• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28839 / تحميل: 6796
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ج : إنّ المعاني التي ذكرتها يطلق عليها أُمّ الكتاب على بعض الأقوال ، فالنذكر المعاني مع الأقوال :

١ ـ الإمام المبين ، ورد في تفسير الصافي ما نصّه : « في المجمع أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت الآية( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) ، قيل : يعني اللوح المحفوظ ، والقمّي يعني في كتاب مبين »(٢) .

فعلى هذا القول الذي نقله الفيض الكاشاني ، أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، وقد ذكر في معنى اللوح المحفوظ أنّه أُمّ الكتاب ، إذاً فالإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

وورد في تفسير الميزان ما نصّه : « والمراد بكتابة ما قدّموا وآثارهم ، ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها ، بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة ، وهذه الكتابة غير كتابة الأعمال وإحصائها في الإمام المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي : أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، والنتيجة كسابقه أي : أنّ الإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

٢ ـ الكتاب المكنون ، قال العلاّمة الطباطبائي ما نصّه : « ثمّ إنّه تعالى قال :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٤) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطّهرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون ، والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المس إلاّ نيل الفهم والعلم ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الكتاب المكنون هذا هو أُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله :( يَمْحُو اللهُ

__________________

١ ـ يس : ١٢.

٢ ـ تفسير الصافي ٤ / ٢٤٦.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٦٦.

٤ ـ الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩.

٤١

مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) ، وهو المذكور في قوله :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي أنّ الكتاب المكنون هو أُمّ الكتاب.

٣ ـ اللوح المحفوظ ، ورد في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية ما نصّه : «( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) من القرآن( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ) أي : لمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام الله ، وأنّه حقّ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ) أي : صدّقنا بأنّه كلامك أنزلته على نبيّك( فَاكْتُبْنَا ) أي : فاجعلنا بمنزلة من قد كتب ودوّن.

وقيل : فاكتبنا في أُمّ الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ( مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي : مع محمّد وأُمّته الذين يشهدون بالحقّ ، عن ابن عباس(٤) »(٥) .

فعلى هذا القول الذي نقله الشيخ الطبرسي ، أنّ أُمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ.

٤ ـ الكتاب المبين ، ورد في تفسير نور الثقلين ما نصّه : « عن يعقوب بن جعفر ابن إبراهيم قال : كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، إذ أتاه رجل نصراني فقال : إنّي أسألك أصلحك الله ، فقال : « سل » ، فقال : أخبرني عن كتاب الله الذي أُنزل على محمّد ، ونطق به ، ثمّ وصفه بما وصفه ، فقال :( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٦) ، ما تفسيرها في الباطن؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ الزخرف : ٤.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ٣ / ٥٤.

٤ ـ المائدة : ٨٣.

٥ ـ مجمع البيان ٣ / ٤٠٢.

٦ ـ الزخرف : ١ ـ ٣.

٤٢

فقال : « أمّا حم فهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو في كتاب هود الذي أُنزل عليه ، وهو منقوص الحروف ، وأمّا الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وأمّا الليلة ففاطمةعليها‌السلام »(١) .

فالكتاب المبين هو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وعلي هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ الكتاب المبين هو أُمّ الكتاب.

قال العلاّمة الطباطبائي : « ولا مانع من أن يرزق الله عبداً وحده ، وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين ، وهوعليه‌السلام سيّد الموحّدين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

٥ ـ محكمات القرآن أو الآيات المحكمات ، أطلق عليها المولى عزّ وجلّ أنّها أُمّ الكتاب في قوله :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٣) .

٦ ـ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من ولده ، ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « أنا والله الإمام المبين ، أُبيّن الحقّ من الباطل ، وورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٤) .

فعليعليه‌السلام إمام مبين ، والإمام المبين هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ علياًعليه‌السلام هو أُمّ الكتاب.

وفي أُصول الكافي : « عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال : أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام ،( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) قال : فلان وفلان ،( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابهم وأهل ولايتهم ،( فَيَتَّبِعُونَ مَا

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ٤ / ٦٢٣.

٢ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٧٠.

٣ ـ آل عمران : ٧.

٤ ـ تفسير القمّي ٢ / ٢١٢.

٤٣

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام »(١) .

( أبو مهدي ـ السعودية ـ )

بحث في القراءات :

س : من فوائد إثبات عدم تحريف القرآن هي القدرة على استنباط الأحكام والمفاهيم من القرآن الكريم ، مع اليقين بأنّها صادرة عن الله تعالى ، وبالتالي نستطيع الاعتماد على القرآن الكريم في جميع أُمورنا الدينية.

لكنّ مع وجود قراءات مختلفة للقرآن الكريم ـ سبع قراءات ـ فذلك قد ينفي الفائدة المذكورة أعلاه ، أو يقلّل من شأنها ، بسبب عدم يقيننا بالنصّ الوارد في القرآن الكريم.

كمثال واضح : قال تعالى :( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ) (٢) ، وبحسب إحدى القراءات ، كما سمعت في إحدى المحاضرات( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكاً ) وهو نوع من الفاكهة ، فالمعنى يتراوح بين المتّكَأ والفاكهة.

فتغيّر القراءات بغير المعاني ، وبالتالي قد تتغيّر المفاهيم والأحكام تبعاً لذلك ، فكيف نوفّق بين القراءات وبين حفظ القرآن الكريم؟ وبالخصوص في المثال الذي ذكرت ، شاكرين لكم جهودكم ، ونسألكم الدعاء.

ج : إنّ ثبوت القرآن واتصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قراناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة.

والمعروف عن الشيعة الإمامية : أنّ القراءات غير متواترة ، بل هي بين ما هو اجتهاد من القارئ ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٤١٤.

٢ ـ يوسف : ٣١.

٤٤

من المحققّين من العامّة ، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم ، وهناك أدلّة كثيرة يُستدل بها على عدم تواتر القراءات.

ومن ضمن الأخبار الوارد في ذلك ، خبر الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(١) ، ويؤيّده خبر زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(٢) .

وبعد معرفة عدم تواتر القراءات ، لا يبقى مجال للاستدلال بتلك القراءات ، إلاّ أن يقال : إنّها أخبار آحاد ، وتشملها الأدلّة القطعية الدالّة على حجّية خبر الواحد ، ولكنّ هذا غير ظاهر ، لعدم ثبوت كونها رواية ، بل يحتمل أن تكون اجتهادات من القرّاء واستنباطات منهم ، وقد صرّح بعض الأعلام بذلك.

وعلى فرض كونها رواية ، إلاّ أنّه لم يحرز كونها مستوفية لشرائط الحجّية ، ومع جمعها للشرائط يبقى أنّه مع العلم الإجمالي بعدم صدور بعضها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقع بينها التعارض ، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، فلا يبقى مجال لدعوى الحجّية ، وجواز الاستدلال بكُلّ واحدة منها ، كما هو الظاهر.

وقد صرّح السيّد الخوئي بعدم الحجّية بقوله : « ولكنّ الحقّ عدم حجّية هذه القراءات ، فلا يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، والدليل على ذلك أنّ كُلّ واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه الغلط والاشتباه ، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب إتباع قارئ منهم بالخصوص ، وقد استقلّ العقل ، وحكم الشرع بالمنع عن إتباع غير العلم »(٣) .

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ البيان في تفسير القرآن : ١٦٤.

٤٥

أمّا ما يتعلّق بجواز القراءة بتلك القراءات ، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام إمضاء القراءات المعروفة في زمانهمعليهم‌السلام ، بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس »(١) .

وبعد كُلّ هذا ، وما عرفت من عدم الاعتماد على تلك القراءات في استنباط الحكم الشرعي ، ينحلّ ما أشكل عليك في الآية القرآنية التي استشهدت بها ، إضافة إلى أنّ صاحب مجمع البيان نقل عن الطبري قوله : « وروي في الشواذ قراءة مجاهد متكاً خفيفة ساكنة التاء »(٢) .

( ـ ـ )

معنى نزوله على سبعة أحرف :

س : السادة الأعزاء ، أودّ الاستفسار عن موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف ، كما يقول أبناء المذاهب الأُخرى ، فهل هذا الشيء يقول به الشيعة؟ وكيف ذلك ، أرجو الإفادة عنه ، مشكورين ومقدّرين.

ج : حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، جاء في مصادر أهل السنّة ، وقد أُدّعي تواتره عندهم ، وكيف ما كان فلا أثر لهذا الحديث في مجامعنا الحديثية ، إلاّ ما جاء في الخصال للشيخ الصدوق ، وتفسير العيّاشي بصورة روايتين غير نقيتي السند(٣) ، ومنهما قد انتقل الحديث إلى بعض المصادر الأُخرى ـ كالبحار وبعض التفاسير : كمجمع البيان ، والصافي وغيرهما ـ وعليه فيلاحظ في المقام :

أوّلاً : إنّ الحديث عنها غير ثابت سنداً بشكل قطعي ، فلا يكون حجّة علينا.

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٣.

٢ ـ مجمع البيان ٥ / ٣٩٢.

٣ ـ أُنظر : الخصال : ٣٥٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ١٢.

٤٦

ثانياً : إنّ هذا الحديث على فرض وروده ، يتعارض مع روايات أُخرى ، تصرّح بكذب مضمونه ، منها : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(١) .

ومنها : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(٢) .

ثالثاً : الطريقة الصحيحة هنا لحلّ التعارض هي : أن نلتزم بحكومة هذه الروايات على ذلك الحديث ، أي أنّ هذه الروايات تأخذ في منظارها ذلك الحديث وتردّه وتكذّبه ، ولكن ذلك الحديث لم ينظر إلى هذه الروايات تأييداً أو ردّاً ، فبناءً على القاعدة المقرّرة في علم الأُصول ، تقدّم هذه الروايات دلالة على ذلك الحديث.

ثمّ هناك طريقة أُخرى لحلّ التعارض وهي : تساقط الروايات والحديث من حيث الدلالة ، والرجوع إلى ثبوت شكل واحد في النزول ، كما هو ظاهر القرآن الكريم الفعلي.

وأيضاً لدينا طريق آخر لرفع التعارض في المقام وهو : ترجيح جانب الروايات لاحتمال صدور الحديث ـ في مصادر الشيعة ـ تقية موافقاً للعامّة.

رابعاً : أختلف علماء العامّة في معنى سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولاً ، أو أربعين(٣) ؛ وهذا إن دلّ على شي? ، فإنّما يدلّ على عدم الوثوق بأيّ معنى من تلك المعاني ، فتبقى الدلالة مجملة وغير واضحة ، فلا حجّية للحديث من حيث الدلالة ، حتّى لو فرضنا صحّة صدوره سنداً.

خامساً : إنّ مضمون هذا الحديث يأباه العقل ، إذ كيف يتصوّر نزول قرآن واحد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة صور؟ وهل هذا كان ينسجم مع الاحتفاظ على هذا

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ أُنظر : البرهان في علوم القرآن ١ / ٢١٢.

٤٧

الكتاب المقدّس لدى المسلمين؟ أليس فرض هذا الحديث كان يفتح الباب على تعويم النصّ القرآني وبالتالي تحريفه؟ ومن أجل هذه المحاذير ترى أنّ هذا الحديث يجب أن يردّ علمه إلى الله تعالى ، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ ـ )

حصل جمعه في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

س : ما هي الانتقادات الموجّهة لعملية جمع القرآن الكريم من طرف عثمان؟

ج : إنّ إسناد جمع القرآن الكريم إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، بل إنّ جمعه وتأليفه قد حصل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ القرآن كان معروفاً بسوره وآياته حتّى عند المشركين وأهل الكتاب ، لما ثبت من تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإتيان به أو بسورة منه ، ومعناه إنّ سور القرآن كانت في متناول أيدي الناس ، وأيضاً وردت مجموعة كثيرة من الروايات بهذا المضمون حتّى عند أهل السنّة ، تصرّح بجمعه وتأليفه في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ومن جانب آخر لا يعقل أن يكون القرآن ـ مع اهتمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين به ـ عرضة للضياع في عهد الرسالة ، بل كان مورد تعظيمهم وتبجيلهم وحفظهم له ، مضافاً إلى إجماع المسلمين قاطبة : بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، والحال أنّ الروايات المزعومة في جمع الخلفاء تعتمد في إثباته على شهادة شاهدين ، بل وشهادة رجل واحد في بعض الأحيان ، خصوصاً أنّ هذه الروايات مختلفة فيما بينها في مسألة الجمع ، فلم يعلم أنّ عملية الجمع كانت في زمن أبي بكر أو عمر أو عثمان؟ ومن كانوا العاملين عليها؟

__________________

١ ـ أُنظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٩ و ٦ / ١٠٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤٩ ، الجامع الكبير ٥ / ٣٣١ ، مسند أحمد ٣ / ٢٣٣ و ٢٧٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٢١١ ، مسند أبي داود : ٢٧٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩ ، مسند أبي يعلى ٥ / ٢٥٨ و ٤٦٧ و ٦ / ٢٢ ، صحيح ابن حبّان ١٦ / ٧٢.

٤٨

فبالجملة : لا دليل على جمع القرآن أو تدوينه في زمن الخلفاء الثلاثة ، نعم قد ثبت أنّ عثمان جمع الناس على قراءة واحدة ، وحذف القرائات الأُخر ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، ولكن الأمر الذي يؤخذ عليه هو إحراقه لمجموعة كبيرة من المصاحف ، وأمره بإحراقها في مختلف الأمصار في سبيل توحيد القراءة ، وهو كما ترى لا وجه لعمله هذا ، وقد اعترض جماعة من المسلمين في ذلك عليه ، حتّى أنّهم سمّوه بحرّاق المصاحف(١) .

( العلام غزوي ـ المغرب ـ ٤٠ سنة ـ أولى ماجستير )

منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي :

س : أودّ من سيادتكم تسليط الضوء على منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي.

ج : إنّ منهج السيّد الطباطبائي ـ كما يوضّحه في كتابه الميزان ـ هو تفسير القرآن بالقرآن ، واستيضاح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن ، وتشخيص المصاديق والتعرّف عليها بالخواص التي تعطيها الآيات ، ويستشهد بقوله تعالى :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكُلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقوله تعالى :( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٤) .

وكيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مُبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج ، وقوله تعالى :

__________________

١ ـ أُنظر : الجامع لأحكام القرآن ١ / ٥٤ ، تاريخ المدينة ٣ / ٩٩٥.

٢ ـ النحل : ٨٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ النساء : ١٧٤.

٤٩

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن؟

ثمّ لا يخفى تأثير الجنبة الفلسفية للسيّد الطباطبائي على تفسيره ، وذلك العمق العقلي الدقيق ، والتشقيق للمطالب.

ولاحظ أنّ السيّد يبحث الموضوع المشار إليه في الآية ، مورد البحث كاملاً ، ويأتي بالآيات الأُخرى المتفرّقة الدالّة على الموضوع ، ويصبّها في صميم البحث ، مع مراعاة عدم الغفلة عن الروايات الخاصّة به ، وهي نفس الطريقة والمحاولة التي حاولها صدر المتألّهين الشيرازي في مزاوجة وموافق العقل مع النقل.

( الموالي ـ السعودية ـ ٢٢ سنة ـ طالب حوزة )

الآراء المطروحة في نزوله :

س : كيف نجمع بين نزول القرآن في شهر رمضان ـ كما في سورة القدر( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ـ وبين لقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجبرائيل للمرّة الأُولى في غار حراء ، وقراءة خمس آيات من سورة العلق؟

أتمنّى التوضيح ، ولكم جزيل الشكر.

ج : هنالك آراء كثيرة حول هذا الموضوع ، ولكن الرأي المشهور هو :

إنّ للقرآن نزولين ، الأوّل : دفعي ويسمّى أيضاً إجمالي ، والثاني : تدريجي أو تنجيمي ، وهو الذي استمر خلال فترة البعثة النبوية قرابة ( ٢٣ ) سنة ، وعلى هذا الرأي فلا إشكال في أنّ أوّل ما نزل من القرآن كانت الآيات الخمس الأوّل من سورة العلق إلى آخر ما نزل كسورة تامّة وهي النصر.

أمّا في النزول الإجمالي أو الدفعي وهو المتحقّق في ليلة القدر ، فكان النازل لا هذا القرآن بسوره وآياته ، وأسباب نزوله المختلفة والمتفرّقة ، لأنّها تابعة

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٥٠

لحوادث شخصية وزمانية ومكانية لا تصدق عليها إلاّ بحصولها ـ أي حصول مواردها ـ وحسب التعابير اللفظية من ماضي ومضارع أو الحال ، التي جميعها تستدعي النزول المتفرّق ، بل النازل هو حقيقة القرآن بعلومه ومعارفه الإلهية ، ليتنوّر قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعارف القرآنية.

وهذا الرأي ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في الميزان ، والسيّد محمّد باقر الصدر في المدرسة القرآنية ، والسيّد محمّد باقر الحكيم في علوم القرآن ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل ، والشيخ هاشم البحراني في البرهان ، والشيخ جواد مغنية في الكاشف.

وإليك الآراء الأُخرى غير المشهورة :

١ ـ المراد بنزوله في ليلة القدر افتتاح نزوله التدريجي ، حيث إنّ أوّل سورة ـ وهي الحمد ـ نزلت في ليلة القدر ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأخبار.

٢ ـ إنّه نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثمّ نزل نجوماً إلى الأرض.

٣ ـ معظم القرآن نزل في شهر رمضان ، فصحّ نسبة الجميع إليه.

٤ ـ كان ينزل في كُلّ ليلة قدر من كُلّ عام ما يحتاج إليه الناس في تلك السنّة من القرآن.

٥ ـ شهر رمضان الذي نزل في فضله القرآن ، أي فرضَ صيامه.

٦ ـ إنّ بدء نزول القرآن في ليلة القدر ، ولكنّه يختلف عن القول الأوّل ، بأنّ القرآن الذي نزل في ليلة القدر هو هذا القرآن بسوره واسمه قرآن ، والسور المتقدّمة على ليلة القدر ، مثل سورة العلق ـ أوائل ـ وغيرها لم تجمع بما يسمّى قرآن.

هذا ملخّص الآراء المطروحة ، والتي تردّ من قبل أصحاب هذا الفن.

٥١

( علي ـ البحرين ـ ٢٥ سنة ـ طالب )

المخاطب في قوله( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) الزوجان لا آدم وحوّاء :

س : قال تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (١) ، المعروف أنّ النبيّ آدم وحوّاء معصومان عن الخطأ ، فعن مجاهد : كان لا يعيش لآدم عليه‌السلام ولد ، فقال الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمّياه عبد الحارث ـ وكان الشيطان يسمّى بالحارث ـ فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) ما تعليقكم على هذا التفسير؟ نرجو الجواب الكافي.

ج : هذه الرواية واضحة الكذب والبطلان ، فإنّ الله سبحانه وهب العقل للإنسان ليفكّر به ، وليميّز الحقّ عن الباطل من خلاله ، فلماذا نعطّل عقولنا إلى هذا الحدِّ؟!

إنّ مضمون القصّة المذكورة نرفض نسبته إلى الإنسان العادي ، فكيف بآدمعليه‌السلام ؟! وكيف نحتمل في حقّه أن يتابع الشيطان إلى هذا الحدِّ ، ويجعل لله شريكاً؟!

إنّه أمر مرفوض ، فآدمعليه‌السلام حتّى إذا لم نقل بعصمته ، ولكن لا نحتمل أن يكون مستواه بالغاً إلى هذا الحدِّ الذي هو دون مستوى الإنسان العادي.

فلماذا هذا مع خليفة الله في الأرض؟! ولماذا هذا مع مَنْ علّمهُ الله سبحانه الأسماء؟! ولماذا هذا مع أنبياء الله تعالى؟! إنّنا نأسف أن تدخل أساطير الإسرائيليات ، وتشقّ طريقها إلى كتبنا بهذا الشكل ، ويأخذ بتناقلها هذا عن ذاك.

إنّ المقصود من الآية الكريمة واضح ، فهي تشير إلى نوع الإنسان ـ وليس إلى آدم وحوّاء ـ وتقول : إنّ أمر الإنسان غريب ، فعندما يتحقّق الحمل يطلب الزوجان من الله سبحانه أن يكون ذلك الحمل ولداً صالحاً ، ويكونان بذلك من

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٠.

٥٢

الشاكرين له ، ولكن حينما يرزقهما ذلك يأخذ كلامهما بالتغيّر ، فيقولان : إنّ ولدنا كان من عطاء الشيطان ، أو أنّه كان كاملاً ، لأنّ غذاءه وظروفه الصحّية كانت جيّدة ، أو ما شاكل ذلك.

( علي ـ الكويت ـ ٣٠ سنة ـ دبلوم )

معنى( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) :

س : أُريد تفسير الآية الكريمة : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (١) ؟

ج : إنّ الدعوة إلى النار ، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار ، من الكفر والمعاصي ، لكونها هي التي تتصوّر لهم يوم القيامة ناراً يعذّبون فيها ، أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازاً من باب إطلاق المسبّب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمّة يدعون إلى النار ، تصيرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم اللاحقون ، ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجمود ، وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وفي الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) : «يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ »(٢) .

__________________

١ ـ القصص : ٤١.

٢ ـ الكافي ١ / ٢١٦.

٥٣

( فادي نجدي ـ لبنان ـ ٢٧ سنة )

ترتيب آيتي البلاغ والإكمال :

س : بالنسبة إلى موضوع ترتيب الآيات في القرآن أرى يستحقّ النظر : إنّ الترتيب الزمني يستوجب أنّ آية البلاغ تأتي بعد آية الإكمال ، بالرغم أنّهما في القرآن موجودتان في سورة واحدة بالترتيب المعكوس.

وقد ألزمتم أنفسكم بأنّ الترتيب للسور والآيات كان منذ عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تردّون على هذه الشبهة التي تجعل من دلالة الآيات منافية لما ندّعيه من نزولها في شأن ولاية علي عليه‌السلام ؟

ج : لا يخفى أنّ القرآن الكريم رتّبت آياته من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الوحي عن الله تعالى ، ولا علاقة لذلك بترتيب السابق واللاحق في النزول ، وهذا ما يسمّى بالنظم ، أي : نظم آيات السورة بحسب أغراض ومصالح معيّنة ، تظهر أسبابها عندنا ، وقد تخفى أسباب بعضها كذلك.

واعلم إنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (١) إذا أخذنا ترتيب الآيات ـ وهو ما نسمّيه بسياق الآيات ـ بنظر الاعتبار ، فإنّ سياق الآيات لا تساعد على قولنا أنّها نزلت في الإمام عليعليه‌السلام ، بل إنّ الآيات التي قبلها والتي بعدها تتحدّث عن أهل الكتاب ، فالآية التي قبلها هي قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) (٢) ، والآية التي بعدها هي قوله تعالى :( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) (٣) ، مع أنّ اليهود والنصارى في ذلك العهد النبوي لم يكن لهم شأنٌ وخطر ، فهم ليس بأهل قوّةٍ ولا شوكةٍ ، ولا سطوة حتّى يخشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم إنّ هو بلّغ الإسلام.

__________________

١ ـ المائدة : ٦٧.

٢ ـ المائدة : ٦٦.

٣ ـ المائدة : ٦٨.

٥٤

فإنّ الإسلام عند نزول الآية قد أعزّه الله تعالى بقوّته وتمكّنت سطوته ، فلا معنى لخوف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من النصارى في تبليغ الإسلام ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ الآية تشير إلى تبليغ أعظم ، وأمر أخطر لم يألفه المسلمون ، وسيرتاب منه المنافقون ، ويتزعّزع لعظم خطره أهل الجاه والدنيا ، وهذا الأمر هو تبليغ ولاية عليعليه‌السلام الذي لا يطيقه المنافقون ، والذين في قلوبهم مرض ، فإنّهم سيحاولون إلى التصدّي لجهودهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا أخبره تعالى إنّ الله سيعصمك من خطر هؤلاء ومن مؤامراتهم.

مع أنّ الروايات من قبل الفريقين تؤكّد أنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قد نزلت في تبليغ ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ممّا يعني أنّ ترتيب الآيات وسياقها لا علاقة له بمعنى الآية وسبب نزولها ، لذا فلا عليك أن ترى تقدّم آية( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) ، على آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ؟ فإنّ روايات السنّة والشيعة كُلّها متّفقة على نزولهما في تبليغ ولاية عليعليه‌السلام .

( ـ ـ )

المقصود بالفؤاد :

س : قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٢) ، ما المقصود بالفؤاد؟ وما معنى مسؤولية الفؤاد؟ نرجو منكم الإجابة الوافية ، ولكم جزيل الشكر والتحية الطيّبة.

ج : قال العلاّمة الطباطبائيقدس‌سره ما نصّه : « قوله تعالى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به ، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً ،

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٥٥

وتتحصّل في مثل قولنا : لا تعتقد ما لا علم لك به ، ولا تقل ما لا علم لك به ، ولا تفعل ما لا علم لك به ، لأنّ في ذلك كُلّه اتباعاً

وقوله :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) تعليل للنهي السابق في قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

والظاهر المتبادر إلى الذهن ، أنّ الضميرين في (كَانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) ، فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله :( مَسْؤُولاً ) مقدّماً عليه ، كما ذكره الزمخشري في الكشّاف ، أو مغنياً عن نائب الفاعل ، وقوله :( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد

والمعنى : لا تتبع ما ليس لك به علم ، لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد ، وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم ، والمحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ، أنّ السمع والبصر والفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ، ليشخّص بها الحقّ ، ويحصّل بها على الواقع ، فيعتقد به ويبني عليه عمله ، وسيسأل عن كُلّ منها ، هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علمياً؟

وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكّره ، وقضى به يقينياً لاشكّ فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحقّ ، وتشهد على ما هو الواقع ، فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتباع ما ليس له به علم ، فإنّ الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل ، فتشهد عليه فيما اتبعه ممّا حصلته ، ولم يكن له به علم ، ولا يقبل حينئذ له عذر.

وما له إلى نحو من قولنا : لا تقف ما ليس لك به علم ، فإنّه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك ، والله سائلها عن عملك لا محالة ، فتكون الآية في معنى قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ـ إلى أن قال ـ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

٥٦

سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (١) ، وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان ، وهو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر ، ويدرك ما يدرك ، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر ، أن يوقف الله النفس الإنسانية ، فيسألها عمّا أدركت ، فتشهد على الإنسان نفسه.

وقد تبيّن : أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به ، سواء كان اعتقاداً مع الجهل ، أو عملاً مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه ، أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به ، وذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد ، ولا ضير في كون العلّة أعم ممّا عللتها ، فإنّ الأعضاء مسؤولة حتّى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام ، قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الآية(٢) .

قال في المجمع في معنى قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) : معناه لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً ، أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن ، وقيل : هو شهادة الزور ، عن محمّد بن الحنفية.

والأصل أنّه عام في كُلّ قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم ، فكأنّه سبحانه قال : لا تقل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يقال ، ولا تفعل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يفعل ، ولا تعتقد إلاّ ما تعلم أنّه ممّا يجوز أن يعتقد انتهى »(٣) .

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٠ ـ ٢٣.

٢ ـ يس : ٦٥.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٣ / ٩٢.

٥٧

وقال الشيخ الطبرسيقدس‌سره ما نصّه : «( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) معناه : إنّ السمع يسأل عمّا سمع ، والبصر عمّا رأى ، والقلب عمّا عزم عليه.

ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، والمراد أنّ أصحابها هم المسؤولون ، ولذلك قال :( كُلُّ أُولئِكَ ) وقيل : المعنى كُلّ أُولئك الجوارح يسأل عمّا فعل بها.

قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيما استعملوها »(١) .

( عبد الماجد ـ فرنسا ـ ٣٤ سنة ـ ليسانس )

ثواب سورة الواقعة :

س : هل صحيح أنّ من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة يحفظه الله من الفقر؟

ج : مصدر هذا الخبر رواية وردت عن أهل العامّة ، نقلها الكثير منهم عن عبد الله بن مسعود في محاورة مع عثمان بن عفّان ، يقول عبد الله بن مسعود في آخرها : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة لم يصبه فاقة أبداً »(٢) .

وقد نقلها من علمائنا الشيخ الطبرسي في تفسيره(٣) ، ويبدو أنّه نقله عنهم ، وإن لم يصرّح بذلك.

ومن يعمل بها من أصحابنا فهو استناداً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، والتي تعني أنّ المستحبّات التي ترد في الشريعة المستندة إلى روايات تدلّ على ذلك ، لا ينظر إلى سند تلك الروايات ومدى صحّته وعدمه ، لأنّ الرواية أكثر

__________________

١ ـ مجمع البيان ٦ / ٢٥١.

٢ ـ معالم التنزيل ٤ / ٢٩٢ ، الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٤ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ٣٠٢.

٣ ـ أُنظر : مجمع البيان ٩ / ٣٥٤.

٥٨

ما تدلّ على الاستحباب ، وليس هناك محذور في الفعل أو الترك ، بل يعمل بالرواية رجاء صحّة صدورها ، فإنّ المرء يثاب على ذلك العمل.

وقد ورد خبر آخر في سورة الواقعة ، نقله الشيخ الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من قرأ في كُلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله ، وأحبّه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّة لم يشركه فيها أحد »(١) ، وبضمّ هذا الخبر إلى ذاك يقوى احتمال صحّة الأثر المترتّب على قراءة تلك السورة ، ويقوى أكثر بضمّهما إلى الخبر الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه »(٢) .

( نسمة ـ الإمارات ـ ٢٠ سنة ـ طالبة جامعة )

معنى الحجّة البالغة :

س : وفّقكم الله تعالى لكُلّ خير ، عندي استفسار حول الآية الكريمة ، ( فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٣) ، كيف نربط بين هذه الآية وبين من لم يصل لهم الإسلام ، بمعنى أنّ الحجّة بالغة علينا نحن المسلمين ، ممّن ولد في بيئة مسلمة ، ولكن كيف تكون الحجّة بالغة على ممّن ولد في بيئة كافرة ، لا يعرف عن الإسلام شيئاً؟ وشكراً.

ج : إنّ فهمك للآية القرآنية بما ذكرت غير صحيح ، بل إنّ مراد الآية الردّ على المشركين ، الذين أرادوا أن يثبتوا شركهم بحجّتهم التي ما هي إلاّ إتباع

__________________

١ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ١١٧.

٢ ـ الكافي ٢ / ٨٧.

٣ ـ الأنعام : ١٤٩.

٥٩

الظنّ ، فجاءت هذه الآية تفريعاً على تلك الآية السابقة ، وفاء التفريع الموجودة في أوّل الآية تدلّ على ذلك.

وقال العلاّمة الطباطبائي حول الآية ما نصّه : « والمعنى : أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم وإتباعكم الظنّ ، وتخرّصكم في المعارف الإلهية ، فحجّتكم تدلّ على أنّ لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك ، وترك الافتراء عليه ، وأنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم ، فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين ، وأجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم »(١) .

وقال الشيخ الطوسي حول الآية ما نصّه : « ومعنى البالغة : التي تبلغ قطع عذر المحجوج ، وتزيل كُلّ لبس وشبهة عمّن نظر فيها ، واستدلّ أيضاً بها »(٢) ، لأنّ معناها أنّها تبلغ إلى جميع أفراد البشر كما فهمت.

وعلى هذا فليس هناك أيّ تعارض بين الآية القرآنية وبين عدم وصول الدين الحقّ إلى مجموعة من الأفراد ، بل أنّ القرآن يوضّح أنّ مجموعة من الناس سوف لا يصل إليهم الحقّ ، ويسمّيهم بالمستضعفين ، وهم معذورون في عدم وصول الدين الحقّ إليهم ، يقول تعالى :( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) .

قال صاحب الميزان : « يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه »(٤) .

__________________

١ ـ الميزان في تفسير القرآن ٧ / ٣٦٦.

٢ ـ التبيان ٤ / ٣١١.

٣ ـ النساء : ٩٨.

٤ ـ الميزان في تفسير القرآن ٥ / ٥١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الى هنا ينتهي نص الطبري للرواية الأولى.

وألاحظ ابتداء أن العبارة الأخيرة من النص ( مع سائر المعتزلة الذين كانوا معهم هنالك ) والتي تعلق بها الدكتور، ليس لها مكان في هذا النص، وأنها أقحمت فيه سهوا أو جهلا بعد ذاك، أو أن الطبري سمع شيئا فأثبته ولم يرد أن يتحمل تبعته، فأورده بصيغة التمريض ( ذكر ) دون أن يعزوه الى شخص أو أشخاص معروفين ممن ترد أسماؤهم في تأريخه ولو أراد غير ذلك، وكان متأكدا منه، لأسنده الى رواية أو رواته، كما هي عادته في تناوله للمسائل الأخرى.

وليس هذا تحكما في التأريخ ولا تعسفا في انتقاء ما أريد ورفض ما لا أريد مما ينقله الطبري، فالموضوع كما يقول الطبري نفسه، يتعلق باختيار أحد الهاشميين للخلافة ومبايعته، بعد ما اضطرب أمر بني أمية.

وأنا أفهم أن يشاور الهاشميون وأن يجتمعوا للنظر فيمن يولونه الخلافة بعد ما آذنت دولة الأمويين بالزوال فهم المعنيون الأساسيون بالأمر، والمرشح للخلافة سيكون من بينهم وواحدا منهم.

وهذا ما أشك فيه، وهو الأمر الطبيعي الذي يفعله الهاشميون وغير الهاشميون في مثل تلك الظروف لكن ما لا أشك فيه أيضا وما هو طبيعي أيضاً، أن هذا الاجتماع الذي يبايع فيه الهاشميون خليفة المستقبل، وهم ما يزالون تحت الحكم الأموي، لا بد أن يكون سريا جدا وخاصا جداً، يقتصر على عدد محدود من بين الهاشميين أنفسهم.

١٦١

فما الذي أقحم المعتزلة فيه جاء بهم من العراق لحضوره ؟ إذ لو حضوره، لوجب أن يحضره معهم أو قبلهم، عدد كبير من الهاشميين وأقاربهم وأنصارهم، بل لكان أولى أن يحضره هؤلاء الذين ثبتوا وقاتلوا فيما بعد مع محمد، حين لم يشارك ولم يقاتل معه واحد فقط من جميع المعتزلة.

لكن اجتماعاً يضم مثل هذا العدد من الهاشميين وغيرهم، وينعقد في مكة، أقدس وأهم مدينة لدى المسلمين، ويتناول خلع الخليفة القائم ومبايعته خليفة آخر، ويشارك فيه بين من يشارك، المعتزلة القادمون من بعيد، لا يؤمن أن تتسرب أخباره وتعرف، فلم تكن السلطة - رغم الضعف الذي انتابها - مغمضة العينين مستسلمة الى الحد الذي تجهل معه مثل هذا الاجتماع، وتجهل ما دار فيه، وليس هناك أخطر مما دار فيه.

ثم لماذا المخاطرة وقدوم المعتزلة من العراق، وفي آل محمد بن الحنفية الذين ( خرج الاعتزال من بينهم ) من يستطيع أن يحضر الاجتماع ممثلا المعتزلة وحضورهم - وهم العلويون الهاشميون - لن يثير انتباه أحد من رصد السلطة وعيونها، خلافاً للآخرين من المعتزلة القادمين من العراق.

على أن الطبري لم يخبرنا باسم واحد من هؤلاء المعتزلة الذين حضروا الاجتماع وبايعوا محمدا.

١٦٢

وأعود مرة أخرى للنص وأسأل، لماذا يصر محمد على أن يذكر المعتزلة ومبايعتهم، وهو يتحدث عن نقض المنصور لها ؟ أكان فيها ما يقوي دعواه ويجعلها أكثر قبولا لدى آله وأنصاره من أهل المدينة وقريش ومن قبائل العرب الأخرى ؟ وما نعرف فيهم من كان معتزلياً أو قريباً من المعتزلة أم كان فيها تزكية له ودعما لحجته أمام عدو المعتزلة وزعيم مدرسة الحديث مالك بن أنس ليفتي الناس بالتحلل من بيعتهم للمنصور والخروج مع محمد والالتحاق بثورته؟!

أظن ابن الأثير قد فطن لهذا أو لبعضه، فاستوقفه كما استوقفني وشك فيه كما شككت فيه، فأورد الرواية بصيغة مماثلة تقريبا لكن دون عبارة ( مع سائر المعتزلة . ) وأنا أنقلها لك كما وردت عنده أيضاً.

قال ابن الأثير ( وذكر ان محمدا بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد )(١) .

هذا هو نص ابن الأثير دون ذكر للمعتزلة وما ذاك إلا لأن ابن الأثير كما أتصور، قد استبعد أن يكون محمد ذكر المعتزلة أو أشار إليهم، فحذف العبارة الأخيرة من نص الطبري بعدما تبين له عدم صحتها.

وللاسباب نفسها كما أظن، أغفل المقريزي ذكر المعتزلة، مقتصرا على الهاشميين، وهو يتعرض لأمر البيعة في كتابه ( النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ) إذ يقول (.حتى أن أبا جعفر - يقصد المنصور طبعا - كان ممن بايع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن

____________________

(١) ابن الأثير ج٥ حوادث سنة ١٤٤ ص١٣٧.

١٦٣

علي ابن ابي طالب ليلة تشاور بنو هاشم فيمن يعقدون له الإمامة وذلك حين اضطربت أمور بني أمية.)(١) .

فهو لا يشير لغير بني هاشم ولا يتحدث إلا عنهم ولا يجعل الاجتماع إلا بينهم.

وقبل ابن الاثير وقبل المقريزي، هذا أبو الفرج وهو يعرض لنفس الموضوع نفسه ( مقاتل الطالبيين ) الذي خصصه، كما يظهر من اسمه لقتلاهم، واستقصى فيه أخبارهم، وقد أفاض في الحديث عن عبد الله بن الحسن وابنه محمد وثورته، ولم يترك شيئا يتصل بهما إلا ذكره وأتى عليه، وقد عرض للاجتماع المذكور في أربعة مواضع من كتابه، فهل أشار الى وجود المعتزلة في ذلك الاجتماع مع من حضره وشارك فيه ؟

لنستمع إليه في ص٢٠٥، ٢٠٦ بعد أن يذكر أسماء رواته ( أن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالابواء وفيهم إبراهيم - الإمام - بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأبو جعفر المنصور وصالح بن علي وعبد الله بن الحسن بن الحسن وابناه محمد وإبراهيم ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان.فبايعوا جميعا محمدا ومسحوا على يده.) ثم افترقوا ( ولم يجتمعوا بعدها ).

وفي ص٢٣٣ (.وبايعه - يعني محمد بن عبد الله - رجال من بني هاشم جميعا من آل أبي طالب وآل العباس وساير بني هاشم .

وفي ص٢٥٣ ( أن بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبد الله بن الحسن )

____________________

(١) النزاع والتخاصم فيما بين أمية وبني هاشم للمقريزي بتصحيح الشيخ محمود عرنوس ص٧٣.

١٦٤

وفي ص ٢٥٦ يكرر أبو الفرج ما سبق أن أورده في ٢٠٥ من حديث الاجتماع في الابواء والأشخاص الذين حضروه، بإضافة السفاح هنا ومبايعتهم جميعا لمحمد بن عبد الله، وأنهم لم يجتمعوا بعد هذا الاجتماع الى أيام مروان بن محمد(١) .

فهل رأيت أبا الفرج ذكر المعتزلة أو غير المعتزلة بكلمة، وهو يتناول في أكثر من موضع، الاجتماع الذي تمت فيه بيعة محمد بن عبد الله.

وهل تحدث في هذا الموضوع عن غير الهاشميين إجمالاً أو تفصيلاً، مضافا إليهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن الحسن لأمه.

ولكن ان شئت فسأخبرك بما ذكره أبو الفرج عن موقف المعتزلة، ممثلا بزعيمهم عمرو بن عبيد، من البيعة لمحمد ومن ثورته ( المعتزلية ) لا في هذا الاجتماع الذي لم يحضروه ولكن فيما بعد، حين دعا محمد عمرو بن عبيد للنهوض معه.

يقول أبو الفرج في ص٢٠٩ من مقاتل الطالبيين ( أن محمدا دعا عمرو بن عبيد فاعتل عليه.وكان أبو جعفر - المنصور - يشكر ذلك له وكان عمرو يقول لا أبايع رجلا حتى اختبر عدله ).

وهذا يثبت أن عمراً لم يحضر ذلك الاجتماع ولم يبايع محمد النفس الزكية فيه وأنه استمر على عدم مبايعته، حتى الوقت الذي بدأ فيه محمد يتهيأ للخروج ويدعو الناس للخروج معه.

____________________

(١) الابواء قرية قرب المدينة فيها قبر آمنة أم النبي محمد (ص) وبها كان اجتماع الهاشميين المشار إليه.

١٦٥

بل هو يثبت أن عمرا لم يكن يعرف محمداً، أو لم يكن يعرفه بما يسمح له أن يختبر عدالته، ويجيز مبايعته، ما لم نتهم عمرا بأنه كان كاذبا في ذلك، خوفا أو ملقا أو طمعا في المنصور، وحفاظاً على صلته به.

وعلى كل، فقد سارة علاقة عمرو قوية متينة بالسلطة العباسية وممثلها المنصور الذي بقي شاكراً له موقفه ذاك من محمد وعدم مبايعته له، طول حياته حتى روي أنه رثى عمرا بأبيات من الشعر عند وفاته.

فهل بعد هذا الوضوح من وضوح، وهل ترك عمرو نفسه مقالا لمن يريد أن يعتذر عنه أو يدعي بيعة له، أو موقفا الى جانب محمد وثورته ؟!

ولنترك ابن الاثير، ولنترك أبا الفرج، ولنعد الى نص الطبري ونفترض صحته، فهل زاد هذا النص على القول أن المعتزلة حضروا الاجتماع الذي تمت فيه بيعة محمد ولنقل أنهم بايعوه ولم يكتفوا بحضوره، فهل تعني البيعة بالضرورة - ومع التسليم بحصولها - الثبات عليها والثورة مع من تمت مبايعته عندما يعلن الثورة.

لقد سبقت الثورة محمد ثورات ما أكثرها، ولكن ما أكثر الذين نكثوا وغدروا ونقضوا بيعتهم فيها.

وفي ثورة محمد بالذات بايع المنصور نفسه أكثر من مرة فهل ألزمته بيعة بشيء ظ وهل حالت دون أن ينكثها بعدئذ، كما يذكر نص

١٦٦

فماذا يعني أن يبايع المعتزلة أو بعضهم محمدا ؟ إذ يبقى السؤال - حتى لو اضطررنا الى تصحيح النص، وقبلنا القول بمبايعتهم - هل وفى المعتزلة ببيعتهم تلك وثاروا مع محمد، حين ثار أم نكثوا وتخلفوا وغدروا ؟

أن المؤرخين لم يذكروا لنا اسم واحد من المعتزلة، ثار مع محمد أو قاتل الى جانبه والطبري نفسه صاحب النص، ورغم كل التفاصيل التي جاء بها عن الثورة، لم يورد أي دور للمعتزلة فيها، ولم يذكر شخصاً منهم قاتل في صفها أو كان له شأن في أحداثها، مع أن مشاركة واحد أو أثنين أو أكثر منهم، لا تعني أن الثورة قد تحولت الى ثورة للمعتزلة إذن لكان المحافظون من أصحاب مالك وأهل المدينة الذين خرجت الثورة من بين أظهرهم، أولى بالادعاء بها وأحرى أن تنسب إليهم.

ولن أعيد هنا ما سبق أن ذكرته عن آل محمد بن الحنفية، العلويين الهاشميين المعتزليين كما يقال، والذين لم يشترك أحد منهم في أي دور من أدوار ثورة محمد، ولم يرد لهم ذكر فيها، ابتداء من الاجتماع والبيعة، وانتهاء بإعلان الثورة، لا كعلويين ولا كهاشميين ولا كمعتزلة.

وإذا كان الطبري يتحدث عن حضور اجتماع أو بيعة فقط دون مشاركة وإذا كان ابن الأثير لا يتحدث عن اجتماع ولا بيعة ولا مشاركة وإذا كان أبو الفرج يتحدث عن رفض للبيعة ورفض للمشاركة.

إذا كان هؤلاء المؤرخون يغفلون الإشارة لأي دور للمعتزلة في ثورة محمد، ولا يتحدثون عن أي نشاط لهم فيها فهل لدى المؤرخين

١٦٧

الآخرين شيء ينافي أو يختلف عما ورد عند أولئك أوي ثبت أي دور أو نشاط للمعتزلة في هذه الثورة ؟

سأختار للإجابة على هذا التساؤل اثنين من مؤرخي المعتزلة المعروفين: المسعودي وابن أبي الحديد وكلاهما لم يتركا موقفا ينسب فيه للمعتزلة ما يستحق الذكر والإشادة، إلا أتيا عليه تفصيلاً فماذا لديهما عن مشاركة المعتزلة في ثورة محمد ؟

أن أيا منهما لم يتطرق للمعتزلة ولم يعرض لهم ولم يشر لأي دور لهم في ثورة محمد، مع أننا رأينا المسعودي يتحدث عن ( شائعة من المعتزلة )(١) ليثبت لهم دورا في ثورة يزيد بن الوليد التي سبق الحديث عنها، وسنراه يتحدث عن انضمام ( جماعة ممن يذهب الى القول البغداديين من المعتزلة ) بهذا التحديد الدقيق لهويتهم، وذلك عند الكلام عن ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد، والمقتول في باخمرى بعده(٢) .

فالمسعودي الذي لم يفته وهو يتابع نشاط المعتزلة، أن يذكر ( الشائعة ) منهم، وأن يحدد بكل دقة، هوية الذين يدعي مشاركتهم في ثورة إبراهيم فيصفهم بأنهم ( ممن يذهب الى قول البغداديين من المعتزلة ) وليس عموم المعتزلة.

هذا المسعودي، لا يمكن أن يسكت ويتغاضى عن أي دور مهما كان، لو كان لهم فعلا دور في ثورة محمد، ولكان أحرص من الطبري، في

____________________

(١) مروج الذهب ج٣ ص٢٢٦ وقد سبقت الإشارة إليها.

(٢) مروج الذهب ج٣ ص٢٩٦ وما أظن المسعودي كان مصيبا في قوله هذا فالمعروف أن الاعتزال لم ينشأ في بغداد ولم تؤسس مدرسة المعتزلة فيها إلا من قبل بشر ابن المعتمر الذي توفي عام ٢١٠ ه- بعد مقتل ابراهيم وفشل ثورته بخمسة

وستين عاما ولم تكن بعد قد نشأت مدرسة المعتزلة ولم يكن هناك بعد من ( يذهب الى قول البغداديين من المعتزلة ) كما يقول المسعودي.

١٦٨

إثباته وإظهاره بما هو أقوى من هذه العبارة، وبما يتناسب مع اتجاه المسعودي في إيراد كل ما من شأنه أن يبرز نشاط المعتزلة، إذا وجد لهم شيئاً من نشاط في أية ثورة يعرض لها ويكتب عنها.

وبعد فهل أمامي كما ترى أكثر من أحد خيارين: أن أصدق نص الطبري وأتهم المعتزلة بترك محمد ونقض بيعته والتخلي عن ثورته، لأن أحداً منهم - وهو ما أجمع عليه المؤرخون معتزلة وغير معتزلة - لم يشارك ولم يقاتل فيها، أو - وهذا هو الخيار الثاني - القول بأن ما تضمنه النص من مبايعة المعتزلة لمحمد قد دخل أو أدخل سهواً أو عمداً.

وأنتقل الى الرواية الثانية للطبري عن صالح صاحب المصلى وإليك ما يخص الموضوع من نصها ( قال فكان شدة هرب محمد من أبي جعفر أن أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة )(١)

ولن أطيل الوقوف عند هذه الرواية ولا الحديث عنها، ولن أحتاج إليه، فما قلته عن الرواية السابقة يصدق هنا أيضاً، ويضاف إليه، أن رواية صاحب المصلى هذه تبدو متعارضة، حتى مع رواية الطبري السابقة والتي رفضنا الأخذ بها بعدما تبين ضعفها وتهافتها ذلك أن الرواية الجديدة تقتصر في حديثها، عن البيعة والمبايعة، كما يظهر من النص، على المنصور والمعتزلة وحدهما، مغفلة بشكل كامل ذكر الهاشميين المعنين طبعاً، أكثر من المعتزلة وغير المعتزلة، بأمر البيعة، والذين أعطتهم الرواية السابقة - على مآخذنا عليها - الصدارة في نصها.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج٧ ص٥٢٤.

١٦٩

وأجدني قد انتهيت مرة أخرى الى عمرو بن عبيد الذي كان قد توفى عام ١٤٤ أي قبل عام من ثورة محمد.

وسأترك الحديث عن دوره في الثورة نفسها لكي لا يقول قائل: وكيف يكون لعمرو دور فيها، وهو قد توفي قبلها بعام ؟ سأقتصر إذن في حديثي على الفترة التي تمتد من التأريخ الذي تمت فيه بيعة محمد وحتى موت عمرو ١٤٤، وهي قد بلغت أو قاربت العشرين عاما.

وسأفترض، كما أسلفت، أن عمرا كان من بين الذين حضروا اجتماع البيعة، ومن بين الذين بايعوا فيمن حضروا وبايعوا من المعتزلة، إذا صححت رواية الطبري وذهبت معه الى حضور المعتزلة الاجتماع المذكور ومبايعتهم محمدا فيه.

لكن هذا الافتراض سيلقي على شيخ المعتزلة مسؤولية أخرى قبل محمد وثورته، لا بوصفه ذاك، بل لسبق بيعته التي توجب عليه الالتزام والوفاء لصاحبها، والقيام معه حين يقوم والدعوة له قبل أن يقوم.

فماذا كان موقف عمرو من محمد ومن نشاطه طوال تلك الفترة، وهو يدعو ويحضر ويتهيأ للثورة ؟ أي دور كان لعمرو في دعم محمد وتأييده وحشد الناس حوله ؟

لا شيء على الإطلاق.

ذلك هو عمرو بن عبيد الذي لم يشارك في أي من الثورات التي تحدثنا عنها: لم يشارك في ثورة زيد ولا في ثورة ابنه يحيى، ولم يشارك

١٧٠

في ثورة عبد الله ولا في ثورة يزيد ولا في ثورة الحارث، مع أنه عاصرها كلها فموقفه من الثورات إذن ورفض تأييدها والمشاركة فيها، هو سلوك عام له، لا موقف منفرد يتعلق بثورة بعينها.

ولست في معرض الهزل فأزعم - كما يريد المعتذرون عنه من أنصار المعتزلة - أنه أمضى الشهور الطوال وهوي تهيأ للانضمام لهذه الثورة أو تلك فذلك ما لا سبيل الى ادعائه ولا يقول به إلا من كان عنده الدفاع عن عمرو، أولى من الدفاع عن العقل الذي آمن به المعتزلة أنفسهم وجعلوه إماما ورائدا لهم.

ولكن مالنا ولأنصار عمرو وللمعتذرين عنه، وعمرو نفسه يؤكد هذا السلوك في أكثر من مناسبة فيروي قاضي القضاة المعتزلي في ص٢٣٦ من كتابه ( فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ) أن عمراً رد على الزعفراني حين هاجمه هذا، متهما إياه بالجبن فقال ( ويحك هل الجند أشد من جندهم ورجالي من رجالهم أما رأيت صنيعهم بفلان وخذلانهم لفلان.).

وأحسبك تسأل معي وهل خلت ثورة من المخاطر التي يتكلم عنها عمرو ؟ وماذا تكون الثورة غير هذا ؟ أن بين الثورة وبين الفشل صلة ليس أقوى منها ما بين الثورة وبين النجاح فكلام عمرو هنا هو كلام تاجر لا يعطي إلا بضمان، لا كلام مجاهد ذي فكر وعقيدة ولو أخذ به الثائرون لما قامت ثورة على الإطلاق.

١٧١

وليس هذا ظلماً لعمرو ولا تجنبا عليه، ولا يمكن الاعتذار عنه بأنه كان يحاول أن يوفر للثورة التي يشارك فيها أسباب النجاح قبل إعلانها، حتى لا تكون مغامرة قد تضر أكثر مما تنفع.

كان من الممكن أن نعتذر لعمرو بهذا ونصحح موقفه لو اقتصر على ثورة بذاتها أو ثورتين لكن ما كان منه هو سلوك وموقف ثابت كما قلنا.

اسمع الى رأيه في الثورة وحمل السلاح عموما، وقد سأله المنصور كالمستثبت من موقفه، بعد ما بلغه أن محمدا كتب إليه ( أو لست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف الينا وإني لا أراه )(١) .

فهو ينكر السيف وينكر الثورة، لا محتجا بظرف ولا مشترطا شرطا ينكرهما ضد أي سلطة وفي أي ظرف وهو يذكر المنصور برأيه أو مذهبه هذا الذي لم يتغير، محاولاً أن يطمئنه وأن يدفع عن نفسه في ذات الوقت ما يعتبره تهمة يجب نفيها وتفنيدها، وهي الاتصال بمحمد أو تأييده.

وقد تركه المنصور بعد أن اطمأن الى ( صدقه ) فيما ذكر، والى بقائه على الولاء للسلطة وللمنصور.

بل اسمع رأي المنصور نفسه في عمرو بن عبيد وموقفه من الثورة والثوار، وهو يقول ( ما خرجت المعتزلة حتى مات عمرو بن عبيد )(٢) .

____________________

(١) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص٢٣٣ وأمالي المرتضى ج١ ص١٧٥ وتأريخ بغداد ج١٢ ص١٦٩.

(٢) مقالات البلخي ص١١٠ والحور العين ص٢١٠.

١٧٢

وكل هذا، ان كان يعزز رأينا في عمرو بن عبيد من الثورة، فهو يعزز رأينا كذلك في موقف المعتزلة عموما، وعدم اشتراكهم في أية ثورة من الثورات التي سبق الحديث عنها.

وذا كنت قد أطلت القول في عمرو، فما ذاك إلا لأنه كان يصور دائما على خلاف حقيقته وإلا لأنه كان يبدو في هذه الصورة، وبتزوير غريب، وكأنه لا يغمد سيفه بعد ثورة إلا ليجرده في ثورة أخرى.

فالذين يتحدثون عن نشاط المعتزلة السياسي، يربطونه بعمرو أكثر مما يربطونه بغيره من زعمائهم.

على أن من العدل ألا نتهم عمرا وحده بهذا الموقف السلبي من الثورات ومن مهادنة السلطة فما يقال عن عمرو يقال وبالدرجة نفسها من الصدق عن الزعيم الآخر للمعتزلة: واصل بن عطاء، الذي لم يكن موقفه لختلف في قليل أو كثير عن موقف صاحبه الذي عرفنا.

وبعد فتلك ست من أهم ثورات المسلمين التي عاصرها المعتزلة - دون التعرض للثورة العباسية - وتلك كانت مواقفهم منها، أو بالأحرى موقفهم منها إذ ليس للمعتزلة مواقف مختلفة من الثورات وإنما هو موقف واحد ثابت لم يتغير ولم يتبدل، بدأ مع واصل وعمرو واستمر بعد واصل ثم استمر بعد عمرو وهو موقف لم يبلغ في وصفه ووصف ( سلميته ) - إذا جاز التعبير - ما بلغه واحد من أكابر زعمائهم هو أبو

١٧٣

القاسم البلخي(١) حين يقول ( لم تخرج المعتزلة قبل إبراهيم - يعني أخا محمد الذي ثار بعده وقتل في باخمرى - ولا بعده )(٢) .

أي أنها لم تشارك من بين جميع الثورات التي حصلت، على كثرتها، إلا في ثورة إبراهيم، إذا قبلنا ما قاله البلخي عن مشاركة للمعتزلة فيها.

وما أظن من حق أحد أن يدعي الغيرة على المعتزلة والانتصاف لهم ممن ( ظلمهم ) وأنكر عليهم ( دورهم ) في ثورات عصرهم بعد هذه الشهادة تصدر من زعيم كبير من زعمائهم !!

وأصل أخيرا الى الثورة العباسية، أكبر الأحداث السياسية وأضخمها وأعظمها أثرا في ذلك العهد وسيكون حديثي عنها وعن أثر المعتزلة فيها في غاية الاختصار، ربما لن يتجاوز الأسطر على رغم ضخامة الحدث كما قلت.

لقد اضطررت الى شيء من الإسهاب عند الحديث عن الثورات السابقة، لأن هناك من يدعي أو يتوهم أنه كان للمعتزلة دور فيها، فاقتضاني تصحيح هذا الإدعاء، التعرض لبعض الحجج التي يدلي بها أصحاب ( الدور ) ونقضها والرد عليها.

وليس في الثورة العباسية - وأشخاصها وأحداثها معروفة - من يدعي للمعتزلة يدا فيها أو مشاركة في أحداثها، أو دوراً كبيراً أو صغيراً في قيامها.

____________________

(١) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي من كبار معتزلة بغداد ومن الطبقة الثامنة من طبقاتهم توفي ٣١٩ أخذ عن أبي الحسين الخياط ويقول عنه ابن المرتضى في ( طبقات المعتزلة ) ( رئيس نبيل غزير العلم بالكلام والفقه وعلم الأدب واسع المعرفة في مذاهب الناس . ).

(٢) مقالات البلخي ص١١٠.

١٧٤

فلماذا الحديث إذن عنها والأمر كما قلت لماذا الوقت والجهد في نفي دور لم ينسبه أحد للمعتزلة، ولم يضفه أحد إليهم في هذه الثورة.

الحق ان نفي دور المعتزلة في الثورة العباسية وعدم إسهامهم فيها، يشكل في نظري دليلاً قوياً على نفي ما أضيف إليهم في الثورات الأخرى فإذا كان المعتزلة كما يزعم البعض، قد ثاروا أو ساهموا أو دعموا تلك الثورات التي قامت، والسطة الأموية ما تزال قادرة على أن تعاقب وتبطش وتردع، ولها من القوة والأنصار والأعوان ما تستطيع أن تضرب به وتقمع أية حركة أو ثورة تقوم ضدها، ولم تبلغ بعد الانحلال والضعف الذي بلغته حين بدأت دعوة العباسيين تدخل مراحلها النهائية والحاسمة، وحين بدا واضحا عجز الأمويين عن دفعها والقضاء عليها أو الصمود أمامها ألا يفترض أن يكون المعتزلة أسرع الى المشاركة في الثورة العباسية ودعمها وتأييدها والانضمام إليها والمساهمة بدور واضح في أحداثها، وقد استغرق التحضير لهذه الثورة منذ كانت مجرد دعوة وحتى اندلاعها، السنين الأخيرة كلها من حياة الدولة الأموية ولم تتم بضربة مفاجئة يقوم بها واحد من ولاة الأقاليم أو قادة الجيش أين كان المعتزلة طيلة تلك الفترة، وأين دورهم فيها لو كان لهم دور أو نشاط سياسي، وكانوا فعلا ضد الحكم الأموي كما يدعي المدافعون عنهم ؟

١٧٥

أن أحدا منهم أو من غيرهم لم ينسب لهم دوراً أو نشاطا أو فعلا مهما كان في هذه الثورة فالذين قامت باسمهم معروفون، وقادتها وزعماؤها معروفون، ورجال دعوتها ونقباؤها معروفون، والمناطق التي انطلقت منها معروفة، والوقائع التي انتهت بقيامها وسقوط الدولة الأموية معروفة هي أيضاً.

وإذا لم يكن للمعتزلة أي دور وأي نشاط في الثورة العباسية، على ضخامتها ووضوح هويتها وكثرة المشاركين فيها، جماعات وأفراداً مع ما يقابل ذلك على الجانب الآخر من ضعف الحكم وتداعي السلطة وتواتر الدلائل على قرب انهيارها.

إذا لم يكن للمعتزلة دور في الثورة العباسية، وهذه ظروف قيامها أيمكن أن نتصور لهم دوراً في الثورات التي سبقتها، والظروف كلها مختلفة، والسلطة ما تزال بعد، تمتلك من وسائل الترغيب والترهيب ما تستطيع به أن تجهض أية ثورة، قبل قيامها، وتنتصر عليها بعد قيامها، بأدنى ثمن وأيسر وسيلة ؟ !

١٧٦

١٧٧

الجزء الثاني من الفصل الثالث

في أسباب الموقف المعتزلي

وهكذا نأتي على ثورات المسلمين، أو أهم ثوراتهم التي عاصرها المعتزلة وكان يمكن لهم دور فيها، كما كان لغيرهم وقد رأينا، لا متعصبين ولا متجنين، أنهم لم يشاركوا فيها بأية صورة من صور المشاركة: لم يسل لهم دم ولم يحاربوا سيفا ولم يطعنوا برمح.

وسأترك الثورات والمشاركة فيها والدم والسيف والرمح فإن ما يقابلها، لن يكون غير القتل في ساحة المعركة، أو القتل صبرا بعد المعركة وليس كل مهيأ لذاك ولكني سأقبل بما هو دون فهل سمعنا ان واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، قد تعرض خلال حياته لسجن أو تعذيب أو اضطهاد أو تشريد أو أنه قاسى من جفوة السلطة أو عدم رضاها، وقد عاصر الأول منهما فترة طويلة من الحكم الأموي، فلم يمت إلا قبل سنة من سقوطه وطال عمر الثاني الى ما بعد قيام الحكم العباسي باثنتي عشرة سنة، معاصرا سلطتين متعاقبتين متعاديتين: الأموية والعباسية(١) .

وهل تعرض أحد من زعماء المعتزلة الآخرين لسجن أو تعذيب أو اضطهاد السلطة أو مارسوا السياسة، بما لا يرضيها ولا يتفق مع رغباتها.

____________________

(١) كانت وفاة واصل عام ١٣١ ووفاة عمرو سنة ١٤٤ وكان قيام الدولة العباسية سنة ١٣٢.

١٧٨

لقد قتل معبد الجهني، وقتل غيلان الدمشقي، وهما من أوائل القائلين بالقدر وبهذا ( القدر ) يلتقون مع المعتزلة، أو بالأحرى يلتقي المعتزلة معهم.

قتل معبد لأنه اشتراك في ثورة ابن الأشعث(١) وقتل غيلان لأنه تجرأ فرفع الصوت احتاجا على الأمويين واستنكارا لظلمهم.

وقتل جهم بن صفوان، وهو أشهر من قال بالجبر ونفي القدر، بعد أسرة في ثورة الحارث بن سريج ضد الحكم الأموي.

قتل القائل بحرية إرادة الإنسان واختياره لأفعاله وقتل القائل بانعدام حرية الإنسان واضطراره لأفعاله.

قتل الاثنان لأنهما وقفا في وجه السلطة ن وعارضاها وأنكرا عليها وثارا ضدها.

وما كان القول بالقدر، ولا القول بعكسه، وراء قتلهما ولو كان لأخطأ القتل أحدهما حتماً.

قتلا لأنهما ثارا ضد السلطة، وكان واصل وعمرو يعيشان في سلام وهدوء في ظل هذه السلطة، لم يقلقهما أحد ولم يضايقهما أحد ولم يسبب لهما القول بالقدر ما يكدر صفو حياتهما، أو يعرضهما لغضب الحكم والحاكمين.

وأراني بلغت الجزء الثاني من هذا الفصل الأخير وهو المتعلق بأسباب الموقف المعتزلي، ومحاولة تفسيره، بعد أن عرضت في جزئه

____________________

(١) عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ثار ضد عبد الملك بن مروان عام ٨١ ونشبت بينه وبين جيش الأمويين بأمرة الحجاج معارك طويلة منها موقعة دير الجماجم ثم موقعة مسكن التي انتهت بهزيمته عام ٨٣ ولجوئه الى رتبيل كبير الترك لكن هذا قتله وبعث برأسه الى الحجاج عام ٨٥.

١٧٩

الأول، صورة هذا الموقف عند الكلام على الأحداث السياسية أو أهمها التي عاصرها المعتزلة.

كيف نفسر ضعف الجانب السياسي أو انعدامه - إذا شئت الدقة - لدى المعتزلة ؟

يبدو لي على خلاف الخوارج الذين خرجوا من قلب المعركة، وسلاحهم بأيديهم.

وعلى خلاف الشيعة الذين خاضوا المعركة المعركة مع أئمتهم، أو ثأروا لأئمتهم بعد استشهادهم.

على خلاف أولئك وهؤلاء كانت نشأة المعتزلة هادئة مسالمة بعيدة عن السياسة، بعيدة عن الدم والسيف ولهيب المعركة.

لقد كانت نشأة المعتزلة وليدة تطور سلمي طويل، أشرنا إليه عند الحديث عن تسميتهم فهم لم ينشؤوا في الأصل كمذهب سياسي ولم يمارسوا السياسة بعد نشأتهم، ولم يقتربوا منها ولو فعلوا لخالفوا مذهبهم وخرجوا عليه.

نشؤوا كمدرسة كلامية، تخوض في مسائل الإيمان وتقصر نشاطها عليه.

هذه كانت نشأتهم بأي الآراء أخذت: برأي من قال أنهم لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا ( نشتغل بالعلم والعبادة ) أو برأي من جعلهم امتدادا للمعتزلين السابقين الذين كسروا سيوفهم واعتزلوا الصراع، أو من قال باعتزال مجلس الحسن البصري، أو اعتزال أقوال الأمة في مرتكب

١٨٠

181

182

183

184

185