هَذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنْبِئُكَ بِتَأْويلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْراً ) (١)

____________________

(١)الكهف: ٦٠ - ٨٢.

١٧٤

ثم أخذ المصاحَبُ يشرح أسرار أفعاله وقال: أمّا خرقُ السفينة فلاَجل أنّها كانت لمساكين، وكان أمامَهم ملكٌ يأخذ كلُّ سفينة غصباً فأردتُ أن أعيبها حتّى لا يطمع بها.

وأمّا قتل الغلام فكان أبواه موَمنين فعلمت أنّه إن بقي يغشى أبويه طغياناً وكفراً، ويحملهما عليهما، فأراد ربُّهما أن يهب لهما ولداً خيراً منه ديناً وطهارةً وأرحم بهما.

وأمّا إقامة الجدار فلاَنّه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ مذخورٌ فأراد سبحانه أن يبلغا أشدَّهما ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربّك.

ثمّ أضاف بأنّ ما فعله لم يكن من قِبَلِ نفسه بل بأمر اللّه سبحانه.

هذا هو صاحب موسى فما هو اسمه ومن هو؟ أنّه غير معلوم على وجه اليقين، ولكن شخصيّته القوية ومنزلته السامية لائحة من أفعاله البديعة فهي تعرب:

أوّلاً: عن أنّه كان عالماً بعلم المنايا والبلايا، وعلم الآجال والحوادث.

وكان يعلم علماً قطعيّاً بأنّ أمام السفينة ملكٌ يأخذ كل سفينة غصباً وأنّ السفينة لو أصبحت معيبةً لا يطمع بها.

كما كان يعلم بأنّ الولَدَ لو بَلغَ أشدَّه، هجر الوالدين إلى الكفر والطغيان، وأنّه لو قَتَلهُ لعوَّض عنه ولداً باراً بوالديه.

كما أنّه وقف على أنّ تحت الجدار مالاً مذخوراً وأنّه لو وقَعَ الجدارُ ظهر ذلك المال واستولى عليه الناس وانّه لو أقام الجدار يبقى مدة يبلغ فيها

١٧٥

الغلامان أشدهما ويستخرجان كنزهما.

وأيّ علم أعلى وأرفع من علوم هذا العبد الصالح الذي لا تحيط بها المقاييس والموازين.

فلو قال رجلٌ مسلمٌ بأنَّ بين عباد اللّه سبحانه رجالاً صالحين هم خزنةٌ للعلم والاَسرار يرون ما وراء الحجب ويقفون على الحوادث والآجال بإذنه سبحانه وتعليمه فإنّما يريدون مثل هذا، لا غير.

وأمّا العلم بالمغيّبات من دون اكتساب ولا تحصيلٍ من مصدر أعلى فإنّما هو يختص باللّه سبحانه فهو عالم الغيب والشهادة بلا تعليم وكسب، فأين المتناهي من اللامتناهي؟ وأين الممكن من الواجب؟ وأين الفقير من الغني؟ وأين المتعلّم من العالم بالذات، إذن فلا يلزم من نسبة التعرّف على الغيب في موارد خاصة، وعلى نحو الاكتساب إشراك العبد مع الربّ، والفقير مع الغنيّ تعالى:( فَمَا لِهَوَلاَءِ القَوْمِ لاَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً )

وثانياً: أنّ ما قام به صاحب موسى من الاَعمال البديعة تعرب عن كونه ذا قدرة متصرّفة في عالم التكوين على وجه لا يراه من صاحبه وجاوره فها هو خرق السفينة أمام أعين صاحبها وركّابها ولم يره أحد.

فقد تصرّف في العيون والاَبصار على وجه لم يقفوا معه على فِعلِه، ليحولوا بينه وبين ما يريد.

كما أنّه قَتلَ غلاماً في الطريق وبنى الجدار ولم يعرف بفعله أحدٌ.

وما هذا إلاّ دليل بارز على قدرته على التصرّف في الاَبصار والاَنظار.

١٧٦

وثالثاً: أنّ للّه سبحانه أولياء مستورين لا يعرفهم أحدٌ حتّى المقرّبين من أنبيائهم وأُولي العزم منهم، فتصل ألطافهم إلى الناس بدون أن يطّلعوا على فاعلها ومصدرها.

هذه دراسة تحليلية إجمالية للقصة وما يستفاد منها من حقائق وأسرار.

٢- أصحاب سليمان والاَعمال الخارقة:

إنّ القرآن يثبت لحواريّ سليمان قدرةً غيبيةً مكّنته من إحضار عرش ملكة «سبأ» من اليمن إلى فلسطين قبل أن ينفضّ مجلسه قال سبحانه:( قَالَ يَا أَيُّها المَلَوُاْ أَيُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنّ أَنَّا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَقَامِكَ وَإِنّى عَلِيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ ) (١)

بل ومكّنت شخصاً آخر من حاشيته من أن يجلب له العرش في أقلْ من طرفة عين إذ قال:( قالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّى ) (٢)

فما هذا العلم الذي يحمله قائلُ هذا القول؟( أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )

هل المراد هو العلم بِطُرقِ الاَعمال الخارقةِ للعادة أو غيره؟

وعلى كل تقدير فهذا العلم ليس من سنخ العلوم الفكرية التي يتم

____________________

(١)النمل: ٣٨ - ٣٩.

(٢)النمل: ٤٠.

١٧٧

اكتسابها وتعلّمها بالطرق العادية المتعارفة بشهادة أنّ علمه هذا كان جزءاً من كتاب خاص معهود يختلف عن بقيّة الكتب على حدّ تعبير الآية الشريفة.

وعلى كلّ تقديرٍ فقد كان قادراً على الاِتيان بهذا العمل، إمّا لامتلاكه قدرةً على الاِتيان به بإذن اللّه سبحانه كقدرته على إتيان الاَعمال الاعتيادية، أو لاَنّه كان على قَدَر عظيم من الارتباط باللّه سبحانه بحيث إذا سأل شيئاً لم يتخلّف عن إجابته.

٣- سليمان والسلطة الغيبية:

ويشير القرآن كذلك إلى وجود سلطةٍ خارقةٍ لسليمان -عليه‌السلام - في مواضع من سور الذكر الحكيم، فقد حكت آيات عن:

١- امتلاكه سلطةً نافذةً على معاشر الاِنس والجنّ وأنواع الطير حتّى أنّها عُدّت من جنوده وعساكره:( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنّ والاِنسِ والطَّيْرِ ) (١)

٢- إنّه بلغ في نفوذ سلطانه على كائنات عالم الحيوانات أنّه كان يحادثُهم ويتوعّدهم وينذرهم بصرامةٍ ويأمرُهُم بما يشاء:( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالَيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائِبِينَ * لاَعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مُبين ) (٢)

____________________

(١)النمل: ١٧.

(٢)النمل: ٢٠ - ٢١.

١٧٨

٣- أنّه فرض سلطته وسيطرته التامّة على الجنّ فكانوا رهنَ إشارته وطوع أوامرِهِ يمتثلون ما يسنّه لهم ويأمرهم به:( وَمِنَ الجنّ مَن يَعْملُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ ) (١)

٤- أنّه فرض سلطته على الريح فكانت تتحرك في الفضاء حسب أمره ونهيه:( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ ) (٢)

فأيّ سلطة أعظمُ من هذه السلطة على الكون التي كانت لسليمان -عليه‌السلام - والجدير بالذكر أنّ بعضَ الآيات صريحةٌ في أنّ الريح كانت تجري بأمره، فسليمان النبيّ بَلَغَ من المنزلة والمكانةِ حدّاً، صار الكونُ معها رهن إشارته وطوع أمره؟

٤- المسيح والسلطة الغيبيّة:

بَعَثَ اللّهُ سبحانه المسيح عيسى بن مريم نبيّاً إلى بني إسرائيل ومنح له من القدرة ذكرتها جملة الآيات التالية:

( أنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْ-راً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىُ الاَكْمَهَ والاَبْرَصَ وَأُحْيى المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ إِنَّ في ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُوَمِنينَ ) (٣)

والجدير بالذكر أنّ اللّه يسند هذه الاَعمال إلى نفس شخص المسيح

____________________

(١)سبأ: ١٢- ١٣.

(٢)الاَنبياء: ٨١.

(٣)آل عمران: ٤٩.

١٧٩

ولكن مقيّدةً بإذن اللّه.( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فتَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِى وَتُبْرِىُ الاَكْمَه والاَبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرجُ المَوْتَى بِإِذْنِى ) (١) .

سبحان اللّه ما أكثر صراحة هذا الكلام من المسيح -عليه‌السلام - في إثبات السلطة الغيبية المأذونة المحدودة الفعّالة لغايات إلهيّة حيث قال : (أخْلُقُ - أُبرِىُ - أُحْيي)

أفبعدَ هذه التصريحات يمكنُ أن يَشُكَ الاِنسانُ في أنّ للمخلصين من عباد اللّه سلطة غيبية؟ كيف وللمحقّقين المفسّرين في جملة تلك الآيات بيانات شافية توَكّد هذه الحقيقة من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مظانها.

ومن طالع الذكر الحكيم يجد أنّ هناك آيات أُخرى تثبت للاَنبياء والصالحين قدرة غيبيّة بارزة، فعلى سبيل المثال اقرأ سورة يُوسف وتدبّر في آياتها وأنّه كيف تمكّن من التعرّف على مصير صاحبيه في السجن وأخبرهما بأنّ أحدهما يسقي ربّه خمراً وأنّ الآخر يُصلب وتأكل الطير من رأسه؟

وكيف أنّه وقف على مصير شعب مصر وما سيعانونه في سنين كثيرة تمرّ عليهم، وكيف أنّه تأتي سبعةُ أعوام خصبة ثمّ تليها سبعُ سنين يعمّ فيها القحط والشدّة إلى آخر ما جاء في تلك السورة.

بل أرسل قميصه إلى أبيه وقال بأنّه لو ألقاه على وجهه لاَتاه بصيراً(٢)

أفهل يمكن الحصول على هذه العلوم عن طريق التعليم والتعلّم؟

____________________

(١)المائدة: ١١٠.

(٢)لاحظ سورة يوسف الآيات: ٣٦ ، ٤٧ ، ٩٣.

١٨٠