• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28832 / تحميل: 6795
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ج : إنّ المعاني التي ذكرتها يطلق عليها أُمّ الكتاب على بعض الأقوال ، فالنذكر المعاني مع الأقوال :

١ ـ الإمام المبين ، ورد في تفسير الصافي ما نصّه : « في المجمع أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت الآية( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) ، قيل : يعني اللوح المحفوظ ، والقمّي يعني في كتاب مبين »(٢) .

فعلى هذا القول الذي نقله الفيض الكاشاني ، أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، وقد ذكر في معنى اللوح المحفوظ أنّه أُمّ الكتاب ، إذاً فالإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

وورد في تفسير الميزان ما نصّه : « والمراد بكتابة ما قدّموا وآثارهم ، ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها ، بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة ، وهذه الكتابة غير كتابة الأعمال وإحصائها في الإمام المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي : أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، والنتيجة كسابقه أي : أنّ الإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

٢ ـ الكتاب المكنون ، قال العلاّمة الطباطبائي ما نصّه : « ثمّ إنّه تعالى قال :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٤) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطّهرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون ، والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المس إلاّ نيل الفهم والعلم ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الكتاب المكنون هذا هو أُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله :( يَمْحُو اللهُ

__________________

١ ـ يس : ١٢.

٢ ـ تفسير الصافي ٤ / ٢٤٦.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٦٦.

٤ ـ الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩.

٤١

مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) ، وهو المذكور في قوله :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي أنّ الكتاب المكنون هو أُمّ الكتاب.

٣ ـ اللوح المحفوظ ، ورد في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية ما نصّه : «( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) من القرآن( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ) أي : لمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام الله ، وأنّه حقّ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ) أي : صدّقنا بأنّه كلامك أنزلته على نبيّك( فَاكْتُبْنَا ) أي : فاجعلنا بمنزلة من قد كتب ودوّن.

وقيل : فاكتبنا في أُمّ الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ( مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي : مع محمّد وأُمّته الذين يشهدون بالحقّ ، عن ابن عباس(٤) »(٥) .

فعلى هذا القول الذي نقله الشيخ الطبرسي ، أنّ أُمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ.

٤ ـ الكتاب المبين ، ورد في تفسير نور الثقلين ما نصّه : « عن يعقوب بن جعفر ابن إبراهيم قال : كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، إذ أتاه رجل نصراني فقال : إنّي أسألك أصلحك الله ، فقال : « سل » ، فقال : أخبرني عن كتاب الله الذي أُنزل على محمّد ، ونطق به ، ثمّ وصفه بما وصفه ، فقال :( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٦) ، ما تفسيرها في الباطن؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ الزخرف : ٤.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ٣ / ٥٤.

٤ ـ المائدة : ٨٣.

٥ ـ مجمع البيان ٣ / ٤٠٢.

٦ ـ الزخرف : ١ ـ ٣.

٤٢

فقال : « أمّا حم فهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو في كتاب هود الذي أُنزل عليه ، وهو منقوص الحروف ، وأمّا الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وأمّا الليلة ففاطمةعليها‌السلام »(١) .

فالكتاب المبين هو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وعلي هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ الكتاب المبين هو أُمّ الكتاب.

قال العلاّمة الطباطبائي : « ولا مانع من أن يرزق الله عبداً وحده ، وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين ، وهوعليه‌السلام سيّد الموحّدين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

٥ ـ محكمات القرآن أو الآيات المحكمات ، أطلق عليها المولى عزّ وجلّ أنّها أُمّ الكتاب في قوله :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٣) .

٦ ـ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من ولده ، ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « أنا والله الإمام المبين ، أُبيّن الحقّ من الباطل ، وورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٤) .

فعليعليه‌السلام إمام مبين ، والإمام المبين هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ علياًعليه‌السلام هو أُمّ الكتاب.

وفي أُصول الكافي : « عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال : أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام ،( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) قال : فلان وفلان ،( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابهم وأهل ولايتهم ،( فَيَتَّبِعُونَ مَا

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ٤ / ٦٢٣.

٢ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٧٠.

٣ ـ آل عمران : ٧.

٤ ـ تفسير القمّي ٢ / ٢١٢.

٤٣

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام »(١) .

( أبو مهدي ـ السعودية ـ )

بحث في القراءات :

س : من فوائد إثبات عدم تحريف القرآن هي القدرة على استنباط الأحكام والمفاهيم من القرآن الكريم ، مع اليقين بأنّها صادرة عن الله تعالى ، وبالتالي نستطيع الاعتماد على القرآن الكريم في جميع أُمورنا الدينية.

لكنّ مع وجود قراءات مختلفة للقرآن الكريم ـ سبع قراءات ـ فذلك قد ينفي الفائدة المذكورة أعلاه ، أو يقلّل من شأنها ، بسبب عدم يقيننا بالنصّ الوارد في القرآن الكريم.

كمثال واضح : قال تعالى :( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ) (٢) ، وبحسب إحدى القراءات ، كما سمعت في إحدى المحاضرات( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكاً ) وهو نوع من الفاكهة ، فالمعنى يتراوح بين المتّكَأ والفاكهة.

فتغيّر القراءات بغير المعاني ، وبالتالي قد تتغيّر المفاهيم والأحكام تبعاً لذلك ، فكيف نوفّق بين القراءات وبين حفظ القرآن الكريم؟ وبالخصوص في المثال الذي ذكرت ، شاكرين لكم جهودكم ، ونسألكم الدعاء.

ج : إنّ ثبوت القرآن واتصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قراناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة.

والمعروف عن الشيعة الإمامية : أنّ القراءات غير متواترة ، بل هي بين ما هو اجتهاد من القارئ ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٤١٤.

٢ ـ يوسف : ٣١.

٤٤

من المحققّين من العامّة ، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم ، وهناك أدلّة كثيرة يُستدل بها على عدم تواتر القراءات.

ومن ضمن الأخبار الوارد في ذلك ، خبر الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(١) ، ويؤيّده خبر زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(٢) .

وبعد معرفة عدم تواتر القراءات ، لا يبقى مجال للاستدلال بتلك القراءات ، إلاّ أن يقال : إنّها أخبار آحاد ، وتشملها الأدلّة القطعية الدالّة على حجّية خبر الواحد ، ولكنّ هذا غير ظاهر ، لعدم ثبوت كونها رواية ، بل يحتمل أن تكون اجتهادات من القرّاء واستنباطات منهم ، وقد صرّح بعض الأعلام بذلك.

وعلى فرض كونها رواية ، إلاّ أنّه لم يحرز كونها مستوفية لشرائط الحجّية ، ومع جمعها للشرائط يبقى أنّه مع العلم الإجمالي بعدم صدور بعضها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقع بينها التعارض ، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، فلا يبقى مجال لدعوى الحجّية ، وجواز الاستدلال بكُلّ واحدة منها ، كما هو الظاهر.

وقد صرّح السيّد الخوئي بعدم الحجّية بقوله : « ولكنّ الحقّ عدم حجّية هذه القراءات ، فلا يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، والدليل على ذلك أنّ كُلّ واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه الغلط والاشتباه ، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب إتباع قارئ منهم بالخصوص ، وقد استقلّ العقل ، وحكم الشرع بالمنع عن إتباع غير العلم »(٣) .

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ البيان في تفسير القرآن : ١٦٤.

٤٥

أمّا ما يتعلّق بجواز القراءة بتلك القراءات ، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام إمضاء القراءات المعروفة في زمانهمعليهم‌السلام ، بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس »(١) .

وبعد كُلّ هذا ، وما عرفت من عدم الاعتماد على تلك القراءات في استنباط الحكم الشرعي ، ينحلّ ما أشكل عليك في الآية القرآنية التي استشهدت بها ، إضافة إلى أنّ صاحب مجمع البيان نقل عن الطبري قوله : « وروي في الشواذ قراءة مجاهد متكاً خفيفة ساكنة التاء »(٢) .

( ـ ـ )

معنى نزوله على سبعة أحرف :

س : السادة الأعزاء ، أودّ الاستفسار عن موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف ، كما يقول أبناء المذاهب الأُخرى ، فهل هذا الشيء يقول به الشيعة؟ وكيف ذلك ، أرجو الإفادة عنه ، مشكورين ومقدّرين.

ج : حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، جاء في مصادر أهل السنّة ، وقد أُدّعي تواتره عندهم ، وكيف ما كان فلا أثر لهذا الحديث في مجامعنا الحديثية ، إلاّ ما جاء في الخصال للشيخ الصدوق ، وتفسير العيّاشي بصورة روايتين غير نقيتي السند(٣) ، ومنهما قد انتقل الحديث إلى بعض المصادر الأُخرى ـ كالبحار وبعض التفاسير : كمجمع البيان ، والصافي وغيرهما ـ وعليه فيلاحظ في المقام :

أوّلاً : إنّ الحديث عنها غير ثابت سنداً بشكل قطعي ، فلا يكون حجّة علينا.

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٣.

٢ ـ مجمع البيان ٥ / ٣٩٢.

٣ ـ أُنظر : الخصال : ٣٥٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ١٢.

٤٦

ثانياً : إنّ هذا الحديث على فرض وروده ، يتعارض مع روايات أُخرى ، تصرّح بكذب مضمونه ، منها : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(١) .

ومنها : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(٢) .

ثالثاً : الطريقة الصحيحة هنا لحلّ التعارض هي : أن نلتزم بحكومة هذه الروايات على ذلك الحديث ، أي أنّ هذه الروايات تأخذ في منظارها ذلك الحديث وتردّه وتكذّبه ، ولكن ذلك الحديث لم ينظر إلى هذه الروايات تأييداً أو ردّاً ، فبناءً على القاعدة المقرّرة في علم الأُصول ، تقدّم هذه الروايات دلالة على ذلك الحديث.

ثمّ هناك طريقة أُخرى لحلّ التعارض وهي : تساقط الروايات والحديث من حيث الدلالة ، والرجوع إلى ثبوت شكل واحد في النزول ، كما هو ظاهر القرآن الكريم الفعلي.

وأيضاً لدينا طريق آخر لرفع التعارض في المقام وهو : ترجيح جانب الروايات لاحتمال صدور الحديث ـ في مصادر الشيعة ـ تقية موافقاً للعامّة.

رابعاً : أختلف علماء العامّة في معنى سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولاً ، أو أربعين(٣) ؛ وهذا إن دلّ على شي? ، فإنّما يدلّ على عدم الوثوق بأيّ معنى من تلك المعاني ، فتبقى الدلالة مجملة وغير واضحة ، فلا حجّية للحديث من حيث الدلالة ، حتّى لو فرضنا صحّة صدوره سنداً.

خامساً : إنّ مضمون هذا الحديث يأباه العقل ، إذ كيف يتصوّر نزول قرآن واحد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة صور؟ وهل هذا كان ينسجم مع الاحتفاظ على هذا

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ أُنظر : البرهان في علوم القرآن ١ / ٢١٢.

٤٧

الكتاب المقدّس لدى المسلمين؟ أليس فرض هذا الحديث كان يفتح الباب على تعويم النصّ القرآني وبالتالي تحريفه؟ ومن أجل هذه المحاذير ترى أنّ هذا الحديث يجب أن يردّ علمه إلى الله تعالى ، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ ـ )

حصل جمعه في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

س : ما هي الانتقادات الموجّهة لعملية جمع القرآن الكريم من طرف عثمان؟

ج : إنّ إسناد جمع القرآن الكريم إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، بل إنّ جمعه وتأليفه قد حصل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ القرآن كان معروفاً بسوره وآياته حتّى عند المشركين وأهل الكتاب ، لما ثبت من تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإتيان به أو بسورة منه ، ومعناه إنّ سور القرآن كانت في متناول أيدي الناس ، وأيضاً وردت مجموعة كثيرة من الروايات بهذا المضمون حتّى عند أهل السنّة ، تصرّح بجمعه وتأليفه في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ومن جانب آخر لا يعقل أن يكون القرآن ـ مع اهتمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين به ـ عرضة للضياع في عهد الرسالة ، بل كان مورد تعظيمهم وتبجيلهم وحفظهم له ، مضافاً إلى إجماع المسلمين قاطبة : بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، والحال أنّ الروايات المزعومة في جمع الخلفاء تعتمد في إثباته على شهادة شاهدين ، بل وشهادة رجل واحد في بعض الأحيان ، خصوصاً أنّ هذه الروايات مختلفة فيما بينها في مسألة الجمع ، فلم يعلم أنّ عملية الجمع كانت في زمن أبي بكر أو عمر أو عثمان؟ ومن كانوا العاملين عليها؟

__________________

١ ـ أُنظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٩ و ٦ / ١٠٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤٩ ، الجامع الكبير ٥ / ٣٣١ ، مسند أحمد ٣ / ٢٣٣ و ٢٧٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٢١١ ، مسند أبي داود : ٢٧٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩ ، مسند أبي يعلى ٥ / ٢٥٨ و ٤٦٧ و ٦ / ٢٢ ، صحيح ابن حبّان ١٦ / ٧٢.

٤٨

فبالجملة : لا دليل على جمع القرآن أو تدوينه في زمن الخلفاء الثلاثة ، نعم قد ثبت أنّ عثمان جمع الناس على قراءة واحدة ، وحذف القرائات الأُخر ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، ولكن الأمر الذي يؤخذ عليه هو إحراقه لمجموعة كبيرة من المصاحف ، وأمره بإحراقها في مختلف الأمصار في سبيل توحيد القراءة ، وهو كما ترى لا وجه لعمله هذا ، وقد اعترض جماعة من المسلمين في ذلك عليه ، حتّى أنّهم سمّوه بحرّاق المصاحف(١) .

( العلام غزوي ـ المغرب ـ ٤٠ سنة ـ أولى ماجستير )

منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي :

س : أودّ من سيادتكم تسليط الضوء على منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي.

ج : إنّ منهج السيّد الطباطبائي ـ كما يوضّحه في كتابه الميزان ـ هو تفسير القرآن بالقرآن ، واستيضاح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن ، وتشخيص المصاديق والتعرّف عليها بالخواص التي تعطيها الآيات ، ويستشهد بقوله تعالى :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكُلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقوله تعالى :( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٤) .

وكيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مُبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج ، وقوله تعالى :

__________________

١ ـ أُنظر : الجامع لأحكام القرآن ١ / ٥٤ ، تاريخ المدينة ٣ / ٩٩٥.

٢ ـ النحل : ٨٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ النساء : ١٧٤.

٤٩

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن؟

ثمّ لا يخفى تأثير الجنبة الفلسفية للسيّد الطباطبائي على تفسيره ، وذلك العمق العقلي الدقيق ، والتشقيق للمطالب.

ولاحظ أنّ السيّد يبحث الموضوع المشار إليه في الآية ، مورد البحث كاملاً ، ويأتي بالآيات الأُخرى المتفرّقة الدالّة على الموضوع ، ويصبّها في صميم البحث ، مع مراعاة عدم الغفلة عن الروايات الخاصّة به ، وهي نفس الطريقة والمحاولة التي حاولها صدر المتألّهين الشيرازي في مزاوجة وموافق العقل مع النقل.

( الموالي ـ السعودية ـ ٢٢ سنة ـ طالب حوزة )

الآراء المطروحة في نزوله :

س : كيف نجمع بين نزول القرآن في شهر رمضان ـ كما في سورة القدر( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ـ وبين لقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجبرائيل للمرّة الأُولى في غار حراء ، وقراءة خمس آيات من سورة العلق؟

أتمنّى التوضيح ، ولكم جزيل الشكر.

ج : هنالك آراء كثيرة حول هذا الموضوع ، ولكن الرأي المشهور هو :

إنّ للقرآن نزولين ، الأوّل : دفعي ويسمّى أيضاً إجمالي ، والثاني : تدريجي أو تنجيمي ، وهو الذي استمر خلال فترة البعثة النبوية قرابة ( ٢٣ ) سنة ، وعلى هذا الرأي فلا إشكال في أنّ أوّل ما نزل من القرآن كانت الآيات الخمس الأوّل من سورة العلق إلى آخر ما نزل كسورة تامّة وهي النصر.

أمّا في النزول الإجمالي أو الدفعي وهو المتحقّق في ليلة القدر ، فكان النازل لا هذا القرآن بسوره وآياته ، وأسباب نزوله المختلفة والمتفرّقة ، لأنّها تابعة

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٥٠

لحوادث شخصية وزمانية ومكانية لا تصدق عليها إلاّ بحصولها ـ أي حصول مواردها ـ وحسب التعابير اللفظية من ماضي ومضارع أو الحال ، التي جميعها تستدعي النزول المتفرّق ، بل النازل هو حقيقة القرآن بعلومه ومعارفه الإلهية ، ليتنوّر قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعارف القرآنية.

وهذا الرأي ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في الميزان ، والسيّد محمّد باقر الصدر في المدرسة القرآنية ، والسيّد محمّد باقر الحكيم في علوم القرآن ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل ، والشيخ هاشم البحراني في البرهان ، والشيخ جواد مغنية في الكاشف.

وإليك الآراء الأُخرى غير المشهورة :

١ ـ المراد بنزوله في ليلة القدر افتتاح نزوله التدريجي ، حيث إنّ أوّل سورة ـ وهي الحمد ـ نزلت في ليلة القدر ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأخبار.

٢ ـ إنّه نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثمّ نزل نجوماً إلى الأرض.

٣ ـ معظم القرآن نزل في شهر رمضان ، فصحّ نسبة الجميع إليه.

٤ ـ كان ينزل في كُلّ ليلة قدر من كُلّ عام ما يحتاج إليه الناس في تلك السنّة من القرآن.

٥ ـ شهر رمضان الذي نزل في فضله القرآن ، أي فرضَ صيامه.

٦ ـ إنّ بدء نزول القرآن في ليلة القدر ، ولكنّه يختلف عن القول الأوّل ، بأنّ القرآن الذي نزل في ليلة القدر هو هذا القرآن بسوره واسمه قرآن ، والسور المتقدّمة على ليلة القدر ، مثل سورة العلق ـ أوائل ـ وغيرها لم تجمع بما يسمّى قرآن.

هذا ملخّص الآراء المطروحة ، والتي تردّ من قبل أصحاب هذا الفن.

٥١

( علي ـ البحرين ـ ٢٥ سنة ـ طالب )

المخاطب في قوله( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) الزوجان لا آدم وحوّاء :

س : قال تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (١) ، المعروف أنّ النبيّ آدم وحوّاء معصومان عن الخطأ ، فعن مجاهد : كان لا يعيش لآدم عليه‌السلام ولد ، فقال الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمّياه عبد الحارث ـ وكان الشيطان يسمّى بالحارث ـ فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) ما تعليقكم على هذا التفسير؟ نرجو الجواب الكافي.

ج : هذه الرواية واضحة الكذب والبطلان ، فإنّ الله سبحانه وهب العقل للإنسان ليفكّر به ، وليميّز الحقّ عن الباطل من خلاله ، فلماذا نعطّل عقولنا إلى هذا الحدِّ؟!

إنّ مضمون القصّة المذكورة نرفض نسبته إلى الإنسان العادي ، فكيف بآدمعليه‌السلام ؟! وكيف نحتمل في حقّه أن يتابع الشيطان إلى هذا الحدِّ ، ويجعل لله شريكاً؟!

إنّه أمر مرفوض ، فآدمعليه‌السلام حتّى إذا لم نقل بعصمته ، ولكن لا نحتمل أن يكون مستواه بالغاً إلى هذا الحدِّ الذي هو دون مستوى الإنسان العادي.

فلماذا هذا مع خليفة الله في الأرض؟! ولماذا هذا مع مَنْ علّمهُ الله سبحانه الأسماء؟! ولماذا هذا مع أنبياء الله تعالى؟! إنّنا نأسف أن تدخل أساطير الإسرائيليات ، وتشقّ طريقها إلى كتبنا بهذا الشكل ، ويأخذ بتناقلها هذا عن ذاك.

إنّ المقصود من الآية الكريمة واضح ، فهي تشير إلى نوع الإنسان ـ وليس إلى آدم وحوّاء ـ وتقول : إنّ أمر الإنسان غريب ، فعندما يتحقّق الحمل يطلب الزوجان من الله سبحانه أن يكون ذلك الحمل ولداً صالحاً ، ويكونان بذلك من

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٠.

٥٢

الشاكرين له ، ولكن حينما يرزقهما ذلك يأخذ كلامهما بالتغيّر ، فيقولان : إنّ ولدنا كان من عطاء الشيطان ، أو أنّه كان كاملاً ، لأنّ غذاءه وظروفه الصحّية كانت جيّدة ، أو ما شاكل ذلك.

( علي ـ الكويت ـ ٣٠ سنة ـ دبلوم )

معنى( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) :

س : أُريد تفسير الآية الكريمة : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (١) ؟

ج : إنّ الدعوة إلى النار ، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار ، من الكفر والمعاصي ، لكونها هي التي تتصوّر لهم يوم القيامة ناراً يعذّبون فيها ، أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازاً من باب إطلاق المسبّب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمّة يدعون إلى النار ، تصيرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم اللاحقون ، ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجمود ، وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وفي الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) : «يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ »(٢) .

__________________

١ ـ القصص : ٤١.

٢ ـ الكافي ١ / ٢١٦.

٥٣

( فادي نجدي ـ لبنان ـ ٢٧ سنة )

ترتيب آيتي البلاغ والإكمال :

س : بالنسبة إلى موضوع ترتيب الآيات في القرآن أرى يستحقّ النظر : إنّ الترتيب الزمني يستوجب أنّ آية البلاغ تأتي بعد آية الإكمال ، بالرغم أنّهما في القرآن موجودتان في سورة واحدة بالترتيب المعكوس.

وقد ألزمتم أنفسكم بأنّ الترتيب للسور والآيات كان منذ عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تردّون على هذه الشبهة التي تجعل من دلالة الآيات منافية لما ندّعيه من نزولها في شأن ولاية علي عليه‌السلام ؟

ج : لا يخفى أنّ القرآن الكريم رتّبت آياته من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الوحي عن الله تعالى ، ولا علاقة لذلك بترتيب السابق واللاحق في النزول ، وهذا ما يسمّى بالنظم ، أي : نظم آيات السورة بحسب أغراض ومصالح معيّنة ، تظهر أسبابها عندنا ، وقد تخفى أسباب بعضها كذلك.

واعلم إنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (١) إذا أخذنا ترتيب الآيات ـ وهو ما نسمّيه بسياق الآيات ـ بنظر الاعتبار ، فإنّ سياق الآيات لا تساعد على قولنا أنّها نزلت في الإمام عليعليه‌السلام ، بل إنّ الآيات التي قبلها والتي بعدها تتحدّث عن أهل الكتاب ، فالآية التي قبلها هي قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) (٢) ، والآية التي بعدها هي قوله تعالى :( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) (٣) ، مع أنّ اليهود والنصارى في ذلك العهد النبوي لم يكن لهم شأنٌ وخطر ، فهم ليس بأهل قوّةٍ ولا شوكةٍ ، ولا سطوة حتّى يخشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم إنّ هو بلّغ الإسلام.

__________________

١ ـ المائدة : ٦٧.

٢ ـ المائدة : ٦٦.

٣ ـ المائدة : ٦٨.

٥٤

فإنّ الإسلام عند نزول الآية قد أعزّه الله تعالى بقوّته وتمكّنت سطوته ، فلا معنى لخوف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من النصارى في تبليغ الإسلام ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ الآية تشير إلى تبليغ أعظم ، وأمر أخطر لم يألفه المسلمون ، وسيرتاب منه المنافقون ، ويتزعّزع لعظم خطره أهل الجاه والدنيا ، وهذا الأمر هو تبليغ ولاية عليعليه‌السلام الذي لا يطيقه المنافقون ، والذين في قلوبهم مرض ، فإنّهم سيحاولون إلى التصدّي لجهودهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا أخبره تعالى إنّ الله سيعصمك من خطر هؤلاء ومن مؤامراتهم.

مع أنّ الروايات من قبل الفريقين تؤكّد أنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قد نزلت في تبليغ ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ممّا يعني أنّ ترتيب الآيات وسياقها لا علاقة له بمعنى الآية وسبب نزولها ، لذا فلا عليك أن ترى تقدّم آية( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) ، على آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ؟ فإنّ روايات السنّة والشيعة كُلّها متّفقة على نزولهما في تبليغ ولاية عليعليه‌السلام .

( ـ ـ )

المقصود بالفؤاد :

س : قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٢) ، ما المقصود بالفؤاد؟ وما معنى مسؤولية الفؤاد؟ نرجو منكم الإجابة الوافية ، ولكم جزيل الشكر والتحية الطيّبة.

ج : قال العلاّمة الطباطبائيقدس‌سره ما نصّه : « قوله تعالى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به ، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً ،

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٥٥

وتتحصّل في مثل قولنا : لا تعتقد ما لا علم لك به ، ولا تقل ما لا علم لك به ، ولا تفعل ما لا علم لك به ، لأنّ في ذلك كُلّه اتباعاً

وقوله :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) تعليل للنهي السابق في قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

والظاهر المتبادر إلى الذهن ، أنّ الضميرين في (كَانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) ، فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله :( مَسْؤُولاً ) مقدّماً عليه ، كما ذكره الزمخشري في الكشّاف ، أو مغنياً عن نائب الفاعل ، وقوله :( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد

والمعنى : لا تتبع ما ليس لك به علم ، لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد ، وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم ، والمحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ، أنّ السمع والبصر والفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ، ليشخّص بها الحقّ ، ويحصّل بها على الواقع ، فيعتقد به ويبني عليه عمله ، وسيسأل عن كُلّ منها ، هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علمياً؟

وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكّره ، وقضى به يقينياً لاشكّ فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحقّ ، وتشهد على ما هو الواقع ، فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتباع ما ليس له به علم ، فإنّ الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل ، فتشهد عليه فيما اتبعه ممّا حصلته ، ولم يكن له به علم ، ولا يقبل حينئذ له عذر.

وما له إلى نحو من قولنا : لا تقف ما ليس لك به علم ، فإنّه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك ، والله سائلها عن عملك لا محالة ، فتكون الآية في معنى قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ـ إلى أن قال ـ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

٥٦

سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (١) ، وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان ، وهو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر ، ويدرك ما يدرك ، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر ، أن يوقف الله النفس الإنسانية ، فيسألها عمّا أدركت ، فتشهد على الإنسان نفسه.

وقد تبيّن : أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به ، سواء كان اعتقاداً مع الجهل ، أو عملاً مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه ، أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به ، وذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد ، ولا ضير في كون العلّة أعم ممّا عللتها ، فإنّ الأعضاء مسؤولة حتّى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام ، قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الآية(٢) .

قال في المجمع في معنى قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) : معناه لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً ، أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن ، وقيل : هو شهادة الزور ، عن محمّد بن الحنفية.

والأصل أنّه عام في كُلّ قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم ، فكأنّه سبحانه قال : لا تقل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يقال ، ولا تفعل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يفعل ، ولا تعتقد إلاّ ما تعلم أنّه ممّا يجوز أن يعتقد انتهى »(٣) .

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٠ ـ ٢٣.

٢ ـ يس : ٦٥.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٣ / ٩٢.

٥٧

وقال الشيخ الطبرسيقدس‌سره ما نصّه : «( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) معناه : إنّ السمع يسأل عمّا سمع ، والبصر عمّا رأى ، والقلب عمّا عزم عليه.

ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، والمراد أنّ أصحابها هم المسؤولون ، ولذلك قال :( كُلُّ أُولئِكَ ) وقيل : المعنى كُلّ أُولئك الجوارح يسأل عمّا فعل بها.

قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيما استعملوها »(١) .

( عبد الماجد ـ فرنسا ـ ٣٤ سنة ـ ليسانس )

ثواب سورة الواقعة :

س : هل صحيح أنّ من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة يحفظه الله من الفقر؟

ج : مصدر هذا الخبر رواية وردت عن أهل العامّة ، نقلها الكثير منهم عن عبد الله بن مسعود في محاورة مع عثمان بن عفّان ، يقول عبد الله بن مسعود في آخرها : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة لم يصبه فاقة أبداً »(٢) .

وقد نقلها من علمائنا الشيخ الطبرسي في تفسيره(٣) ، ويبدو أنّه نقله عنهم ، وإن لم يصرّح بذلك.

ومن يعمل بها من أصحابنا فهو استناداً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، والتي تعني أنّ المستحبّات التي ترد في الشريعة المستندة إلى روايات تدلّ على ذلك ، لا ينظر إلى سند تلك الروايات ومدى صحّته وعدمه ، لأنّ الرواية أكثر

__________________

١ ـ مجمع البيان ٦ / ٢٥١.

٢ ـ معالم التنزيل ٤ / ٢٩٢ ، الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٤ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ٣٠٢.

٣ ـ أُنظر : مجمع البيان ٩ / ٣٥٤.

٥٨

ما تدلّ على الاستحباب ، وليس هناك محذور في الفعل أو الترك ، بل يعمل بالرواية رجاء صحّة صدورها ، فإنّ المرء يثاب على ذلك العمل.

وقد ورد خبر آخر في سورة الواقعة ، نقله الشيخ الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من قرأ في كُلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله ، وأحبّه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّة لم يشركه فيها أحد »(١) ، وبضمّ هذا الخبر إلى ذاك يقوى احتمال صحّة الأثر المترتّب على قراءة تلك السورة ، ويقوى أكثر بضمّهما إلى الخبر الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه »(٢) .

( نسمة ـ الإمارات ـ ٢٠ سنة ـ طالبة جامعة )

معنى الحجّة البالغة :

س : وفّقكم الله تعالى لكُلّ خير ، عندي استفسار حول الآية الكريمة ، ( فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٣) ، كيف نربط بين هذه الآية وبين من لم يصل لهم الإسلام ، بمعنى أنّ الحجّة بالغة علينا نحن المسلمين ، ممّن ولد في بيئة مسلمة ، ولكن كيف تكون الحجّة بالغة على ممّن ولد في بيئة كافرة ، لا يعرف عن الإسلام شيئاً؟ وشكراً.

ج : إنّ فهمك للآية القرآنية بما ذكرت غير صحيح ، بل إنّ مراد الآية الردّ على المشركين ، الذين أرادوا أن يثبتوا شركهم بحجّتهم التي ما هي إلاّ إتباع

__________________

١ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ١١٧.

٢ ـ الكافي ٢ / ٨٧.

٣ ـ الأنعام : ١٤٩.

٥٩

الظنّ ، فجاءت هذه الآية تفريعاً على تلك الآية السابقة ، وفاء التفريع الموجودة في أوّل الآية تدلّ على ذلك.

وقال العلاّمة الطباطبائي حول الآية ما نصّه : « والمعنى : أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم وإتباعكم الظنّ ، وتخرّصكم في المعارف الإلهية ، فحجّتكم تدلّ على أنّ لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك ، وترك الافتراء عليه ، وأنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم ، فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين ، وأجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم »(١) .

وقال الشيخ الطوسي حول الآية ما نصّه : « ومعنى البالغة : التي تبلغ قطع عذر المحجوج ، وتزيل كُلّ لبس وشبهة عمّن نظر فيها ، واستدلّ أيضاً بها »(٢) ، لأنّ معناها أنّها تبلغ إلى جميع أفراد البشر كما فهمت.

وعلى هذا فليس هناك أيّ تعارض بين الآية القرآنية وبين عدم وصول الدين الحقّ إلى مجموعة من الأفراد ، بل أنّ القرآن يوضّح أنّ مجموعة من الناس سوف لا يصل إليهم الحقّ ، ويسمّيهم بالمستضعفين ، وهم معذورون في عدم وصول الدين الحقّ إليهم ، يقول تعالى :( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) .

قال صاحب الميزان : « يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه »(٤) .

__________________

١ ـ الميزان في تفسير القرآن ٧ / ٣٦٦.

٢ ـ التبيان ٤ / ٣١١.

٣ ـ النساء : ٩٨.

٤ ـ الميزان في تفسير القرآن ٥ / ٥١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

في ذلك على حق، فلم يمض على خلع الوليد وقتله أكثر من ست سنين، حتى ختمت صفحة الأمويين في الشرق.

وأما التيار الثاني فيقوده يزيد بن الوليد ( الناقص ) الذي كان أشد الناس على الوليد وأبعدهم قولا فيه وأقواهم في التحريض عليه والإغراء به وهذا التيار هو الذي انتصر أخيراً، فاندلعت الثورة وخلع الوليد وقتل، وبويع ليزيد خليفة على المسلمين بعده.

هذه هي ظروف ثورة يزيد، بسطناها بشيء من التفصيل، ليكون الرأي فيها قريبا من الحق بعيدا عن الهوى فهل وجدت فيها ما يمكن أن يسمها بأية سمة معتزلية ؟! بل بأية سمة لمذهب أو فرقة بذاتها ؟

هل ثار المسلمون مع يزيد لأنهم كانوا معتزلة وكان يزيد معتزليا ؟!

هل بايع اليمانية يزيد وثاروا معه أو قبله، ضد الوليد لأنهم كانوا معتزلة وكان يزيد معتزلياً ؟!

لقد كانت أسباب الثورة كلها مهيأة: المسلمون واليمانية وعمومة الوليد من بني مروان والوليد نفسه الذي كانت سيرته تغذي عوامل الثورة عند هؤلاء جميعا.

وكان يزيد مهيئا للخلافة، فهو ابن الوليد أكبر أبناء عبد المللك بن مروان وكان كما يقول الطبري ( يظهر النسك ويتواضع ) وسواء كان صادقا في نسكه وتواضعه - وليس لدينا ما ينفي ذلك - أو كان كاذبا فيهما(١) فقد كان عليه أن يصطنعهما لإمكان قيادة ثورة، كان أوضح

____________________

(١) الطبري ج٧ ص٢٣٢ وابن الأثير ج٤ ص٤٧٩ أما ابن قتيبة فيقول في المعارف ص٢٠٧ أنه كان ( محمود السيرة مرضيا ) ويقول صاحب مآثر الأناقة عن يزيد في ص١٥٩ ( كان.شديد العجب بنفسه ) وأنه ( لما ولي الخلافة أظهر حسن السيرة ).

١٤١

أسبابها الاستخفاف بأمور الدين وانتهاك محارمه فليس هناك اعتزالا ولا ثورة اعتزالية، ولا أي لون لفرقة أو مذهب.

أن أقصى ما يمكن أن يوصف به يزيد وحده، من حيث المعتقد هو ما جاء في الطبري(١) ( وقيل أنه كان قدريا ) وما أظن من شأن هذه العبارة أو مثلها، أن تحول ثورة كاملة كثورة يزيد، وبالظروف التي شرحناها، فتجعل منها ثورة اعتزالية، حتى لو أ، يزيد كان قدريا لا ( قيل أنه كان قدريا ).

هذا فضلا عن أننا ناقشنا العلاقة بين القدرية وبين المعتزلة، وقلنا أن القول بالقدر لا يعني الاعتزال ولا الغيلانية.

ولا أدري بعد كل الذي مر، إن كنت في حاجة الى رواية أخرى للطبري تتصل أيضاً بموضوعنا وتؤكد ما ذهبنا إليه من طبيعة ثورة يزيد.

يقول أبو جعفر في ص٢٦٧ من ج٧ وهو يسرد بعض الأحداث المتعلقة بثورة يزيد ( قال - يعني عثمان بن داود الخولاني - وجهني يزيد بن الوليد . فكفهم عني الحكم بن جرو القيني - من اليمانية - فأقيمت الصلاة فخلوت به فقلت أني رسول يزيد إليك والله ما تركت ورائي راية تعقد إلا على رأس رجل من قومك - يعني من اليمانية - ولا درهم يخرج من بيت المال إلا في يد رجل منهم وهو يحمل لك كذا وكذا قال أنت بذاك قلت نعم . .).

فهذه الرواية إن كانت تؤكد بعد يزيد عن ذلك السلوك المثالي الذي حاول المعتزلة قديماً والمعتزليون حديثاً أن يضيفوه إليه فيجعلوا منه ناسكاً

____________________

(١) الطبري ج٧ ص٢٩٨ وابن الأثير ج٤ ص٤٩٩.

١٤٢

زاهداً صاحب عقيدة ودين، ما ثار إلا غضباً لله حين عطلت أحكامه وانتهكت محارمه فإنها تؤكد من جهة أخرى غلبة اليمانية على الثورة حتى لا تعقد راية ولا يخرج درهم إلا بأمرها ورضاها ولمصلحتها كما ذكرنا.

وبعد فما الذي منع يزيد، لو كانت الثورة اعتزالية حقاً، أن يقلد المعتزلة شؤونها ويوليهم مراكزها، خصوصاً المهمة منها، والثورة ثورة المعتزلة وقد انتصرت، وهم آمن عليها وأحرص على بقائها وأشد احتياطا وصيانة لمصلحتها.

ثورة الحارث ين سريج

وانتقل الآن الى ثورة أخرى من ثورات المسلمين ضد الحكم الأموي، هي تلك التي قادها الحارث بن سريج(١) في إقليم خراسان من الدولة العربية.

وهي من الثورات التي ما تزال في حاجة إلى بحث جاد يضعها في مكانها الصحيح من الثورات العربية الإسلامية، وما يزال الكثير من جوانبها غامضا، بل لا يكاد الناس - إذا استثنينا ذوي الاختصاص - يعرفون عنها شيئا أو شيئا ذا غناء.

ويبدو لي أن من بين أسباب ذلك، أن هذه الثورة قامت في إقليم بعيد عن مركز الخلافة وعن أقاليمها العربية القريبة فهي لم تقم في الشام ولا في الحجاز ولا في العراق حيث كانت تقوم الثورات عادة، وإنما في إقليم ناءٍ هو ذلك الممتد بين ما اصطلح على تسميته بما وراء النهر وبين إقليم خراسان.

____________________

(١) الحارث بن سريج بالتصغير بن يزيد بن سواء المجاشعي التميمي هكذا ورد اسمه في ( الإكمال ) لابن ماكولا تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني ط٢ نشر محمد أمين دمج بيروت ج٤ ص٢٧٣ ويسميه ابن حزم في جمهرة أنساب العرب نشر دار الكتب العلمية بيروت ط أولى ١٩٨٣ ص٢٣١ ( الحارث بن شريج بالمثلثة وهو خطأ - بن يزيد وسواد بالدال المهملة بدلا من الهمزة وفي تأريخ الجهمية والمعتزلة للشيخ جمال الدين القاسمي ط أولى مطبعة دار المنار ١٣٣١ ه- جاء في ص٨ منه ( ان الحارث هذا كان عظيم الازد بخراسان).

وهذا وهم محض فالحارث مجاشعي تميمي بإجماع وقد يكون القاسمي خلط بين الحارث وبين الكرماني عظيم الازد في خراسان في وقت الحارث.

١٤٣

ومنها أن هذه الثورة قد امتدت عبر وقائع كثيرة دون إثارة أو بريق، وعلى فترة زمنية بلغت اثني عشر عاما من ١١٦- ١٢٨ بين انتصار وهزيمة ن فأنت لا تستطيع أن تلم بأحداثها مجتمعة في وقعة واحدة أو وقعتين كباقي الثورات التي عرفنا، وإنما عليك أن تتابع تلك الأحداث مجزأة وموزعة على السنين، كما هو أسلوب المؤرخين العرب فقد تصادف حدثا يتصل بها في سنة، ثم تمضي سنة أو أكثر، تواجه فيها عشرات الأحداث، لكنك لا تجد لثورة الحارث أو أحداثها ذكراً فالمؤرخ العربي ينتقل بك في أحداثها لا بتسلسل منطقي يربطها ببعضها في وحدة تيسر بحثها ودراستها وإعطاء صورة صادقة قدر الإمكان عنها، وإنما يتناولها أجزاء ووقائع منفصلة، تبعا للسنة التي حصلت فيها، وهو يعالج أحداث تلك السنة، وكأن الحدث مستقل عما قبله وعما بعده لا يربطه بهما شيء من سبب أو نتيجة.

ومنها أن قائد الثورة الحارث بن سريج لا نكاد نعرف عنه قبل الثورة إلا اليسير، فلم يكن واليا ولا قائدا بارزاً، ولم يشغل مركزاً ذا خطر(١) ثم هو لا ينتمي الى واحدة من تلك الأسر اللامعة في التأريخ العربي الإسلامية، كابن الزبير وابن الأشعث ويزيد بن المهلب وغيرهم كل ما نعرفه أنه من قبيلة تميم، لكنه لا يمت بنسب قريب الى بيت من بيوت تميم الرفيعة كآل زرارة أو آل الأقرع بن حابس أو آل قيس بن عاصم.

فإذا تجاوزنا ذلك، فإننا نجهل كل شيء عن نشأته وبيئته وموطن أسرته ومن من أهله الذي رحل الى تلك المناطق واستوطنها ومتى كان.

____________________

(١) أول ذكر للحارث يرد في الطبري وابن الأثير في أحداث سنة ١١٠ في الموقعة التي حصلت بين المسلمين وبين أهل السغد وبخارى ومعهم خاقان والترك وكان المسلمون قد ضعفوا وأجهدهم العطش لنفاد الماء فكان الحارث يحرض الناس على القتال ثم تقدم مع آخرين في فوارس من تيم وقيس فقاتلوا حتى أزالوا الأعداء عن الماء فشرب المسلمون واستقوا ولم يرد للحارث ذكر بعد ذاك حتى عام ١١٦ حيث ينقل الطبري وابن الأثير خبر خلْع الحارث دون بيان للمركز الذي كان يشغله ودون بيان أسباب خلعه ثم يبدأ الحديث عن نشاطه السياسي خلال الأحداث التي تلت وحتى مقتله عام ١٢٨ الطبري ج٧ أحداث ١١٠ ص٥٨ وأحداث سنة ١١٦ ص٩٤ وابن الأثير ج٤ أحداث سنة ١١٠ ص٣٨٦ وأحداث سنة ١١٦ ص٤١٠.

١٤٤

كل هذا لا يعرض له المؤرخون على أننا نجد في تأريخ ابن الأثير عند الكلام عن أحداث عام ١١٨ ما يمكن أن يدلنا على موطن الحارث وأسرته حين يقول ( وفي هذه السنة نزل أسد - يعني ابن عبد الله القسري أخا خالد السابق ذكره - بلخ وسرح جديعا الكرماني(٢) الى القلعة التي فيها أهل الحارث وأصحابه وسامها البتوشكان من طخارستان العليا وفيها بنو بزرى التغلبيون أصهار الحارث فحصرهم الكرماني حتى فتحها فقتل بني بزرى.)(١) .

وسواء كان أهل الحارث وأصهاره قد ارتحلوا بسبب ظروف القتال الذي كان دائرا آنذاك، الى القلعة التي حصروا فيها، أم كانوا من سكانها أصلا، فيبدو أن أسرة الحارث كانت قد توطنت تلك المناطق، وفيها كانت نشأته، وهو ما يفسر خروجه هناك.

ومن هذه الأسباب أيضاً أن هذه الثورة قد انتهت بالفشل وقتل قائدها الحارث، دون أن يكتب لها النجاح في تحقيق أهدافها في العمل بالكتاب والسنة والبيعة للرضا أو الشورى(٣) خصوصا وأن هذه الأهداف - الأولان منها على الأقل - هي من الأهداف العامة التي سبق أن صادفناها وسنصادفها في كل الثورات الأخرى، فليس فهيا ما يرتبط وجوده بثورة الحارث ويمنحها سمة خاصة بين تلك الثورات، تذكر الناس بها حتى بعد فشلها والقضاء عليها.

ولكن لم فشلت ثورة الحارث ؟

فشلت لأسباب ما كان لها أن تنجح مع وجودها.

____________________

(١) جديع بالتصغير بن علي بن شبيب الأزدي المعني ولد بكرمان من بلاد فارس ومنها جاء لقبه كبير الازد ورجل خراسان في وقته كان له دور كبير في الأحداث التي وقعت هناك أواخر العهد الأموي قتل عام ١٢٩ في وقعة بينه وبين نصر بن سيار وال خراسان من قبل الأمويين.

(٢) تأريخ الطبري ج٤ أحداث سنة ١١٨ ص٤٢١ وابن الأثير ج٤ أحداث سنة ١١٨ ص٤٢١.

(٣) الطبري ج٧ أحداث سنة ١١٦ ص٩٥ وابن الأثير ج٤ أحداث السنة نفسها ص٤١٠ وانظر في جعل الأمر شورى الطبري ج٧ أحداث سنة ١٢٨ ص٣٣٠ و٣٣١ و ٣٣٩.

١٤٥

ومع إني لا أريد أن أؤرخ لهذه لاثورة، فليس ذلك من شأن هذا الكتاب، ولكن لا بد من الإشارة الى بعض تلك الأسباب، لارتباطها بما أريد الوصول إليه من حديث عن الدور السياسي للمعتزلة.

فمن هذه الأسباب ان ثورة الحارث اقتصرت في نشاطها على إقليم خراسان وانحصرت فيه، فلم تتجاوزه ولم تمد جذورها خارج حدوده وهذا ما أضعف من تأثيرها وسهل ضربها والقضاء عليها.

ومنها أنها ارتبطت مختارة أو مضطرة، بروابط متينة مع عدد من قادة ورؤساء مناطق إقليم خراسان وما وراء النهر من الذين كانوا في حروب متصلة مع الجيوش العربية وقد بلغ من شدة ارتباط الحارث بهؤلاء وقوة علاقته بهم، أنه أمضى مدة طويلة تجاوزت العشر سنوات، هو وأنصاره لاجئين عندهم(١) بل انه كان يحارب أحيانا الى جانبهم، قوات العرب والمسلمين هناك(٢) .

وبرغم ما يمكن أن يبرر به موقف الحارث هذا، وبرغم ما يمكن أن يعتذر به عنه، فلا بد أنه قد استغل لتشويه ثورته وإضعافها، وفض الناس عنها بتصويرها خيانة للعرب وللمسلمين، وكيدا

لهم وتعاوناً مع أعدائهم وبين العرب والمسلمين من وتره هؤلاء بأخ أو ابن أو أب أو قريب.

منها أن ثورة الحارث قد واجهت، خصوصا في السنوات الأخيرة لها، تكتلين متنافسين كبيرين أفرزتهما الفتنة في إقليم خراسان والعصبية القبلية فيها وفي غيرها آنذاك، هما تكتل نصر بن سيار الكناني المضري والي الإقليم وممثل السلطة(٣) وتكتل الكرماني جديع بن علي زعيم الأزد

____________________

(١) الطبري ج٧ ص٢٩٤ وابن الأثير ج٧ ص٤٩٧ ان مدة بقاء الحارث هي اثنتا عشرة سنة.

(٢) الطبري ج٧ ص١١٩، ١٢٢، ١٢٣، ١٢٥، ١٧٤، ١٧٥ وابن الأثير ج٤ أحداث سنة ١١٩، ١٢١.

(٣) نصر بن سيار بن رافع الليثي الكناني من الامراء الشجعان المعروفين آخر أمراء خراسان في عهد الدولة الأموية حاول ان ينقذ الدولة وان يوقف دعوة العباسيين لكنها كانت اقوى منه وكانت الفتنة في خراسان قد اتسعت بين مضر وبين ربيعة واليمن وباقي سكان الاقليم ولم تستطع السلطة في ذلك الحين ان تنجده او تعينه توفي عام ١٣١ بساوة قريبا من همذان.

١٤٦

ورجلها القوي في ذلك الحين، وهو تكتل ضم اليمن وربيعة وقام عليهما ولم يكن هذا التكتل يمثل في الواقع تمردا أو ثورة ضد الحكم، بقدر ما كان يمثل ردا يمنيا ربعيا على التكتل المضري الذي كان يتزعمه نصر بن سيار والذي قرب مضر واعتمد عليها(١) مستبعدا اليمن وربيعة فجاء التكتل الثاني تعبيرا عن النقمة والغضب ودفاعا عن مصالح اليمن وربيعة ضد سياسة نصر المنحازة لمضر في ذلك الإقليم فالتكتلان كانا محدودين بحدود إقليم خراسان، لكنهما ضمن حدود هذا الإقليم قد جذبا غالبية العناصر من أصحاب العصبيات إليهما: المضريين لتكتل نصر، واليمنين لتكتل الكرماني.

وإذا كان هذا الخلاف بين التكتلين قد اقتصر كما قلنا على إقليم خراسان، إلا أنه أسهم كثيرا، بإمتداداته القبلية خارج هذا الإقليم، في إضعاف الحكم كله والإسراع - مع العوامل الأخرى التي أشرنا الى بعضها - في دفعه نحو نهايته.

ولم تكن الدولة في ذلك الحين، وقد بلغت أشد درجات الضعف والانحلال، مع انشغالها بالفتن والخلافات في مركز الخلافة نفسه، بقادرة على تغيير هذا الوضع وإعادة سلطتها في الأقاليم البعيدة عن المركز كإقليم خراسان(٢) .

على أن من الحق أن نقول أن العصبية القبلية بين مضر من جهة وبين اليمن ومعها ربيعة في غالب الأحيان من جهة أخرى، والتي نشطت ونشطها الأمويون منذ قيام حكمهم، لم تتحدد بإقليم خراسان وحده، بل

____________________

(١) الطبري ج٧ ص١٥٧ و ١٥٨ و٣٣٨ إذ لم يستعمل نصر خلال أربع سنوات إلا مضريا ص١٥٨ وابن الأثير ج٤ ص٤٤١ وج٥ ص١٩.

(٢) الطبري ج٧ ص ٣٦٩ والشعر الذي أرسله نصر الى كل من مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين ويزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق في ذلك الحين وجواب كل منهما الى نصر بعدم القدرة على معاونته وانظر أيضا ابن الأثير ج٥ حوادث سنة ١٢٩ ص٣٣.

١٤٧

تجاوزته الى الأقاليم الأخرى من الدولة العربية(١) لكننا لا نريد هنا بحثها والخوض فيها، وإنما عرضنا لها بقدر علاقتها بالحارث وثورته ذلك ان انقسام العرب في خراسان الى عصبية مضرية وأخرى يمنية ربعية وتوزعهم على هذين التكتلين، قد أثر دون شك على ثورة الحارث وحرمها من كثير من الأنصار الذين كان من المحتمل أن ينضموا إليها، لولا شدة العصبية هناك، وتحزب ل قبيلة والتحاقها بأحد التكتلين.

بل أن الحارث نفسه، زعيم الثورة وقائدها، لم يسلم من هذه العصبية أحياناً، ولم ينس مضريته في بعض المواقف(٢) .

ومن هذه الأسباب أيضا أن الحارث لم يلتزم خطا واضحا في ثورته، ولا هدفا محددا لها، حتى ليبدو أحيانا وكأنه يتعارض مع خطه ومع هدفه، فهو يدعو الى الكتاب والسنة، لكنه يرضى من ذلك بتبديل بعض العمال في سمرقند وطخارستان(٣) وهو يدعو الى الشورى ويدعو في الوقت نفسه الى البيعة للرضا بإطلاق(٤) بل أنه لا يتحرج من دعوة قبيلته تميم الى نفسه، مخالفا في ذلك مبدأ الشورى الذي يدعو إليه(٥) ومتجاوزاً البيعة للرضا من آل محمد.

ثم هو بين هذا وذاك، يتصل بزعيمي التكتلين ويكاتبهما أو يعاديهما ويقاتلهما، لا يحاول أن يخرج بثورته ليتجاوز بها حدود خراسان ونصرا والكرماني.

وما أظن ثورة يمكن أن يتكب لها النجاح، وهي تتذبذب بين أكثر من خط، حتى لتظنها بلا خط وهذا ما دفع عددا من أنصار الحارث وكبار

____________________

(١) حتى الأندلس لم تخلُ من العصبية القبلية فقد كانت هناك على أشدها بين اليمانية والقيسية من المضرية ووصلت في كثير من الأحيان الى الحروب والاقتتال بين الطرفين.

(٢) الطبري ج٧ ص١٧٥، ٣٣٧، ٣٤١ وابن الأثير ج٥ ص١٩ و ٢٠.

(٣) الطبري ج٧ ص٣٣١.

(٤) الطبري ج٧ ص٩٥ وابن الأثير ج٤ ص٤١٠.

(٥) الطبري ج٧ ص٣١٠.

١٤٨

أصحابه والثائرين معه الى اعتزاله والابتعاد عنه، وهو ما أضعفه واضعف ثورته(١) .

ولعل من أهم الأسباب وأبعدها أثرا في إخفاق ثورة الحارث، أن هذه الثورة تعاصرت مع بدايات حدث كبير: لقد كانت الدعوة العباسية أو الدعوة للرضا من آل محمد، كما كانت تعرف آنذاك، قد بدأت في مناطق شرق الخلافة، وبالذات إقليم خراسان، موطن ثورة الحارث ومركز نشاطه وهي أدق تنظيما وأوضح أهدافا وأذكى تخطيطا وأنشط دعاة وأوفر أنصارا وأكثر قبولاً، وأقدر على مخاطبة الجماهير وأشد جذبا لها وتأثيراً عليها، بما تملك من رصيد لا يدانيه رصيد، فلم تترك هذه الدعوة لثورة الحارث ولا لغيرها من الثورات المحلية الأخرى فضلا من نشاط، ولا فضلا من ساحة تعمل فيها.

هذا بالإضافة الى العوامل التي سبق الحديث عنها والتي ساهمت، مستقلة عن الدعوة العباسية، فيما أصاب ثورة الحارث من فشل وإخفاق.

أراني استرسلت كثيرا في الحديث عن ثورة الحارث بن سريج، وما كان هذا الفصل معدا في الأصل للحديث عنها ولا عن غيرها من ثورات المسلمين، وإنما هو فصل خصصته لنشاط المعتزلة السياسي، ومواقفهم من الثورات التي قامت في زمانهم فليعذرني القارئ إذا كنت قد خرجت، أو أخرجت عن حدود هذا النشاط.

____________________

(١) الطبري ج٧ ص٣٣٩.

١٤٩

ولقد سبق أن بينت، غير متجن ولا متحامل، أن هؤلاء المعتزلة لم يكن لهم أي موقف سياسي على الإطلاق، أعني أية مشاركة إيجابية في أي من تلك الثورات التي رأيناها تشتعل على الساحة العربية الإسلامية.

رأينا ذلك في ثورة زيد وثورة ابنه يحيى ورأينا ذلك في ثورة عبد الله بن معاوية وثورة يزيد بن الوليد.

ونصل الى ثورة الحارث بن سريج، ونحاول أن نبحث عن دور للمعتزلة أن نجد لهم ذكرا، أي ذكر أو أية إشارة فيها، على امتدادها لأكثر من عشر سنوات، وكثرة وقائعها وتعدد أحداثها، فلا نجد من ذلك شيئا.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، عند عدم المشاركة والسكوت عن المشاركين في ثورة الحارث إذن لهان الأمر وسكتنا، ولم نتعرض لهم بما يسوء بعض الذين يصرون على أن يجعلوا منهم أبطال كل حركة، وقادة كل ثورة قامت في الإسلام منذ نشأتهم.

لقد هاجم المعتزلة ثورة الحارث بن سريج في شخص واحد من كبار رجالها وهو جهم بن صفوان(١) الذي كان كاتب الحارث ومساعده وقارئ سيرته بين الناس، والذي بلغ من اعتماد ثورة الحارث عليه وثقتها به، أنه كان الممثل لها والمتحدث باسمها في المباحثات التي كانت تجري بين ممثلي هذه الثورة من جهة وبين ممثلي تكتل نصر بن سيار من جهة أخرى(٢) وقد انتهت حياته بالقتل في واحدة من المعارك التي خاضتها الثورة في أواخر أيامها(٣) .

فقد برئ منه المعتزلة ونفوه عنهم واستنكفوا أن ينسب إليهم.

____________________

(١) سبقت ترجمته في ص٨١.

(٢) الطبري ج٧ ص٣٣٠، ٣٣١ أحداث سنة ١٢٨ وابن الأثير أحداث السنة نفسها ج٥ ص١٧ و ١٨.

(٣) قتله سلم بن أحوز المازني بعد أسره وذلك سنة ١٢٨ الطبري ج٧ ص٣٣٥.

١٥٠

أستمع الى أحد كبار شيوخ المعتزلة بشر بن المعتمر(١) وهو يقول:

إمامهم جهم وما لجهم

وصحب عمرو ذي التقى والعلم

وما أظن بشراً كان محقا وهو يهجو جهما ويذمه ويعيبه، فليس من حمل السيف وقاتل الظلم وقتل، غير طامع في جاه ولا منصب ولا مال، بأولى بالهجاء والذم، ممن لم يعرف له موقف أنكر فيه ظلماً أو حمل سيفاً أو رفع صوتاً ينصر فيه حقاً أو يدفع باطلاً، غير ما يتناقله أنصار المعتزلة أنفسهم ويضيفونه إليهم من مواقف، ثبت اختلاق بعضها، وسيثبت اختلاق ما بقي منها.

وما أظن من حق أحد أن ينسب ثورة الحارث الى المعتزلة ويضيفها إليهم، وموقف المعتزلة هو ما بينا منها ومن رجالها، وهم بين مرجئ وبين مجبرة(٢) أبعد المسلمين فكرا وعقيدة عن المعتزلة.

حارب الذين يصححون إسلام مرتكب الكبيرة، وحارب الذين يجعلون أفعال العباد مخلوقة لله، وحملوا السيف وقاتلوا وقتلوا دفاعا عن الحق وسالم الذي يخلدون مرتكب الكبيرة في النار، ويجعلون أفعال العباد مخلوقة لهم ثم لم يكتفوا فتجاوزا ذلك الى هجاء الثائرين المقاتلين دفاعا عن الحق.

ثورة محمد ( النفس الزكية )

وهذه الثورة من ثورات آل البيت، قام بها في منتصف القرن الثاني الهجري، واحد منهم ممن عرفوا بالدين والفضل والبأس: ذلك هو محمد المعروف بالنفس الزكية(٣) .

____________________

(١) أبو سهل بشر بن المعتمر الهلالي مؤسس مدرسة الإعتزال في بغداد من أكابر شيوخ المعتزلة والمقدمين فيهم توفي عام ٢١٠ والرجز هذا من الانصار للخياط ص٩٨.

(٢) كان الحارث يرى رأي المرجئة كما في الطبري ج٧ ص١٠٠ أما جهم فهو زعيم المجبرة الذين ينكرون أية قدرة للعبد في خلق أفعاله وأنه مجبور عليها وقد سبقت ترجمته في بداية الفصل الأول.

(٣) ابن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية ولد في المدينة عام ١٠٠ وقتل فيها عام ١٤٥ زمن أبي جعفر المنصور بعد ثورته عليه هناك كان أحد سادات العلويين ورجالهم دينا وشجاعة ونسكا.

١٥١

وهي امتداد لثورات هؤلاء العلويين الذين تحملوا بسبب الإسلام والدفاع عنه، ما لا طاقة لأحد به وما لا صبر لغيرهم عليه، فلم يهادنوا ولم يسالموا، غير مفكرين بثمن يدفعونه ولا بتضحية يقدمونها، وقد كان يسعهم ما وسع غيرهم من أشراف قريش والعرب، بل وأكثر مما وسع غيرهم بكثير لو شاؤوا.

ويبدوا لي أحياناً، أن وجود هذا البيت في ذاته، كان مصدر قلق وهم شديدين للسلطة، يدفعها الى اصطناع الذرائع للتخلص منه والتنكيل بأفراده، حتى لو سكتوا فلم يجهروا بنقد ولم يحملوا سيفا، بل حتى لو كانوا دون السن التي يجهرون فيها بالنقد ويحلمون السيف، أو تجاوزوا تلك السن فهم دائما تحت المراقبة، وهم دائما معرضون للخطر لأدنى سعاية وأوهي سبب فان لم يكن شيء من ذاك، فيكفي مالهم من منزلة رفيعة ومكانة عالية عند المسلمين، ومن حب واحترام عميقين لديهم وهذا في ذاته هو السبب، وهو الخطر الدائم الذي لا تحتمله السلطة ولا تتسامح فيه.

لقد كانت ثورات العلويين هذه، وستبقى، عظة وعبرة تستمد دائما قيمتها من أنها تمثل الإنسان في أعلى وأروع لحظاته، وهو يختار، وبوعي كامل وإرادة حرة، ما هو أليق به، رغم علمه بنتائجه، تاركاً، وبنفس الوعي والإرادة، ما هو أسهل وأيسر رغم علمه بنتائجه أيضاً.

وأعود بعد هذه الملاحظة السريعة الى ثورة النفس الزكية وأعيد قراءة فصولها، فصلاً بعد فصل، ومرة بعد أخرى، فلا أجد فيها غير

١٥٢

السمات العامة التي أنا واجدها في ثورات آل البيت فالموقف والشعارات والأهداف تكاد تكون هي نفسها هنا وهناك.

ثم أعيد قراءتها لأرى كيف استطاع الدكتور عمارة أن يجعل منها ثورة معتزلية، فلا أظفر بشيء من ذاك فالثورة قامت في المدينة التي غلب عليها أهل الحديث، أشد أعداء المعتزلة وأبعد الناس عن الاعتزال، وكان مالك نفسه رأس فقهاء المدينة وزعيم مدرسة الحديث، ممن ساعد في هذه الثورة وتعرض بسببها لسخط الحكم حتى لزم بيته وذلك حين أحل الناس من البيعة التي كانت في أعناقهم للمنصور وأجاز لهم الخروج مع محمد، على الرغم منها(١) .

وكان أغلب الذين استجابوا لمحمد عند خروجه، هم أهل المدينة والقبائل العربية القريبة منها وأبناء الأنصار وسائر قريش، وفي مقدمتهم آل عمر بن الخطاب وآل الزبير بن العوام وما نعرف أحدا من هؤلاء كان يرى الاعتزال أو يذهب إليه(٢) .

أما من الطالبين والعلويين، فقد خرج منهم مع محمد عدد من أبناء جعفر بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب ومن أبناء الحسن وأبناء الحسين(٣) .

وعلى العموم لم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر عدَّ منهم الطبري أربعة أشخاص(٤) .

لكن الغريب ان من بين جميع العلويين والطالبيين ومن بين جميع المسلمين الذين استجابوا لدعوة محمد وخرجوا معه، والذين قتلوا أو

____________________

(١) قال مالك حين استفتاه الناس في الخروج مع محمد وفي أعناقهم بيعة المنصور ( إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ) فأسرع الناس الى محمد ولزم مال بيته الطبري ج٧ ص٥٦٠ ومقاتل الطالبيين ص٢٨٣.

(٢) الطبري ج٧ ص٦٠٤ ومروج الذهب ج٣ ص٢٩٥ مقاتل الطالبيين ص٢٣٧ فما بعدها.

(٣) الطبري ج٧ ص٦٠٤ ومروج الذهب ج٣ ص٢٩٥ ومقاتل الطالبيين ص٢٧٧ فما بعدها.

(٤) الطبري ج٧ ص٥٥٩.

١٥٣

سجنوا أو شردوا، لا نجد واحدا فقط من آل محمد بن علي بن أبي طالب ( ابن الحنفية ) الذين يقال: ان الاعتزال قد خرج من بيتهم(١) .

أتكون الثورة معتزلية وقائدها معتزليا، ويخرج لنصرتها من لم يكن معتزليا ومن هو عدو للاعتزال والمعتزلة، ثم يتخلف عنها من خرج الاعتزال من بيته ؟ فهل سنصحح وصف الثورة أو وصف من خرج الاعتزال من بيته ؟!

ولنترك هذا، ولنأخذ الكتب المتبادلة بين قائد الثورة محمد وبين المنصور، أو - لكي أكون أكثر دقة - الكتاب الذي أرسله محمد الى المنصورة، رداً على كتاب الأخير إليه(٢) فنحن لا نجد فيه ما يتصل بالمعتزلة والاعتزال بأية صورة بل على العكس، فما فيه من فخر على المنصور، جاهلية وإسلاماً، وما فيه من تمسك بحق آل البيت واعتداء العباسيين عليه، لا يتفق ومعتقدات المعتزلة ومفاهيم في السياسة والحكم، كما أشرنا الى ذلك في ثورة زيد، فضلاً عن أن حديث الآباء والأجداد هنا، قد لا يسر المعتزلة ولا يرضيهم، وغالبيتهم العظمى كما هو معروف، من الموالي.

أما عن الدعوة الى الكتاب والسنة في دعوة محمد، فما أظن ثورة إسلامية، تقوم في بلد إسلامي، تستطيع أن تغفل الدعوة الى كتاب الله وسنة نبيه، وهي ركيزة كل ثورة إسلامية، لا في ذلك العصر حسب بل وحتى في عصرنا الحالي، كما يحدث الآن.

____________________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب السياسية للدكتور عمارة ص١٨٧ والحق أن الغلو لا الاعتزال هو الذي خرج من بيت محمد بن الخليفة فأولى الفرق الغالية كالحربية أصحاب عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي والبيانية اتباع بيان بن سمعان التميمي كانتا على صلة وثيقة به وقد أدعى زعيم الفرقة الأولى أن روح أبي هاشم حلت فيه كما ادعى زعيم الثانية أن الامامة انتقلت إليه بوصية من أبي هاشم وفي كتب الفرق كمقالات الإسلاميين للاشعري والفرق بين الفرق والتبصير في الدين للاسفراييني تفصيل ذلك

فارجع إليها أن شئت وكذلك كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية، فصل الغلو بعد علي ).

(٢) الطبري ج٧ ص٥٦٧، ٥٦٨ ز

١٥٤

فما ظنك بثورة في القرن الثاني الهجري، يقودها واحد من أبناء صاحب الرسالة، وتقوم في مدينته ويقاتل فيها آله وعشيرته وأنصاره ؟!

ما الذي ستدعو إليه الثورة إن لم تدعُ الى كتاب الله وسنة نبيه، وما الذي سيحشد الجماهير حولها ويرفدها بمن يدافع عنها ويقاتل دونها، إذا هي تخلت عن هذا الشعار فلم ترفعه ولم تؤكد التزامها به ؟!

إذن، كيف تحولت هذه الثورة بعد كل الذي ذكرنا الى ثورة معتزلية ؟!

يبدو لي أن صاحب ( المعتزلة والثورة ) وهو يرفض إلا أن تكون ثورات المسلمين كلها معتزلية، راح يفتش - فعله مع الثورات الأخرى - عن كل ما يمكن أن يساعده في الوصول الى هذا، من رواية مبتورة أو حديث موضوع أو موقف مشتبه، وهو ما لا يصعب العثور عليه لمن أراده، لكن هذا لن يكون تأريخاً، بل اختلاقا وتلفيقا يعرض عليك في صورة تأريخ.

لنستمع إليه، وهو يتحدث عمن أخذ منه محمد وتتلمذ عليه قائلاً، أنه ( كان - يعني محمدا - هو وأخوته وأبوه وأعمامه - لا ينسى ولا يستثني أحدا منهم - معتزلة، أخذوا الاعتزال عن واصل بن عطاء في المدينة(١) .

وأقسم أن لو كان الدكتور عمارة معهم في حلقة واصل، لفاته ذكر بعضهم ولما استطاع أن يوردهم بكل هذا التفصيل، دون أن يغفل أو يهمل أحدا من آل محمد وأسرته، وهم يجوبون دروب المدينة وشعابها الى حلقة واصل، يتلقون العلم ويأخذون الاعتزال عنه كما يقول مؤلف ( المعتزلة والثورة ).

____________________

(١) المعتزلة والثورة ص٨٧ وكم تمنيت أن يرشدنا الدكتور للمصدر الذي استقى منه معلوماته هذه فنحن لم نجدها فيما بين أيدينا من مصادر عن الموضوع.

١٥٥

أنني لم أكن أعرف قبل الآن أن واصلا كانت له حلقة درس في المدينة يختلف إليها المسلمون يأخذون عنه ويتعلمون منه فان أيا من المؤرخين لم يذكر شيئاً عن هذه الحلقة التي يفترض أن تكون من الحلقات المشهورة في المدينة بحيث يرتادها وجوه العلويين وذوو النباهة والفضل منهم.

وأجدني مضطراً أن أقف من بين هؤلاء ( المتعلمين ) عند واحد منهم على الأقل، عبد الله بن الحسن - والد قائد الثورة محمد النفس الزكية - الذي لم يتحرج الدكتورة عمارة أن يجعله هو أيضا من مرتادي حلقة واصل والدارسين على يده.

لقد كان عبد الله يكبر واصلا بعشر سنين(١) وهو من سادة آل البيت ومن أرفعهم قدرا وعلو منزلة، وكان من العلم والدين وقوة الشخصية بحيث يقول عنه الطبري ( ما سار عبد الله بن حسن أحدا قط إلا فتله عن رأيه ) أو بعبارة ابن الأثير المشابهة ( لا يحدث أحدا قط إلا قلبه عن رأيه )(٢) .

فماذا سيتعلم عبد الله على يد واصل وهو يكبره بعشر سنوات، ومن العلم والدين بالمنزلة التي رأينا ؟ هل سيتعلم منه موقفه من جده علي وهو ما قد عرفنا، أم حق آله في الخلافة ؟! أم يتعلم منه الثورة على الحكم الأموي والأمويين، وليس بين أهله إلا قتيل أو ثائر ضدهم ! ومتى كان لواصل موقف من بني أمية حتى ما هو دون الثورة ؟! أي اعتزال إذن هذا الذي يأخذه عبد الله عن واصل ؟!

____________________

(١) ولد عبد الله بن الحسن عام ٧٠ للهجرة وولد واصل بن عطاء عام ٨٠.

(٢) الطبري ج٧ أحداث سنة ١٤٤ ص٥٣٩ وابن الأثير ج٥ أحداث السنة نفسها ص١٤٤.

١٥٦

ثم أن واصلا ترك المدينة الى البصرة وهو ابن إحدى وعشرين سنة(١) ولا بد أن يكون اختلاف من يختلف إليه من العلويين وغيرهم قد حصل أثناء وجوده في المدينة فهل كانت حلقة واصل هذه التي يغشاها ويختلف إليها من ذكرنا من وجوه العلويين ومن الناس الآخرين، وهو دون العشرين من عمره ؟!

وهل أنا في حاجة لأن أضيف ان الاعتزال الذي أخذه محمد وأخوته وأبوه وأعمامه كلهم عن واصل في المدينة لم ينشأ ولم يعرف على اختلاف الروايات إلا في البصرة، وبعد مغادرة واصل المدينة فكيف أصبح هؤلاء معتزلة قبل نشوء الاعتزال وقيام المعتزلة ؟!

ويبدو أن الدكتور مولع ليس فقط برد ثورات المسلمين كلها الى المعتزلة ونحلهم إياها وإنما يريد أن يجعل الهاشميين والعلويين خاصة تلاميذ لواصل فإذا تفضل على واحد منهم، مهما كان سنه وقدره، جعله زميلا له يدرس ويتعلم معه في مكتب واحد.

لقد رأينا ذلك قبل قليل حين جعل عبد الله بن الحسن وزيدا وغيرهما تلاميذ لواصل.

ولنستمع الى ما يقوله الآن عن علاقة واصل بأبي هاشم بن محمد بن الحنفية (.وتعلم - يعني واصلاً - مع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية في المكتب وكان خلاً له ورفيقاً )(٢) .

____________________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور عمارة ص١٨٥.

(٢) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية من موسوعة الإسلام وفلسفة الحكم للدكتور عمارة ص١٨٥.

١٥٧

ولكي تعلم دقة الدكتور فيما يقول، اسمح لي أن أذكر لك أن أبا هاشم قد توفي عام ٩٨ أو ٩٩، وواصل لم يتجاوز بعد، الثامنة أو التاسعة عشرة من عمره.

وكان أبو هاشم كما يقول الدينوري، عند ذاك ( عظيم القدر وكانت الشيعة تتولاه . )(١) .

ويتفق المؤرخون على أنه هو الذي أوصى الى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة إليه، عندما أحس بالموت(٢) .

بل أنه بلغ من ذيوع الاسم والشهرة ما دفع عددا من زعماء الغلاة في ذلك العهد الى الانتساب إليه وإدعاء حلول روحه فيهم.

وما أظنه قد بلغ كل هذه المنزلة وتمتع بكل هذه الشهرة، وهو في سن الثامنة أو التاسعة عشرة - سن واصل - ولا قبلها أو بعدها بقليل، ليمكن القول بأنه كان معه في مكتب واحد.

وإذا كانت المصادر التي بين أيدينا لا تعيننا على تحديد تأريخ مولده بصورة دقيقة، فلا يمكن أن نفترض أن أبا هاشم كان دون الثلاثين من عمره عند وفاته، خصوصا وهو أكبر أبناء محمد بن الحنفية الذي قاتل في الجمل وصفين وكان بيده لواء أبيه علي أواسط العقد الرابع الهجري، وهذا يعني أن مولد أبي هاشم كان عام ٦٨ أو ٦٩ في أقل تقدير أي أنه يكبر واصلا بإحدى أو اثنتي عشرة سنة.

____________________

(١) المعارف ص٢١٧.

(٢) تنقل الروايات أن سليمان بن عبد الملك قد أرسل مع أبي هاشم من سمه في الطريق عند رجوعه منه وذلك عام ٩٨ في خلافة سليمان.

١٥٨

فكيف يمكن لابن العشرين مثلاً - مع صرف النظر عن كونه حفيدا لعلي بن أبي طالب - أن يزامل في مكتب واحد، من لا يتجاوز التسع سنوات من عمره أو ربما أقل من ذاك، أو يكون خلاً ورفيقاً له ؟

على كل، سأشكر للدكتور عمارة سعة اطلاعه، لو تفضل فدلنا على مصادره في هذه الدعوى، على ألا يكون أحدهما قاضي القضاة أو أبو القاسم البلخي فلقد دهشت وأنا أرى خبطهما في هذا الموضوع.

أما الأول فيروي في ( فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ) ان واصل بن عطاء كان يحكي أنه كان معه - يعني أبا هاشم بن محمد بن الحنفية - في المكتب في دار أبيه فأخذ عنه وعن أبيه - محمد بن الحنفية - هذه الأصول - يقصد طبعا الأصول الخمسة المعروفة للاعتزال -(١) .

وأما الثاني ( البلخي ) فيقول في كتابه ( مقالات الإسلاميين ) أن واصلا ( رباه محمد بن علي بن أبي طالب - محمد بن الحنفية - وعلمه )(٢) .

وعجبت كيف وقع شيخا المعتزلة في مثل هذا الخطأ الذي لا يقع فيه من هو دونهما، ومن لا يقاس بهما وبما يحتلان من مكانة وشهرة وعذرت الدكتور عمارة إذا هو ساواهما، فأخطأ فيما لا يقع في مثله الخطأ.

أن واصلاً ولد عام ٨٠ وتوفي محمد بن الحنفية عام ٨١ أي بعد سنة واحدة فقط من ولادة واصل.

فكيف استطاع واصل وهو في المهد، أن يأخذ الأصول الخمسة، عن ابن الحنفية أو يتعلم ويدرس على يديه، إلا أن يكون الله قد أراد من ذلك

____________________

(١) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة لقاضي القضاة ص٢١٥.

(٢) مقالات الإسلاميين لأبي القاسم البلخي ص١١٠.

١٥٩

إظهار معجزة جديدة كمعجزة عيسى الذي كلم الناس في المهد، فزاد عليه واصل بأن تعلم ودرس وأخذ الأصول الخمسة للاعتزال وهو ما يزال في المهد.

ثم أن الأصول الخمسة للاعتزال لم تكتمل لا في زمان ابن الحنفية الذي أخذها عنه واصل كما يحكي قاضي القضاة أو واصل، ولا في زمان واصل نفسه، وإنما بعد وفاة واصل بمدة ليست قصيرة.

لقد كنت أجل الرجلين من الوقوع في خطأ، لم يدفع إليه إلا قلة حرص في تحري المعلومات، أو شدة تعصب في ربط الاعتزال بمحمد بن الحنفية ولا أدري أي الأمرين أخطر على هاذ المسكين الذي يسمونه تأريخا.

وأعود لأسأل ما الذي استند إليه الدكتور إذن ليجعل من ثورة محمد ثورة معتزلية، ناسخا كل ما أجمع عليه المؤرخون وأكدته وقائع التأريخ.

روايتان روايتان للطبري، ورد فيهما ذكر المعتزلة فتعلق بهما صاحب ( المعتزلة والثورة ) ليبدل هوية ثورة كاملة، هي ثورة محمد النفس الزكية في المدينة.

وسأعرض عليك هاتين الروايتين لتناقشهما معي، مبتدئا بالأولى منهما وهذا نصها كما ورد في الطبري ( وذكر أن محمدا كان يذكر أن أبا جعفر - المنصور - ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني أمية مع سائر المعتزلة الذين كانوا معهم هنالك )(١) .

____________________

(١) تأريخ الطبري ج٧ ص٥١٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185