قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 0%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الصفحات: 233
المشاهدات: 45527
تحميل: 5204

توضيحات:

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45527 / تحميل: 5204
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قيمومة الرجال على النساء:

قوله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ... ) .

والمراد بما فضَّل الله بعضهم على بعض، هو ما يُفضَّل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، وهو زيادة قوّة التعقّل فيهم، وما يتفرّع عليه من شدّة البأس والقوّة، والطاقة على الشدائد في الأعمال ونحوها، فإنّ حياة النساء حياة عاطفية مبنيّة على الرقّة واللطافة، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنّ ونفقاتهن.

وعموم هذه العلَّة يُعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها - أعني قوله: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء... ) - غير مقصور على الأزواج، بأن يختصّ القوامية بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة، التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً، فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال، كجهتَي الحكومة والقضاء مثلاً اللذين يتوقَّف عليهما حياة المجتمع، وإنَّما يقومان بالتعقُّل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، وكذا الدفاع الحربي، الذي يرتبط بالشدّة وقوّة التعقّل، كل ذلك ممَّا

١٢١

يقوم به الرجال على النساء.

وعلى هذا؛ فقوله: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء... ) ذو إطلاق تامِّ، وأمّا قوله بعد: ( ... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ... ) (إلخ) الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته - على ما سيأتي - فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق، وجزئي من جزئياته مستخرج منه، من غير أن يتقيَّد به إطلاقه.

قوله تعالى: ( ... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ... ) المراد بالصلاح معناه اللغوي، وهو ما يُعبَّر عنه بلياقة النفس، والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع.

ومقابلتها لقوله: ( ... وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ... ) إلى آخره تُفيد أنّ المراد بالصالحات الزوجات الصالحات، وأنّ هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقاً، وأنَّ قوله: ( ... قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ... ) - الذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن - حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية، وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه عِلَّته - أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية - فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية.

وبعبارة أُخرى: كما أنَّ قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع، إنّما تتعلّق بالجهات العامة المشتركة بينهما، المرتبطة بزيادة تعقُّل الرجل وشدّته في البأس، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب، من غير أن يُبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية، وعمل نفسها، بأن تريد ما أحبّت، وتفعل ما شاءت من غير أن يحقَّ للرجل أن يُعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر، فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف، كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تُنفِّذ المرأة في ما تملكه إرادة، ولا

١٢٢

تصرُّف، ولا أن لا تستقلَّ المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية، والدفاع عنها، والتوسُّل إليها بالمقدمات الموصلة إليها، بل معناها أنّ الرجل إذ كان يُنفق ما يُنفق من ماله بإزاء الاستمتاع، فعليها أن تُطاوعه وتُطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور، وأن تحفظه في الغيب، فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره، وأن تمتِّع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتُّع منها بذلك، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، وسلّطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزلية.

فقوله: ( ... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ... ) أي ينبغي أن يتَّخذن لأنفسهن وصف الصلاح، وإذا كنَّ صالحات فهن لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتن ويُطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن، ممَّا له مساس بالتمتّع، ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

وأمّا قوله: ( ... بِمَا حَفِظَ اللّهُ... ) ، فالظاهر أنّ ما مصدرية، والباء للآلة والمعنى: إنَّهنَّ قانتات لأزواجهن، حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق، حيث شرَّع لهم القيمومة، وأوجب عليهنّ الإطاعة وحفظ الغيب لهم.

ويمكن أن يكون الباء للمقابلة، والمعنى حينئذ: أنّه يجب عليهنَّ القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن، حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري، وأوجب على الرجال لهنَّ المهر والنفقة. والمعنى الأول أظهر.

وهناك معانٍ ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها؛ لكون السياق لا يُساعد شيء منها.

١٢٣

ماذا تعني قيمومة الرجل؟

تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الإنساني السليم، وترجيحه إيَّاه على الهوى واتِّباع الشهوات، والخضوع لحكم العواطف والإحساسات الحادَّة وحضُّه وترغيبه في اتِّباعه، وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة ممَّا لا ستر عليه، ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدِّي إليه، فقد تضمَّن القرآن آيات كثيرة متكثِّرة في الدلالة على ذلك ت، صريحاً وتلويحاً، وبكل لسان وبيان.

ولم يُهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة، ومهامّ آثارها الجميلة، التي يتربّى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله: ( ... أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ... ) (1) .

وقوله: ( ... لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً... ) (2) .

وقوله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... ) (3) .

لكنّه عدلها بالموافقة لحكم العقل، فصار اتّباع حكم هذه العواطف والميول اتّباعاً لحكم العقل، وقد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ من حفظ الإسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرّعة على ذلك، أنّ جميع الأعمال والأحوال والأخلاق التي تُبطل استقامة العقل في حكمه، وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع، كشرب الخمر والقمار، وأقسام المعاملات الغررية، والكذب والبهتان، والافتراء والغيبة، كل ذلك محرّمة في الدين.

____________________

(1) سورة الفتح، الآية: 29.

(2) سورة الروم، الآية: 21.

(3) سورة الأعراف، الآية: 32.

١٢٤

والباحث المتأمّل يحدس من هذا المقدار، أنّ من الواجب أن يفوَّض زمام الأمور الكلِّية والجهات العامة الاجتماعية - التي ينبغي أن تُدبِّرها قوّة التعقُّل ويجتنَّب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب - إلى مَن يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف، وهو قبيل الرجال دون النساء.

وهو كذلك؛ قال الله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء... ) ، والسنّة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بيّنت ذلك كذلك، وسيرته (صلّى الله عليه وآله وسلم) جرت على ذلك أيام حياته، فلم يولِّ امرأة على قوم، ولا أعطى امرأة منصب القضاء، ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يُقاتلن.

وأمّا غيرها من الجهات، كجهات التعليم والتعلّم، والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها، ممّا لا يُنافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف، فلم تمنعهنّ السنّة ذلك، والسيرة النبوية تُمضي كثيراً منها، والكُتب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهنّ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من حرّية الإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة؛ إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن، ثمّ النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأيِّ نحو من الإصلاح، وكذا لا معنى لجعل حقِّ الدعوى أو الشهادة لهنّ، ثمّ المنع عن حضورهنّ عند الوالي أو القاضي وهكذا.

اللهمَّ، إلاّ فيما يُزاحم حق الزوج، فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، والحفظ في الغيبة، ولا يُمضي لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك.

١٢٥

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى: ( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ... ) (الآية): أي لا يقل أحدكم: ليت ما أُعطي فلان من النعمة والمرأة الحُسنى كان لي. فإن ذلك يكون حسداً، ولكن يجوز أن يقول: اللهمّ، أعطني مثله. قال: وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) .

أقول: وروى العيّاشي في تفسيره، عن الصادق (عليه السلام) مثله (2) .

في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب، عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في قوله تعالى: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ... ) ، وفي قوله: ( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ... ) (أنّهما نزلتا في عليّ (عليه السلام)) (3) .

أقول: والرواية من باب الجري والتطبيق.

وفي الكافي وتفسير القمّي، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ليس من نفس إلاّ وقد فرض الله لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية، وعرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض لها، وعند الله سواهما فضل كثير، وهو قول الله عز وجل: ( ... وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ... ) ) (4) .

أقول: ورواه العيّاشي، عن إسماعيل بن كثير، رفعه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وروى هذا المعنى أيضاً عن أبي الهذيل، عن الصادق (عليه السلام) (5) ، وروى قريباً منه أيضاً القمّي في تفسيره عن الحسين بن مسلم، عن الباقر (عليه السلام).

____________________

(1) تفسير مجمع البيان ج 2، ص 40.

(2) تفسير العيّاشي، ج 1، ص 239 رواية 115.

(3) تفسير البرهان ج 1، ص 361 (دار الكتب العلمية).

(4) الكافي ج 5، ص 80 رواية 2.

(5) تفسير العيّاشي ج 1، ص 39، رواية 116 ورواية 117.

١٢٦

وقد تقدّم كلام في حقيقة الرزق وفرضه، وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام، في ذيل قول: ( ... وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وفي صحيح الترمذي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم): (سلوا الله من فضله؛ فإنّ الله يُحبُّ أن يُسأل) (2) .

وفي الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير، عن رجل لم يُسمِّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم): (سلوا الله من فضله؛ فإنّ الله يُحبُّ أن يُسأل، وإنّ أفضل العبادة انتظار الفرج).

وفي التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ... ) قال: (عنى بذلك أُولي الأرحام في المواريث، ولم يَعنِ أولياء النعمة، فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجرُّه إليها) (3) .

وفيه أيضاً، بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر (عليه السلام) رجل وأنا عنده قال: فقال رجل لامرأته: أمركِ بيدكِ، قال: (أنَّى يكون هذا، والله يقول: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء... ) ؟! ليس هذا بشيء) (4) .

وفي الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم، من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن، قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم) تستعدي على زوجها أنّه لطمها، فقال رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم): (القصاص) ، فأنزل الله: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء... ) الآية، فرجعت بغير قصاص

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 212.

(2) صحيح الترمذي: ج 5، ص 528 باب 116 حديث 3571.

(3) التهذيب ج 9، ص 268 رواية 2 باب 4.

(4) التهذيب ج 8، ص 88 رواية 221 باب 36، وفي الحديث تكملة.

١٢٧

أقول: ورواه بطريق أُخرى عنه (عليه السلام)، وفي بعضها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أردت أمراً وأراد الله غيره)، ولعلّ المورد كان من موارد النشوز، وإلاّ فذيل الآية: ( ... فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً... ) .

وفي ظاهر الروايات إشكال آخر، من حيث أنّ ظاهرها أنَّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (القصاص) . بيان للحكم عن استفتاء من السائل، لا قضاء فيما لم يحضر طرفاً الدعوى؛ ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حكمه وتشريعه، وهو يُنافي عصمته، وليس بنسخ؛ فإنَّه رفع حكم قبل العمل به، والله سبحانه وإن تصرّف في بعض أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وضعاً أو رفعاً، لكنّ ذلك إنّما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته، لا في حكمه فيما شرّعه لأمّته، فإنّ ذلك تخطئة باطلة.

وفي تفسير القمّي، في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ( ... قَانِتَاتٌ... ) يقول (مُطيعات) (1) .

وفي المجمع، في قوله تعالى: ( ... فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ... ) الآية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يُحوِّل ظهره إليها). وفي معنى الضرب، عن أبي جعفر (عليه السلام): (إنّه الضرب بالسواك) (2) .

وفي الكافي، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ( ... فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا... ) قال: (الحكمان يشترطان إن شاءا فرَّقا، وإن شاءا جمعا، فإنّ فرّقا فجائز، وإن جمعا فجائز) (3) .

أقول: وروي هذا المعنى وما يقرب منه بعدّة طُرق أُخر فيه وفي تفسير

____________________

(1) تفسير القمّي ج 1، ص 137. (مؤسسة دار الكتاب: قم).

(2) تفسير مجمع البيان ج 2، ص 44.

(3) الكافي ج 6، ص 146 رواية 3.

١٢٨

العيّاشي.

وفي تفسير العيّاشي، عن ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة تزوّجها رجل، وشرط عليها وعلى أهلها إن تزوّج عليها امرأة وهجرها أو أبى عليها سريّة فإنّها طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه، وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك، قال الله في كتابه: ( ... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ... ) ، وقال: ( ... وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً )) (1) .

وفي الدرّ المنثور، أخرج البيهقي، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنّها أتت النبي (صلى الله عليه [ وآله ] وسلم) وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأُمّي، إنِّي وافدة النساء إليك، واعلم - نفسي لك الفداء - أنّه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلاّ وهي على مثل رأيي.

إنّ الله بعثك بالحقّ إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنّكم معاشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحجّ بعد الحجّ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّاً أو معتمراً أو مُرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربّينا لكم أموالكم، فما نُشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي (صلى الله عليه [ وآله ] وسلم) إلى أصحابه بوجهه كلِّه، ثمّ قال: (هل سمعتم مقالة امرأة قطُّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من

____________________

(1) تفسير العيّاشي ج 1، ص 240 رواية (121).

١٢٩

هذه؟). فقالوا: يا رسول الله، ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي (صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إليها، ثمّ قال لها: (انصرفي - أيّتها المرأة - وأعلِمي من خلفك من النساء: أنّ حسن تبعُّل إحداكنّ لزوجها، وطلبها مرضاته، واتّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة وهي تُهلِّل وتكبِّر استبشاراً) (1) .

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة مرويّة في جوامع الحديث، من طرق الشيعة وأهل السنّة، ومن أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليهما السلام): (جهاد المرأة حُسن التبعُّل) (2) .

ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى، مع اشتماله على أُسِّ ما بُني عليه التشريع ما في نهج البلاغة، ورواه أيضاً في الكافي بإسناده، عن عبد الله بن كثير، عن الصادق (عليه السلام) عن علي عليه أفضل السلام، وبإسناده أيضاً عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) في رسالته إلى ابنه: (أنّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة) (3) .

وما روي في ذلك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّما المرأة لعبة، مَن اتَّخذها فلا يُضيِّعها).

وقد كان يتعجّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف تُعانق المرأة بيد ضُربت بها؛ ففي الكافي أيضاً، بإسناده عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيضرب أحدكم المرأة ثمّ يَظلُّ مُعانقها؟!).

وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، ومن التأمُّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية، فنقول:

____________________

(1) السيوطي: الدرّ المنثور: ج 2، ص 153.

(2) الكافي ج 5، ص 9 رواية 1.

(3) الكافي ج 5، ص 510 رواية 3.

١٣٠

يظهر من التأمُّل فيه، وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكليمهنّ إيّاه فيما يرجع إلى شرائع الدين، ومختلف ما قرّره الإسلام في حقهنّ، أنّهنّ على احتجابهنّ واختصاصهنّ بالأمور المنزلية من شؤون الحياة غالباً، لم يكنّ ممنوعات من المراودة إلى وليّ الأمر، والسعي في حلّ ما ربّما كان يُشكل عليهن، وهذه حرّية الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلامية، في آخر سورة آل عمران.

ويُستفاد منه ومن نظائره أيضاً:

أولاً: أنّ الطريقة المرضيّة في حياة المرأة في الإسلام، أن تشتغل بتدبير أُمور المنزل الداخلية وتربية الأولاد، وهذه وإن كانت سنّة مسنونة غير مفروضة، لكنّ الترغيب والتحريض الندبي - والظرف ظرف الدين والجوّ جوّ التقوى وابتغاء مرضاة الله وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والترتبية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفّة والحياء ومحبّة الأولاد والتعلّق بالحياة المنزلية - كانت تحفظ هذه السنّة.

وكان الاشتغال بهذه الشؤون، والاعكتاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهنّ، يشغلهنّ عن الورود في مجامع الرجال، واختلاطهنّ بهم في حدود ما أباح الله لهنّ، ويشهد بذلك بقاء هذه السنّة بين المسلمين على ساقها قروناً كثيرة بعد ذلك، حتى نفذ فيهنّ الاسترسال الغربي المُسمّى بحرّية النساء في المجتمع، فجرت إليهنّ وإليهم هلاك الأخلاق، وفساد الحياة وهم لا يشعرون، وسوف يعلمون، (ولو أنّ أهل القُرى آمنوا واتّقوا، لفتح الله عليهم بركات من السماء، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كذّبوا فأُخذوا).

وثانياً: إنّ في السنّة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد والقضاء والولاية.

١٣١

وثالثاً: إنّ الإسلام لم يُهمل أمر هذه الحرمانات، كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، وجبر كسرها بما يُعادلها عنده، بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية، كما أنّه جعل حسن التبعُّل - مثلاً - جهاداً للمرأة، وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا - وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد - قدر، لكنّ الظرف الإسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانية المرضية عند الله سبحانه، وهو يُقدِّرها حقّ قدرها، يُقدِّر لسلوك كل إنسان مسلكه الذي نُدب إليه، وللزومه الطريق الذي خُطّ له من القيمة، ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانية، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المُهج - على ما فيه من الفضل - على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية، وكذا لا فخار لوالٍ يُدير رحى المجتمع الحيوي، ولا لقاضٍ يتّكي على مسند القضاء، وهما منصّبان ليس للمتقِّلد بهما في الدنيا - لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق - إلاّ تحمُّل أثقال الولاية والقضاء، والتعرُّض لمهالك ومخاطر تُهدِّدهما حيناً بعد حين في حقوق مَن لا حامي له إلاَّ ربُّ العالمين. وإنّ ربّك لبالمرصاد - فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، وخطّ له خطّاً وأشار إليه بلزومه وسلوكه.

فهذه المفاخر، إنّما يُحييها ويُقيم صلبها بإيثار الناس لها، نوع المجتمع الذي يُربِّي أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض، واختلاف الشؤون الاجتماعية والأعمال الإنسانية، بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها ممّا لا يسع أحداً إنكاره.

هو ذا الجندي الذي يُلقي بنفسه في أخطر المهالك، وهو الموت في منفجر القنابل المُبيدة؛ ابتغاء ما يراه كرامة ومزيداً، وهو زعمه أن سيُذكر اسمه في فهرس مَن فَدى بنفسه وطنه، ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين

١٣٢

ما يعتقد بأنّ الموت فوت وبطلان، وليس إلاّ بُغية وهميّة، وكرامة خرافيّة، وكذلك ما تؤثِّره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات ويُعظِّم قدرهنّ بذلك الناس، تعظيماً لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية، وقد كان ما يعَتوِرْنه من الشغل وما يُعطينّ من أنفسهن للملأ دهراً طويلاً في المجتمعات الإنسانية، أعظم ما يسقط به قدر النساء، وأشنع ما يُعيَّرن به، فليس ذلك كلُّه إلاّ أنّ الظرف من ظروف الحياة يُعين ما يُعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويُعظِّم الحقير، ويُهوِّن الخطير، فليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام أموراً نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة، أو يُحقِّر أموراً نستعظمها ونتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلاّ ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الأُولى.

١٣٣

الزواج

١٣٤

١٣٥

- 1 -

النكاح من مقاصد الطبيعة

أصل التواصل بين الرجل والمرأة ممّا تُبيِّنه الطبيعة الإنسانية - بل الحيوانية - بأبلغ بيانها، والإسلام دين الفطرة، فهو مجوِّزه لا محالة.

وأمر الإيلاد والإفراخ - الذي هو بُغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع - هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج، وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة؛ ولهذا ترى أنّ الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور، في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها، وكالحيوان الذي يحتاج - في الولادة والتربية - إلى وكر، تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور، ويختار لهذا الشأن الازدواج، وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه، فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها، وهكذا إلى أخر مدّة تربية الأولاد، ثمّ

١٣٦

ينفصلان إن انفصلا، ثمّ يتجدّد الازدواج وهكذا، فعامل النكاح والازدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد، وأمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية، كالكسب وجمع المال، وتدبير الأكل والشرب، والأثاث وإدارة البيت، فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة، وإنما هي أمور مقدّمية، أو فوائد مترتبة.

ومن هنا يظهر؛ أنّ الحرّية والاسترسال من الزوجين، بأن يتواصل كلٌّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع، كالحيوان العُجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث، أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم، وكذا الزنا، وخاصة زنا المُحصنة منها، وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين، وترك الزوج واتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما، وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية، على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية، ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدّة للرضاع والتربية، كل ذلك على خلاف سنّة الطبيعة، وقد جُهِّز الإنسان بما يُنافي هذه السنن الحديثة، على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم، الحيوان الذي لا حاجة - في ولادته وتربيته - إلى أزيد من حمل الأُمّ إيّاه، وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها، فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة والاختصاص، فهذا النوع من الحيوان له حرّية السفاد بمقدار ما لا يضرُّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

وإيّاك أن تتوهّم، أنّ الخروج عن سنّة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به، بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والرويّة، مع ما فيه من لذائذ الحياة

١٣٧

والتنعم؛ فإنّ ذلك من أعظم الخبط، فإنّ هذه البُنيات الطبيعية، التي منها البُنية الإنسانية مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة، تستوجب بوقوع كلٍّ في موقعه الخاص، على شرائطه المخصوصة به وضعاً، هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة، وهو المناسب لكمال النوع، كالمعاجين والمركّبات من الأدوية، التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف، ومقادير، وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر.

فالإنسان - مثلاً - موجود طبيعي تكويني، ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصاً، يستتبع أوصافه داخلية وخواص روحية، تستعقب أفعالاً وأعمالاً، فإذا حوّل بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها؛ يستتبع ذلك انحرافاً وتغيُّراً في صفاته وخواصّه الروحية، وانحرف بذلك جميع الخواصّ والصفات عن مستوى الطبيعة، وصراط الخلقة، وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي، والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.

وإذا بحثنا في المصائب العامة، التي تستوعب اليوم الإنسانية، وتُحبِط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة، وتهدّد الإنسانية بالسقوط والانهدام، وجدنا أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكُّن الخرق والقسوة والشدّة والشره من نفوس المجتمعات البشرية، وأعظم أسبابه وعلله الحرّية والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد، فإنّ سنّة المجتمع المنزلي (الأُسرة) وتربية الأولاد اليوم تُميت قرائح الرأفة والرحمة، والعفّة والحياء والتواضع من الإنسان، من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

وأمّا تدارك هذه النواقص بالكفر والرويّة، فهيهات ذلك، فإنّما الفكر - كسائر لوازم الحياة - وسيلة تكوينية اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين إليه، لا لإبطال سعي الطبيعة والخلقة

١٣٨

وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، ولو استُعمل الفكر - الذي هو أحد وسائل الطبيعة - في تأييد ما أُفسد من شؤون الطبيعة، عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل؛ ولذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامة التي تُهدِّد مجتمعه، أنتج ذلك ما هو أمرَّ وأدهى، وزاد البلاء والمصيبة شيوعاً وشمولاً.

نعم، ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحية - التي تُسمّى الفضائل النفسانية - هي بقايا من عهد الأساطير والتوحُّش، لا تُلائم حياة الإنسان الراقي اليوم، كالعفّة والسخاء والحياء والرأفة والصدق، فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، والسخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال، وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه؛ على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذلِّ السؤال، والحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره، والرأفة تُضعف القلب، والصدق لا يُلائم الحياة اليومية. وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.

ولم يَدرِ هذا القائل، أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية، التي لو ارتفعت من أصلها لم يعشْ المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال، وتعدّى كل فرد إلى ما لكلّ فرد، من مختصّات الحقوق والأموال والأعراض، ولم يسخُ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، ولم ينفعل أحد من مُخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين، ولم يرأف أحد بالعَجَزَة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال ومَن في تلوهم، وكذَّب كل أحد لكل أحد في جميع ما يُخبر به ويَعِده، وهكذا؛ تلاشى المجتمع الإنساني من حينه.

١٣٩

فينبغي لهذا القائل، أن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا، وأنّ الطبيعة الإنسانية مستمسّكة بها حافظة لحياتها، ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، وإنّما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقِّي اليوم فضائل للإنسانية، مُعدَّلة بما هو الحريِّ من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة، ولأقرَّ الناس في مستقرِّ أمن وراحة وسعادة.

ولنعد إلى ما كنّا فيه من البحث، فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي، فأحلّ النكاح وحرّم الزنا والسفاح، ووضع عُلقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق، ووضع هذه العُلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، ووضع عقد هذا المجتمع على أساس التوالد والتربية، ومن الأحاديث النبوية المشهورة قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (تناكحوا تناسلوا) ... تكثروا (الحديث).

- 2 -

استيلاء الذكور على الإناث:

ثمّ إنّ التأمُّل في سفاد الحيوانات، يُعطي أنّ للذكور منها شائبة الاستيلاء على الإناث في هذا الباب، فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبُضع مسلّطاً على الأُنثى؛ ولذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الإناث من غير عكس، فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، وكذا ما يجري بينها مجرى الخطبة في الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، وليس إلاّ أنّها ترى بالغريزة بأنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المُستعلي والإناث كالقابل الخاضع، وهذا المعنى غير ما

١٤٠