• البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40033 / تحميل: 4878
الحجم الحجم الحجم
تأريخ جديد للتأريخ  على هامش الفرق الإسلامية

تأريخ جديد للتأريخ على هامش الفرق الإسلامية

مؤلف:
العربية

فالصحابة في غالبيتهم ما يزالون احياء. وليس بينهم وبين نبيهم والجهاد معه والقتال تحت رايته لإعلاء شهادة لا اله الا الله محمد رسول الله الا بضع عشرة سنة، ومنهم من شارك في القتال خلال حكم الراشدين الثلاثة بعده. بل ان منهم من كان يقاتل خارج الحدود لنشر راية الاسلام عندما اظهر ابن سبأ دعوته كما يزعمون.

وكتاب الله الذي عاصروا نزوله، يخبرهم ان ليس مع الله اله ولا بعد محمد نبي، يتلونه ويعيشونه في كل لحظة من حياتهم من ليل او نهار، ومن كان على رأس السلطة ما يزال يحمل اسم الخليفة وامير المؤمنين.

اليس كثيرا اذن ان يقوم في مثل هذه البيئة النبوية، يهودي لم يسلم الا من عهد قريب، بالدعوة الى اله غير الله ونبي غير محمد، ويبلغ من شهرة هذه الدعوة، ان يخرجه اهل الشام من ارضهم، كما يقول المؤرخون، بعد ان ضاقوا به وبها، ويمضي في دعوته ثم لا يجد من يعرض له او يقيم عليه الحد او من يتقرب الى الله بسفك دمه وقد جردت السلطة جيوشها فقتلوا من قتلوا من ؤوس العرب وزعماء القبائل واصحاب الاسر والبيوت، ولم يكن ما استحقوا عليه القتل الا انهم حبسوا زكاتهم فلم يرسلوها الى المدينة ؟!

ومن هذه الاسباب ما يتصل بالشخص الذي غلا فيه ابن سبأ. انه علي ابن ابي طالب حاربه الأمويون حيا وميتا وسبوه على المنابر طوال مدة حكمهم(١) وسبه ولاتهم وشعراؤهم وخطباؤهم فلم يتركوا ما يمكن ان تأليهه، وهو اشد واقوى من كل ما اتهموه به ووجهوه اليه. انه الكفر الذي لا يستحل به دم ابن سبأ وحده بل دم علي معه او قبله.

____________________

١- الفرق بين الفرق ص١٤٤، ومنه يظهر ان عبد الله بن سبأ هو شخص آخر غير عبد الله بن السوداء وهكذا فانت الآن امام شخصين عبد الله بن سبأ الذي يقول عنه المؤرخون انه ابن السوداء وعبد الله بن السوداء الذي يقول عنه البغدادي نقلاً عن الشعبي انه ( كان يعين السبأية على قولها ) أي اصحاب عبد الله بن سبأ والذي هو غيره طبعاً وأظن هذا سببا آخر للشك في وجود أي من الاثنين وما اورده البغدادي تجده في التبصير في الدين للأسفراييني ص٧٢. اما الجاحظ في البيان والتبيين فيضيف الى ابن السوداء، ابن حرب فقد جاء في ج٣ ص٨١ منه ( فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب... )

٨١

والخوارج، هؤلاء الذين حملوا السيف ضد علي وثاروا عليه وقتلوه لأنه كما قالوا رضي بالتحكيم ووافق عليه. ماذا يكون التحكيم ورضا علي به في جنب تأليهه ورضاه به ؟! كيف سكتوا فلم يرفعوا سيفا ولا صوتا ضده ؟! اتراهم يرفضون تحكيمه في امر دين الله ويقتلونه به، ويسكتون عنه وقد قبل بأن يكون هو الله ؟!

واصحاب الجمل وصفين، وقد حاربوا عليا وحاربهم في اعنف واقسى ما عرف تاريخ المسلمين من حروب في ذلك العهد. وكان يكفيهم لتجنبها او النصر فيها رفع شعار تأليهه بدل رفع المصاحف مثلا، وليس في ذلك خدعة ولا حرج، ولكان سيرهم لحرب علي واجبا دينيا لن يتخلف احد عنه، ولن يحتاجوا معه لأي سبب آخر يتوسلون به لتبرير قتالهم له.

والعباسيون بعد هؤلاء وقد حاربوا عليا ميتا وحاربوا آله امواتا واحياء. هل فاتهم ما عرفه الرواة والمؤرخون فلم يذكروا في معرض الذم والاتهام لخصومهم العلويين، ما اقترفه ابوهم من ذنب كبير برضاه دعوى تأليهه وعبادته من دون الله.

اليس في سكوت هؤلاء كلهم واحجامهم عن التعرض لهذه القضية الكبيرة او الاشارة اليها وهم يخوضون حروبهم مع علي حيا وميتا ما يكفي لدحضها واسقاطها ؟! اليس في كل ذلك ما ينفي هذه الاسطورة التي لو صحت لكانت امضى اسلحتهم في حروبهم تلك، خصوصا وكثير منهم يشاهدونها كل يوم وليس مجرد رواية تروى او حديثاً ينقل يفقده الزمن وطول العهد الكثير من قوته وتأثيره وصدقه.

وحتى صناع الأحاديث الذين لم يتركوا فرقة من فرق المسلمين دون ان

٨٢

يوردوا بشأنها حديثا او اكثر. اليس غريبا ان يسلم السبئية منهم فلم يخصوهم بحديث ( عن يهودي اسمه عبد الله واسم ابيه او جده - باختلاف الروايات - سبأ وامه سوداء(١) يتستر بالاسلام يظهر ويحرض الناس على عثمان او يدعي الالوهية لعي كيدا للاسلام وثأروا لدينه القديم فاذا رأيتموه فاقتلوه واقتلوا اصحابه ) او بما يؤدي هذا المعنى. ولا ايسر من بضاعة الحديث ولا افضل منها وسيلة لنيل الحظوة عند الخلفاء والولاة والتقرب اليهم بما يرضيهم من احاديث فيها طعن في علي وانتقاص منه.

وهذا الشعر العربي والشعراء العرب الذين لم يفتهم ان يسجلوا ادق التفاصيل للحياة العربية والذين يمثلون مصدر علمنا الوحيد احيانا في بعض شؤونها.

أكان يفوتهم مثل هذا الحدث الخطير في الحياة الاسلامية فلا يعرضون له ولا يشيرون اليه بشيء ؟!

وانا لا اتحدث عن الشعر الذي نقل لنا بعد عقود من عصر ابن سبأ ودعوته السبئية وهو كما اظن لا يتجاوز البيت احدهما على كل حال بيت اعشى همدان او ما نسب اليه والذي لا يتضمن اكثر من تسمية اصحاب المختار بالسبئية دون اية اضافة تخص عقيدتهم وتوضحها وقد نظم كما قيل في مناسبة معينة اثناء ثورة المختار عام ٦٦ أي بعد ثلاثة عقود على ظهور ابن سبأ واشتهار دعوته(٢) وكان اعشى همدان من الذين يجاهرون بعدائهم للمختار وانتهاز اية فرصة للتشهير به والنيل منه.

ولكني اتحدث عن الشعر والشعراء المعاصرين لابن سبأ ودعوته وقد استمرت على الاقل زمناً من خلافة عثمان حتى مقتله ومقتل علي بعده. وبين

____________________

١- والبيت هو:

شهدت عليكم أنكم سبئية وأني بكم يا شرطة الشرك عارف

وقد ورد هذا البيت في ج٦ من تاريخ الطبري حوادث سنة ٦٦ ه- ص٨٣، ولم أجده في الأغاني في ترجمة أعشى همدان أما المناسبة التي قيل ان الشعر الذي منه هذا البيت قد نظمفيها حديثها في الطبري ج٦ ص١٨٢- ١٨٣.

وبرغم ان ما يرويه الطبري فيها عن اخراج الكرسي المنسوب الى علي وتفاؤل اصحاب المختارية في حربهم ليس بالأمر الغريب أو المثير للدهشة فقد عرفت الحرب رموزاً صادقة أو كاذبة يلجأ اليها القادة لبث روح الحماس في اصحابهم ودفعهم الى الاستماتة في قتالهم كما حصل قبل ذاك عند رفع قميص عثمان الملطخ بالدم تحريضاً وتشجيعاً.

فان التلفيق في هذه القصة ظاهر لا يحتاج الى طويل تفكير اذ يكفي ان نلاحظ حجم هذا البغل الذي يحمل الكرسي والذي يمسكه كما يقول الطبري سبعة عن يمينه وسبعه عن يساره واظنك لو صففت هؤلاء السبعة من كل جهة، الواحد جنب الآخر، بحيث لا تترك اية فرجة بينهما لخرجوا بمسافة طويلة عن كل طرف من طرفي البغل ولما استطاع الأخيرون من كل طرف ان يمسكوا به لبعدهم عنه حتى لو كان هذا البغل قد استورد بشكل خاص للمختار.

هذا فضلا عن ان الذي يتحمل المسؤولية في قصة الكرسي على افتراض صحتها هو من زعم المختار ان الكرسي علي وليس المختار نفسه. وانظر ايضا حديث الكرسي في رغبة الآمل من كتاب الكامل للمرصفي ج٧ ص٢١١- ٢١٢.

٢- الملل والنحل ج١ ص١٧٤، ويبدو من ابن ابي الحديد في شرح النهج ان عبد الله بن سبأ قد ظهر بعد وفاة علي وان الغلاة قد سبقوه في الوجود واليك ما يقوله في هذا الشأن ( ثم استترت هذه المقالة - الغلو في علي وقول الغلاة له انت انت يومون الى ربوبيته - سنة او نحوها ثم ظهر عبد الله بن سبأ وكان يهودياً يتستر بالإسلام بعد وفاة امير المؤمنينعليه‌السلام فاظهرها فاتبعه قوم فسموا السبئية... ) ج٨ ص١١٩- ١٢٠.

ومن هذا يظهر ان الغلاة سبقوا عبد الله بن سبأ وان هذا لم يكن المؤسس للغلو في الاسلام كما هو معروف بين المؤرخين وهو سبب جديد للشك.

٨٣

هؤلاء الشعراء انصار لعثمان واعداء لعلي لم يكن آخرهم الخوارج الذين كان اغتيال علي ايديهم.

لقد نقل لنا المؤرخون ما قيل في هجاء النبي محمد مع حرصهم على عدم اذاعته ونشره. فكيف غاب عنا ما قيل في هجاء ابن سبأ واستنكار دعوته - لو كان شيء من ذاك - مع حرص المؤرخين على اذاعته ونشره، ومع حرص السلطة وسعيها لتشويه صورة ابن سبأ ومن خلاله تشويه صورة من يدعو اليه ويؤهله: علي بن ابي طالب ؟!

ومع ذاك فلنعد الى اعشى همدان وقد قلت ان تسميته لأصحاب المختار بالسبئية في البيت الذي نقله الطبري لا تعني ابداً ما اراده منها اصحاب المقالات والمؤلفون في الفرق من غلو في علي ومجيئه في السحاب وكلام عن البرق والرعد الخ.

فالطبري نفسه يعطي لفظ ( السبئية ) في اكثر من موضع من تأريخه معنى سياسيا يرتبط بالأحداث التي حفل بها ذلك العصر.

ويكفي أن تقرأ ما جاء في الجزء الرابع منه ص٤٠٣ حيث يقول بعد حديث عن ضابيء بن الحارث البرجمي الذي مات في حبس عثمان ( فلذلك صار عمير بن ضابيء سبئيا ).

وليس في هذا اكثر من أن عمير بن ضابيء الذي حبسه عثمان ومات في حبسه قد تحول الى عدو لعثمان ثأرا لأبيه ومال الى اعدئه ( السبئية ).

فموقف عمير موقف أي ابن يريد أن يثأر لأبيه ممن يتهمه بقتله أو بأنه سبب فيه، ينضم لأعدائه أن استطاع انتظارا لليوم الذي يمكنه الانتقام من المتهم

٨٤

في نظره عن مقتل أبيه.

عمير حين أراد الثأر لأبيه، لم يسلم على السحاب ولم ينضم - لأخذ الثأر - الى المسلمين او الرادين السلام عليه ولم ينتظر سوط علي. انما انضم الى أعداء الخليفة الذي يتهمه بموت أبيه، وشارك فعلا في الأحداث التي انتهت بمقتل عثمان.

فالطبري وهو يتحدث عن انضمام عمير للسبئية يتحدث عن جماعة سياسية ومواقف سياسية على الارض لا في السحاب.

وفي ص٥٤١ من الجزء نفسه يقول الطبري وهو يتحدث عن بيعة اهل البصرة لعلي وقسمة ما في بيت المال عليهم ( وخاض في ذلك السبئية وطعنوا على علي من وراء ).

والنص واضح فهو يعني من جهة موقفا سياسيا من الخليفة في عهدهم لا صلة له بالسحاب ولا يستقرئ الأنواء الجوية عن وقت مجيئه.

وهو يعني من جهة ثالنية ان هؤلاء السبئية لم يكونوا من الغلاة في علي والا لما طعنوا عليه وشكوا في صحة فعله.

بعد هذا أظن من الطبيعي إن نعرض لموقف علي من دعوة ابن سبأ لتأليهه ومن السبئية، فهو المعني بها قبل غيره وهو المؤله فيها.

وحتى تكون الصورة واضحة فسأذكر نصوص ما أورده الرواة في هذا الشأن بعد الإشارة إليها مجملا في بداية الفصل.

يقول الشهرستاني عن السبئية ( أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي أنت أنت يعني الإله فنفاه إلى المدائن.. ) وان عليا ( هو الذي يجيء في السحاب

٨٥

والرعد صوته والبرق تبسمه...)(١) .

ويذكر البغدادي في حديثه عنهم أنهم ( أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي وزعم انه كان نبيا ثم غلا فيه حتى زعم انه اله ودعا إلى ذلك قوما من غواة الكوفة ورفع خبرهم إلى علي فأمر باحراق قوم في حفرتين... )(٢) .

ويقول عنهم الرازي ( أتباع عبد الله بن سبأ وكان يزعم ان علياً هو الله وقد أحرق علي منهم جماعة.. )(٣) .

ويعرفهم الجرجاني بأنهم ( أصحاب عبد الله بن سبأ قال لعلي انت الإله حقاً فنفاه علي إلى المدائن.. وعلي في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه... )(٤) .

ولا تخرج أقوال الباقين عما قدمنا. ولهذا فلسنا في حاجة الى الإتيان بها هنا.

فابن سبأ لا يكتفي بتأليه علي وانما يدعو المسلمين الى تأليهه ويضم إلى دعوته من يؤلف منهم فرقة اسمها ( السبئية ).

والأمر بالنسبة لعلي ليس تهمة محضة أو وشاية لا بد من أقامة الحجة قبل الحكم فيها، فابن سبأ نفسه يأتي لعلي كما يروون ويقول له مواجهة أنت الإله. فلا حاجة بعلي إذن لأي دليل آخر لإثبات التهمة واقامة الحد.

فماذا يصنع علي مع هذه الطائفة التي تدعو الى عبادة شخص غير الله وتأليهه.

انه أمر بإحراق قسم منهم كما يقول الرواة. اما رئيسهم عبد الله فيكتفي بإبعاده إلى المدائن.

____________________

١- الفرق بين الفرق ص١٤٣.

٢- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٥٧.

٣- تعريفات الجرجاني ص٦٧.

٤- الفرق بين الفرق ص١٤٣- ١٤٤.

٨٦

ورواية الحرق هذه يكملها رواتها بأن الغلاة الذين أمر علي باحراقهم قالوا له حين مستهم النار، الآن تأكد لنا أنك الله لأنه لا يعذب بالنار الا الله.

وما سمعت بألوهية أسهل ولا أيسر من هذه الألوهية التي يكفي فيها أن يعذب بالنار من هو قادر على التعذيب بها ليصبح آلها.

ولو سرنا مع هؤلاء الغلاة أو بالاحرى مع ما يرويه الرواة عنهم لكان اغلب المجرمين آلهة، ولكان لنا من هؤلاء الآلهة ما قد يفوق عدد سكان الصين.

وفي تاريخ الإسلام كم هم الذين عذبوا بالنار قبل علي وكم هم الذين عذبوا بالنار بعده ؟ يكفي أن نذكر انه في حروب الردة امر ابو بكر بإحراق المرتدين، فلم يقل احد انه قد صار لذلك آلها أو أن واحداً من أمراء جيشه قد صار لذلك الهاً.

وفي زمن هشام بن عبد الملك احرق خالد بن عبد الله القسري والى الكوفة المغيرة بن سعيد ومن كان معه بالنار فلم يتحول خالد إلى اله.

ولقد فاتني عند زيارتي لروما أن أسأل عن تمثال نيرون الذي لا بد ان يكون كبير الآلهة ورئيسهم عند الرومان. فهو لم يكتف بإحراق واحد أو اثنين وإنما احرق مدينة كبيرة بكاملها كما يحكي المؤرخون.

وتسأل بعد ذاك لماذا الحرق، وهل هو الحد الشرعي في مثل هذه الحال ؟

ولماذا اقتصر الحرق على بعض دون بعض ؟ ولماذا أخيرا لم ينل زعيم الفرقة ورأس الفتنة ما نال الآخرين من افرادها واكتفي بنفيه إلى المدائن؟

أما عن السؤال الأول فلا يجيبك أحد.

٨٧

وأما عن السؤالين الآخرين فيجيبك البغدادي بأن عليا خاف من إحراق الباقين، شماتة أهل الشام واختلاف أصحابه عليه وهو عازم على العودة إلى قتال معاوية، فاكتفى بنفي ابن سبأ الى المدائن(١) .

فعقوبة عبد الله بن سبأ كان يفترض أن تكون اشد حسب ما تحدده أحكام الدين. لكن شماتة أهل الشام والخوف من اختلاف الأصحاب دفعا عليا إلى تجاوز تلك الأحكام وتعطيلها مكتفيا بنفي عبد الله.

فابن أبي طالب لم يكن يعنيه أمر الدين ولا احترام حدوده ولا تنفيذ احكامه. كل ما كان يهمه هو أن يمنع أهل الشام من الشماتة به. ولولا ذاك لبادر إلى تنفيذ العقوبة التي يفرضها الإسلام على عبد الله بن سبأ، وهي لا شك أكثر من مجرد النفي إلى المدائن.

ولا اكتمك يا عزيزي القارئ. لقد ضحكت كثيرا من هؤلاء الذين كتبوا لنا تأريخنا، ولكني رثيت لهؤلاء الذي كتب عليهم ان يقرؤوا هذا التاريخ.

أيرفض ابن أبي طالب الإبقاء على معاوية أميرا في الشام ولو لمدة، مع ورسوخ سلطانه هناك ومساس رحمه به ومكانة بيته في قريش ثم لا يخشى شيئا، ويخشى أمضاء حكم الله في هذا اليهودي الذي لا حرمة له من فضل أو دين ولا سابقة له من جهاد او اسلام ولا عصبية له من اسرة او قبيلة ؟!

والله لقد كان أهل الشام أكثر شماتة به. وأهل العراق اكثر اختلافا عليه لو انه ترك ابن سبأ فلم يقم الحد عليه. ولكان ابن العاص أسرع إلى رفع شعار ابن سبأ وتأليه علي وهو صادق، منه الى رفع المصاحف في صفين وهو مخادع.

ومن هذه الأسباب ما يتعلق بالسبئية أنفسهم.

____________________

١- وردت في مروج الذهب ( فقتلتموه ) وقد صححناها تبعاً لما يقتضي المقام.

٨٨

فلأفترض أن ابن سبأ والسبئية وجدوا حقا، ولأفترض انهم الهوا عليا وعبدوه حقا.

افليس من طاعتهم لمن ألهوه وعبدوه أن يمتثلوا لأوامره ونواهيه فيأتوا ما يأمرهم به ويجتنبوا ما ينهاهم عنه ؟ فلمَ لم ينتهوا ويكفوا بعد ان نهاهم علي، وبعد أن استتابهم وأجج النار وهددهم بالحرق فيها، بل بعد أن احرق قسما منهم كما يذكر الرواة ؟!

اكان من غلوهم فيه وعبادتهم له أن يفعلوا ما ينهى عنه ويعصوا ما يأمر به ؟!

ومن هم هؤلاء السبئية ومن رؤساؤهم ؟! أن المؤرخين لا يذكرون واحد فحسب يضيفونه إلى ابن سبأ. فهل من المقبول ان تقوم فرقة كاملة تشغل التاريخ والمؤرخين وما تزال، منذ اربعة عشر قرنا، ولا نعرف ولا يعرف المؤرخون أنفسهم من اتباعها الا واحدا هو زعيمها ومؤسسها عبد الله بن سبأ.

ثم كيف يقول هؤلاء برجعة علي وهو في نظرهم الإله الذي لا يجوز عليه الموت ولا الغياب ليقال انه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وهو كإله يستطيع ان يفعل ذلك في أي وقت شاء دون التقيد بوقت محدد قبل القيامة.

وأضيف إلى ذلك انه لو كان الغلو الذي يمثله السبئية موجودا حقا في زمن علي كما يقول المؤرخون. أتراه يتجاوز الحسن والحسين ليقفز ويستقر في بيت محمد بن الحنفية ويرتبط به كما هو معروف ؟ فهل كان ابن الحنفية اكبر

٨٩

سناً وقدراً من الحسن والحسين ليتجه الغلو والغلاة إليه دونهما، وهما سبطا النبي وابنا علي من فاطمة وسيدا شباب أهل الجنة، كما هو متفق عليه لدى المسلمين.

ألم يكونا أولى بالغلو وأحق أن ينتقل اليهما بعد علي ولا يتعداهما لابن الحنفية كما سنرى، لو كان هذا الغلو سابقا في الزمان لابن الحنفية، أي لو كانت السبئية قد وجدت فعلاً في عهد علي ؟!

وأعود الى ابن سبأ مرة أخرى، ولكن لأتناول هذه المرة، دوره السياسي كما صوره المؤرخون.

والحق أن عودتي إليه لا تعني أنني اخترته من بين السبئية. ولكن بكل بساطة لأنني لا أجد ولا اعرف ولا يعرف المؤرخون غيره ممن يدعونهم السبئية كما قلت آنفاً.

وعلى كل فهؤلاء المؤرخون يضيفون الى بدعته او بدعه الدينية بدعة سياسية فهو الذي فتن المسلمين وحرضهم على الثورة ضد عثمان. وهو الذي كان وراء الأحداث التي انتهت بقتله كما هو مبسوط في كتب التاريخ.

والمؤرخون يصورون ابن سبأ ودوره في الثورة ضد عثمان وكأن هذه الثورة كانت من صنع يديه، وهو الذي لا نعرف واحداً فحسب من اتباعه ومؤيديه. وكأن الذين ثاروا وحاصروا عثمان وقتلوه لم يكونوا يصدرون الا عن رأيه ولا يتلقون الأوامر الا منه، متجاهلين بغباء او بقصد كل الظروف التي ادت الى الثورة واشعلت نارها والتي كان من أهمها موقف أهل المدينة وقريش وعلى رأسهم عدد من كبار الصحابة.

٩٠

هذا عبد الملك بن مروان يخاطب قريشا وهو على المنبر في المدينة فيقول لهم بعد أن يطيل الحديث في قصة يجعل منها مثلا للعلاقة السيئة بين الأمويين وبين قريش (.... وليكم عمر بن الخطاب فكان فظاً غليظاً مضيقاً عليكم فسمعتم له وأطعتم ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليناً كريماً فغدوتم عليه فقتلتموه وبعثنا عليكم مسلماً يوم الحرة فقتلناكم(١) فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا وانتم تذكرون يوم الحرة ونحن لا نحبكم ابداً ونحن نذكر مقتل عثمان )(٢) .

وهذا عمرو بن سعيد بن العاص ( الأشدق ) والي المدينة الأموي يخاطب أهلها من على المنبر وهم ينظرون الى ثيابه اعجابا بها فيقول ( ما بالكم يا اهل المدينة ترفعون إلي إبصاركم كأنكم تريدون أن يضربونا بسيوفكم أغركم أنكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم أما انه لو أثبتم بالأولى ما كانت الثانية. أغركم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منا رفيقا... )(٣) .

ومالنا ولعبد الملك ولعمرو بن سعيد وخطبهما ولو عدنا الى الوراء قليلا لرأينا عثمان نفسه يتحدث عن موقف أهل المدينة منه في كتابه إلى معاوية طالبا نصرته بعد تطور الأحداث ضده ( اما بعد فان أهل المدينة قد كفروا واخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة... )(٤) .

لكن معاوية يبطئ و ( يتربص ) كما يقول الطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد(٥) .

فهل نحتاج بعد إلى شهادات أخرى من الخارج اكثر من شهادة القتيل وشهادت أهل البيت وأصحاب القضية ؟!

____________________

١- مروج الذهب ج٣ ص١٢١ في اخبار عبد الملك بن مروان.

٢- العقد الفريد ج٤ ص١٨٩.

٣- الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ ه- ص٣٦٨.

٤- الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ ه- ص٣٦٨، وابن الأثير ج٣ احداث السنة نفسها ص٦١، وشرح النهج لابن ابي الحديد ج٢ ص١٥١.

وانظر جواب محمد بن مسلمة وهو من القاعدين عن علي، الى معاوية واتهامه له بخذلان عثمان ( وقعة صفين لنصر بن مزاحم تحقيق عبد السلام محمد هارون ص٧٧ وكلام شبث بن ربعي مع معاوية في هذا الشأن المصدر نفسه ص١٨٧).

وأوضح منهما بخصوص موقف معاوية كتاب ابي ايوب الأنصاري جواباً على كتاب معاوية إليه وقد جاء فيه (... وما نحن وقتل عثمان ان الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن اسد واهل الشام عن نصرته لأنت... ) المصدر السابق ص٣٦٨.

وانظر كذلك جواب عبد الله بن عباس الى معاوية وهو يستشهد فيه الوليد بن عقبة بن ابي معيط اخي عثمان لأمه المصدر السابق ص٤١٥.

٥- الطبري ج٤ ص٣٦٧، وشرح النهج ج٢ ص١٤٩، وابن الأثير ج٣ ص٤٣ و٥٨ وفيه ( فان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد افسده خليفتكم فأقيموه ). وانظر ايضا ما قاله محمد بن مسلمة لعثمان ( وانت ترى خذلان اصحابك لك، لا بل هم يقودون عدوك عليك ) الطبري ج٤ ص٣٧٢.

وانظر ايضا شرح النهج لابن ابي الحديد ج٣ ص٢٧ و٢٨ في موقف اهل المدينة وانهم لو ارادوا لمنعوا قتل عثمان وقول عبد الرحمن بن عوف وقد سئل كيف لم يمنع اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عثمان فقال ( انما قتله اصحاب رسول الهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وما روي عن ابي سعيد الخدري في مقتل عثمان وهل شهده احد من اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال ( نعم شهده ثماني مئة ) وانظر جواب قيس بن سعد للنعمان بن بشير وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص٤٤٩.

٩١

ومع ذاك فلنتابع ما ينقله الطبري من موقف أهل المدينة من عثمان فهو يذكر انه ( لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من اصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى من بالآفاق منهم وكانوا قد تفرقوا في الثغور: أنكم أنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل وتطلبون دين محمد فان دين محمد قد افسد من خلفكم وترك فهلموا فأقيموا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه )(١) .

وما أظن الطبري وهو ينص على من بالمدينة ( من اصحاب النبي إلى من بالآفاق منهم ) ألا قاصدا تحديد هويتهم بشكل دقيق وعدم خلطهم بمن كان في المدينة أو في الآفاق من غير الصحابة ممن لا يملكون التأثير نفسه وليس لهم السابقة نفسها والدين والرأي المسموع.

بل أن أهل المدينة هؤلاء كتبوا إلى عثمان نفسه ( يدعونه إلى التوبة ويحتجون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه ابدا حتى يقتلوه او يعطيهم ما يلزمه من حق الله )(٢) .

هذا عن موقف أهل المدينة على العموم. أما عن قريش خاصة فقد يكفيني من ذلك أن اعرض مواقف عدد من زعمائها وذوي الرأي والنفوذ فيها.

يقول الطبري ( فخرج عمرو - يعني ابن العاص - من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان )(٣) .

____________________

١- الطبري ج٤ ص٣٦٩.

٢- الطبري ج٤ ص٣٥٦- ٣٥٧.

٣- الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ه- ص٣٥٧ وابن الأثير ج٣ ص٥٤- ٥٥، وشرح النهج ج٢ ص١٤٤.

٩٢

ثم يقول عن عمرو وقد بلغه مقتل عثمان ( قال - يعني عمرو بن العاص أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ان كنت لأحرض عليه حتى لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل )(١) . أما طلحة فسأتجاوز ما ذكره الطبري عن موقفه من عثمان وتحريضه عليه إلى ما قاله عثمان نفسه عنه ( اللهم أكفني طلحة بن عبي الله فانه حمل علي هؤلاء وألبهم والله أني لأرجو ان يكون منها صفراً وان يسفك دمه انه انتهك مني ما لا يحل له... )(٢) . وهكذا كان فقد قتله مروان بن الحكم يوم الجمل ثأراً بعثمان. وأوردنا هنا ما ذكره ابن سعد في ترجمة مروان بن الحكم قال ( فلما رأى يعني مروان - انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عبيد الله واقفاً فقال والله أن دم عثمان إلا عند هذا هو كان اشد الناس عليه وما اطلب أثرا بعد عين ففوق له بسهم فرماه به فقتله... )(٣) .

وهذا ما يتفق عليه المؤرخون(٤) . وما اظن مروان كان سيقتل احد قائدي الجيش الذي انضم إليه، وهو يخوض حربه ضد علي: ألد أعدائه وأعداء الأمويين، لو لا ما تحقق لديه من مشاركة طلحة في مقتل عثمان. وقد هيأت له حرب الجمل فرصة الثأر منه.

ولم يكن الزبير اقل عداء لعثمان وتحريضاً عليه من طلحة وابن العاص، فيروي لنا صاحب مروج الذهب ان طلحة والزبير هما اللذان اسلفا الأشتر وقد نفدت نفقته، مبلغ مئة الف درهم، كل منهما خمسين الف يتزود بها ليعود الى الكوفة ويمنع سعيد بن العاص عامل عثمان عليها من دخولها(٥) .

____________________

١- الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ه- ص٣٧٩ و٤٠٥، وابن الأثير ج٣ ص٥٧، ٥٨، ٦٤، وشرح النهج ج٢ ص١٥٥.

وانظر في موقف طلحة من عثمان: الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ ه- ص٣٧٩ و ٤٠٥، وابن الأثير ج٣ ص٥٧، ٥٨، ٦٤، وشرح النهج ج٢ ص١٤٨ وج١٠ ص٥، ٦، ٧. وكذلك اعتراف طلحة نفسه بأن ما كان منه في عثمان شيء لا يكفي في توبته عنه الا ان يسفك دمه في طلب دمه - يعني عثمان - الطبري ج٤ ص٤٧٢، وابن الأثير ج٣ ص١١٢- ١١٣.

وقول علي وقد سأل طلحة عما اخرجه عليه قال: الطلب بدم عثمان فقال علي ( قتل الله اولانا بدم عثمان ) مروج الذهب ج٢ ص٣٦٤.

٢- طبقات ابن سعد ج٥ ص٢٦ ترجمة مروان بن الحكم.

٣- مروج الذهب ج٢ ص٣٦٥، والاصابة لابن حجر ج٣ ص٢٩٠، وما بعدها ترجمة طلحة بن عبيد الله رقم ٤٢٥٩، وتهذيب التهذيب له ايضا ج٥ ص٢٠ وما بعدها والاخبار الطوال للدينوري ص١٤٨، وتاريخ خليفة بن خياط ج١ ص١٦٠- ١٦٢ وص١٦٥، وفيها ( رمى مروان طلحة بن عبيد الله بسهم ثم التفت الى ابان بن عثمان فقال ( قد كفيناك بعض قتلة ابيك ). وانظر ايضا الاستيعاب في معرفة الاصحاب لابن عبد البر تحقيق علي محمد البجاوي القسم الثاني ترجمة طلحة ففيه اضافة الى ما سبق ( ولا يختلف العلماء الثقات في ان مروان قتل طلحة يومئذ - يوم الجمل - وكان في حزبه ).

ويبدو مما ورد في مروج الذهب ان مروان كان يريد قتل الاثنين طلحة والزبير لو قدر عليهما فقد جاء في ص٣٦٥ المشار اليها قول مروان ( رجع الزبير ويرجع طلحة ما

ابالي رميت ها هنا ام ها هنا ) ثم يستمر المسعودي بعد ذلك قائلاً ( فرماه في اكحله - يعني طلحة - فقتله ).

وانظر شرح النهج ج٩ ص١١٣ - ١١٤.

٤- مروج الذهب ج٢ ص٣٣٧ - ٣٣٨.

وانظر ايضا في موقف الزبير رد علي الواضح في حواره معه قبل بدء معركة الجمل وهو يقول له ( اتطلب مني دم عثمان وانت قتلته سلط الله على اشدنا عليه اليوم ما يكره ) الطبري ج٤ ص٥٠٩، وقريب من هذا تجده في مروج الذهب ج٢ ص٣٦٣.

٥- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج٣ ص٢٨.

وانظر ايضا في موقف عبد الرحمن بن عوف من عثمان الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ه- ص٣٦٥.

٩٣

وما يقال عن عمرو وطلحة والزبير يقال عن السيدة عائشة وعبد الرحمن بن عوف.

ففيما يخص موقف السيدة عائشة يراجع الطبري ج ٤ ص٤٥٨ - ٤٥٩ وابن الأثير ج ٣ ص١٠٠ ومروج الذهب ج٢ ص٣٦٢.

اما عبد الرحمن بن عوف فيروي ابن ابي الحديد انه قال وقد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه ( عاجلوه قبل ان يتمادى في ملكه فبلغ ذلك عثمان فبعث الى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها ووصى عبد الرحمن إلا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص وقد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا )(١) .

وفي حديث سعيد بن العاص لمروان ما يغنينا عن كل ما سبق حول موقف طلحة والزبير والسيدة عائشة من عثمان، فيذكر الطبري وابن الأثير أن مروان ابن الحكم وبعض المنحرفين عن علي قد خرجوا مصاحبين للثلاثة في توجيههم من مكة الى البصرة للتحريض على علي بحجة الطلب بدم عثمان. وحين بلغوا ذات عرق قال سعيد لمروان ( أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم... ) قاصداً بذلك طلحة والزبير والسيدة عائشة(٢) .

وأسأل الآن بعد هذا، عن مكان هذا اليهودي بين هؤلاء ودوره فيما صدر عن كل منهم بالنسبة لعثمان.

فهل كان ابن سبأ وراء إبطاء معاوية عن نصرة عثمان حين أرسل إليه كتابه يستنجده ويطلب نصره.

____________________

١- الطبري ج٤ ص٤٥٣، وابن الأثير ج٣ ص١٠٢، وفيها ( يعني عائشة وطلحة والزبير ) وأنظر أيضاً حوار عمار بن ياسر معهم ورده عليهم في كتاب الفتوح الكبير لابن أعثم ج٣ ص١٢٣.

٢- الطبري ج٤ أحداث سنة ٣٥ ص٣٥٥، ٣٦٧، ٣٦٨، ٣٧١، ٣٧٣، ٣٧٤، ٣٧٥، ٣٧٦، وابن الأثير ج٣ أحداث السنة نفسها ص٥٩، وتاريخ خليفة بن خياط ج١ ص١٤٦.

٩٤

أم كان هو الذي أغرى ابن العاص وطلحة والزبير وعبد الرحمن بالتحريض على عثمان.

أم كان وراء موقف السيدة عائشة في تشديد الحملة عليه.

أكان عبد الله بن سبأ هو من كتب الكتاب الذي طلب فيه عثمان - أو طلب باسمه - معاقبة الثائرين من المصريين وهو الكتاب الذي سبب عودتهم إلى المدينة وحصارهم عثمان بعد ما كانوا فصلوا عنها راجعين إلى بلادهم بالعهد المؤكد منه بإزالة اسباب الشكوى.

أكان هو الذي ختم الكتاب بختم الخليفة وهو الذي كلف الرجل بالسفر إلى مصر واكترى له راحلته التي حملته الى هناك(١) .

وقل ذاك أكان ابن سبأ هو الذي دفع عثمان الى ارتكاب ما ارتكب مما سبب نقمة المسلمين عليه وثورتهم ضده(٢) .

وأنا هنا لا أريد أن أخوض في هذه النقطة التي ينحصر كل الخلاف فيها بين من يؤتم عثمان أو يكفره(٣) وبين من يلتمس له العذر فيما صدر عنه من أفعال أو غرت قلوب المسلمين عليه ودفعتهم إلى ركوب الأحداث التي انتهت بمقتله.

وارجع إلى ما كنت فيه من حديث ابن سبأ لأناقش سؤالا خطر في ذهني الآن وهو انه لو صح لابن سبأ مثل هذا الدور في التحريض على عثمان وقتله أكان يستطيع أن يفلت من بني امية فلا يصيبوه بثأر عثمان بعد انتهاء الأحداث. ثم بعد اغتيال علي وانتقال السلطة أليهم وكان حيا عند ذاك(٤) وقد قتلوا من هو اخف جرما منه وأعلى مكانة واعز أسرة وارفع مقاما.

____________________

١- الطبري ج٤ ص٣٤٦ فما بعدها حيث ورد ذكر بعض هذه الأحداث وكذلك الملل والنحل للشهرستاني ج١ ص٢٦ ومقالات الإسلاميين ج١ هامش ص٥١ وما بعدها وهي مفصلة ايضا في شرح نهج البلاغة ج٢ ص٣٢٤ وما بعدها وج٣ ص٤- ٦. وكذلك في العواصم من القواصم للقاضي ابي بكر بن العربي ت ٥٤٣ ط المطبعة السلفية - القاهرة ١٣٧١ه- تحقيق السيد محب الدين الخطيب ص٦١ - ٦٢ وغيرها من المراجع التي عرضت لها تفصيلاً او اختصاراً.

٢- كالخوارج وكبعض فرق الزيدية كما مر بنا.

٣- بدليل ما ترويه المصادر من ان ابن سبأ قال لمن جاءه بنعي علي ( لو جئتنا بدماغه في صرة - او قارورة او سبعين قارورة باختلاف الروايات - لعلمنا انه لا يموت او لم نصدق بموته ) وهو ما يؤكد وجوده حياً عند مقتل علي. الفرق بين الفرق ص١٤٣ والتنبيه والرد للملطي ص٢٥ والحور العين ص١٥٤ والفصل في الملل والأهواء والنحل ج٥ ص ٣٦ والبدء والتاريخ ج٥ ص١٢٩ وخطط المقريزي ج٤ ص١٨٢ وتعريفات الجرجاني ص٦٧ والبيان والتبيين للجاحظ ج٣ ص٨١.

٤- الطبري ج٤ احداث سنة ٣٥ والتنبيه والرد للملطي ص١٤٨ وابن الأثير ج٤ احداث سنة ٣٥ ص٤٦.

٩٥

ثم ما لابن سبأ، وهو - كما يقول المؤرخون - يملك كل هذا التأثير والنفوذ. وله كل هذا الدور في تحريك الأحداث السياسية وتوجيهها، يترك دوره ويتخلى عنه فلا نسمع له صورتا ولا نحس له وجودا بعد ذاك في تأييد ألهه ومعبوده علي والانتصار له، وقد خاض حروبا متصلة طول مدة خلافته بين الجمل وصفين وحروراء ؟ هل ذكر احد أن عبد الله بن سبأ أو واحدا من اتباعه قد ظهر او شارك أو قتل أو قاتل في تلك الحروب إلى جانب علي. او كان له دور مهما صغر شأنه فيها.

أتراهم اكتشفوا ألها جديدا غير علي فانتقلوا إلى عبادته وانصرفوا عن ألههم القديم فلم ينصروه ولم يقفوا إلى جانبه ؟!

وثمة شيء آخر يتصل بابن سبأ أريد أن أتناوله ما دمت قد وصلت في الحديث عنه إلى هذا الحد، ذلك أن أيا من المؤرخين والمؤلفين في الفرق والعقائد لم يعن بنهايته ولم يقل لنا كيف كانت ومتى.

وقد أرضى أن يغفل المؤرخون والمؤلفون في الفرق والعقائد حياته السابقة قبل دعوته إلى تأليه علي وقيام فرقته السبئية. وقبل قيادته الثورة ضد عثمان كما يذكرون. فلم تكن ولادته ونشأته قبلهما ألا كولادة ونشأة هذه الملايين الذين يأتون وقد يروحون من هذه الدنيا دون أن يعرفهم أو يحس بهم احد.

هذا صحيح. ولكن الصحيح أيضا أن الأحداث التي ارتبطت بابن سبأ بعد ذاك جعلت منه شخصا ذا وزن كبير في الحياة الدينية والسياسية للمسلمين. ويكفي انك لا تفتح كتاباً في التاريخ او في العقائد ألا واجهك ابن سبأ ببدعته

٩٦

وهو يضلل الناس ويفتنهم عن دينهم. فليس مقبولاً أذن بعد هذه الشهرة التي صار أليها، أن نجهل كل شيء عن نهايته فلا نعرف أين توفي وكيف ومتى، ونحن نعرف كل شيء عمن هو دونه بكثير.

لقد تابع المؤلفون أخباره حتى قبل اشتهاره وذيوع اسمه فعرفوا أن أمه كانت سوداء وانه كان من يهود صنعاء على وجه التحديد(١) أفلم يتابعوا أخباره بعد ما اشتهر، فيعرفوا كيف انتهى أمره، هل توفي أم قتل وأين ومتى ؟ الم يذكر واحد من أتباعه، وهو رئيس فرقة - إذا عذرنا أعداءه - فيخبرنا عن شيء من ذلك ؟ أم أن ابن سبأ لم يمت.. لأنه لم يوجد.

ويبقى غير ما ذكرنا شيء يتصل بالغلو. ذلك أن الغلو في بعض الأشخاص والصعود بهم إلى مرتبة الآلهة، سواء في تأريخنا او تاريخ غيرنا هو من صنع الخيال لا من عمل العقل. فهل يستطيع الخيال أن ينشط كما يشاء ويصور كما يشاء ويغلو كما يشاء في شخص أنت تراه وتسمعه وتحادثه وتجالسه كباقي الناس. وتحكم على أفعاله فتصوبه وقد تخطئه فيها عندما تظن انه اخطأ كباقي الناس أيضا.

ولهذا كان العلو يصاحب الأموات عادة أو من هم في حكمهم ممن لا يمكن مشاهدتهم. دون أن يتعارض هذا مع الاحترام أو الإعجاب أو ما هو أكثر منهما للأحياء من الناس. ولكننا نتحدث هنا عن الغلو الذي يتجاوز بالإنسان حدود الآدمية إلى مرتبة الألوهية.

____________________

١- الفرق بين الفرق ص٣١.

٩٧

فكيف اخترع المؤلفون أسطورة ابن سبأ والسبئية وتأليه علي والقول برجعته وعدم موته وان الرعد والبرق صوته وسوطه وهو معهم يحيا حياتهم، ليس بينه وبينهم من فرق ألا ما يكون بين شخص وشخص وألا ما يميز شخصاً عن شخص دون ان ينتقل به ذلك إلى مرتبة الألوهية.

ولو جاز ذلك لكان أولى بتأليه علي، أصحابه الأولون ممن لزموه وقدموه وتحملوا فيه وقاتلوا دونه وقتلوا معه او بعده بسبب ثباتهم على حبه والولاء له، حتى بعد قتله وانتقال السلطة إلى أعدائه.

كان أولى بالدعوة إلى تأليهه، أولئك الصفوة من الأنصار الصادقين الثابتين، لا عبد الله بن سبأ اليهودي الذي لم يعرفه - لو كان قد عرفه - ألا قبل سنوات من اغتياله.

الم يشعر مؤرخونا بالحرج وهم يجعلون جزء خطيرا من تأريخنا من صنع يهودي امه سوداء ؟ وماذا كان سيفعل لو كانت امه بيضاء، وكان عبد الله بن السوداء، عبد الله بن البيضاء ؟!

الم يشعروا بالاثم وهم يحولون كبار الصحابة ورجال الاسلام الى مجموعة لا فكر لديها ولا وعي، يقودها ويسيرها ويتلاعب بها يهودي امه سوداء ؟!

اليس كبيرا على العرب والمسلمين ما يتهمهم به مؤرخون عرب مسلمون ؟!

لقد كنت أشك قبل الآن برواية عبد الله بن سبأ، أما الآن فاحسبني قد تجاوزت الشك.

٩٨

الغلو بعد علي:

في حديثي الذي تقدم عن السبئية قلت أن الغلو لم يعرف في عهد علي ولا في عهد الحسن والحسين بعده.

فحتى ثورة التوابين في عين الوردة عام ٦٥ه- لم يذكر احد من هؤلاء الثوار ولم يتهمهم احد من المؤرخين والرواة بأي شكل من أشكال الغلو في علي أو في الحسن أو الحسين ولم تتجاوز دعوتهم الثأر للحسين والندم لخذلانه وأنهم قد تابوا إلى الله - ومن هنا جاء اسمهم - مما ارتكبوه في عدم نصرتهم له وتخلفهم عنه.

وليس في ذلك ألا ما تجده عند أي شخص حين يحس بثقل ما فرط فيه وما ارتكبه من أثم جعل منه ضميرا خالصا، ومن حياته عذابا دائما لا يستطيع الخلاص منه ألا بالخلاص من الحياة نفسها فتراه يسعى إلى الموت وكأنه السبيل الوحيد يكفر به ما سلف من ذنبه.

لم يزد واحد من التوابين على ما ذكرنا ولم يتجاوزه الى أي امر آخر يمكن عده غلواً أو شيئاً قريبا من الغلو.

وبعد التوابين قام المختار ثائرا ضد الأمويين. وكانت ثورة سياسية دينية انتهت بالفشل ومقتل المختار كما هو معلوم.

وبرغم محاولات المؤرخين والمؤلفين في الفرق والعقائد النيل من هذه الثورة ومن صاحبها ألا أن أحدا منهم لم يستطع ان يثبت تهمة واحدة مقبولة تسمح بأن ينسب المختار إلى الغلو أو إلى ما هو قريب منه.

٩٩

لقد قالوا انه كاذب، ولا ادري ما شأن الكذب بالغلو. فهل يجب في كل كاذب ان يكون غاليا، على افتراض صحة التهمة الموجهة للمختار بأنه كاذب.

وقالوا أن سراقة ادعى رؤية الملائكة تحارب في صفوف المختار وهي التي أسرته. وأين الغلو في ذلك. بل ما ذنب المختار ان يكذب غيره ويحمل هو التهمة عنه.

وقالوا، وهو اخطر ما اتهم به، أن المختار كان يتكهن ويسجع وانه ادعى النبوة عند خواصه وان الوحي ينزل عليه(١) .

ولا ادري ما قيمة دعوى النبوة إذا اقتصرت على الخاصة. فهذه الدعوى تكون عادة للعامة وتوجه أليهم حتى لو بدأت مع الخاصة، وهي لا بد أن تبدأ معهم.

وفي حالة المختار بالذات فان هذا في غير حاجة الى ادعاء النبوة لدى خاصته، فهم يعرفونه ويعرفون كذب دعواه ودعوى غيره بالنبوة بعد محمد.

وأظن هذا هو الذي دفع ابن حزم - وهو يصر على اتهام المختار - إلى القول ( وقد حوم المختار أن يدعي النبوة لنفسه )(٢) فابن حزن كما ترى لا يريد ان يخرج المختار سليماً من هذه التهمة بعد ما سبقه أليها غيره، فهو إن لم يكن قد ادعى النبوة حقاً وهذا ما لا يمكن إثباته عليه، فلا اقل من انه حوم حولها وهذا ما لا يصعب إضافته إليه.

وأسأل من أين علم ابن حزم ذلك ن أكان هو الآخر يعلم الغيب الذي اتهم المختار به ما دام هذا لم يدع النبوة ولم يعلن عنها ولم يصرح بها ولم يتهمه احد من أعدائه الذين حاربهم وحاربوه، بادعائها ؟!

____________________

١- الفصل في الأهواء والملل والنحل ج٥ ص٤٣.

٢- انظر حديثنا عن فرق الرافضة ص٥١ وما بعدها.

١٠٠