• البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27054 / تحميل: 3385
الحجم الحجم الحجم
مسائل فقهية

مسائل فقهية

مؤلف:
العربية

هل البسملة آية قرأنية؟

وهل تقرأ في الصلاة؟

اختلفت آراء أهل الرأي من المسلمين في ذلك، فذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن ومنعا من قراءتها في الفرائض بقول مطلق سواء أكانت في افتتاح الحمد أم في افتتاح السورة بعدها، وسواء قرئت جهراً أم اخفاتاً، نعم أجازا قراءتها في النافلة(١) .

أما أبو حنيفة والثوري واتباعهما فقرأوها في افتتاح أم القرآن لكن اوجبوا اخفاتها حتى في الجهريات وهذا يشعر بموافقتهما لمالك والاوزاعي وربما كان دالا عليه اذ لا نعرف وجهاً لاخفاتها في الجهريات سوى أنها ليست من أم الكتاب.

____________________

(١) نقل ابن رشد هذا كله عن مالك في صفحة ٩٦ من الجزء الأول من كتابه بداية المجتهد، وقال الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة ١٠٠ من جزئه الأول ما هذا نصه: قال مالك والاوزاعي انها ليست من القرآن إلا في سورة النمل ولا تقرأ في الصلاة لا سراً ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان.

٢١

لكن الشافعي قرأها في الجهريات جهراً وفي الاخفاتيات اخفاتاً وعدها آية من فاتحة الكتاب، وهذا قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد، واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كل سورة عدا براءة أم أنها ليست بآية من غير أم الكتاب فنقل عنه القولان جميعاً، لكن المحققين من أصحابه قد اتفقوا على أن البسملة قرآن من سائر السور(١) وتأولوا القولين المنقولين عن إمامهم الشافعي(٢) .

أما نحن - معشر الامامية - فقد أجمعنا - تبعاً لأئمة الهدى من أهل بيت النبوة - على أنها آية تامة من السبع المثاني ومن كل سورة من القرآن العظيم ما خلا براءة، وان من تركها في الصلاة عمداً بطلت صلاته سواء أكانت فرضاً أم كانت نفلا وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة وأنه يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه(٣) وأنها بعض آية من سورة النمل ونصوص أئمتنا في هذا كله متضافرة متواترة تواتراً معنوياً وأساليبها ظاهرة في الانكار على مخالفيهم فيها كقول الامام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام (٤) مالهم؟! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عز وجل فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها وهي بسم الله الرحمن الرحيم اه-.

____________________

(١) نقل اتفاقهم هذا وتأولهم لقولي امامهم جماعة من الاعلام أحدهم الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة ١٠٤ من جزئه الأول.

(٢) وذلك أنهم قالوا لم يختلف النقل عنه في أصل المسألة وانما اختلف النقل عنه في أنها آية تامة من سائر السور أو أنها بعض آية من كل سورة.

(٣) ان للامام الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير عدة حجج على الجهر بها وقد نقل في الثالثة منها أن علياًرضي‌الله‌عنه كان مذهبه الجهر ب- (بسم الله الرحمن الرحيم) في جميع الصلوات. وقال: ان هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة.

(٤) نقله عنه الامام الطبرسي حول البسملة من الجزء الأول من مجمع البيان.

٢٢

وحجتنا من طريق الجمهور صحاحهم وهي كثيرة.

أحدها: ماهو ثابت عن ابن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: «ولقد آتيناك سبعاً من المثاني». قال: فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وقرأ السورة. قال ابن جريج: فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية؟ قال: نعم. وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك: وأورده الذهبي في تلخيصه وصرحا بصحة اسناده(١) .

ثانيها: ما صح عن ابن عباس أيضاً. قال: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة(٢) .

ثالثها: ما صح عن ابن عباس أيضاً. قال: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلمُ ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم(٣) .

رابعها: ما صح عنه أيضا. قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا ان السورة قد انقضت(٤) .

____________________

(١) فراجع تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم، ومن تلخيصه للذهبي صفحة ٢٥٧ من جزئهما الثاني تجد الحديث منصوصاً على صحته من الحاكم والذهبي كليهما.

(٢) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه صفحة ٢٣١ من جزئه الأول فقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

(٣) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه وأورده الذهبي في التلخيص مصرِّحَينِ بصحته على شرط الشيخين. فراجع صفحة ٢٣١ من الجزء الأول من المستدرك وتلخيصه المطبوعين معاً.

(٤) أخرجه الحاكم في صفحة ٢٣٢ من الجزء الأول من المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي على شرطهما أيضاً اذ أورده في التلخيص.

٢٣

خامسها: ما صح عن أم سلمة قالت: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها يقطعها حرفاً حرفا(١) .

وعن أم سلمة أيضاً من طريق آخر قالت: ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية الحمد لله رب العالمين آيتين. الرحمن الرحيم ثلاث آيات. مالك يوم الدين أربع. إياك نعبد وإياك نستعين. فجمع خمس أصابعه. الحديث(٢) .

سادسها: ما صح عن نعيم المجمر. قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين قال آمين فقال الناس آمين(٣) فلما سلم قال: والذي نفسي بيده اني لأشبهكم صلاة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

وعن أبي هريرة أيضاً قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجهر - في الصلاة -

____________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين فراجع من المستدرك وتلخيصه الصفحة ٢٣٢ من جزئهما الأول.

(٢) أخرجه الحاكم عن أم سلمة بعد حديثها السابق شاهداً له.

(٣) ليس من مذهبنا قول آمين عند انتهاء الفاتحة من الصلاة لا للمنفرد ولا للمأموم ولا للامام لكونه ليس منها ولا من القرآن في شيء اجماعاً وقولا واحداً، ولم يرو فيه أثر من طريقنا ولم ينقل عن أحد من أئمتنا بخلاف الجمهور فانه من شعارهم وقد رووا فيه أخباراً صحاحاً على شرطهم، وحديث أبي هريرة هذا من جملتها فهو من السنن أثناء الصلاة عندهم.

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك بعد حديثي أم سلمة بلا فصل، وأورده الذهبي ثمة في تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين.

٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم(١) .

سابعها: ما صح عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراء. فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم(٢) وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالامام الشافعي في مسنده(٣) وعلق عليه تعليقة يجدر بنا إيرادها. اذ قال(٤) : ان معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على اظهار الانكار عليه بسبب ترك التسمية.اه-.

____________________

(١) أخرجه الحاكم بعد الحديث المتقدم شاهداً له وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة كما في صفحة ١٠٥ من الجزء الأول من تفسير الرازي.

(٢) وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك وصححه على شرط مسلم وجعله الحاكم والذهبي علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس. اذ قال: صليت خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وهذا باطل كما سنوضحه في الأصل قريباً إن شاء الله تعالى وقد أخرجه الحاكم وما بعده تزييفاً له وشواهد لبطلانه.

(٣) راجع من مسنده صفحة ١٣.

(٤) فيما نقله عنه الرازي في الحجة الرابعة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة ١٠٥ من الجزء الأول من تفسيره الكبير.

٢٥

ولنا تعليقة على هذا الحديث الفت إليها كل بحاثة فأقول: ان من أمعن في هذا الحديث وجده من الأدلة على مذهبنا في البسملة وفي عدم جواز التبعيض في السورة التي تقرأ في الصلاة بعد أم القرآن اذ لا وجه لانكارهم عليه إلا بناء على مذهبنا في المسألتين.

ثامنها: ما صح عن أنس أيضاً من طريق آخر. قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجهر - في الصلاة - بسم الله الرحمن الرحيم(١) .

تاسعها: ما صح عن محمد بن السري العسقلاني. قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان مالا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر بسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها - للسورة - وسمعت المعتبر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو ان اقتدي بصلاة أنس بن مالك. وقال أنس: ما آلو أن اقتدي بصلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) . قلت: آنست من هذا الحديث وغيره أنهم كانوا يقرأون بعد أم القرآن سورة تامة من بسملتها حتى منتهاها كما هو مذهبنا ويدل عليه كثير من الأخبار(٣) .

وعن قتادة. قال: سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الرحمن ويمد الرحيم.

____________________

(١) أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر بسم الله الرحمن الرحيم من كتابيهما وقالا: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص ونصا على أن رواته عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس، الباطل.

(٣) فعن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي بعدها أخرجه الإمام الشافعي في صفحة ١٣ من مسنده.

٢٦

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك. قال: صليت خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.

أخرج هذه الأحاديث كلها وما قبلها امام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري في مستدركه ثم قال بعد الأخير منها ما هذا نصه: انما ذكرت هذا الحديث شاهداً لما تقدمه. ففي هذه الاخبار التي ذكرناها معارضة لحديث قتادة الذي يرويه أئمتنا عنه - ولفظه عن أنس قال: صليت خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم - (ثم قال الحاكم) وقد بقي في الباب عن أمير المؤمنين عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر والحكم بن عمير الثمالي والنعمان بن بشير وسمرة بن جندب وبريدة الاسلمي وعائشة بنت الصديقرضي‌الله‌عنه كلها مخرجة عندي في الباب تركتها إيثاراً للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب وكذلك ذكرت في الباب من جهر بسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأت باعهم رضي ‌الله ‌عنهم. انتهى كلامه(١) . قلت: وذكر الرازي في تفسيره الكبير(٢) ان البيهقي روى الجهر بسم الله الرحمن الرحيم في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، ثم قال الرازي ما هذا لفظه: وأما ان علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي

____________________

(١) فراجعه في صفحة ٢٣٤ الجزء الأول من المستدرك.

(٢) أثناء الحجة الخامسة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة ١٠٥ من جزئه الأول.

٢٧

طالب فقد اهتدى. (قال) والدليل عليه قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم ادر الحق مع علي حيث دار».

وحسبنا حجة - على أن البسملة آية قرآنية في مفتتح السور كلها ما خلا براءة - ان الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كل خلف من هذه الامة منذ دون القرآن إلى يومنا هذا مجمعون اجماعاً عملياً على كتابة البسملة في مفتتح كل سورة خلا براءة.

كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئاً من غير القرآن الا بميزة بينة حرصاً منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره. الا تراهم كيف ميزوا عنه أسماء سوره ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظاً به واحتياطاً عليه، ولعلك تعلم ان الأمة قل ما اجتمعت بقضها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك وهذا بمجرده دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة في مفتتح كل سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها والحمد لله على الاعتدال.

وأيضاً فان من المأثور المشهور عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: كل أمر ذي بال لا يبدأ بسم الله الرحمن الرحيم أقطع(١) وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو أبتر أو أجذم(٢) ومن المعلوم أن القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى

____________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الشيخ عبد القادر الرهاوي في أربعينه بسنده إلى أبي هريرة. ورواه السيوطي في حرف الكاف من جامعه الصغير صفحة ٩١ من جزئه الثاني، وأورده المتقي الهندي في صفحة ١٩٣ من الجزء الأول من كنز العمال وهو الحديث ٢٤٩٧.

(٢) أرسله الامام الرازي بهذا اللفظ حول البسملة من الجزء الأول من تفسيره.

٢٨

إلى أنبيائه ورسله وان كل سورة منه ذات بال وعظمة تحدى الله بها البشر فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع؟! تعالى الله وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علواً كبيراً.

والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر والمنابر ويعرفه البادي والحاضر لا يوازنها ولا يكايلها شيء بعد الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بتراء جذماء؟ ان هذا لا يجرؤ على القول به بر ولا فاجر، لكن الأئمة البررة مالكاً والأوزاعي وأبا حنيف ة رضي ‌الله ‌عنهم ذهلوا عن هذه اللوازم، وكل مجتهد في الاستنباط من الأدلة الشرعية معذور ومأجور ان اصاب وان أخطأ.

حجة مخالفينا في المسألة

احتجوا بأمور:

أحدها: أنها لو كانت آية من الفاتحة للزم التكرار فيها بالرحمن الرحيم، ولو كانت جزءاً من كل سورة للزم تكرارها في القرآن مئة وثلاث عشرة مرة.

والجواب: ان الحال قد تقتضي ذلك اهتماماً ببعض الشؤون العظمى وتأكيداً لها وعناية بها، وفي الذكر الحكيم من هذا شيء كثير وحسبك سورة الرحمن وسورتا المرسلات والكافرون، وأي شأن من أهم مهمات الدنيا والآخرة يستوجب التأكيد الشديد ويستحق أعظم العنايات كاسم الله الرحمن الرحيم؟ وهل بعثت الأنبياء وهبطت الملائكة ونزلت الكتب السماوية الا باسم الله الرحمن الرحيم والهداية، اليه، عز وجل؟ وهل قامت

٢٩

السماوات والأرض ومن فيهن الا باسم الله الرحمن الرحيم(١) : «يا أيها الناس أذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّى تؤفكون» ؟.

ثانيها: ما جاء عن أبي هريرة مرفوعاً اذ قال: يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: حمدني عبدي. واذا قال: الرحمن الرحيم. يقول الله تعالى: آثنى علي عبدي. واذا قال: مالك يوم الدين. يقول الله تعالى: مجدني عبدي. واذا قال: اياك نعبد واياك نستعين. يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي. الخبر، ووجه الاستدلال به أنه لم يذكر في آيات الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت آية لذكرها.

والجواب: ان هذا معارض بخبر ابن عباس مرفوعاً وفيه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فاذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: دعاني عبدي. الحديث(٢) وهو طويل، وشاهدنا فيه أنه قد اشتمل على البسملة فنقض حديث أبي هريرة. على أن أبا هريرة روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) فالمؤمن يفتتح أعماله كلها باسم الله الرحمن الرحيم فإذا أكل أو شراب أو قام أو قعد أو دخل أو خرج أو اخذ أو اعطى أو قرأ أو كتب أو أملى أو خطب أو ذبح أو نحر قال بسم الله الرحمن الرحيم. والقابلة إذا أخذت الولد حين ولادته تقول: بسم الله واذا مات قال بسم الله واذا دخل القبر قيل بسم الله واذا قام من قبره قال بسم الله. وإذا حضر الموقف قال بسم الله وهل منجى يومئذ أو ملجأ إلا الله؟ ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(٢) نقله المتقي الهندي حول البسملة صفحة ٣٢٠ من الجزء الأول من الكنز عن شعب الإيمان للبيهقي.

٣٠

الجهر بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وكان هو يجهر بها ويقول: اني لأشبهكم صلاة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مر عليك حديثاه في ذلك(١) .

ثالثهاّ ما جاء عن عائشة: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، ولا حجة لهم به لانها جعلت الحمد لله رب العالمين اسماً لهذه السورة كما تقول: قرأت قل هو الله أحد، وقرأ فلان انا فتحنا لك فتحاً مبيناً وما أشبه ذلك. فيكون معنى الحديث أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم(٢) .

رابعها: خبر ابن مغفل اذ قال: سمعني أبي وأنا أقرأ باسم الله الرحمن الرحيم فقال: يا بني اياك والحَدث فاني صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع رجلاً منهم يقرأها(٣) .

والجواب: أن أئمة الجرح والتعديل لا يعرفون ابن مغفل ولا أثر لحديثه عندهم وقد أورده ابن رشد حول البسملة من كتابه «بداية المجتهد»(٤) فأسقطه بما نقله عن أبي عمر بن عبد البر من النص على أن ابن مغفل رجل مجهول.

____________________

(١) فراجع الحديث السادس والذي بعده من حججنا.

(٢) هذا ملخص ما قاله الإمام الشافعي في الجواب عن احتجاجهم بهذا الحديث.

(٣) حديث ابن مغفل هكذا أورده الإمام الرازي في حجج مخالفيه في المسألة صفحة ١٠٦ من الجزء الأول من تفسيره. ثم قال: ان انساً وابن مغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا علياً وذلك يدل على أن علياً كان يجهر بسم الله الرحمن الرحيم.

(٤) صفحة ٩٧ من جزئه الأول.

٣١

خامسها: خبر شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك(١) قال: صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ونحوه حديث حميد الطويل عن أنس أيضاً(٢) قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.

والجواب: انك سمعت في حججنا ما صح عن أنس مما يناقض هذين الخبرين فأمعن فيما أسلفناه. وقد أورد الإمام الرازي خبر أنس هذا في حجج مخالفيه. ثم قال: والجواب عنه من وجوه:

الأول: قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:

احداها: صليت خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين.

وثانيتها قوله: انهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم.

وثالثتها قوله: لم اسمع أحداً منهم قال: بسم الله الرحمن الرحيم.

فهذه الروايات الثلاث توافق قول الحنفية - قال - : وثلاث أخرى تناقضه:

احداها: حديثه في أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وهذا يدل أن الجهر بالبسملة كان كالأمر المتواتر عندهم، المسلَّم فيما بينهم.

(قال) وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وعمر

____________________

(١) أخرجه مسلم من طريقين عن شعبة عن أنس في باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة من صحيحه.

(٢) فيما أخرجه مالك في العمل في القراءة من موطئه.

٣٢

كانوا يجهرون بسم الله الرحمن الرحيم(١) .

(قال) وثالثتها: أنه سئل عن الجهر بسم الله الرحمن الرحيم والاسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة (قال) فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى غيرها من سائر الأدلة (قال الإمام الرازي) وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياًعليه‌السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر بها سعياً في ابطال آثار عليعليه‌السلام (٢) . (قال) فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله (قال) ونحن مهما شككنا في شيء فلا نشك في أنه اذا وقع التعارض بين قول أمثال أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي بقي عليه طول عمره فان الأخذ بقول علي أولى (قال) فهذا جواب قاطع في المسألة إلى أن قال: ومن اتخذ علياً اماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه إلى أخر كلامه(٣) قلت: فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله.

____________________

(١) وقد أوردنا في حججنا رواية حميد الطويل عن أنس قال: صليت خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.

(٢) هذه سيرتهم مع أمير المؤمنين وبنيه في كثير من شرائع الله تعالى حتى التبس الحق بالباطل ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(٣) فراجعه في صفحة ١٠٦ وأخره في صفحة ١٠٧ من الجزء الأول من تفسيره الكبير.

٣٣

القراءة في الصلاة

اختلف الفقهاء في القراءة في الصلاة فذهب أبو بكر الأصم واسماعيل ابن علية وسفيان بن عيينة والحسن بن صالح إلى أنها ليست بفرض في صلاة ما وإنما هي مستحبة.

وهذا شذوذ في الرأي وخروج على الأدلة وخرق لاجماع الأمة.

احتجوا بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي عن عمر بن الخطاب اذ صلى المغرب فلم يقرأ فيها فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسن. فقال: لا بأس.

والجواب: أنه اذ لم يرفعه فهو رأيه ولعله كان ممن يرى أن ترك القراءة سهواً لا يبطل الصلاة والله أعلم.

وذهب الحسن البصري وأخرون إلى أن القراءة انما تفرض في ركعة واحدة وهذا كسابقه في الشذوذ وخرق الاجماع.

احتجوا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب متشبثين بأن

٣٤

الاستثناء من النفي اثبات وانه اذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة ولو مرة واحدة وجب القول بصحتها بحكم الاستثناء.

والجواب: ان هذا الحديث غير ناظر - بحكم العرف - إلى حال الصلاة حين تكون مع الفاتحة ولا هو حاكم عليها - وهي في تلك الحال - بايجاب ولا بسلب وانما هو ناظر إليها حين تكون خالية من الفاتحة وحاكم عليها بأنها - وهي في تلك الحال - ليست بصلاة نظير قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة الا بطهور اهتماماً منه بالفاتحة وهي جزء الصلاة وبالطهور وهو شرطها، ونظائر هذا في الكلام كثير ألا ترى أنه لو قيل لا «سكنجبين» الا بخل مثلا، لا يفهم أحد من ذلك ان مسمى الخل ولو قطرة أو دونها كاف أو ليس بكاف وإنما يفهمون ان السكنجبين مركب وان الخل من مهمات أجزائه فإذا انتفى الخل ينتفي السكنجبين.

على أنه لو تم استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا لا طردت دلالته على عدم وجوب شيء من أفعال الصلاة وأقوالها اذا حصلت فيها قراءة الفاتحة كما هو واضح لمن أمعن.

وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: لا تفرض قراءة الفاتحة بخصوصها في صلاة ما وإنما يفرض في الصلوات مطلق القراءة واكتفى أبو حنيفة بقراءة أية آية من القرآن ولو كانت كلمة واحدة نحو «مدهامتان» لكن صاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إنما اكتفيا بثلاث آيات قصار نحو: «ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر» أو بآية واحدة تعادل ثلاث آيات فصار أو تزيد عليها وعلى هذا عمل الحنفية(١) .

____________________

(١) فراجع فقههم وحسبك «غنية المتملي الكبير والصغير» المنتشران كرسائل عملية.

٣٥

وأباح أبو حنيفة ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن بأية لغة من اللغات الأعجمية حتى لمن يحسن العربية(١) واكتفى من القراءة بدلاً من الفاتحة والسورة بقول: «دوبلك سبز» - ترجمة مدهامتان بالفارسية _ لكن صاحبيه إنما أجازا الترجمة للعاجز عن العربية دون القادر عليها وعلى هذا عمل الحنفية.

والقراءة تفرض عندهم في الركعتين الأوليين من كل ثنائية كصلاة الجمعة والصبح وظهر المسافر وعصره وعشائه، أما غير الثنائيات كصلاة المغرب وعشاء المقيم وظهره وعصره فإنما تفرض القراءة عندهم في ركعتين من كل منها لا على التعيين فللمصلي أن يختار القراءة في الأوليين أو الاخريين أو الأولى والثالثة أو الأولى والرابعة أو الثانية والثالثة أو الثانية والرابعة فإذا قرأ في الأوليين - مثلاً - كان في الأخريين مخيراً ان شاء قرأ وان شاء سبح وان شاء سكت بقدر تسبيحة، هذا مذهبهم منتشراً في فقههم.

احتجوا لكفاية مطلق القراءة في الصلاة بحديث أبي هريرة الموجود في الصحيحين(٢) اذ قال: ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ان رد رسول اللهعليه‌السلام قال له:

____________________

(١) هذا متواتر عنه وممن نقله فخر الدين الرازي أول صفحة ١٠٨ من الجزء الأول من تفسيره الكبير ثم قال: واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جداً ولهذا السبب فان الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.

(٢) واحتجوا أيضاً بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة إلا بقراءة حيث أطلق القراءة وهذا ما يدعون. والجواب ان هذا لو صح لوجب حمله على قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غرو فإن المطلق يحمل على المقيد اجماعاً وقولا واحداً.

٣٦

ارجع فصل فانك لم تصلِ فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلم عليه فقال رسول الله: وعليك السلام ارجع فصل فانك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.

ومحل الشاهد منه قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن لظهوره في دعواهم.

والجواب: ان أبا هريرة ممن لا نقيم لحديثه وزناً كما بيناه مفصلاً وأقمنا عليه الحجج القاطعة عقلية ونقلية في كتاب منتشر له أفردناه فليراجعه كل مولع بالبحث عن الحقائق الساطعة.

وحديثه هذا قد لا يجوز على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوروده في مقام يجب فيه البيان، وقد أمعنا فلم نجد ثمة من البيان ما يليق بالأنبياءعليهم‌السلام لخلوه من كثير مما أجمعت الأمة على وجوبه في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير وترتيب أركان الصلاة وكذا التشهد الأخير والصلاة على النبي والتسليم وغيرها، على أن تركه ثلاث مرات يصلي صلاة فاسدة مما لا يتلاءم مع خلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد لا يجوز ذلك عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأبو داود أخرج هذه القصة - في باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود من سننه - بالاسناد إلى رفاعة بن رافع(١) الأنصاري - وهو

____________________

(١) شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشهد معه في بدر أخواه خلاد ومالك ابنا رافع وشهد رفاعة هذا مع أمير المؤمنين الجمل وصفين وكان من أشد أوليائه له نصرة بالقول والفعل يعلم ذلك من ترجمته في الاصابة وغيرها من المؤلفات في أحوال الصحابة.

٣٧

من أهل بدر - وفيها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للرجل الذي لم يحسن صلاته اذا قمت وتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرأن وبما شاء الله ان تقرأ.

واخرج هذه القصة أيضاً أحمد بن حنبل وابن حبان بسنديهما إلى رفاعة بن رافع وفيها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لذلك الرجل المسيء صلاته: ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت. الحديث(١) .

ومن المعلوم أن أبا هريرة ممن لا يوازن رفاعة ولا يكايله في قول ولا في عمل فحديثه مقدم على حديث أبي هريرة عند التعارض بلا كلام، ولذلك ترى القسطلاني في فتح الباري يتأول ما جاء في حديث أبي هريرة بحمله على ما جاء في حديث رفاعة، ومن تتبع أقوال السلف والخلف فيما جاء في حديث أبي هريرة من قوله: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن، تجدهم جميعاً «غير الحنفية» بين مفند(٢) ومتأول(٣) ودونك إن شئت كلامهم حول حديث أبي هريرة هذا من شروح الصحيحين كلها(٤) .

____________________

(١) تجده في آخر باب وجوب القراءة للامام والمأموم في الصلاة كلها صفحة ٤٤١ من الجزء الثاني من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري اثناء شرحه لحديث أبي هريرة هذا بنقله عن كل من أبي داود وأحمد وابن حبان.

(٢) كبعض المعتزلة والشيعة.

(٣) كأعلام غير من الجمهور.

(٤) قال الامام النووي حول حديث أبي هريرة هذا في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرح صحيح مسلم: وأما قوله: اقرأ ما تيسر معك من القرآن فمحمول على الفاتحة فانها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على من عجز عن الفاتحة اه-.

وقال الإمام السندي أثناء كلامه في حديث أبي هريرة هذا من تعليقه على صحيح البخاري ما هذا لفظه: قوله اقرأ ما تيسر معك كأنه قال له ذلك بناء على أن المتيسر لمثله هي الفاتحة (قال): على أنه ورد في بعض الروايات أنه عين له الفاتحة.

٣٨

على أن أبا هريرة نفسه عارض حديثه هذا بما صح عنه اذ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب(١) وقال: ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني أن أخرج فأنادي في المدينة أن لا صلاة الا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد(٢) وقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج فهي خداج(٣) .

بقي الامر الذي نتساءل عنه أعني السبب بأخذ فقهاء الحنفية بظاهر قوله في حديث أبي هريرة فاقرأ ما تيسر معك من القرآن دون نصوصه الصريحة بوجوب الطمأنينة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، على أن ما أخذوا به معارض بصحاح صريحة، ومخالف لجمهور المسلمين، ومالم يأخذوا به مؤيد بالصحاح وعليه الجمهور.

وربما استدل الحنفية على رأيهم في هذه المسألة بقوله تعالى: «فاقرأوا ما تيسر من القرآن».

____________________

(١) أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بسند صحيح وكذا رواه أبو حاتم بن حبان ونقله عنهما مصرحاً بصحته الإمام النووي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحيح مسلم.

(٢) أخرجه أبو داود في باب من ترك القراءة في صلاته من السنن وأخرج ثمة عن أبي هريرة أيضاً من طريق أخر قال: أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أنادي لا صلاة الا بقراءة الفاتحة فما زاد.

(٣) أخرجه أبو داود في الباب الآنف الذكر ومسلم عن أبي هريرة من طرق كثيرة في باب وجوب قراءة الفاتحة من كل ركعة من صحيحه.

٣٩

والجواب: ان هذه الآية لا دخل لها فيما نحن فيه من القراءة في الصلاة قطعاً، يشهد بذلك سياقها في سورة المزمل فليراجعها من شاء وليمعن فيما قاله المفسرون حولها تتضح له الحقيقة.

واحتج الحنفية لجواز ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن باللغات الأجنبية بوجوه:

أحدها: أن ابن مسعود أقرأ بعض الاعاجم: ان شجرة الزقوم طعام الاثيم، فكان الاعجمي يقرأ طعام اليتيم. فقال له: قل طعام الفاجر ثم قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ: الحكيم. مكان العليم، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب.

والجواب: ان هذا أجنبي عما نحن فيه لا دلالة به على المدعى بشيء من الدول، على أنه لو صح لكان رأياً لابن مسعود مقصوراً عليه لا تثبت به حجة.

الثاني: قوله تعالى: انه لفي زبر الأولين. ومثله: ان هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى.

ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن الامة مجمعة على أنَّ القرآن لم يكن بألفاظه العربية في زبر الأولين ولا في صحف ابراهيم وموسى، وإنما كانت فيها معانيه بألفاظ العبرانية والسريانية.

والجواب: ان هذا كسابقه في عدم الدلالة على المدعى بل هو أبعد وأبعد بكثير.

الثالث: أنه تعالى قال: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به، والاعاجم لا يفهمون اللفظ العربي الا أن يذكر لهم معناه بلغتهم فيكون الانذار بها.

٤٠