لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر0%

لبّ الاثر في الجبر والقدر مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 126

لبّ الاثر في الجبر والقدر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 126
المشاهدات: 29826
تحميل: 3130

توضيحات:

لبّ الاثر في الجبر والقدر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29826 / تحميل: 3130
الحجم الحجم الحجم
لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كلامه هو فعله، واستشهدوا عليه ببعض الآيات والروايات، قال سبحانه:( ولَوْ أنَّ ما في الاَرضِ مِنْ شَجرةٍ أقلامٌ والبَحرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدهِ سَبعةُ أبحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلماتُ اللهِ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ ) (1)

وقال أمير المؤمنين - عليه السّلام-: «يخبرُ لا بلسان ولهوات، ويسمعُ لا بخروق وأدوات، يقولُ ولا يلفِظُ، ويَحفّظُ ولا يتحفظ، ويريدُ ولا يُضْمرِ، يُحبُ ويَرضى من غير رقة، ويبغضُ ويغضبُ من غير مشقة، يقولُ لمن أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامهُ سبحانه فعلٌ منه أنشأه ومَثّلَهُ، ولم يكنْ من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً»(2)

وما ورد عنه - عليه السّلام- يبيّن نوعا من كلامه والنوع الاخر منه ايجاد الكلام في الشجر والجبل.

وحاصل تلك النظرية أنّ وصفه سبحانه بكونه متكلّماً، بمعنى قيام الكلام به قياماً صدورياً لا حلولياً، كما أنّ إطلاقه علينا كذلك، إلاّ أنّ الفرق أنّ إيجادنا بالآلة دونه تعالى، فالله سبحانه يخلق الحروف والكلمات في الحجر والشجر أو نفوس الاَنبياء بلا آلة فيصحّ وصفه بالتكلّم.

____________________

(1) لقمان / 27.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 181، ج 2 / 146، ط عبده.

٢١

أقول : الكلام في وصفه سبحانه بفعل يصلح ان يصدر عنه بلا توسّط شيء، ومن الواضح أنّ العقل دلّ على امتناع وصفه سبحانه بهذا الملاك، فإنّ الكلام أمر حادث متدرّج متصرّم، والتصرّم والتجدّد نفس ذاته، وجلّ جنابه أن يكون مصدراً لهذا النوع من الحدث بلا واسطة، لاَنّ سبب الحادث حادث كما برهن عليه في الفن الاَعلى في مسألة ربط الحادث بالقديم، فكيف تكون ذاته القديمة البسيطة الثابتة مبدأ لموجود حادث متصرّم متجدّد؟!

وبذلك يظهر أنّه لا يصح وصفه بالتكلم بهذا الملاك، لاَنّ الكلام في وصفه سبحانه بما يصحّ صدوره عنه بلا توسيط، والمتجدّد بما هو متجدّد لا يصحّ صدوره عنه بلا واسطة.

نعم يمكن إيجاد الكلام المتصرّم في الشجر والحجر والنفس النبويّة لكنّه بحاجة إلى توسّط شيء آخر كما هو الحال في صدور كافة الموجودات الطبيعية التي جوهرها التصرّم والتجدّد.(2)

____________________

(1) يلاحظ عليه: أنّه لو تمّ ما ذكره (دام ظله) يلزم عدم صحة وصفه بالخالق والمبدع والمحيي والرزّاق والرحيم والغافر مع أنّها من أسمائه سبحانه وصفاته في الذكر الحكيم والاَحاديث والاَدعية، ويمكن دفع الاِشكال بأنّ حملَ كل صفة منتزعة من فعله عليه سبحانه لاَجل خصوصية موجودة في ذاته التي تصحّح صدور هذه =

٢٢

وأمّا ما هو معنى نزول الوحي وإنزال الكتب على الاِنبياء والمرسلين، فهو من العلوم البرهانية التي قلّما يتّفق لبشر أن يكشف مغزاها؟ فالبحث عنه متروك لاَهله ومحلّه.

إذا وقفت على عقيدة المعتزلة في نفي الكلام عنه سبحانه، فحان حين البحث عمّا عليه الاَشاعرة.

____________________

= الأفعال عنها، فالفاعل باشتماله على تلك الخصوصية يصحّ حمل كل ما يصدر عنه، عليه ووصفه بها سواء كان الصدور بلا واسطة كالعقول، أو مع الواسطة كخلق السموات والاَرض وإبداعها وإنشائها.

ومن هذا القبيل إيجاده الكلام في الجبل والشجر والنفس النبويّة.

٢٣

نظرية الاَشاعرة في تكلّمه سبحانه

ذهبت الاَشاعرة إلى أنّ التكلّم من صفات الذات لا من صفات الفعل، وفسّروا كلامه بالكلام النفسي وبالمعنى القائم بذاته في الاَزل.

الكلام النفسي عندهم غير العلم في الاَخبار، وغير الاِرادة والكراهة في الاِنشاء. ففي الجمل الخبرية مثل قولك: زيد قائم، أُمور ثلاثة:

أ - الكلام اللفظي.

ب - المدلول اللفظي (من التصوّر والتصديق).

جـ - الكلام النفسي.

وفي مثل الاِنشائيات كقولك: كُلْ، أو لا تشرب الخمر، أُمور ثلاثة:

أ - الكلام اللفظي.

٢٤

ب - المدلول اللفظي (الاِرادة والكراهة).

جـ - الكلام النفسي.

والحاصل أنّهم اعتقدوا أنّ في جميع الموارد معنى قائماً بالنفس غير المدلول، من دون فرق بين الجمل الخبرية أو الاِنشائية، وأطلقوا عليه: الكلام النفسي، بيد أنّهم خصّصوا باب الاَوامر باسم خاص وأسموه: الطلب، فالاِرادة مدلول لفظي والطلب كلام نفسي، وبذلك ذهبوا إلى مغايرة الاِرادة والطلب.

ومن هنا ظهر منشأ عنوان هذه المسألة أي وحدة الاِرادة والطلب أو مغايرتهما، فإنّها نتيجة القول بالكلام النفسي المغاير للمدلول اللفظي في الاِخبار (التصديق) والاِنشاء (الاِرادة والكراهة).

ثم إنّهم عجزوا عن تفسير الكلام النفسي على وجه يجعله مغايراً للعلم في الاِخبار والاِرادة والكراهة في الاِنشاء، ومع ذلك أصرّوا على وجود ذلك الاَمر في كل متكلّم من غير فرق بين الواجب والممكن، إلاّ أنّه في الواجب قديم وفي الممكن حادث.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه:

٢٥

أدلّة الاَشاعرة على وجود الكلام النفسي:

إنّ الاِنسان قد يأمر بما لا يريده كامتحان عبده وإنّه هل يطيعه أو لا؟ فالمقصود هو الاختبار فحسب، فثمة طلب دون إرادة.(1)

وبعبارة أُخرى: إنّ صدور الاَوامر الامتحانية يتوقّف على وجود مبدأ في النفس تترشّح منه، وبما أنّه ليس هناك مبدأ باسم الاِرادة، فلا يصلح له إلاّ الطلب القائم بالنفس، وهو الكلام النفسي في مورد الاِنشاء.

والجواب : أنّ البحث عن حقيقة الاِرادة ومبدئها موكول إلى الفن الاَعلى، والذي يناسب ذكره في المقام هو ما يلي:

إنّ كل فعل اختياري، مسبوق بالتصوّر ثم التصديق بفائدة وغاية، إذ لايتصوّر صدور الفعل بلا غاية، كيف، وهي من العلل

____________________

(1) شرح المواقف: 2 / 49.

٢٦

الاَربعة: وربما يتمسّك في نفيها بالاَفعال العبثية، ولكّنه استدلال باطل، لاَنّ المنتفي فيها هو الغايات العقلائية، لا الغايات المسانخة للاَفعال الجزافية.

فإذا حصل التصديق بفائدة الفعل فتارة تَجدها النفس ملائمة لطبعها فتَشتاق إليه لاَجل الفائدة وكثرة الحاجة، يعقبها تجمّع(1) وتصميم من قبل النفس فتحرك الاَعضاء نحو الفعل.

وأمّا إذا لم تجده النفس ملائماً لطبعها فلا تتحرك نحوه، لكن لو حكم العقل بصلاح الفعل فتعزم بلا اشتياق، كشرب الدواء المرّ، أو قطع اليد الفاسدة.

وبهذا يعلم أنّ الشوق ليس من مبادىء الاختيار والاِرادة، على وجه الاطلاق فالاَوامر الصوريّة والحقيقية بما أنّها من الاَفعال الاختيارية رهن سبق اُمور منها:

التصور والتصديق بالفائدة والشوق، والتصميم والجزم، فالبعث، غير أنّهما يختلفان في الغاية.

توضيحه: أنّه لا فرق بين الاَوامر الامتحانية في أنّ الهيئة في كلا الموردين مستعملة في البعث نحو الشيء وإنّما الاختلاف

____________________

(1) الجمع بمعنى العزم، والتجمّع الحالة الخاصة في النفس يستتبعه تحريك العضلات لا محالة.

٢٧

في الغاية، فهي في الاُولى عبارة عن تحصيل ما يترتّب على وجود الفعل من فوائد وعوائد، ولكّنها في الثانية تحصيل العلم بحال العبد من خير وصلاح أو شرّ وفساد، والاختلاف في الغاية لا يكون منشأً للاختلاف في استعمال الهيئة ومدلولها.

وأمّا الاِرادة فإن أراد الاَشعري من انتفائها في الاَمر الامتحاني عدم تعلّقها بوقوع الفعل خارجاً، فهو أمر مسلّم، من غير فرق بين الاَوامر الصورية والاَوامر الحقيقية، فإنّه يمتنع تعلّق الاِرادة على فعل الغير بما هو خارج عن سلطان المريد.

وإن أراد انتفاء تعلّق الاِرادة بالبعث الذي يستفاد من التلفظّ بلفظ الاَمر، فلا نسلِّم انتفاءها، وذلك لاَنّ البعث فعل اختياري فلابد أن تسبقه الاِرادة بمبادئها.

وحصيلة الكلام أنّه لو أراد من انتفاء الاِرادة، الاِرادةَ المتعلّقة بفعل الغير، فهي منتفيه في كلا القسمين، لاَنّ إرادة الاِنسان لا تتعلّق إلاّ بفعل نفسه لا بفعل الغير، لاَنّه خارج عن سلطانه.

وإن أراد من انتفائها، الاِرادةَ المتعلّقة بالبعث والزجر اللذَّين يعدّان من فعل الفاعل، فالاِرادة موجودة في كلا المقامين، كيف! والبعث والزجر فعلان اختياريان يوصفان به، ولا يصحّ

٢٨

الوصف إلاّ بمسبوقيتهما بالاِرادة.

ثم إن المحقق الخراساني أجاب عن الاِشكال - وقسّم الاِرادة والطلب - بعد الحكم بوحدتهما - إلى قسمين: حقيقية وإنشائية، فقال بوجودهما حقيقة في الاَوامر الحقيقية، وبعد مهما حقيقة في الاَوامر الاختبارية، وبوجودهما فيهما انشاءً.

وقد أشار إلى هذا الجواب بقوله «فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين (صورتي الاختبار والاعتذار) لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنّما هو الطلب الاِنشائي الايقاعي الذي هو مدلول الصيغة أو المادة.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: أنّ الاِرادة من الاُمور التكوينية الحقيقية، ولا تقع مثل هذه الاُمور في إطار الاِنشاء، وإنّما يتعلّق الاِنشاء بالاُمور الاعتبارية، فتقسيم الاِرادة إلى حقيقية وإنشائية ليس بتام.

الثاني: قد عرفت وجود الاِرادة الحقيقية في الصورتين، وهو تعلّقها حقيقة بالبعث والطلب، وإن لم تتعلّق بنفس الفعل الخارجي، الذي هو خارج عن سلطان الأمر.

____________________

(1) كفاية الأصول، 1 / 96.

٢٩

إكمال:

ما ذكرنا من أنّ تعلّق الاِرادة بشيء فرع وجود الغاية فيه، لا يهدف إلى لزوم وجود غاية زائدة على الذات مطلقاً بل أعم منها ومن غيرها، فالغاية في المريد الممكن هي التي تناسب مقام الفعل ومرتبته فهي زائدة عليها، وإنّما ارادته سبحانه تعلّقت بإيجاد الاَشياء أو ببعث الناس إلى أفعال خاصة، فالغاية هي ذاته لا شيء خارج عنها، لما حقّق في محلّه من أنّ العلّة الغائية، هي ما تقتضي فاعلية الفاعل، وتؤثر فيه وتخرجه عن مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، على وجه لولا الغاية لما كانت مصدراً للفعل.

والغاية بهذا المعنى تستحيل على الله سبحانه، بأن يريد إيجاد شيء أو بعث الناس نحو شيء لغاية خارجة عن ذاته مكمِّلة لها في مقام الاِيجاد والاِنشاء، لاَنّ كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته، فهو فقير مستفيض محتاج إلى ما يستكمل به، وهو يناسب الفقر والاِمكان، لا الغنى والوجوب.

أضف إليه أنّه لو كان لفعله سبحانه في مجال التكوين والتشريع غاية وراء ذاته لزم تأثيرها فيها، وهو يلازم كون

٣٠

الذات حاملة للاِمكان الاستعدادي، فيخرج بحصول الغاية عن مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية، فيكون مركّباً من مادة وصورة، وهو يلازم التركيب والتجسيم والجهة، إلى غير ذلك من النواقص.

الدليل الثاني للاَشاعرة:

استدلّت الاَشاعرة على تغاير الطلب والاِرادة - لغاية إثبات الكلام النفسي في الاِنشاءات - بأنّ العصاة كافرين كانوا أم مسلمين، مكلّفون بما كلّف به أهل الاِيمان، لاَنّ استحقاق العقاب فرع وجود التكليف، ومن المعلوم أنّ التكليف الحقيقي فرع وجود مبدأ مثبت له، وعندئذ يقع الكلام فيما هو المبدأ للتكليف، أهي الاِرادة أم الطلب.

فإن قيل بالاَوّل، يلزم تفكيك مراده سبحانه عن إرادته، وهو محال، وإن قيل بالثاني فهو المطلوب. فثبت أنّ وراء الاِنشائيات أمراً نفسانياً باسم الطلب غير الاِرادة وهو المصحّح لتكليف العصاة.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفريق بين الاِرادة التكوينية والاِرادة التشريعية، بأنّ امتناع التفكيك يختصّ بالأولى دون الثانية.

يلاحظ عليه : بما ذكرنا من أنّ الاِرادة من الأمور التكوينية،

٣١

ولها حكم واحد، فإن كان التفكيك ممتنعاً، فلا فرق حينئذ بين التكوينية والتشريعية، وإلاّ فيجوز في كلا الموردين.

والجواب : أنّ الاِرادة في جميع المصاديق غير منفكّة عن المراد، غير أنّه يجب تمييز المراد عن غيره، ففي غير مقام البعث تتعلق إرادته سبحانه بالاِيجاد والتكوين فلا شك أنّ تعلّقها به يلازم تحقّق المراد، قال سبحانه:( إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أنْ يقولَ لهُ كُنْ فَيكُونُ ) (1)

وأمّا في مقام البعث فتتعلّق إرادته بنفس البعث والطلب وهو أمر متحقّق لا ينفك عنه، وقد تقدم أنّ إرادة الفاعل لا تتعلّق إلاّ بفعل نفسه لا بفعل غيره، لاَنّ فعل الغير خارج عن سلطانه فكيف تتعلّق به؟

هذه بعض ما استدلّ به الاَشاعرة على مغايرة الطلب والاِرادة، ولهم أدلّة أُخرى، فمن أراد فليرجع إلى كتبهم الكلامية.(2)

هذا بعض الكلام حول اتحّاد الطلب والاِرادة استعرضناه

____________________

(1) يس / 82.

(2) لاحظ شرح المواقف للسيد الشريف على مواقف العضدي، شرح القوشجي على تجريد المحقق الطوسي، وقد أوضحنا حال أدلّتهم في الاِلهيات: 1 / 197 - 204.

٣٢

ليكون مقدمة لمسألة الجبر والتفويض.

إذا عرفت هذه الامور الاربعة التي ذكرناها تحت عنوان المقدمة، اعلم ان لكلّ من الجبر والتفويض مباني مختلفة وهذا هو الذي سنتناوله في الفصل اللاحق:

٣٣

٣٤

الفصل الثاني:

مباني الجبر والتفويض وابطالهما

٣٥

٣٦

ربما يغترّ الاِنسان ويزعم أنّ اختلاف المنهجين يختصّ بفعل الاِنسان وعمله، وأنّ الاَشعري يسند جميع أفعال الاِنسان إلى الله سبحانه دون الفاعل، والمعتزلي ينسبه إلى نفس الفاعل الاختياري دون الله سبحانه، ولكن التحقيق أنَّ كلا القولين مبنيان على منهجين مختلفين في عامة العلل.

فالاَشعري لا يعترف بمؤثر في دار الوجود غيره سبحانه، ويعتقد بأنّه المؤثّر التام وليس لغيره من العلل أيّ دور فيه، وعلى ذلك ينسب شروق الشمس ونور القمر وبرودة الماء وإحراق النار إلى الله سبحانه وأنّه جرت عادته على خلق الآثار بعد خلق موضوعاتها ولا صلة بينها وبين آثارها لا استقلالاً ولا تبعاً.

وعلى ذلك المنهج أنكر قانون العلّية والمعلولية في عالم

٣٧

الاِمكان واعترف بعلّة واحدة، وهو الله سبحانه، حتى صرّحوا بأنّ استنتاج الاَقيسة من باب العادة والاتفاق، فإذا قال القائل: الاِنسان حيوان وكل حيوان جسم، فلا ينتج قولنا كل إنسان جسم إلاّ بسبب جريان عادته سبحانه على حصول النتيجة عند حصول المقدّمات فلولاها لما أنتج.

وفي مقابل هذا المنهج منهج المفوّضة، الذين هم على جانب النقيض من عقيدة الاَشاعرة حيث اعترفوا بقانون العليّة والمعلولية بين الاَشياء لكن على نحو التفويض، بمعنى أنّه سبحانه خلق الاَشياء وفوّض تأثيرها إلى نفسها من دون أن يكون له سبحانه دور في تأثير العلل والاَسباب.

وبعبارة أُخرى: هذه الموضوعات والعلل الظاهرية، مستقلاّت في الايجاد غير مستندات في تأثيرها إلى مبدأ آخر، والله سبحانه بعدما خلقها وأفاض الوجود عليها انتهت ربوبيته بالنسبة إلى الاَشياء، فهي بنفسها مديرة مدبرة مؤثّرة.

إنّ الاَشعري إنّما ذهب إلى ما ذهب، لحفظ أصل توحيديّ هو التوحيد في الخالقية، فبما أنّه لا خالق إلاّ الله سبحانه لذا استنتج منه أنّه لا مؤثر اصلّيا ولا ظلّياً ولا تبعياً إلاّ هو.

٣٨

ولكن المعتزلي أخذ بمبدأ العدل في الله سبحانه، وزعم أنّ إسناد أفعال العباد إلى الله سبحانه ينافي عدله وحكمته، فحكم بانقطاع الصلة وأنّ الموجودات مفوضّ إليها في مقام العمل.

فالمنهج الاَوّل ينتج الجبر والثاني ينتج التفويض، والحق بطلان كلا المنهجين. واليك ابطال منهج التفويض أوّلا، ثم منهج الجبر ثانيا.

٣٩

إبطال التفويض:

إنّ نظرية التفويض، عبارة عن أنّ كلّ ظاهرة طبيعية بل كل موجود إمكاني سواء أكان مادياً أم غيره محتاج في وجوده وتحقّقه إلى الواجب دون أفعاله وتأثيره في معاليله، بل هو في مقام التأثير مستغنٍ عن الواجب ومستقلٍّ في التأثير.

أقول : هذه هي نظرية التفويض على وجه الاِيجاز وهي مردودة لوجهين:

الأوّل : إنّه من المقرر في محلّه «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» والمراد من الوجوب هو انسداد جميع أبواب العدم على وجهه بحيث يكون أحد النقيضين (العدم) ممتنعاً والنقيض الآخر واجباً. فما لم يصل المعلول إلى هذا الحدّ، لا يرى نورَ الوجود، كما لو افترضنا أنّ علة الشيء مركبة من أجزاء خمسة، فوجود المعلول رهن وجود جميع هذه الاَحزاء، كما

٤٠