الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء ١

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 418
المشاهدات: 88078
تحميل: 5157


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88078 / تحميل: 5157
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تثبت، ولذلك تراه يتلجلج ويرعد ويبرق من غير جدوى أو عائدة، ولا أحسبه يحير جواباً عن واحد من الأسئلة التي وجَّهناها إليه.

وكأنَّه في احتجاجه بخلوِّ كتاب «العين» عن ذلك نسي أو تناسى ما لهج به في «المحصول» من إطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في كتاب «العين» كما نقله عنه السيوطي في المزهر 2 ص 47 و48.

وأنا لا أدري ما المراد من الكتب الأصليَّة من اللغة؟ ومَن الذي خصَّ هذا الأسم بالمعاجم التي يقصد فيها سرد الألفاظ وتطبيقها على معانيها في مقام الحجِّيَّة، وأخرج عنها ما أُلِّف في غريب القرآن أو الحديث أو الأدب العربيِّ؟ وهل نيَّة أرباب المعاجم دخيلةٌ في صحَّة الاحتجاج بها؟ أو أنَّ ثقة أرباب الكتب وتضلّعهم في الفنّ وتحرِّيهم موارد إستعمال العرب هي التي تكسبها الحجِّيَّة؟ وهذه كلّها موجودةٌ في كتب الأئمَّة والأعلام الذين نُقل عنهم مجيئ المولى بمعنى الأولى.

*(مفعل بمعنى فعيل )*

هلمَّ معي إلى صخب وهياج تهجَّم بها على العربيَّة (ومن العزيز على العروبة والعرب ذلك) الشاه وليّ الله صاحب الهندي في تحفته الأثني عشرية فحسب في ردّ دلالة الحديث أنَّها لا تتمّ إلّا بمجيئ المولى بمعنى الوليّ وأنّ «مَفعلاً» لم يأت بمعنى «فعيل» يريد به دحض ما نصَّ به أهل اللغة من مجيئ المولى بمعنى الوليِّ الذي يراد به وليّ الأمر كما وليّ المرآة: ووليّ اليتيم، ووليّ العبد، وولاية السلطان، ووليّ العهد لمن يقيِّضه الملك عاهل مملكته بعده.

نعم عزب عن الدهلوي قول الفرّاء المتوفّى 207 في (معاني القرآن) وأبي العبّاس المبرَّد: بأنّ الوليّ والمولى في لغة العرب واحدٌ. وذهل عن إطباق أئمَّة اللغة على هذا، وعدِّهم الوليِّ من معاني المولى في معاجم اللغة وغيرهما كما في «مشكل القرآن» للأنباري، و«الكشف والبيان» للثعلبي في قوله تعالى:( أَنتَ مَوْلَانَا ) ، و«الصحاح» للجوهري 2 ص 564، و(غريب القرآن) للسجستاني ص 154، وقاموس الفيروز آبادي 4 ص 401، و«الوسيط» للواحدي، وتفسير القرطبي 3 ص 431، ونهاية ابن

٣٦١

الأثير 4 ص 246 وقال: ومنه قول عمر لعليّ: أصبحت مولي كلِّ مؤمن. وتاج العروس 10 ص 399 واستشهد بقوله تعالى:( بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) . وبقوله صلّى الله عليه وآله: وأيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها. وبحديث الغدير: مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه(1) .

*(نظرة في معاني المولى )*

ذكر علماء اللغة من معاني المولى السيِّد غير المالك والمعتِق كما ذكروا من معاني الوليِّ الأمير والسلطان مع إطباقهم على اتّحاد معنى الوليِّ والمولى: وكلٌّ من المعنيين لا يُبارح معنى الأولويَّة بالأمر، فالأمير أولى من الرعيَّة في تخطيط الأنظمة الراجعة إلى جامعتهم، وبإجراء الطقوس المتكفِّلة لتهذيب أفرادهم، وكبح عادية كلٍّ منهم عن الآخر، وكذلك السيِّد أولى ممّن يسوده بالتصرف في شؤونهم، وتختلف دائرة هذين الوصفين سعتاً وضيقاً باختلاف مقادير الإمارة والسيادة فهي في والي المدينة أوسع منها في رؤساء الدواوين، وأوسع من ذلك في وُلاة الأقطار، ويفوق الجميع ما في الملوك والسلاطين، ومنتهى السعة في نبيٍّ مبعوث على العالم كلّه وخليفةٍ يخلفه على ما جاء به من نواميس وطقوس.

ونحن إذا غاضينا القوم على مجيئ الأولى بالشيء من معاني المولى فلا نغاضيهم علي مجيئه بهذين المعنيين، وإنَّه لا ينطبق في الحديث إلّا على أرقي المعاني. أو أوسع الدوائر، بعد أن علمنا أنَّ شيئاً من معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى لا يمكن إرادته في الحديث إلّا ما يطابقهما من المعاني ألا؟ وهي:

1 - الربّ 2 - العمّ 3 - ابن العمّ 4 - الابن 5 - ابن الأُخت
6 - المعتِق 7 - المعتَق 8 - العبد 9 - المالك (*) 10 - التابع
11 - المنعَم عليه 12 - الشريك 13 - الحليف 14 - الصاحب 15 - الجار

_____________________

1 - لا بسعنا ذكر المصادر كلها أو جلها لكثرتها جداً ولا يهمنا مثل هذا التافه.

(*) في صحيح البخاري 7 ص 57: المليك. وقال القسطلاني في شرح الصحيح 7 ص 77: المولى المليك لأنه يلي أمور الناس. وشرحه كذلك أبو محمد العيني في عمدة القاري. وكذا قال لفظياً العدوي الحمزاوي في النور الساري.

٣٦٢

16 - النزيل 17 - الصهر 18 - القريب 19 - المنعِم 20 - الفقيد
21 - الوليّ 22 - الأولى بالشيء 23 - السيّد غير المالك والمعتِق 24 - المحبّ
25 - الناصر 26 - المتصرِّف في الأمر 27 - المتولّي في الأمر.

فالمعنى الأوَّل يلزم من إرادته الكفر إذ لا ربّ للعالمين سوى الله. وأمّا الثاني والثالث إلى الرابع عشر فيلزم من إرادة شيء منها في الحديث الكذب، فإنَّ النبيَّ عمُّ أولاد أخيه إن كان له أخ وأمير المؤمنين ابن عمّ أبيهم. وهو صلّى الله عليه وآله ابن عبد الله وأمير المؤمنين ابن أخيه أبي طالب، ومن الواضح اختلاف أمّهما في النسب فخؤلة كلّ منهما غير خؤلة الآخر، فليس هو عليه السلام بابن أُخت لمن صلّى الله عليه وآله ابن أخته. وأنت جِدُّ عليم بأنّ مَن أعتقه رسول الله لم يعتقه أمير المؤمنين مرَّة أُخرى، وإن كلاً منهما سيّد الأحرار من الأوّلين والآخرين، فلم يكونا معتَقين لأيّ ابن أُنثى واعطف عليه العبد في السخافة والشناعة. ومن المعلوم أنَّ الوصيَّ صلوات الله عليه لم يملك مماليك رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يمكن إرادة المالك منه. ولم يكن النبيُّ تابعاً لأي أحد غير مُرسِله جلَّت عظمته، فلا معنى لهتافه بين الملأ بأنَّ من هو تابعه فعليٌّ تابعٌ له. ولم يكن على رسول الله لأيِّ أحد من نعمة بل له المنن والنعم على الناس أجمعين فلا يستقيم المعنى بإرادة المنعَم عليه. وما كان النبيُّ صلّى الله عليه وآله يُشارك أحداً في تجارة أو غيرها حتى يكون وصيّه مشاركاً له أيضاً، على أنّه معدودٌ من التافهات إن تحقَّقت هناك شراكة، وتجارته لأُمّ المؤمنين خديجة قبل البعثة كانت عملاً لها لا شراكة معها، ولو سلّمناها فالوصيُّ سلام الله عليه لم يكن معه في سفره ولا له دخلٌ في تجارته. ولم يكن نبيُّ العظمة محالِفاً لأحد ليعتزَّ به، وإنَّما العزَّة لله ولِرسوله وللمؤمنين، وقد إعتزّ به المسلمون أجمع، إذن فكيف يمكن قصده في المقام؟ وعلى فرض ثبوته فلا ملازمة بينهما.

وأمّا الصاحب والجار والنزيل والصهر والقريب سواءٌ أُريد منه قربى الرحم أو قرب المكان فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني لسخافتها لا سيّما في ذلك المحتشد الرهيب: في أثناء المسير، ورمضاء الهجير، وقد أمر صلّى الله عليه وآله بحبس المقدَّم في السير، ومنع التالي منه في محلٍّ ليس بمنزل له، غير أنَّ الوحي الإلهيّ المشفوع

٣٦٣

بما يشبه التهديد إن لم يبلِّغ حَبَسه هنالك، فيكون صلّى الله عليه وآله قد عقد هذا المحتفَل والناس قد أنهكهم وعثاء السفر، وحرُّ الهجير، وحراجةُ الموقف حتى أنَّ أحدهم ليضع ردائه تحت قدميه، فيرقي هنالك منبر الأهداج، ويُعلمهم عن الله تعالى أنَّ نفسه نعيت إليه، وهو مهتمٌّ بتبليغ أمر يخاف فوات وقته بانتهاء أيّامه، وأنَّ له الأهميَّة الكبرى في الدين والدنيا فيخبرهم عن ربِّه بأمور ليس للإشادة بها أيّ قيمة وهي: أنّ مَن كان هو صلّى الله عليه وآله مصطحباً أو جاراً أو مصاهراً له أو نزيلاً عنده أو قريباً منه بأيّ المعنيين فعليٌّ كذلك. لاها الله لا نحتمل هذا في أحد من أهل الحلوم الخائرة، والعقليّات الضعيفة، فضلاً عن العقل الأوَّل، والإنسان الكامل نبيِّ الحكمة، وخطيب البلاغة، فمن الأفك الشائن أن يُعزى إلى نبيّ الاسلام إرادة شيء منها، وعلى تقدير إرادة شيء منها فأيّ فضيلة فيها لأمير المؤمنين عليه السلام حتى يُبخبخ ويُهنَّأ بها، ويُفضِّلها سعد ابن أبي وقّاص في حديثه(1) على حمر النعم لو كانت، أو تكون أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، عمر فيها مثل عمر نوح.

وأمّا المنعِم: فلا ملازمة في أن يكون كلُّ من أنعم عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله يكون أمير المؤمنين عليه السلام منعماً عليه أيضاً بل من الضروريِّ خلافه، إلّا أن يراد أنَّ مَن كان النبيُّ صلّى الله عليه وآله منعماً عليه بالدين والهدى والتهذيب والإرشاد والعزَّة في الدنيا والنجاة في الآخرة فعليٌّ عليه السلام منعِمٌ عليه بذلك كلِّه لأنَّه القائم مقامه، والصادع عنه، وحافظُ شرعه، ومبلِّغُ دينه، ولذلك أكمل الله به الدين، وأتمَّ النعمة بذلك الهتاف المبين، فهو حينئذ لا يبارح معنى الإمامة الذي نتحرّاه، ويساوق المعاني التي نحاول إثباتها فحسب.

وأمّا العقيد: فلا بدَّ أن يراد به المعاقدة والمعاهدة مع بعض القبايل للمهادنة أو النصرة فلا معنى لكون أمير المؤمنين عليه السلام كذلك إلّا أنَّه تبعٌ له في كلِّ أفعاله وتروكه، فيساوقه حينئذ المسلمون أجمع، ولا معنى لتخصيصه بالذكر مع ذلك الإهتمام الموصوف، إلّا أن يُراد أنّ لعليٍّ عليه السلام دخلاً في تلك المعاهدات التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وآله لتنظيم السلطنة الإسلاميَّة، وكلائة الدولة عن الملاشات

_____________________

1 - راجع ص 38 - 41.

٣٦٤

بالقلاقل والحرج، فله التدخّل فيها كنفسه صلّى الله عليه وآله، وإن أمكن إرادة معاقدة الأوصاف والفضايل كما يقال: عقيد الكرم، وعقيد الفضل، أي: كريمٌ وفاضلٌ. ولو بتمحّل لا يقبله الذوق العربيُّ، فيقصد أنَّ مَن كنت عقيد الفضايل عنده فليعتقد في عليٍّ مثله، فهو والحالة هذه مقاربٌ لِما نرتأيه من المعنى، وأقرب المعاني أن يراد به العهود التي عاهدها صلّى الله عليه وآله مع مَن بايعه من المسلمين على إعتناق دينه، والسعي وراء صالحه؛ والذبّ عنه، فلا مانع أن يُراد من اللفظ والحالة هذه فإنَّه عبارةٌ أُخرى لأن يقول: إنَّه خليفتي والإمام مِن بعدي.

*(المحبّ والناصر)*

على فرض إرادة هذين المعنيين لا يخلو إمّا أن يُراد بالكلام حثُّ الناس على محبَّته ونصرته بما أنَّه من المؤمنين به والذابّين عنه. أو أمره عليه السلام بمحبَّتهم ونصرتهم وعلى كلٍّ فالجملة إمّا إخباريَّة أو إنشائيَّة.

فالإحتمال الأوَّل وهو الإخبار بوجوب حبِّه على المؤمنين فممّا لا طايل تحته، وليس بأمر مجهول عندهم لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ويناط التواني عنه بعدم تبليغ شيء من الرسالة كما في نصِّ الذكر الحكيم، فيحبس له الجماهير، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب، في موقف حرج لا قرار به، ثمّ يكمل به الدين، وتتمّ به النعمة، ويرضي الربّ، كأنَّه قد أتى بشيء جديد، وشرَّع ما لم يكن وما لا يعلمه المسلمون، ثم يُهنّأه مَن هنَّأه بأصبحت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة، مؤذناً بحدوث أمر عظيم فيه لم يعلمه القائل قبل ذلك الحين، كيف؟ وهم يتلون في آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه: والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) . مشعراً بلزوم التوادد بينهم كما يكون بين الأخوين، نُجلُّ نبيَّنا الأعظم عن تبليغ تافهٍ مثله، ونُقدِّس إلهنا الحكيم عن عبثٍ يشبهه.

والثاني: وهو إنشاء وجوب حبِّه ونصرته بقوله ذلك، وهو لا يقلُّ عن المحتمل الأوَّل في التفاهة، فإنَّه لم يكن هناك أمرٌ لم يُنشأ وحُكمٌ لم يُشرَّع حتى يحتاج إلى بيانه الإنشائيِّ كما عرفت، على أنَّ حقَّ المقام على هذين الوجهين أن يقول صلّى الله عليه

٣٦٥

وآله: مَن كان مولاي فهو مولى عليٍّ أي محبّه وناصره، فهذان الإحتمالان خارجان عن مفاد اللفظ، ولعلَّ سبط ابن الجوزي نظر إلى هذا المعنى وقال في تذكرته ص 19: لم يجز حمل لفظ المولى في هذا الحديث على الناصر. وسيأتي لفظه بتمامه. على أنّ وجوب المحبّة والمناصرة على هذين الوجهين غير مختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام وإنَّما هو شرع سواء بين المسلمين أجمع، فما وجه تخصيصه به والإهتمام بأمره؟ وإن أُريد محبّة أو نصرة مخصوصةً له تربو عن درجة الرعيَّة كوجوب المتابعة، وامتثال الأوامر، والتسليم له، فهو معنى الحجيَّة والإمامة، لا سيَّما بعد مقارنتها بما هو مثلها في النبيِّ صلّى الله عليه وآله بقوله: مَن كنت مولاه، والتفكيك بينهما في سياق واحد إبطالٌ للكلام.

والثالث: وهو إخباره بوجوب حبّهم أو نصرتهم عليه، فكان الواجب عندئذ إخباره صلّى الله عليه وآله عليّاً والتأكيد عليه بذلك لا إلقاء القول به على السامعين، وكذلك إنشاء الوجوب عليه وهو المحتمل الرابع، فكان صلّى الله عليه وآله في غنىً عن ذلك الإهتمام وإلقاء الخطبة وإستسماع الناس والمناشدة في التبليغ، إلّا أن يُريد جلب عواطف الملأ وتشديد حبِّهم له عليه السلام إذا علموا أنَّه محبّهم أو ناصرهم ليتَّبعوه، ولا يخالفوا له أمراً، ولا يردّوا له قولاً.

وبتصديره صلّى الله عليه وآله الكلام بقوله: مَن كنت مولاه. نعلم أنَّه على هذا التقدير لا يُريد من المحبّة أو النصرة إلّا ما هو على الحدِّ الذي فيه صلّى الله عليه وآله منهما، فإنَّ حبّه ونصرته لأُمَّته ليس كمثلهما في أفراد المؤمنين، وإنّما هو صلّى الله عليه آله يحبّ أُمَّته فينصرهم بما أنّه زعيم دينهم ودنياهم، ومالك أمرهم وكالئ حوزتهم، وحافظ كيانهم، وأولى بهم من أنفسهم، فإنَّه لو لم يفعل بهم ذلك لأجفلتهم الذئاب العادية، وانتأشتهم الوحوش الكواسر، ومدَّت إليه الأيدي من كلِّ صَوب وحَدَب، فمن غارات تُشنّ، وأموال تُباح، ونفوس تُزهق، وحُرمات تُهتك، فينتقض غرض المولى من بثِّ الدعوة، وبسط أديم الدين، ورفع كلمة الله العليا، بتفرّق هاتيك الجامعة، فمن كان في المحبَّة والنصرة على هذا الحدّ فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، والمعنى على هذا الفرض لا يحتمل غير ما قلناه.

٣٦٦

*(المعاني التي يمكن إرادتها من الحديث)*

لم يبق من المعاني إلّا الوليُّ. والأولى بالشئ. والسيِّد غير قسيميه: المالك والمعتِق. والمتصرِّف في الأمر ومتولّيه. أمّا الوليُّ فيجب أن يراد منه خصوص ما يراد في الأولى لعدم صحَّة بقيّة المعاني كما عرَّفناكه، وأمّا السيِّد(1) بالمعنى المذكور فلا يُبارح معنى الأولى بالشيء لأنَّه المتقدِّم على غيره لا سيّما في كلمة يصف بها النبيُّ صلّى الله عليه وآله نفسه ثمّ ابن عمِّه على حذو ذلك، فمن المستحيل حمله على سيادة حصل عليها السايد بالتغلّب والظلم، وإنّما هي سيادةٌ دينيَّةٌ عامَّةٌ يجب إتِّباعها على المسودين أجمع.

وكذلك المتصرِّف في الأمر، ذكره الرازي في تفسيره 6 ص 210 عن القفّال عند قوله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ) «الحجّ» فقال: قال القفّال: هو مولاكم سيِّدكم والمتصرِّف فيكم، وذكرهما سعيد الچلبي مفتي الروم، وشهاب الدين أحمد الخفاجي في تعليقيهما على البيضاوي، وعدَّه في الصواعق ص 25 من معانيه الحقيقيَّة، وحذا حذوه كمال الدين الجهرمي في ترجمة الصواعق، ومحمد بن عبد الرسول البرزنجيّ في النواقض، والشيخ عبد الحقّ في لمعاته، فلا يمكن في المقام إلّا أن يُراد به المتصرِّف الذي قيَّضه الله سبحانه لأن يُتَّبع فيحدو البشر إلى سَنن النجاح فهو أولى من غيره بأنحاء التصرُّف في الجامعة الإنسانية، فليس هو إلّا نبيٌّ مبعوث أو إمامٌ مفترض الطاعة منصوصٌ به من قِبَله بأمر إلهيٍّ لا يُبارحه في أقواله وأفعاله( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿3﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) .

وكذلك متولّي الأمر الذي عدَّه من معاني المولى أبو العبّاس المبرَّد، قال في قوله:( بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) : والوليُّ والمولى معناهما سواء، وهو الحقيق بخلقه المتولّي لأمورهم(2) وأبو الحسن الواحدي في تفسيره الوسيط، والقرطبي في تفسيره 4 ص 232 في قوله تعالى في آل عمران:( بَلِ اللَّـهُ مَوْلَاكُمْ ) . وابن الأثير في النهاية 4 ص 246، والزبيدي في تاج العروس 10 ص 398، وابن منظور في لسان

_____________________

1 - عدّه من معاني المولى جمع كثير من أئمَّة التفسير والحديث واللغة، لا يستهان بعدتهم.

2 - حكاه عنه الشريف المرتضى في الشافي.

٣٦٧

العرب 20 وقالوا: ومنه الحديث: أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل وفي رواية: وليّها. أي متولّي أمرها، والبيضاوي في تفسير قوله تعالى:( مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ) (التوبة) في تفسيره 1 ص 505، وفي قوله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ) (الحجّ) ج 2 ص 114، وفي قوله تعالى:( وَاللَّـهُ مَوْلَاكُمْ ) «التحريم» 2 ص 530، وأبو السعود العمادي في تفسير قوله تعالى:( وَاللَّـهُ مَوْلَاكُمْ ) «التحريم» (هامش تفسير الرازي) ج 8 ص 183، وفي قوله تعالى:( هِيَ مَوْلَاكُمْ ) . والراغب في المفردات، وعن أحمد بن الحسن الزاهد، الدرواجكي في تفسيره: المولى في اللغة من يتولّى مصالحك فهو مولاك يلي القيام بأمورك وينصرك على أعدائك، ولهذا سُمّي ابن العمّ والمعتِق مولى ثمَّ صار إسماً لمن لزم الشيء، والزمخشري في «الكشاف» وأبو العبّاس أحمد بن يوسف الشيباني الكواشي المتوفّى سنة 680 في تلخيصه، والنسفي في تفسير قوله تعالى:( أَنتَ مَوْلَانَا ) ، والنيسابوري في «غرائب القرآن» في قوله تعالى:( أَنتَ مَوْلَانَا ) . وقوله تعالى:( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَوْلَاكُمْ ) . وقوله تعالى:( هِيَ مَوْلَاكُمْ ) . وقال القسطلاني في حديث مرّ في ص 318 عن البخاري ومسلم في قوله صلّى الله عليه وآله: أنا مولاه، أي: وليّ الميِّت أتولّي عنه أموره، والسيوطي في تفسير الجلالين في قوله تعالى:( أَنتَ مَوْلَانَا ) . وقوله:( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَوْلَاكُمْ ) . وقوله:( لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ) . فهذا المعنى لا يُبارح أيضاً معنى الأولى لا سيَّما بمعناه الذي يصف به صاحب الرسالة صلّى الله عليه وآله نفسه على تقدير إرادته.

على أنَّ الذي نرتأيه في خصوص المقام بعد الخوض في غمار اللغة، ومجاميع الأدب، وجوامع العربيَّة، إنَّ الحقيقة من معاني المولى ليس إلّا الأولى بالشيء، وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذٌ في كلٍّ منها بنوعٍ من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة هذا المعنى.

1 - فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أيّ قاهر عليهم خلق العالمين كما شائت حكمته ويتصرَّف بمشيئته.

2 - والعمّ أولى الناس بكلائة ابن أخيه والحنان عليه وهو القائم مقام والده الذي كان أولى به.

٣٦٨

3 - وابن العمِّ أولى بالإتِّحاد والمعاضدة مع ابن عمِّه لأنَّهما غصنا شجرة واحدة.

4 - والإبن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له قال الله تعالى:( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) .

5 - وابن الأُخت أيضاً أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أُمِّه.

6 - والمعتِق بالكسر أولى بالتفضّل على مَن أعتقه من غيره.

7 - والمعتَق بالفتح أولى بأن يعرف جميل مَن أعتقه عليه ويشكره بالخضوع بالطاعة.

8 - والعبد أيضاً أولى بالانقياد لمولاه من غيره وهو واجبه الذي نيطت سعادته به.

9 - والمالك أولى بكلائة مماليكه وأمرهم والتصرُّف فيهم بما دون حدِّ الظلم.

10 - والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممَّن لا يتبعه.

11 - والمنعَم عليه أولى بشكر منعِمه من غيره.

12 - والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الأضرار.

13 - والأمر في الحليف واضح، فهو أولى بالنهوض بحفظ مَن حالفه ودفع عادية الجور عنه.

14 - وكذلك الصاحب أولى بأن يُأدّي حقوق الصحبة من غيره.

15 - كما أنَّ الجار أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلِّها من البعداء.

16 - ومثلها النزيل فهو أولى بتقدير مَن آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم وأمن في جوارهم.

17 - والصهر أولى بأن يرعي حقوق مَن صاهره فشدَّ بهم أزره، وقوي أمره، وفي الحديث الآباء ثلاثة: أبٌ ولَّدك. وأبٌ زوَّجك. وأبٌ علّمك.

18 - واعطف عليها القريب الذي هو أولى بأمر القريبين منه والدفاع عنهم والسعي وراء صالحهم.

19 - والمنعِم أولى بالفضل على من أنعم عليه، وأن يُتبع الحسنة بالحسنة.

20 - والعقيد كالحليف في أولويَّة المناصرة له مع عاقده، ومثلهما.

21 - المحبّ و22 والناصر، فإنّ كلاً منهما أولى بالدفاع عمَّن أحبَّه أو إلتزم

٣٦٩

بنصرته.

وقد عرفت الحال في الوليِّ 23 - والسيِّد 24 - والمتصرِّف في الأمر 25 - والمتولّي له 26.

إذن فليس للمولى إلّا معنىً واحد وهو الأولى بالشيء وتختلف هذه الأولويَّة بحسب الإستعمال في كلٍّ من موارده، فالإشتراك معنويٌّ وهو أولى من الإشتراك اللفظيِّ المستدعي لأوضاع كثيرة غير معلومة بنصٍّ ثابت والمنفيَّة بالأصل المحكّم، وقد سبقنا إلى بعض هذه النظريَّة شمس الدين ابن البطريق في العمدة ص 56 وهو أحد أعلام الطائفة في القرن السادس، وتطفح بشيء من ذلك كلمات غير واحد من علماء أهل السنَّة(1) حيث ذكروا المناسبات في جملة من معاني المولى تشبه ما ذكرنا.

ويكشف عن كون المعنى المقصود (الأولى) هو المتبادر من المولى إذا أُطلق كما يأتي بيانه عن بعض في الكلمات حول المفاد ما رواه مسلم بإسناده في صحيحه ص 197 عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يقل العبد لسيِّده مولاي. وزاد في حديث أبي معاوية: فإنّ مولاكم الله. وأخرجه غير واحد من أئمَّة الحديث في تآليفهم.

*(القرائن المعيّنة )*

متَّصلة ومنفصلة

إلى هنا لم يبق للباحث ملتحدٌ عن البخوع لمجئ المولى بمعنى الأولى بالشيء، وإن تنازلنا إلى أنَّه أحد معاينه وأنّه من المشترك اللفظيِّ، فإنَّ للحديث قرائنُ متَّصلة وأُخرى منفصلة تنفي إرادة غيره. فإليك البيان:

*(القرينة الأولى)*: مقدَّمة الحديث وهي قوله صلّى الله عليه وآله: ألست أولى بكم من أنفسكم. أوما يُؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة، ثمّ فرَّع على ذلك قوله: فمَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه. وقد رواها الكثيرون من علماء الفريقين فمن حفّاظ أهل السنَّة وأئمَّتهم.

_____________________

1 - راجع ما أسلفناه عن الدرواجكي وغيره وما يأتي عن سبط ابن الجوزي وغيره، فتجد هناك كثيراً من نظرائهما في مطاوي كلمات القوم.

٣٧٠

1 - أحمد بن حنبل

2 - ابن ماجة

3 - النسائي

4 - الشيباني

5 - أبو يعلى

6 - الطبري

7 - الترمذي

8 - الطحاوي

9 - ابن عقدة

10 - العنبري

11 - أبو حاتم

12 - الطبراني

13 - القطيعي

14 - ابن بطَّة

15 - الدار قطني

16 - الذهبي

17 - الحاكم

18 - الثعلبي

19 - أبو نعيم

20 - ابن السمّان

21 - البيهقي

22 - الخطيب

23 - السجستاني

24 - ابن المغازلي

25 - الحسكاني

26 - العاصمي

27 - الخلعي

28 - السمعاني

29 - الخوارزمي

30 - البيضاوي

31 - الملا

32 - ابن عساكر

33 - أبو موسى

34 - أبو الفرج

35 - ابن الأثير

36 - ضياء الدين

37 - قزأوغلي

38 - الكنجي

39 - التفتازاني

40 - محبُّ الدين

41 - الوصّابي

42 - الحمويني

43 - الإيجي

44 - وليُّ الدين

45 - الزرندي

46 - ابن كثير

47 - الشريف

48 - شهاب الدين

49 - الجزري

50 - المقريزي

51 - ابن الصبّاغ

52 - الهيثمي

53 - الميبدي

54 - ابن حجر

55 - أصيل الدين

56 - السمهودي

57 - كمال الدين

58 - البدخشي

59 - الشيخاني

60 - السيوطي

61 - الحلبي

62 - ابن باكثير

63 - السهارنپوري

64 - ابن حجر المكّي.

وقد ألمعنا إلى موارد ذكر المقدِّمة بتعيين الجزء والصفحات من كتب هؤلاء الأعلام فيما أسلفناه عند بيان طرق الحديث عن الصحابة والتابعين، وهناك جمعٌ آخرون من رواتها لا يُستهان بعدَّتهم لا نطيل بذكرهم المقال، أضف إلى ذلك من رواها من علماء الشيعة الذين لا يُحصى عددهم.

فهذه المقدِّمة من الصحيح الثابت الذي لا محيد عن الإعتراف به كما صرَّح بذلك غير واحد من الأعلام المذكورين(1) فلو كان صلّى الله عليه وآله يريد في كلامه غير المعنى الذي صرَّح به في المقدِّمة لَعاد لفظه (ونُجلّه عن كلِّ سقطة) محلول العُرى، مختزلاً بعضه عن بعض، وكان في معزل عن البلاغة وهو أفصح البلغاء، وأبلغ من نطق بالضاد، فلا مساغ في الإذعان بإرتباط أجزاء كلامه، وهو الحقّ في كلِّ قول يلفظه عن وحي يوحى، إلّا أن نقول بإتّحاد المعنى في المقدِّمة وذيها.

ويزيدك وضوحاً وبياناً ما في «التذكرة» لسبط ابن الجوزي الحنفي ص 20 فإنَّه

_____________________

1 - راجع رواة الحديث من الصحابة والكلمات حول سند الحديث.

٣٧١

بعد عدِّ معانٍ عشرة للمولى وجعل عاشرها الأولى قال: والمراد من الحديث: الطاعة المخصوصة، فتعيَّن الوجه العاشر وهو الأولى ومعناه: مَن كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولى به، وقد صرَّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفي الإصبهاني في كتابه المسمّى بمرج البحرين فإنَّه روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد عليّ فقال: مَن كنت وليَّه وأولى به من نفسه فعليٌّ وليّه. فعلم أنَّ جميع المعاني راجعةٌ إلى الوجه العاشر، ودلَّ عليه أيضاً قوله عليه السلام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وهذا نصٌّ صريحٌ في إثبات إمامته وقبول طاعته. ا هـ. ونصَّ ابن طلحة الشافعي في «مطالب السئول» ص 16 على ذهاب طايفة إلى حمل اللفظ في الحديث على الأولى. وسيوافيك نظير هذه الجمل في محلّه إنشاء الله تعالى.

*(القرينة الثانية)*: ذيل الحديث وهو قوله صلّى الله عليه وآله: أللهمّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه. في جملة من طرقه بزيادة قوله: وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله. أو ما يؤدّي مؤدّاه، وقد أسلفنا ذكر الجماهير الراوين له فلا موجب إلى التطويل بإعادة ذكرهم، ومرَّ عليك في ذكر الكلمات المأثورة حول سند الحديث ص 266 - 281 بأنَّ تصحيح كثير من العلماء له مصبّه الحديث مع ذيله، وفي وسع الباحث أن يقرّب كونه قرينةً للمدّعى بوجوه لا تلتأم إلّا مع معنى الأولويَّة الملازمة للإمامة.

«أحدها»: أنّه صلّى الله عليه وآله لَمّا صدع بما خوَّل الله سبحانه وصيَّه من المقام المشامخ بالرياسة العامّة على الأُمّة جمعاء، والإمامة المطلقة من بعده، كان يعلم بطبع الحال أنّ تمام هذا الأمر بتوفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال مع علمه بأنّ في الملأ مَن يحسده كما ورد في الكتاب العزيز(1) وفيهم من يحقده، وفي زمر المنافقين من يُضمر له العداء لأوتار جاهليَّة، وستكون من بعده هناة تجلبها النهمة والشَرَه من أرباب المطامع لطلب الولايات والتفضيل في العطاء، ولا يدع الحقّ

_____________________

1 - في قوله:(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ) . أخرج ابن المغازلي في المناقب، وابن أبي الحديد في سرحه 2 ص 236، والحضرمي الشافعي في الرشفة ص 27: إنها نزلت في علي وما خص به من العلم.

٣٧٢

عليّاً عليه السلام أن يُسعفهم بمبتغاهم لعدم الحنكة والجدارة فيهم فيقلِّبون عليه ظهر المجن، وقد أخبر صلّى الله عليه وآله مجمل الحال بقوله: إن تُؤمِّروا عليّاً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً. وفي لفظ إن تستخلفوا عليّاً وما أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً راجع ص 12، 13 من هذا الكتاب.

فطفق صلّى الله عليه وآله يدعو لمن والاه ونصره، وعلى مَن عاداه وخذله لِيتمّ له أمر الخلافة، ولِيعلم الناس أنَّ موالاته مَجلبةٌ لموالاة الله سبحانه، وأنّ عداؤه وخذلانه مدعاةٌ لغضب الله وسخطه، فيزدلف إلى الحقِّ وأهله، ومثل هذا الدعاء بلفظ العام لا يكون إلّا فيمن هذا شأنه، ولذلك إنّ أفراد المؤمنين الّذين أوجب الله محبَّة بعضهم لبعض لم يُؤثر فيهم هذا القول، فإنّ منافرة بعضهم لبعض جزؤيّات لا يبلغ هذا المبلغ، وإنَّما يحصل مثله فيما إذا كان المدعوّ له دعامة الدين، وعلم الاسلام، وإمام الأُمَّة، وبالتثبّط عنه يكون فتٌّ في عضد الحقِّ وإنحلالٌ لِعُرى الإسلام.

«ثانيها»: إنّ هذا الدعاء بعمومه الأفراديِّ بالموصول، والأزمانيِّ، والأحواليِّ بحذف المتعلّق تدلّ على عصمة الإمام عليه السلام لإفادته وجوب موالاته ونصرته. الإنحياز عن العداء له وخذلانه على كلِّ أحد في كلِّ حين وعلى كلِّ حال، وذلك يوجب أن يكون عليه السلام في كلِّ تلك الأحوال على صفة لا تصدر منه معصية، ولا يقول إلّا الحق، ولا يعمل إلّا به، ولا يكون إلّا معه، لأنَّه لو صدر منه شيءٌ من المعصية لوجب الإنكار عليه ونصب العداء له لعمله المنكر والتخذيل عنه، فحيث لم يستثن صلّى الله عليه وآله من لفظ العام شيئاً من أطواره وأزمانه علمنا أنَّه لم يكن عليه السلام في كلِّ تلك المدد والأطوار إلّا على الصفة التي ذكرناها، وصاحب هذه الصفة يجب أن يكون إماماً لقبح أن يأمَّه مَن هو دونه على ما هو المقرَّر في محلِّه، وإذا كان إماماً فهو أولى الناس منهم بأنفسهم.

«ثالثها»: إنّ الأنسب بهذا الدعاء الذي ذيَّل صلّى الله عليه وآله به كلامه، ولا بدَّ أنَّه مرتبطٌ بما قبله أن يكون غرضه صلّى الله عليه وآله بيان تكليف على الحاضرين من فرض الطاعة ووجوب الموالاة، فيكون في الدعاء ترغيبٌ لهم على الطاعة والخضوع له، وتحذيرٌ عن المترُّد والجموح تجاه أمره، وذلك لا يكون إلّا إذا نزّلنا المولى

٣٧٣

بمعنى الأولى، بخلاف ما إذا كان المراد به المحبّ أو الناصر فإنَّه حينئذ لم يعلم إلّا أنَّ عليّاً عليه السلام محبّ مَن يحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله أو ينصر من ينصره، فيناسب إذن أن يكون الدعاء له إن قام بالمحبَّة أو النصرة لا لِلناس عامَّة إن نهضوا بموالاته، وعليهم إن تظاهروا بنصب العداء له، إلّا أن يكون الغرض بذلك تؤكيد الصلاة الودِّيَّة بينه وبين الأُمَّة إذا علموا أنَّه يحبّ وينصر كلَّ فرد منهم في كلِّ حال وفي كلِّ زمان كما أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله كذلك فهو يخلِّفه عليهما، وبذلك يكون لهم منجاةٌ من كلِّ هلكة، ومأوى من كلِّ خوف، وملجأٌ من كلِّ ضعة، شأن الملوك ورعاياهم، والأُمراء والسوقة، فإنَّهما في النبيّ صلّى الله عليه وآله على هذه الصفة، فلا بدَّ أن يكونا فيمن يحذو حذوه أيضاً كذلك وإلّا لأختلَّ سياق الكلام، فالمعنى على ما وصفناه بعد المماشات مع القوم متَّحدٌ مع معنى الإمامة، ومؤدٍّ مفاد الأولى.

وللحديث ألفاظ أثبتها حفّاظ الحديث متَّصلة به في مختلف تخريجاتهم لا تلتئم إلّا مع المعنى الذي حاولنا من المولى.

*(القرينة الثالثة)*: قوله صلّى الله عليه وآله، يا أيّها الناس؟ بمَ تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلّا الله، قال: ثمّ مَه؟ قالوا: وأنَّ محمداً عبده ورسوله، قال: فمن وليّكم؟ قالوا: الله ورسوله مولانا. ثمَّ ضرب بيده إلى عضد عليٍّ فأقامه فقال: مَن يكن الله ورسوله مولاه فإنَّ هذا مولاه. الحديث.

هذا لفظ جرير وقريبٌ منه لفظ أمير المؤمنين عليه السلام ولفظ زين بن أرقم وعامر بن ليلى، وفي لفظ حذيفة بن أُسيد بسند صحيح: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله؟ (إلى أن قال): قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: أللهمَّ؟ اشهد، ثمّ قال: يا أيّها الناس إنَّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه. يعني عليّاً.(1)

فإنَّ وقوع الولاية في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة وسردها عقيب المولويَّة المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا يمكن إلّا أن يُراد بها معنى الإمامة الملازمة

_____________________

1 - راجع ص 22 و26 و27 و33 و36 و47 و55.

٣٧٤

للأولويَّة على الناس منهم بأنفسهم.

*(القرينة الرابعة)*: قوله صلّى الله عليه وآله عقيب لفظ الحديث: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الربِّ برسالتي، والولاية لعليِّ بن أبي طالب. وفي لفظ شيخ الإسلام الحمويني: الله أكبر تمام نبوّتي، وتمام دين الله بولاية عليّ بعدي.(1)

فأيّ معنى تراه يكمل به الدين، ويُتمّ النعمة، ويُرضي الربَّ في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعايمها؟ إذن فالناهض بذلك العبء المقدَّس أولى الناس منهم بأنفسهم.

*(القرينة الخامسة)*: قوله صلّى الله عليه وآله قبل بيان الولاية: كأنّي دُعيت فأجبت. أو: أنّه يوشك أن أُدعى فأُجيب. أو: ألا وإنّي أوشك أن أفارقكم. أو: يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب. وقد تكرّر ذكره عند حفّاظ الحديث كما مرَّ(2) .

وهو يُعطينا علماً بأنّه صلّى الله عليه وآله كان قد بقي من من تبليغه مهمّة يحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها، ولولا الهتاف بها بقي ما بلّغه مخدجاً، ولم يذكر صلّى الله عليه وآله بعد هذا الإهتمام إلّا ولاية أمير المؤمنين وولاية عترته الطاهرة الذين يُقدّمهم هو صلوات الله عليه كما في نقل مسلم، فهل من الجايز أن تكون تلك المهمَّة المنطبقة على هذه الولاية إلّا معنى الإمامة المصرَّح بها في غير واحدٍ من الصحاح؟ وهل صاحبها إلّا أولى الناس بأنفسهم؟

*(القرينة السادسة)*: قوله صلّى الله عليه وآله بعد بيان الولاية لعليٍّ عليه السلام: هنِّئوني هنِّئوني إنّ الله تعالى خصَّني بالنبوَّة وخصَّ أهل بيتي بالإمامة كما مرَّ ص 274. فصريح العبارة هو الإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين سيِّدهم والمقدَّم فيهم هو أمير المؤمنين عليه السلام وكان هو المراد في الوقت الحاضر.

ثمَّ نفس التهنئة والبيعة المصافقة والإحتفال بها وإتِّصالها ثلثة أيّام كما مرّت هذه كلّها ص 269-283 لا تُلائم غير معنى الخلافة والأولويَّة، ولذلك ترى الشيخين

_____________________

1 - راجع ص 43 و165 و231 و232 و233 و235.

2 - راجع ص 26 و27 و30 و32 و33 و34 و36 و47 و176.

٣٧٥

أبي بكر وعمر لقيا أمير المؤمنين فهنّئاه بالولاية. وفيها بيان لمعنى المولى الذي لهج به صلّى الله عليه وآله، فلا يكون المتحلّى به إلّا أولى الناس منهم بأنفسهم.

*(القرينة السابعة)*: قوله صلّى الله عليه وآله بعد بيان الولاية: فليبلّغ الشاهد الغايب. كما مرَّ ص 33 و160 و198. أو تَحسب أنَّه صلّى الله عليه وآله يؤكّد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمراً علمه كلُّ فرد منهم بالكتاب والسنَّة من الموالاة والمحبَّة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعاً بذلك الإهتمام والحرص على بيانه؟ لا أحسب أنَّ ضئولة الرأي يُسفُّ بك إلى هذه الخطَّة، لكنّك ولا شك تقول: إنّه صلّى الله عليه وآله لم يُرد إلّا مهمّة لم تتح الفرص لتبليغها ولا عرفته الجماهير ممّن لم يشهدوا ذلك المجتمع، وما هي إلّا مهمّة الإمامة التي بها كمال الدين، وتمام النعمة، ورضى الربِّ، وما فهم الملأ الحضور من لفظه صلّى الله عليه وآله إلّا تلك، ولم يؤثر له صلّى الله عليه وآله لفظ آخر في ذلك المشهد يليق أن يكون أمره بالتبليغ له، وتلك المهمّة لا تساوق إلّا معنى الأولى من معاني المولى.

*(القرينة الثامنة)*: قوله صلّى الله عليه وآله بعد بيان الولاية في لفظ أبي سعيد وجابر المذكور ص 43 و232 و233 و234 و237: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي، والولاية لعليّ بن بعدي. وفي لفظ وهب المذكور ص 60: إنّه وليّكم بعدي. وفي لفظ عليٍّ الذي أسلفناه ص 165: وليُّ كلِّ مؤمن بعدي.

وكذلك ما أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم، والنسائي، وابن أبي شيبة والطبري، وكثيرون آخرون من الحفّاظ بطرق صحيحة من قوله صلّى الله عليه وآله إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي، وفي آخر: هو وليّكم بعدي.

وما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1 ص 86 وآخرون بإسناد صحيح من قوله صلّى الله عليه وآله: من سرَّه أن يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي، فليوال عليّاً من بعدي، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فإنّهم عترتي خُلقوا من طينتي. الحديث.

وما أخرجه أبو نعيم في الحلية 1 ص 86 بإسناد صحيح رجاله ثقات عن حذيفة

٣٧٦

وزيد وابن عبّاس عنه صلّى الله عليه وآله: من سرّه أن يحيى حياتي، ويموت ميتتي، ويتمسّك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ثمّ قال لها: كوني. فكانت، فليتولَّ عليَّ ابن أبي طالب من بعدي.

فإنَّ هذه التعابير تُعطينا خُبراً بأنَّ الولاية الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام مرتبةٌ تساوق ما ثبت لصاحب الرسالة مع حفظ التفاوت بين المرتبتين بالأوَّليّة والأولويَّة سواءٌ أُريد من لفظ (بعدي) البعديَّة الزمانيَّة أو البعديَّة في الرتبة، فلا يمكن أن يراد إذن من المولى إلّا الأولويَّة على الناس في جميع شؤونهم، إذ في إرادة معنى النصرة والمحبَّة من المولى بهذا القيد ينقلب الحديث ويُعدُّ منقصةً دون مفخرة كما لا يخفى.

*(القرينة التاسعة)*: قوله صلّى الله عليه وآله بعد إبلاغ الولاية: أللهمَّ أنت شهيدٌ عليهم إنّي قد بلّغت ونصحت. فالإشهاد على الأُمَّة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلّغه صلّى الله عليه وآله ذلك اليوم أمراً جديداً لم يكن قد بلّغه قبلُ. مضافاً إلى أنَّ بقيَّة معاني المولى العامَّة بين أفراد المسلمين من الحبِّ والنصرة لا تُتصوَّر فيها أيُّ حاجة إلى الإشهاد على الأُمَّة في عليٍّ خاصَّة، إلّا أن تكون فيه على الحدِّ الذي بيَّنّاه.

*(القرينة العاشرة)*: قوله صلّى الله عليه وآله قبل بيان الحديث وقد مرَّ ص 165 و196: إنَّ الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري، وظننت أنَّ الناس مكذِّبي فأوعدني لأُبلّغها أو ليعذِّبني. ومرَّ في ص 221 بلفظ: أنَّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أنَّ الناس مكذِّبي فوعدني لأُبلّغنَّ أو ليعذِّبني. وص 166 بلفظ: إنّي راجعت ربّي خشية طعن أهل النفاق ومكذِّبيهم فأوعدني لأُبلّغها أو ليعذِّبني.

ومرّ ص 51: لَمّا أُمر النبيٌّ أن يقوم بعليِّ بن أبي طالب المقام الذي قام به فانطلق النبيُّ صلّى الله عليه وآله إلى مكّة فقال: رأيت الناس حديثي عهد بكفر بجاهليّة ومتى أفعل هذا به يقولوا: صنع هذا بابن عمّه ثمَّ مضى حتى قضى حجَّة الوداع. الحديث.

ومرَّ ص 219: إنّ الله أمر محمداً أن ينصب عليّاً للناس فيخبرهم بولايته فتخوَّف النبيُّ صلّى الله عليه وآله أن يقولوا: حابى ابن عمّه وأن يطعنوا في ذلك عليه. الحديث. ومرَّ ص 217:

٣٧٧

لَمّا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعليّ فيقول له ما قال فقال: يا ربّ إنَّ قومي حديث عهد بجاهليَّة (كذا في النسخ) ثمَّ مضى بحجِّه فلمّا أقبل راجعاً نزل بغدير خمّ. الحديث. ومرَّ ص 217: لَمّا جاء جبرئيل بأمر الولاية ضاق النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك ذرعاً وقال: قومي حديثو عهدٍ بالجاهلية فنزلت:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) . الآية.

هذه كلّها تنمُّ عن نبأٍ عظيم كان يخشى في بثِّه بوادر أهل النفاق وتكذيبهم، فالذي كان يحاذره صلى الله عليه وسلم ويتحقَّق به القول بأنَّه حابى ابن عمِّه يستدعي أن يكون أمراً يخصُّ أمير المؤمنين لا شيئاً يشاركه فيه المسلمون أجمع من النصرة والمحبّة وما هو إلّا الأولويَّة بالأمر وما جرى مجراها من المعاني.

11 - جاء في أسانيد متكثِّرة: التعبير عن موقوف يوم الغدير بلفظ النصب فمرَّ ص 57 عن عمر بن الخطاب: نصب رسول الله عليّاً علماً. و165 عن عليّ عليه السلام أمر الله نبيَّه - ينصبني للناس. وفي قوله الآخر في رواية العاصمي كما تأتي: نصبني عَلماً. ومرّ ص 199 عن الإمام الحسن السبط: أتعلمون أنَّ رسول الله نصبه يوم غدير خمّ. وص 200 عن عبد الله بن جعفر: ونبيّنا قد نصب لأمَّته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خمّ. وص 208 عن قيس بن سعد: نصبه رسول الله بغدير خمّ. وص 219 عن ابن عبّاس وجابر: أمر الله محمداً أن ينصب عليّاً للناس فيخبرهم بولايته. وص 231 عن أبي سعيد الخدري: لَمّا نصب رسول الله عليّاً يوم غدير خمّ فنادى له بالولاية.

فإنّ هذا اللفظ يُعطينا خُبراً بإيجاد مرتبةٍ للإمام عليه السلام في ذلك اليوم لم تكن تُعرف له من قبلُ غير المحبَّة والنصرة المعلومتين لكلِّ أحد والثابتتين لأيّ فرد من أفراد المسلمين، على ما ثبت من إطِّراد إستعماله في جعل الحكومات، وتقرير الولايات، فيقال: نصب السلطان زيداً والياً على القارَّة الفلانيّة، ولا يقال: نصبه رعيَّةً له أو محبّاً أو ناصراً أو محبوباً أو منصوراً به على زنة ما يتساوى به أفراد المجتمع الذين هُم تحت سيطرة ذلك السلطان.

مضافاً إلى مجيئ هذا اللفظ في غير واحد من الطرق مقروناً بلفظ الولاية أو متلوّاً بكونه للناس أو للأمّة. وبذلك كلّه تعرف أنَّ المرتبة المثبتة له هي الحاكميَّة المطلقة على الأُمَّة جمعاء، وهي معنى الإمامة الملازمة للأولويَّة المدَّعاة في معنى المولى، و

٣٧٨

يستفاد هذا المعنى من لفظ ابن عبّاس الآخر الذي مرّ ص 51 و217: قال: لَمّا أُمر النبيٌّ صلّى الله عليه وسلم أن يقوم بعليّ المقام الّذي قام به.

ويُصرّح بالمعنى المراد ما مرّ ص 165 من قوله صلّى الله عليه وآله: إنّ الله أمر أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيّي وخليفتي والّذي فرض الله على المؤمنين في كتابه طاعته فقرَّب بطاعته طاعتي وأمركم بولايته. وقوله المذكور ص 215: فإنّ الله قد نصبه لكم وليّاً وإماماً، وفرض طاعته على كلِّ أحد، ماضٍ حكمه، جايزٌ قوله.

12 - ما مرَّ ص 52 و217 من قول ابن عبّاس بعد ذكره الحديث: فوجبت والله في رقاب القوم. في لفظ، وفي أعناق القوم. في آخر، فهو يُعطي ثبوت معنىً جديد مستفاد من الحديث غير ما عرفه المسلمون قبل ذلك وثبت لكلِّ فرد منهم، وأكَّد ذلك باليمين وهو معنى عظيم يلزم الرقاب، ويأخذ بالأعناق لدة الإقرار بالرِّسالة لم يُساو الإمام عليه السلام فيه غيره، وليس هو إلّا الخلافة التي إمتاز بها من بين المجتمع الاسلاميّ، ولا يُبارحه معنى الأولويَّة.

13 - ما أخرجه شيخ الإسلام الحمويني في «فرايد السمطين» عن أبي هريرة قال: لَمّا رجع رسول الله عن حجّة الوداع نزلت آية:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) . الآية. ولَمّا سمع قوله تعالى:( وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) اطمئنَّ قلبه (إلى أن قال بعد ذكر الحديث): وهذه آخر فريضة أوجب الله عباده، فلمّا بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) . الآية.

يُعطينا هذا اللفظ خُبراً بأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله صدع في كلمته هذه بفريضة لم يسبقها التبليغ، ولا يجوز أن يكون ذلك معنى المحبّة والنصرة لسبق التعريف بهما منذ دهر كتاباً وسنّةً، فلم يبق إلّا أن يكون معنى الإمامة الذي أخَّر أمره حتى تكتسح عنه العراقيل، وتمرَّن النفوس بالخضوع لكلِّ وحي يوحى، فلا تتمرَّد عن مثلها من عظيمة تجفل عنها النفوس الجامحة، وهي الملائمة لمعنى الأولى.

14 - تقدَّم ص 29 و36 في حديث زيد بن أرقم بطرقه الكثيرة: إنَّ ختناً له سأله عن حديث غدير خمّ فقال له: أنتم أهل العراق فيكم ما فيكم. فقلت له: ليس عليك

٣٧٩

منّي بأس. فقال: نعم: كنّا بالجحفة فخرج رسول الله. الحديث. ومرّ ص 24 عن عبد الله ابن العلا أنّه قال للزهري لَمّا حدّثه بحديث الغدير: لا تُحدّث بهذا بالشام. وأسلفناك ص 273 عن سعيد بن المسيِّب أنّه قال: قلت لسعد بن أبي وقّاص: إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وإني أتَّقيك. قال: سل عمّا بدا لك فإنّما أنا عمّك.

فإنّ الظاهر من هذه كلّها أنَّه كان بين الناس للحديث معنىً لا يأتمن معه راويه من أن يصيبه سوءٌ أولدته العداوة للوصيِّ صلوات الله عليه في العراق وفي الشام، ولذلك إنَّ زيداً إتّقى ختنه العراقيَّ وهو يعلم ما في العراقيَّين من النفاق والشقاق يوم ذاك، فلم يُبد بسرِّه حتى أمن من بوادره فحدَّثه بالحديث، وليس من الجايز أن يكون المعنى حينئذ هو ذلك المبتذل بكلِّ مسلم، وإنّما هو معنى ينوء بعبأه الإمام عليه السلام بمفرده، فيفضل بذلك على مَن سواه، وهو معنى الخلافة المتَّحدة مع الأولويَّة المرادة.

15 - إحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام بالحديث يوم الرحبة بعد أن آلت إليه الخلافة ردّاً على مَن نازعه فيها كما مرّ ص 344 وإفحام القوم به لَمّا شهدوا، فأيّ حجّة له في المنازعة بالخلافة في المعنى الذي لا يلازم الأولويَّة على الناس من الحبِّ والنصرة؟.

16 - مرَّ في حديث الركبان ص 187 - 191: أنّ قوماً منهم أبو أيّوب الأنصاري سلّموا على أمير المؤمنين عليه السلام بقولهم: السلام عليك يا مولانا؟ فقال عليه السلام كيف أكون مولاكم وأنتم رهطٌ من العرب؟ فقالوا: إنّا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه.

فأنت جِدّ عليم بأنَّ أمير المؤمنين لم يتعجَّب أو لم يُرد كشف الحقيقة للملأ الحضور لمعنىً مبذول هو شرعٌ سواء بين أفراد المسلمين، وهو أن يكون معنى قولهم السلام عليك يا محبّنا أو ناصرنا. لا سيَّما بعد تعليل ذلك بقوله: وأنتم رهط من العرب. فما كانت النفوس العربيَّة تستنكف من معنى المحبَّة والنصرة بين أفراد جامعتها، وإنَّما كانت تستكبر أن يخصَّ واحدٌ منهم بالمولويَّة عليهم بالمعنى الذي نحاوله، فلا ترضخ له إلّا بقوَّةٍ قاهرةٍ عامّتهم، أو نصٍّ إلهيٍّ يُلزم المسلمين منهم، وما ذلك

٣٨٠