• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28808 / تحميل: 6794
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لماذا لم يعتزل واصل مجلس الحسن من قبل، ما دام رأي الحسن معروفا فيها كما افترضنا بل لماذا السؤال مع هذا الفرض أصلاً ؟

أم أن المسألة طرحت لأول مرة في مجلس الحسن وفي هذه الحالة ما أظنني سأقبل أن واصلاً أو غير واصل يترك مجلس أستاذه ويعتزله ويعتزل أستاذه قبل أن يستمع رأيه ويناقشه فيه ويعرف قوته وضعفه واتفاقه أو اختلافه معه، فيترك حين يترك بعد ذلك، بعذر وسبب، برغم أن اختلاف الرأي في هذه القضية لا يمكن أن يبلغ وحده ودون سبب أو أسباب أخرى، تركاً وقطيعة و ( اعتزالاً ).

تلك بعض الملاحظات التي لا تستطيع هذه الرواية أن تقدم لنا أجوبة عليها، ذلك إنها تقوم على قطع كامل ومفاجئ بين وقائع الحادثة التي ترويها، وهو قطع لا نجد تبريراً مقبولاً له، بل لا تحتمله طبيعة العلاقة بين الحسن وواصل، وهي علاقة علمية ثرية وعميقة استمرت مدة غير قصيرة في مجلس كان يعتبر من معالم البصرة في ذلك الحين.

وملاحظة أخرى لا تتعلق هذه المرة بواصل ولا بالحسن ولا بالقضيّة المسؤول عنها، طرحت من قبل أم لم تطرح ورأي الحسن فيها ولكن بالسؤال نفسه فهذا السؤال - كما سنرى - لا يمكن إلا أن يدفعك دفعا إلى الشك فيه، وربما إلى ما هو أبعد من الشك.

ولكن قبل أن أنتقل إلى السؤال، أرى أن أقف أولا عند الصيغة التي تمهد بها الرواية لذلك السؤال في حلقة الحسن، فهي صيغة تدفعك هي الأخرى إلى الشك وربما إلى ما هو أبعد من الشك.

٢١

تبدأ الرواية بالقول ( دخل واحد . ) وهذا أول الضعف فيها فصيغة ( دخل واحد ) بالإثبات هنا وما شابهها من صيغ أخرى ك- ( روي أو نقل واحد ) دون تحديد، اعتدنا أن نواجهها كلما أريد تجنب مسؤولية ما يروى وينقل وهي تتساوى عندي مع ( لم يدخل واحد ) و ( لم يرو أو ينقل واحد ) بالنفي، ما دام هذا الواحد غير معروف ولا مشخص وما أحسبها تختلف عن الصيغة الأخرى التي يلجأ إليها الرواة عادة كلما أرادوا دفع الحرج عنهم فيما يروون، ك- ( قيل ) و ( روي )، ففي كليهما إسناد لمجهول وحمل عليه.

الرواية إذن تبدأ مع المجهول ( واحد ) فإذا سرنا مع هذا ( الواحد ) خطوة أخرى رأيناه يقول (.لقد ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر.وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر.وهم مرجئة الأمة.).

والسؤال ينطلق أساسا من خطأ واضح، ذلك أنه لا الخوارج الذين يكفرون أصحاب الكبائر ولا المرجئة الذين لا تضر عندهم الكبيرة مع الإيمان قد ظهروا في زمان هذا ( الواحد ) الذي وجه السؤال، فالفرقتان سبق وجودهما وعرفت مبادؤهما قبل ذلك بوقت طويل، فالخوارج في الأقل يبدأ تاريخهم مع التحكيم في صفين أي قبل ولادة واصل - لا السؤال الذي سبب اعتزاله كما تقول الرواية - بأكثر من أربعين عاماً، وهذا يعني أن الخوارج كانوا، عندما طرح السؤال، قد طووا مرحلة طويلة من أقوى وأروع مراحل نشاطهم.

٢٢

وهم على امتداد تاريخهم يكفرون أصحاب الكبائر، بل يكفرون عموم المسلمين المخالفين لهم، حتى من غير أصحاب الكبائر، وكان ذلك معروفا عنهم فكيف جهل هذا ( الواحد ) ما لا يمكن أن يجهل، فزعم أن الخوارج قد ظهروا أو قالوا بتكفير أصحاب الكبائر في زمانه.

أيبلغ الجهل بهذا ( الواحد ) وهو يخوض في موضوع كالكبيرة وموقف الخوارج والمرجئة من مرتكبها، ويحرص على أن يسمع رأي الحسن فيما اختلفوا من ذلك، ثم هو لا يعرف إن كان الخوارج قد ظهروا في زمانه أم في زمان آخر سابق له، وهو أمر من الشهرة والذيوع بحيث لا يجهله إنسان ؟! أكان يعرف رأي الخوارج ورأي المرجئة في مرتكب الكبيرة وهو لا يعرف متى ظهر أولئك أو هؤلاء ؟!

فهل أشك في علم السائل أم في صحة السؤال ؟!

وإذا كان السائل يعرف رأي الخوارج الذين يكفرون أصحاب الكبائر ورأي المرجئة الذين يرجئون أصحاب الكبائر فكيف جهل رأي الحسن فيهم، فجاء يستعلم عنه، وهو رأي مشهور شهرة الحسن نفسه ؟! أليس الأولى بالقبول أن يكون السائل على معرفة برأي الحسن في مرتكب الكبيرة لا تقل عن معرفته برأي الخوارج والمرجئة، وهو علم من أعلام المسلمين ومعاصر للسائل بحيث يتوجه بالسؤال إليه، وآراؤه معروفة في هذه القضية وفي غيرها ؟

وشك آخر تبعثه هذه الرواية في نفسي هو أنها - على شهرتها وذيوعها - تنتهي في جميع المصادر عند شخص واحد وكتاب واحد هما

٢٣

الشهرستاني وكتابه ( الملل والنحل )(١) والشهرستاني عاش أكثر حياته في القرن السادس الهجري وقد سبقه الكثيرون ممن كتبوا في العقائد والفرق لكن أحدا منهم لم يورد هذه الرواية ولم يذكرها كأساس لتسمية المعتزلة(٢) .

فكيف يمكن أن نفسر انفراد الشهرستاني بها من بين جميع الذين كتبوا عن المعتزلة قبله، مع إنهم أقرب عهدا منه وأخرى أن يعرفوها ويشيروا إليها في كتبهم عن الفرق والمذاهب الإسلامية.

لهذا أجدني مضطرا لاستبعاد هذه الرواية، لا لأني أرفض النتيجة التي انتهت إليها من اعتزال واصل مجلس الحسن، فهذه النتيجة هي التي ستكون اختياري في التسمية، ولكن للأسباب التي تسوقها لتبرير اعتزال واصل مجلس الحسن وبالتالي تفسير التسمية.

أما الروايات الأخرى التي تربط التسمية باعتزال عمرو مجلس الحسن بعدما أحدثه من بدع، فقد رددت عليها في بعض ما رددت به على رواية اعتزال واصل مجلس الحسن بعد سؤاله عن حكم مرتكب الكبيرة كما مر بنا قبل قليل يضاف إلى ذلك هنا ان اسم المعتزلة قد ارتبط بواصل أكثر مما ارتبط بعمرو، فواصل هو أشهر الاثنين وابلغهما وأعلمهما وأقدرهما على الإقناع، وهو الذي أرسل البعوث للدعوة إلى الاعتزال والتبشير به، ولم يكن عمرو يجاريه في كل ذلك فمن المستبعد والحال هكذا، أن يكون هو التابع لعمرو في اعتزال مجلس الحسن، وإنما الأقرب وما تؤيده كثرة الروايات أن عمراً هو الذي تبع واصلاً بعد حوار بينهما، انتهى بان أخذ

____________________

(١) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني العلامة المتكلم المعروف ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم عام ٤٧٩ وتوفي عام ٥٤٨ ألف في الكلام والعقائد وغيرهما، من أشهر مؤلفاته كتاب ( الملل والنحل ) الذي نقل عنه.

(٢) هذه الرواية تجدها في ( الملل والنحل ) ج١ ص٤٨ وعنه ( المنية والأمل ) لقاضي القضاة ص ٨ و ( طبقات المعتزلة ) لأبن المرتضى ص٣ ملاحظين ان قاضي القضاة عاش ومات قبل الشهرستاني بأكثر من قرن فمن المستحيل ان يحيل عليه ولكن مقدمة ( المنية والأمل ) التي تبدأ ب- ( باب ذكر المعتزلة وطبقاتهم ) وتنتهي عند ( تعيين طبقات المعتزلة ) والتي تورد الرواية يبدو أنها أضيفت فيما بعد الى ( المنية والأمل ) أما من قبل جامعه أبن المرتضى حيث تجد المقدمة نفسها في طبقات المعتزلة مع اختلاف يسير أكبر الظن أنه بفعل النسخ وأما من قبل محقق الكتاب الذي أدخل فيها أيضا ( المسائل التي اتفق فيها المعتزلة واجمعوا عليها كما جاء بكتاب ( الفرق بين الفرق ) كما يقول وإذا تركت الشهرستاني فان هذه الرواية لم يذكرها لا الاشعري ولا المفيد ولا البغدادي ولا المرتضى ولا الاسفراييني وهم يتحدثون عن واصل وما أحدثه من القول في مرتكب الكبيرة، مع انهم عاشوا كلهم قبل الشهرستاني، كما لم يذكرها الذين ترجموا لواصل او تعرضوا له وهم يذكرون خلافة في تلك المسألة وخروجه على الأقوال التي كانت معروفة فيها آنذاك.

٢٤

عمرو برأي واصل فيه، وهذا ما يؤكد أن عمراً استمر على علاقته بالحسن فترة بعد خلاف واصل واعتزاله، وانه لم يترك الحسن ويعتزل حلقته وينضم إلى واصل في تأسيس المذهب وقيام المعتزلة إلا بعد ذاك(١) .

٣ - التسمية جاءت من قتادة:

وليست بأوفر حظا في القبول، الرواية التي تزعم ان قتادة بن دعامة السدوسي(٢) وهو من مشاهير أصحاب الحسن البصري وكان أعمى، دخل المسجد للصلاة فأم عمرو بن عبيد وأصحابه ظاناً أنهم حلقة الحسن، وكان عمرو قد اعتزل هو وأصحابه الحلقة، فلما عرف قتادة أنهم ليسوا أصحابه قال ( إنما هؤلاء المعتزلة ) ثم قام عنهم.

وهذه الرواية التي توردها المصادر باختلاف يسير في ألفاظها، تفترض سبق اعتزال عمرو وأصحابه، لكنها لا تقدم لنا تفسيرا لهذا الاعتزال وهو ما نبحث عنه هنا.

ولنعد إلى قتادة، ولنفترض مع الرواية انه لم يستطع لعماه، ان يميز هؤلاء الجماعة شكلاً، أكان صعباً عليه أن يميزهم صوتاً(٣) وهم من أصحابه السابقين ومن الملازمين وإياه لمجلس الحسن فترة ليست بالقصيرة، وكيف قبلوا هم - ولم يكونوا مصابين بعاهة قتادة - أن يأتموا به لو أخطأ هو فأمهم، بعد ما بلغ الخلاف بينهم الحد الذي دفعهم إلى ترك المجلس واعتزاله.

ثم كيف نستطيع أن نقبل أن قتادة وهو يأتي كل يوم إلى مجلس الحسن في الجامع ويصلي فيه فلا يخطئ الذين يؤمهم، لماذا يخطئ هذه

____________________

(١) أنظر هذا الحوار في المنية والأمل ص٣٩ وطبقات المعتزلة ص٣٧ وأمالي المرتضى ج١ ص١٦٦ على إني أشك كثيرا فيما ورد على لسان واصل فيه من دعوى إجماع الفرق الإسلامية على تسمية صاحب الكبيرة بالفاسق، فما أظن واصلا بالذي يجهل مذهب الخوارج الذين يكفرونه، وهو نفسه يؤكد ذلك ويشير إليه في حواره المذكور وإذا جاز لبقاي الفرق الإسلامية ان تضيف اسم الفاسق الى مرتكب الكبيرة الذي يبقى في نظرها مؤمنا قد فسق بكبيرته، فلا يمكن ان يضيف الخوارج اسم الفاسق الى مرتكب الكبيرة الذي اصبح في رأيهم كافرا مخلدا في النار، فأية حاجة الى هذا الاسم الذي سيبقى بلا حكم والذي سيكون ضربا من العبث ما أبعد الخوارج المتشددين عنه، ولهذا فإذا صح ما ورد عن واصل في هذا الحوار فما أراه ورد إلا على سبيل التكثير ودعم الحجة ثم ان الشيعة - الإمامية منهم على الأقل - لا تسمي صاحب الكبيرة كافر نعمة فاسقا كما ذكر في حوار واصل وإنما تسميه مؤمنا فاسقا وما احسب واصلا يجهل ذلك، وهو ما يشككنا أكثر في صدوره عنه، أو ان واصلا لم يقصد فيه - كما قلت - الى غير التكثير فقط، وسيأتي رأي أهل السنة والامامية فيما بعد أما إذا كان المقصود بالشيعة، الزيدية أو فريقا منهم ممن يسمون مرتكب الكبيرة كافر نعمة فاسقا فيلاحظ أولا ان هؤلاء الزيدية لم يكونوا قد ظهروا كفرقة عند حوار واصل مع عمرو، فهذا الحوار جرى كما يتفق الناقلون عند اعتزال واصل وقبل انضمام عمرو إليه وذلك في بداية القرن الثاني الهجري أي قبل حوالي العشرين عاما من ثورة زيد واستشهاده وقبل قيام الزيدية كفرقة لها كيانها وآراؤها الخاصة بها في القضايا الإسلامية.

(٢) أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي عربي صليبة من سدوس من بكر بن وائل تابعي من كبار أصحاب الحسن البصري ضليع بأخبار العرب وآدابهم وأنسابهم كان أكمه (أعمى ) ولد عام ٦٠ أو ٦١ وتوفي بواسط عام ١١٣ أو ١١٧ أو ١١٨ باختلاف الروايات.

(٣) وفيات الأعيان ج٤ ص٨٥ في ترجمة قتادة بن دعامة ( فدخل مسجد البصرة فإذا بعمرو بين عبيد ونفر معه.وارتفعت أصواتهم.).

٢٥

المرة فلا يؤم إلا الذين اعتزلوه وتركوه، مع إن هؤلاء قد اتخذوا لهم مكاناً آخر غير مكانهم المعتاد في الجامع، بعد اعتزالهم حلقة الحسن فيه أتراه كان يأتي لأول مرة إلى الجامع ويصلي، أم أنه ضل مكانه، وهو الذي كان يدور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد كما يقول مترجموه ؟(١) وقبل ذلك يرد السؤال الأتي، من الذي كان إمام الصلاة في ذلك الوقت، أهو قتادة أم الحسن البصري ؟ والحديث كله يدور عن الاعتزال في زمن الحسن لا بعده. إننا لا نستطيع إلا أن نرفض هذه الرواية التي تبدأ من حيث انتهت الروايات الأخرى في التسمية، مضيفة إلى ركام الأسئلة التي واجهناها هناك، أسئلة جديدة أخرى هنا.

٤ - اعتزال قول الأمة:

أما عبد القاهر البغدادي(٢) فيقول في كتابه ( الفرق بين الفرق ) وهو يتحدث عن ( المعتزلة عن الحق ) كما يسميهم، أن التسمية جاءتهم من اعتزالهم ( قول الأمة بأسرها ) وهو يقصد طبعا ما يذهب إليه المعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة من أنه لا مؤمن ولا كافر بل في منزلة بينهما(٣) . ويبدو أن عبد القاهر يبعد كثيرا في اتجاهه ذاك مدفوعا بما عرف عنه من كره شديد للمخالفين من الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، حتى قال فيه الفخر الرازي ( وهذا الأستاذ - يعني البغدادي - كان شديد التعصب على المخالفين ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه )(٤)

____________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان ج٤ ص٨٥. (٢) أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي ولد ونشأ في بغداد وورد نيسابور مع أبيه وتوفي في أسفرايين فيما وراء النهر عام ٤٢٩ من كبار العلماء كان شديدا على المخالفين له في الرأي ألف في عدة فنون من تأليفه كتاب ( الفرق بين الفرق ) الذي ننقل عنه والذي يعتبر من المصادر المهمة في المذاهب والفرق الإسلامية وحيدثه هذا نجده في ص٦٧، ٦٨، ٧٠، ٧١ من كتابه المذكور. (٣) يخلط عبد القاهر بين اعتزال قول الأمة وبين اعتزال مجلس الحسن البصري فهو يقول في ص٦٨ ( ولأجل هذا - يعني قول المعتزلة في الفاسق - سماهم المسلمون المعتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها ) ولكنه يعود الى الرواية المشهورة عن اعتزال مجلس الحسن فيقرر في ص٧١ ( فلما سمع الحسن من واصل بدعته ههذ التي خالف بها أقوال الفرق قبله طرده من مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة.) ثم يعود بعد سطر واحد ليقول ( ان الاسم جاءها - يقصد واصلا وعمرو بن عبيد - من قول الناس فيهما ( انهما اعتزلا قول الأمة ) فهو يجمع في الاسم بين اعتزال قول الأمة وبين اعتزال مجلس الحسن وفي كل منهما اعتزال واعتزال قول الأمة لا ينفرد به البغدادي وإنما سبقه إليه الأشعري في كتابه ( اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ) بعناية الأب يوسف مكارثي المطبعة الكاثوليكية ١٩٥٢ ص٧٦ أما الأسفراييني فيجمع بين الاعتزاليين في التسمية حيث يقول في ص٦٤ من التبصير ( فاعتزل - يعني واصلا - جانبا مع اتباعه فسموا معتزلة لاعتزالهم مجلسه - مجلس الحسن البصري - واعتزالهم قول الأمة ) والحق ان الاسفراييني قلما رأيناه يخالف البغدادي فيما يخص عقائد الفرق والمذاهب الإسلامية ويقول أبو اليسر محمد بن محمد البزدوي في ص١٣١ من كتابه ( أصول الدين ) تحقيق الدكتور هانز بيتر لنس - دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي القاهرة ١٩٦٣ وهو يتحدث عن المعتزلة ( وهو قول - المعتزلة في مرتكب الكبيرة - بالمنزلة بين المنزلتين وبه سموا ( معتزلة ) اعتزلوا عن الناس أجمع بهذا القول ) وانظر أيضا ( الحور العين ) لنشوان بن سعيد الحميري تحقيق كمال مصطفى ١٩٧٣ ص٢٠٥ في أحد الأقوال التي يذكرها عن تسمية المعتزلة. والحق ان الصلة وثيقة بين اعتزال مجلس الحسن وبين اعتزال أقوال الأمة في أمر مرتكب الكبيرة ذلك ان اعتزال المجلس كان نتيجة للاعتزال الأول، أي اعتزال أقوال الأمة، ولذا فان الكثير من المؤرخين يخلطون او يجمعون بين الاعتزالين، قاصدين أو غير قاصدين، فتراهم يقولون خرج على أقوال الأمة أو اعتزلها ثم يضيفون ( اعتزل ) مجلس الحسن كنتيجة لذلك الاعتزال السابق.

(٤) نقلا عن مقدمة كتاب ( الفرق بين الفرق ) للبغدادي بقلم محققه العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري ص٦٠.

٢٦

وإذا كان التعصب يفسد الحكم ويمنع المتعصب من التزام جانب الحق فيما يتناول ويناقش ويروي، فما ظنك بمن كان شديد التعصب، عندما يتعرض لمخالفيه من المذاهب الأخرى، في مسائل بالغة الدقة والخطورة كمسائل العقيدة، وما ظنك إذا جاءت هذه التهمة - تهمة التعصب - لا من واحد من خصومه في الرأي ولا المخالفين له في المذهب، وإنما من أحد كبار علماء مذهبه وأجلائهم هو الفخر الرازي.

ومن هنا كانت أحكام البغدادي ظاهرة التعصب شديدة القسوة كحكمه على المعتزلة، بأنهم اعتزلوا قول الأمة بأسرها في قضية مرتكب الكبيرة، مع ان الأمة - وهو يعني المسلمين - لم تكن أبدا متفقة الرأي بشأن هذه القضية ليمكن الادعاء بعد، بان المعتزلة خالفوا قول الأمة وخرجوا على إجماعها.

فإذا كان البغدادي، وهو يمثل رأيا من آراء الأمة، يسمى صاحب الكبيرة مؤمنا فاسقا - وهو أيضا رأي الشيعة الإمامية فيه - وان فسقه بارتكابه الكبيرة ( لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام )(١) فان الخوارج في عمومهم يكفرونه(٢) والمرجئة يحكمون بصحة إيمانه(٣) والزيدية من الشيعة والأباضية من الخوارج يجعلونه كافراً كفر نعمة(٤) والحسن البصري وأصحابه يسمونه منافقاً(٥) وهذا ما يثبته البغدادي نفسه في أكثر من موضع من كتابه ( الفرق بين الفرق ) المشار إليه فأين هو الإجماع في هذه القضية ؟! أين هو ( قول الأمة بأسرها ) فيها، إلا إذا كان البغدادي ينكر

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص٧٠ و ٢١٢ وهذا هو رأي أهل السنة في مرتكب الكبيرة وانظر في ذلك أيضا الابانة عن أصول الديانة للاشعري مكتب تعز للنشر ببغداد ص١٠ و ٧٤ واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع للاشعري أيضا ص٧٥ ومقالات الإسلاميين له أيضا تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية ١٩٥٠ ج١ ص٣٢٢ وكذلك التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري ط أولى ١٩٤٠ ص١٠٦ والفصل في الملل والأهواء والنحل لأبن حزم ج٣ ص٢٧٤ وأصول الدين لأبي اليسر محمد ابن محمد بن عبد الكريم البزدوي ت ٤٩٣ تحقيق هانز بيتر ليتس القاهرة ١٩٦٣ ص٢٤٤ ومختصر شرح العقيدة الطحاوية اختصار وتخريج صلاح أحمد السامرائي مكتب التراث العربي ١٩٩٠ ص٧٥ وشرح النسفية للدكتور عبد الملك السعدي بغداد ١٩٨٨ ص١٤٩ و ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ) لفخر الدين الرازي ط أولى بالمطبعة الحسينية المصرية ص١٧٥ ولباب المحصل في أصول الدين لابن خلدون نشر الأب لوسيانو روبيو ج١ النص العربي ١٩٥٢ ص١٢٦. وهو أيضا رأي الشيعة الامامية كما يظهر من ( أوائل المقالات ) في المذاهب المختارات للشيخ المفيد ص٤٨ و ١٠٣ و ١٠٤ و ( شرح تجريد الاعتقاد ) للعلامة الحلي ص٢٧١ و ( الاعتقاد فيما يتعلق بالاعتقاد ) للشيخ الطوسي ص٢٣٣ مع تقييد التسمية فلا يقال هو مؤمن مطلقا أو هو فاسق مطلق ( لئلا يوهم ارتفاع أحدهما إذا أطلقنا الآخر ) وإنما يقال ( هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه فاسق بتركه ما يجب عليه من أفعال الجوارح ) و ( الشيعة بين المعتزلة والاشاعرة ) لهاشم معروف الحسني طبعة دار النشر للجامعيين ١٩٦٤ ص٢٦٤.

(٢) الفرق بين الفرق ص ٤٥، ٥٠، ٧٠ والابانة ص١٠ واللمع ص٧٦ ومقالات الإسلاميين ج١ ص١٥٧ والاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ وأمالي المرتضى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى الابي الحلبي وشركاه ١٩٥٤ ج١ ص١٦٥ وشرح تجريد الاعتقاد ص٢٧١ والملل والنحل ج١ ص١١٥ والتنبيه والرد ص٥١ وشرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة ص٧١٢ و٧١٣ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد مطبعة دار الكتب العربية الكبرى المجلد الثاني ص٣٠٧ وفيه ( ان الخوارج كلها تذهب الى تكفير أهل الكبائر ) و ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ) للفخر الرازي ص١٧٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأمام الحرمين الجويني ت ٤٧٨ تحقيق وتعليق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي في القاهرة ط ١٠٥٠ ص ٣٨٥.

(٣) مقالات الإسلاميين للاشعري ج١ ص١٩٧ وأوائل المقالات للمفيد ص٤٨ والتنبيه والرد للملطي ص٤٧ والفصل في الملل والأهواء=

٢٧

____________________

=والنحل لابن حزم ج٣ ص٢٧٣ وأمالي المرتضى ص١٦٥ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٧١ والفرق بين الفرق للبغدادي المشار إليه أعلاه ص١٢٢ والملل والنحل للشهرساني ج١ ص١٣٩ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط دار الكتب العربية الكبرى مصطفى البابي الحلبي المجلد الثاني ص٢٤٩ وفرق الشيعة للنوبختي ص٦ ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني تحرير وتصحيح الفريد جيوم ص٤٧١ وأصول الدين لأبي اليسر البزدوي تحقيق الدكتور هاتز بيتر لنس دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي - القاهرة ١٩٦٣ ص٢٥٢.

(٤) فيما يتعلق بالإباضية انظر الفصل لابن حزم ج٣ ص٢٧٣ والملل والنحل ص١٣٥ ومقالات الإسلاميين ج١ ص١٧٥ - ١٧٦ وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع - المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر ١٩٦٣ ص١١٣ ولم يعرض البغدادي لمقالتهم في أصحاب الكبائر وهو يتحدث عنهم الملطي في التنبيه والرد ص٥٥ انهم يكفرون الأمة دون ذكر للكبائر أو لكفر النعمة، وفي الحور العين للحميري ص١٧٣ ( قالوا - الإباضية - ان مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمشركين ) دون أن أي ذكر لا لكفر النعمة ولا لعموم الكفر.

أما الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ والعلامة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ص٢٧١ والمفيد في أوائل المقالات ص٤٨ فيتحدثون عن موقف الخوارج عموما من مرتكب الكبيرة دون التعرض لموقف الاباضية فيها، وهو ما نجده أيضا عند الفخر الرازي في محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص١٧٥، وان كان للمفيد هنا رأي يخالف فيه بقية المؤرخين اذ يقول ( وكثير من الخوارج في جمهورهم يكفرون أصحاب الكبائر والازارقة وهم أهم فرقهم يعتبرون مشركين.

وانظر أيضا رغبة الآمل من كتاب الكامل لسيد بن علي المرصفي ط أولى مطبعة النهضة بمصر ١٩٢٩ ج٧ ص٢٤٠ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأمام الحرمين الجويني ت ٤٧٨ تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨٥. وفيما يخص الزيدية يراجع شرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٧١ ومقالات الإسلاميين للاشعري ج١ ص١٤٠ ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للفخر الرازي ص١٧٥ أما الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ فيميز بين من كان من الزيدية على مذهب الناصر وهم يسمون أصحاب الكبائر كفار نعمة وبين غيرهم من الزيدية الذين يذهبون مذهب المعتزلة في هذه المسألة أما المرتضى في أماليه ج١ ص١٦٦ فلا يتحدث عن موقف الزيدية من مرتكب الكبيرة إلا في معرض تصحيحه لما أورده واصل في محاجته لعمرو بن عبيد في ان الشيعة تسمي مرتكب الكبيرة كافر نعمة فاسقا فقد عقب المرتضى بان واصلا يعني بالشيعة ( الزيدية ) ويبدو ان المرتضى قد فاته الصواب في تعليقه هذا فالزيدية لم يعرفوا بهذا الاسم ولم يصبحوا فرقة لها عقيدة ومذهب متميز إلا ابتداء من ثورة زيد عام ١٢٢ه- وكان واصل وعمرو بن عبيد قد أسسا مذهبهما في الاعتزال قبل ذاك بأكثر من عشر سنوات إذ أن الحسن البصري الذي انفصل عنه واصل أو عمرو أو واصل وعمرو توفي عام ١١٠ ه- وحتى لو قلنا ان الاعتزال حصل في زمن قتادة بن دعامة السدوسي فهذا توفي في ابعد التواريخ عام ١١٨ أي قبل ثورة زيد وقيام الزيدية ومن كل هذا يبدو واضحا ان موقف الزيدية من مرتكب الكبيرة جاء بعد الحوار الذي حصل بين واصل وعمرو لان قيام الزيدية كفرقة جاء بعد هذا الحوار. ولا يتعرض الشهرستاني لموقف الزيدية من مرتكب الكبيرة، ويقول البغدادي ص٢٥ من الفرق بين الفرق بان الزيدية يجمعون على القول بان أصحاب الكبائر من الأمة مخلدون في النار كالخوارج ولا أدري لماذا اختار البغدادي الخوارج دون المعتزلة الذين يخلدون هم أيضا مرتكب الكبيرة في النار مع إن الزيدية أقرب الى المعتزلة منهم الى الخوارج. ويذكر المفيد في ص٤٨ من أوائل المقالات ان الزيدية تفسق مرتكب الكبيرة وهو عندهم ليس بمؤمن ولا مسلم ولكن نفرا منهم يتفقون مع الإمامية والمرجئة وأصحاب الحديث في أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإسلام وانه مسلم وان كان فاسقا بما فعله من الكبائر والآثام.وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة ص٧١٤ ومنه يظهر أن الناصر من الزيدية وبعض الخوارج - دون تحديد لهم - يسمون مرتكب الكبيرة كافر نعمة ويتفق الشيخ محمد أبو زهرة في تأريخ المذاهب الإسلامية دار الفكر العربي ص٤٦ مع البغدادي في أن الزيدية يرون خلود مرتكب الكبيرة في النار لكنه يختلف عنه في أن أبا زهرة يرى أن الزيدية ينهجون في ذلك منهج المعتزلة بينما يشبههم البغدادي في أمر مرتكب الكبيرة بالخوارج كما رأينا.

(٥) سبق الحديث عن رأي الحسن في هذا الموضوع.

٢٨

أن تكون الفرق المخالفة الأخرى من الأمة ؟ لماذا إذن لا يسع المعتزلة ما وسع غيرهم في هذا الموضوع ؟!

إن رأي الأمة، كما عرضنا، ليس واحداً، بل هناك آراء للأمة تبدأ بالتكفير وتنتهي بتصحيح الإيمان بشكل مطلق فأي جديد أو بدعة في أن يكون للمعتزلة رأي يضاف إلى ما سبق من آراء في موضوع انقسمت فيه الأمة أصلاً وتباينت مواقفها منه ؟! وماذا في قولهم أن الفاسق من المسلمين - وهو ما يشترك فيه المعتزلة مع السنة والشيعة الإمامية، و الذي اختاره البغدادي نفسه لصحاب الكبيرة - هو في منزلة بين الإيمان والكفر ؟! لماذا يتسامح البغدادي مع أقوال الآخرين، على بعد ما بينها، ويستكثر على المعتزلة رأيا جديدا يرونه، بصرف النظر عن قوة هذا الرأي أو ضعفه ؟!

لقد اعتزل الخوارج أقوال الفرق الأخرى بتكفير مرتكب الكبيرة واعتزل المرجئة بتصحيح إيمانه، واعتزل الزيدية أو طائفة منهم بتكفيره كفر نعمة، واعتزل الحسن البصري وأصحابه بجعله منافقاً اعتزلت كل فرقة أقوال الفرق الأخرى في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، فلم يسم أولئك معتزلة لقولهم ولا هؤلاء معتزلة لرأيهم، فلماذا لزم هذا الاسم المعتزلة وحدهم وأصبح علماً دون غيرهم من الفرق والمذاهب ؟!

ثم إننا لو أخذنا بما يذهب إليه البغدادي، ألا يمكن أن يسري هذا على المسلمين عموما بالنسبة للأديان الأخرى، فيسمون معتزلة لاعتزالهم ما جاءت به اليهودية والنصرانية من أحكام وعقائد ؟

٢٩

ولو جاز أن يطلق على أية فرقة أو مذهب أو حزب اسمه من مخالفته واعتزاله آراء الآخرين، وهو ما يفترض بالضرورة، لأصبحت هذه التسمية علماً على ما لا يعلمه إلا الله من الفرق والمذاهب والأحزاب.

على أن البغدادي يخطئ من جهة أخرى حين يربط بين فتنة الأزارقة وبين رأي واصل في شأن مرتكب الكبيرة، وقد يكون من المفضل لإيضاح هذه النقطة أن أنقل نص ما ذكره البغدادي ( على الوجه ) لا كما يفعل هو مع خصومه.

يقول البغدادي في صفحة ٧١ من ( الفرق بين الفرق ) ( فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها(١) خرج واصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر وجعل الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.الخ ).

فإلى ما سبقت الإشارة إليه من عدم اتفاق الأمة على رأي واحد في أمر مرتكب الكبيرة خلافاً لما يذهب إليه البغدادي، يلاحظ أن الأزارقة كانوا قد ضعف أمرهم وتشتت كلمتهم وقتل زعمائهم قبل ولادة واصل بسنين(٢) .

فأين فتنة الأزارقة من واصل وجواب واصل أو بدعته كما يسميها البغدادي.

بل إن ربط مسألة الكبيرة أساساً بفتنة الأزارقة كما يوحي النص هو أمر لا يستند إلى حقيقة تاريخية، فحين جرد الأزارقة سيوفهم ثائرين يقتلون من يقتلون، لم يقصدوا مرتكب الكبيرة فقط ولم يريدوا إليه وحده

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص٧٠ ويلاحظ ان الوجوه التي ذكرها البغدادي في حكم مرتكب الكبيرة هي ستة لا خمسة إلا اذا اعتبرنا رأي الازارقة والصفرية من الخوارج واحدا بعد ترك اختلافهم في الأطفال.

(٢) قتل نافع بن الازرق رأس الازارقة عام ٦٥ وعبيدة بن هلال من كبار زعمائهم عام ٧٧ وقطري بن الفجاءة ( أو نعامة ) أكبر زعمائهم بعد نافع عام ٧٨ وعبد ربه الصغير قبل عبيدة وقطري وكانت الخلافات قد فرقتهم ومزقت شملهم خلال ذاك وهذا يعني أن خطرهم قد انحسر أو ضعف ولم يعودوا يمثلون خطرا جادا بعد كل الذي حصل لهم وقبل ولادة واصل بسنين كما ذكرنا.

٣٠

ولم يميزوا بينه وبين سواه، وإنما كانوا يعتبرون جميع المسلمين غيرهم مشركين، من ارتكب أو من لم يرتكب كبيرة منهم وهذا ما أكده البغدادي نفسه بقوله عنهم ( والذي جمعهم - يعني الأزارقة - من الدين أشياء منها قولهم بان مخالفيهم من هذه الأمة مشركون )(١) .

فحروب الأزارقة كانت أكبر من ( الكبيرة ) التي لم يعرفوها كاصطلاح ديني ولم ترد في خطاباتهم ولا في كتبهم لبعضهم أو للمخالفين لهم.

لقد خاض الأزارقة حروبا طويلة سالت فيها دماؤهم ودماء خصومهم، وما كان أهونها وأيسر شأنها لو اقتصرت على مرتكبي الكبائر وحدهم.

ليس بإمكاني إذن أن آخذ بالرأي يسوقه البغدادي كسبب للتسمية لا لأنه صادر عن عدو للمعتزلة، وهذا ما يجعلني أشك فيه، بل لأنه يتعارض مع حقائق التاريخ وهذا ما يدفعني إلى رفضه.

٥ - رأي نللينو:

في بحث طويل عن المعتزلة(٢) حشرت فيه الوقائع والأسماء والمعلومات، واختلطت الأقوال بشكل لا يسمح لك في غير عنت شديد ان تبلغ ما قصده صاحبه منه، يتوصل كارلو نللينو إلى بعض النتائج التي يمكن إجمالها فيما يأتي:

١- أن تسمية المعتزلة لم تطلق للدلالة على إنهم انفصلوا عن أهل السنة، ولكنها ترتبط بموقفهم الوسط بين أهل السنة والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة.

____________________

(١) لا يكتفي الازارقة باعتبار مخالفيهم من الأمة مشركين بل انهم يعتبرون حتى القعدة منهم كذلك وهو ما يذكره البغدادي حين يشير الى ما اجمع عليه الازارقة في ص٥٠ من كتابه ( الفرق بين الفرق ) وما يؤكده الشهرستاني في ص١٢١ من ج١ من الملل والنحل حين يذكر عنهم انهم يكفرون مخالفيهم من المسلمين وحتى القعدة من نحلتهم وهو أيضا ما تجده لدى الاشعري في مقالات الإسلاميين ج١ ص١٥٨ - ١٥٩ وكذلك ما يظهر من رغبة الامل من كتاب الكامل ص٢٣٢ ج٧.

(٢) نشر هذا البحث مترجما الى العربية بقلم الدكتور عبد الرحمن بدوي في ( التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ) ط رابعة نشر وكالة المطبوعات بالكويت ودار القلم ببيروت ١٩٨٠ ص١٧٣ وما بعدها تحت عنوان ( بحوث في المعتزلة ).

وكارلو الفونسو نللينو إيطالي من كبار المستشرقين ولد في تورينو بإيطاليا ١٨٧٢ وتوفي في روما ١٩٣٨ عضو الأكاديمية الإيطالية تولى الإشراف على مجلة الدراسة الشرقية منذ عام ١٩١٥ واشغل كرسي تاريخ الإسلام ونظمه منذ ١٩١٥ في جامعة روما درس في الجامعة المصرية تاريخ الفلك عند العرب ١٩٠٩ - ١٩١٠ ثم تاريخ الأدب العربي بعد ذاك له بحوث ومقالات كثيرة منها هذا البحث المتعلق بأصل تسمية المعتزلة باختصار عن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية المشار إليه أعلاه بقلم الدكتور عبد الرحمن بدوي وج٦ من الأعلام للزركلي.

٣١

٢- وإنهم هم الذين سموا أنفسهم معتزلة.

٣- وإنهم - يقصد الفرقة الكلامية الإسلامية - امتداد للمعتزلة السابقين أي الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه فلم يشاركوا فيه ولم ينضموا لأحد طرفيه.

هذه هي النتائج التي انتهى إليها نللينو في بحثه المذكور عن المعتزلة فكيف توصل إليها وما هي القيمة العلمية لها ؟

يمهد نللينو لذلك بالحديث عن اختلاف المسلمين في مسألة مرتكب الكبيرة والآثار التي ترتبت عليه، ثم يشير إلى خروج واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد برأي وسط بين أهل السنة وبين الخوارج فيها.

وهذا ما سبق إليه المؤرخون المسلمون وتناوله غالبية الذين كتبوا في العقائد والفرق منهم، فليس لنللينو فيه رأي جديد إلا ما نلاحظه من عدم الدقة في النقل عن هؤلاء حين يقول (.أن المؤلفين العرب على اختلاف آرائهم في أصل تسمية المعتزلة ومعناها الأول يكاد يتفقون على ان الخلاف بين أهل السنة وبين مؤسسي مذهب المعتزلة ( واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ) إنما نشأ حين احتدم النزاع واشتدت الخصومة بين متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة حول مسألة مرتكب الكبيرة.).

وهذا الكلام لا يبدو دقيقا، فإذا كان المؤلفون العرب يكاد يتفقون - كما يقول - على ان الخلاف نشأ بسبب الموقف من مرتكب الكبيرة، فإنهم لم يقولوا أبداً أن هذا الخلاف نشأ حين احتدم النزاع بين ( متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة ) حول هذه المسألة، وإنما كانوا يقولون أن المسلمين

٣٢

كانوا فيها على أقوال فخرج واصل برأي خالف فيه - وليس وسطا - جميع الأقوال السابقة حين قرر أن مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، لكنه في منزلة بين منزلتيهما.

هذا أو في معناه ما يقوله المؤلفون العرب عند تناولهم لهذه المسألة(١) وفرق كبير بين القولين، فهؤلاء المؤلفون لم يصفوا موقف واصل بالوسط ولم يشيروا إلى الكلام والمتكلمين والخلاف بينهم، لسبب بسيط هو ان الكلام، بمعناه الاصطلاحي، لم يكن قد نشأ بعد في ذلك الوقت - قبل واصل أو قبل اعتزاله - وبالتالي فان الحديث عن الخلاف بين متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة حديث لا يستند إلى أساس مقبول، فضلاً عن إننا لا نعرف شيئا عمن أسماهم نللينو بمتكلمي الخوارج، وأظنه لا يعرف، فالخوارج لم يكن لديهم متكلمون، لأنهم لم يكونوا في حاجة إليهم وقد جعلوا ( الكلام ) للسيف في نزاعهم مع مخالفيهم خلال المرحلة التي يتناولها البحث.

ثم يستمر نللينو بعد ذاك فيقول أن واصلاً وعمراً قد اعتزلا أهل السنة في مسألة مرتكب الكبيرة حين ( وقفا موقفا وسطا شبه حياد بين الرأيين المتعارضين: رأي الخوارج ورأي أهل السنة، وقالا أن الفاسق أو صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وكانت نتيجة هذا الموقف الوسط في هذه المسألة الدينية، الحياد في النزاع السياسي الذي كان على أشده بين الفريقين المتنازعين ).

____________________

(١)هذا ما يقوله المرتضى في أماليه ج١ ص١٦٥ وما نجده في الفرق بين الفرق ص٧٠ وأوائل المقالات للمفيد ص٣٦ واللمع للاشعري ص٧٦ ومعجم البلدان لياقوت الرومي ج١٩ ص٢٤٦.

٣٣

وأظن نللينو يقصد بالفريقين المتنازعين، أهل السنة والخوارج، وهنا ألاحظ أيضا أن النزاع لم يكن في يوم ما بين الخوارج كفريق، وبين أهل السنة وحدهم كفريق آخر، وإنما بين الخوارج وبين عموم المسلمين المخالفين لهم في العقيدة، لا فرق بين أن يكونوا من أهل السنة أو من غيرهم كما أن المعتزلة لم يكونوا أصحاب ثقل سياسي حينذاك يمكن أن يحسب أو يؤثر في هذا النزاع، فيقال إنهم كانوا محايدين فيه، وأغلب الظن إنهم لم يكونوا قد وجدوا بعد.

ثم ألاحظ ثانياً أن الموقف الوسط للمعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة الدينية، لم يمنع عددا كبيرا من زعمائهم من اتخاذ موقف آخر ( غير وسط ) من الصراع السياسي بين علي وبين خصومه(١) .

ويمضي نللينو في بحثه فينتقد غالبية المؤلفين العرب لاتخاذهم لفظ ( معتزل ) بمعنى منشق واعتبار المعتزلة فرقة منشقة على أهل السنة.

ولكي يعزز رأيه في كل ما بلغه من نتائج وما تبناه من أفكار، فاته يلجأ إلى فقرتين للمسعودي يحملهما كل ما أراده هو من ذلك، وكأن أحدا لم يعرفهما قبله وسأسوق نص الفقرتين تمهيدا لمناقشة نللينو فيهما.

تقول الأولى ( ومات واصل بن عطاء ويكنى بأبي حذيفة في سنة إحدى وثلاثين ومائة وهو شيخ المعتزلة وقديمها وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سميت المعتزلة وهو الاعتدال ).

____________________

(١) فمن المعتزلة من كان منحرفا عن علي الى حد تفسيقه وتخليده في النار كما مر بنا ومنهم من كان يفضل عليا على جميع الناس بعد محمد كمعتزلة بغداد بصفة عامة.

٣٤

وتقول الثانية ( وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين - وهو الأصل الرابع - فهو ان الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر بل يسمى فاسقا على حسب ما ورد التوقيف بتسميته واجمع أهل الصلاة على فسوقه قال المسعودي وبهذا الباب سميت المعتزلة وهو الاعتزال.الخ )(١) .

وقبل أن أناقش نللينو في فهمه للفقرتين، وفي النتائج التي رتبها عليها، أجد من المناسب أن أثبت أيضا نص ما قاله نللينو كما أثبت نص ما قاله المسعودي في فقرتيه لتكون المناقشة، في ضوء النص ومع وجوده أقرب إلى الحق والعدل، برغم ما أثقل به على القارئ من تطويل، عذري فيه هو ما أشرت إليه الآن من توخي الحق والعدل فيما كتبت.

يقول نللينو ( ومن هذا - يقصد فقرتي المسعودي - ينتج أن اسم المعتزلة لم يطلق على الذين قاموا بإنشاء المدرسة الكلامية الجديدة، للدلالة على انهم انفصلوا عن أهل السنة وتركوا مشايخهم القدماء ورفقاءهم، وإنما أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين بين طرفي رجال الدين والسياسة في وقت ما، ممتنعين هكذا عن الخصومات والمنازعات القائمة بين المسلمين وإلى جانب ذلك يرى - يعني المسعودي - ان اسم المعتزلة لم يطلقه عليهم أهل السنة، وإنما اختاره المعتزلة أنفسهم للدلالة على موقفهم الخاص في هذه المسألة(٢) وهو موقف وصفه نللينو ب- ( الوسط ) حين كان يمهد لفقرتي المسعودي قائلا ( فقد وجد مع ذلك كتاب يربطون اسم المعتزلة بوقوفهم ذلك الموقف الذي أشرنا إليه آنفاً ( وسطا ) بين أهل السنة والخوارج )(٣) .

____________________

(١) تجد نص الفقرة الأولى في مروج الذهب للمسعودي نشر دار الأندلس ببيروت ١٩٨١ ط رابعة ج ٤ ص٢٢ والثانية ج٣ ص ٢٢٢.

(٢) سيأتي ردنا على هذا الرأي فيما بعد.

(٣) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ص١٨١.

٣٥

نللينو إذن يرى أن تسمية المعتزلة لا تعني انفصالهم عن أهل السنة: مشايخهم القدماء، وإنما ترتبط بموقفهم الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة وحيادهم بين طرفي رجال الدين والسياسة فما هو الانفصال في نظر نللينو ؟ ! كيف يسمي شخصا أو جماعة تركوا مذهبهم السابق واعتزلوا مشايخهم ورفاقهم، بعد خلاف معهم في مسألة ما، ليستقلوا عنهم ويؤسسوا مذهبا جديدا يقوم على إنكار ما يدين به شيوخهم القدماء ويسفه آراءهم ويهاجمهم ويتهمهم كأعنف ما يكون الهجوم وأقسى ما يكون الاتهام ؟!

ماذا يعني الانفصال غير هذا أو ما هو دونه ؟! كيف فهم نللينو أن الاعتزال هنا لا يعني الانفصال عن أهل السنة، وهو نفسه يقول عن هؤلاء: انهم مشايخ المعتزلة ورفاقهم السابقون وان اعتزال المعتزلة لهم كان بسبب الموقف من مرتكب الكبيرة والخلاف بشأنه !

صحيح إن الاعتزال لا يعني دائما الانفصال والانشقاق، لكن هذا يصدق عندما يكون هناك استقلال فكري سابق أو مذهب قائم، ثم جاء الاعتزال في مسألة ما كنتيجة لهذا الاستقلال وأثر من آثاره ألا ترى انك لا تستطيع أن تسمي الخوارج منفصلين أو منشقين على أهل السنة في مسألة مرتكب الكبيرة، لما كانوا يؤلفون في الأصل فرقة مستقلة ومذهباً خاصاً، له رأيه في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل.

ولكنك على العكس، تقول عن الأشعري مثلاً: أنه انفصل أو انشق على المعتزلة، إذ كان في السابق منهم ومن مذهبهم.

٣٦

هذا عن معنى الاعتزال عند نللينو وعند عدد ممن يشاركونه هذا الرأي يبقى قول نللينو عن اسم المعتزلة بأنه ( أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين.ممتنعين هكذا عن الخصومات والمنازعات القائمة بين المسلمين.).

فهل هناك من مذهب إسلامي أثار من الخصومات والمنازعات ما أثاره المعتزلة ؟!

أما رأي نللينو في الربط بين اسم المعتزلة وبين موقفهم الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة وحيادهم بين طرفي رجال الدين والسياسة، فنرى أن الرجل قد فاته الصواب هنا كما فاته هناك، فالاعتزال لا يرتبط بالموقف الوسط ولا يستمد اسمه منه، بل بالموقف الخاص المستقل وسطا كان هذا الموقف أم غير وسط أترى لو أن الخوارج مثلا كانوا قد التزموا الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة ثم جاء المعتزلة فابتعدوا عن أهل السنة وعن الخوارج في الوقت نفسه واتخذوا لهم موقفا طرفا بالنسبة للموقفين، كأن كفروا مرتكب الكبيرة بدلاً من الخوارج، أكانت تسميتهم تختلف ؟ ألا يكونون قد اعتزلوا المواقف والآراء السابقة وتبنوا رأيا مغايرا خاصا في مرتكب الكبيرة وان كان متطرفاً.

فالاعتزال إذن لا يرتبط بموضع هذا الرأي بين الآراء وإنما باستقلاله بينها، وهو ما لم يدركه نللينو.

إن مشكلة نللينو تأتي من فهمه الاعتزال على انه الوسط ( بين ) وهو ما تمسك به وثبت عنده، ونضيف إلى ذلك ان الخلاف في مرتكب الكبيرة لم

٣٧

يكن في الواقع محصورا بين رأيين فقط لتصح ( البينية ) وإنما كانت هناك آراء كثيرة مطروحة عددنا منها خمسة أو ستة كما أذكر عند ردنا على البغدادي.

ملاحظة أخرى أرى من الضروري أن أشير إليها هنا، فنللينو وهو يتكلم عن الربط بين اسم المعتزلة وبين موقفهم في مسألة مرتكب الكبيرة يقول: انه ( أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين بين طرفي رجال الدين والسياسة ) ولا أدري ما الذي يعنيه نللينو بطرفي رجال الدين والسياسة، وحديثه كله كان عن مرتكب الكبيرة ومكانه بين المؤمن والكافر، والخلاف في ذلك بين أهل السنة وبين الخوارج، أو كما يقول بين ( متكلمي ) أهل السنة والخوارج فما الذي نقل هذا الخلاف وجعله هذه المرة بين رجال الدين والسياسة، ومن هم رجال الدين في نظره أهم أهل السنة أم الخوارج.

وأنتقل إلى القضية الأخرى التي أثارها نللينو، وهي أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم كذلك، ولأني عالجت هذه القضية بتفصيل واف في مكانها من هذا الكتاب فسأكتفي بذاك واحيل عليه(١) لأعود الآن إلى السؤال الذي بدأت به نقاشي لنللينو، وهو كيف فهم كلام المسعودي، بما رتب عليه النتائج التي وصل إليها ؟ كيف فهم فقرتيه على أنهما تعنيان أن اسم المعتزلة لم يطلق للدلالة على انفصالهم عن أهل السنة بل للدلالة على موقفهم الوسط، ثم كيف فهمهما على أنهما تعنيان ان المعتزلة هم الذين اختاروا هذا الاسم ؟!

____________________

(١) انظر هذا فيما بعد.

٣٨

هل في الأولى منهما غير ( ومات واصل وهو شيخ المعتزلة وقديمها وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سميت المعتزلة وهو الاعتدال ).

وهل في الثانية غير العبارات نفسها مكررة تقريبا مع بعض التقديم والتأخير.

أننا والحمد لله ما نزال نقرأ العربية فنفهمها، نقرأها في المسعودي، ونقرأها في غير المسعودي، وما أظن المسعودي كتب فقرتيه بلغة غير ما يكتب الآخرون من المؤلفين العرب الذين نقرأ لهم فنفهمهم فهل في عبارته ( وبه سميت المعتزلة وهو الاعتزال ) ما يسمح لنللينو ب- ( ومن هذا ينتج.) مرتبا كل النتائج التي لا يحتملها كلام المسعودي والتي أرادها نللينو نفسه فأخطأ الطريق إليها وماذا سيفهم نللينو لو كانت العبارة ( وبه سمى المعتزلة أنفسهم ) أو في أضعف الفروض ( وبه استحق المعتزلة اسمهم ).

وأصل الآن القضية الأخيرة التي أثارها نللينو، وهي محاولة الربط بين المعتزلة - الفرقة الكلامية المعروفة - وبين المعتزلة السابقين الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه، وهو رأي سبق إليه الكثيرون ممن كتبوا في الفرق والعقائد من المسلمين قبل نللينو بقرون منهم في سبيل المثال الحسن بن موسى النوبختي المتوفي عام ٣١٠(١) والملطي الذي أشرنا إليه آنفا والمتوفى عام ٣٧٧(٢) وثانيهما وأن ربط الاعتزال بمبايعة الحسن لمعاوية والصلح معه، لا بالصراع بين علي وبين خصومه ،

____________________

(١) كتابه ( فرق الشيعة ) ص٥.

(٢) كتابه ( التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ) ص٤١.

٣٩

إلا أن الذين اعتزلوا ولزموا منازلهم ومساجدهم بعد المبايعة والصلح كانوا أصلا من أصحاب على كما يقول الملطي فاعتزالهم مرتبط إذن بالصراع ضد خصوم علي وبالفشل في هذا الصراع، وعلى كل فهو اعتزال سياسي.

وإذا كان نللينو قد تبنى هذا الرأي، فانه لم يحسن عرضه ولا تأييده، فهو يبدأ بالكلام عن اسم المعتزلة الذي (اختاره المعتزلة أنفسهم للدلالة على موقفهم الخاص في هذه المسألة ) مسألة مرتكب الكبيرة الدينية كما يسميها، ثم يستشهد بابن منظور صاحب لسان العرب(١) ومن تبعه من اللغويين في قوله ( وقوم من القدرية يلقبون المعتزلة زعموا أنهم اعتزلوا فئتي الضلالة عندهم يعنون أهل السنة والجماعة والخوارج الذين يستعرضون الناس قتلا ) ولا ادري هل يريد نللينو بالاستشهاد بابن منظور إثبات أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم كذلك أم إثبات أنهم امتداد للمعتزلة الأولين.

وعلى كل، فيلاحظ أولا أن ابن منظور لم يكن صاحب تاريخ وعقائد ليحتج بقوله هنا، وإنما هو صاحب لغة لا يتناول المادة التاريخية إلا بقدر ارتباطها بالجانب اللغوي الذي يمثل الأساس في كتابه، وإلا فان ربط اسم المعتزلة باعتزال فئتي الضلالة: أهل السنة والخوارج، لم يقل به أحد عند قيام المعتزلة وتأسيس مذهبهم، حتى المعتزلة أنفسهم، فقد انحصرت مقالتهم إبتداء من مؤسس المذهب واصل بن عطاء، بأنهم تركوا المختلف

____________________

(١) محمد بن مكرم بن علي الأنصاري اللغوي المعروف صاحب المؤلفات الكثيرة في اللغة والأدب وأشهر كتبه في اللغة ( لسان العرب ) الذي يذكره نللينو ولد عام ٦٣٠ وتوفي في مصر عام ٧١١.

٤٠

فيه وأخذوا بالمجمع عليه في تسمية مرتكب الكبيرة، دون أي ذكر أو حديث عن فئتي الضلالة.

وابن منظور بعد، متأخر من حيث الزمان فقد عاش بين القرنين السابع والثامن الهجري، فهو لم يتصل بالأحداث من طريق مباشر ولا من طريق قريب كالذين سبقوه، في ما يخص المادة التاريخية التي تضمنها كتابه.

كما ألاحظ أيضا أن ابن منظور قد ساق عبارته بصيغة ضعيفة كأنه لا يريد أن يحمل عليه ما يقوله هؤلاء الذين ( يلقبون ) المعتزلة والذين زعموا.

يضاف إلى كل ذلك، أن ابن منظور يتحدث عن موقف سياسي بين أهل السنة وبين الخوارج ويربط تسمية المعتزلة به كما يبدو من عبارته.

( ففي الضلالة.والذي يستعرضون الناس قتلاً ) فاستشهاد نللينو به، بعد ما ربط الاعتزال بسبب ديني يخص الخلاف في قضية مرتكب الكبيرة الدينية، هو استشهاد غير موفق ولا مقبول.

ويستمر نللينو مضيفاً ( ثم ان قول المسعودي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني والسياسي الذي وقفه واصل بن عطاء بازاء من اشتركوا في الحروب الدينية في القرن الأول بين أنصار علي وأنصار عثمان.الخ ).

ونعود مضطرين إلى النقطة التي انتهينا منها ونسأل مرة أخرى، ما هو قول المسعودي، هذا الذي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني

٤١

والسياسي الذي وقفه واصل ؟ ان المسعودي كما رأينا لم يقل في فقرتيه شيئا يتصل بالموقف السياسي لواصل ولم يعرض له، وإنما تحدث عن الفاسق الذي هو في منزلة بين المنزلتين والذي سميت به المعتزلة، كما تحدث الكثيرون غيره قبله وبعده.

ويمضي نللينو قائلا ( ويؤيد هذا كله ما كان بين نشأة الاعتزال وبين الأحزاب السياسية في العصر الأموي من صلة وثيقة ).

فهل قامت فرقة أو مذهب من فراغ أو عدم ؟ وهل نشأ حزب، وهو مقطوع الصلة بأحداث وأفكار عصره تأييداً أو رفضاً، اتفاقاً أو اختلافاً ؟! هل حدثنا التاريخ عن حركة من هذا النوع، بل هل يمكن أن تقوم ؟ ولنأخذ الحركات والفرق والمذاهب الإسلامية فهل شذت حركة أو فرقة أو مذهب عن هذه القاعدة ؟ هل كان الشيعة سيوجدون لو لا علي وأفضليته عندهم وخلافه مع من خالفه ؟ وهل خرج الخوارج لولا القتال وصفين والتحكيم ؟! فأين اختصاص المعتزلة في أن تكون نشأتهم ذات صلة وثيقة بالأحزاب السياسية في العصر الأموي ؟!

أما إذا كان يقصد ب- ( الصلة الوثيقة ) قوة الرابطة وحسن العلاقة التي كانت تشد المعتزلة إلى الحركات والأحزاب السياسية في عصرهم فهذا هو الخطأ الكبير الذي أوقع نللينو نفسه فيه، فإذا كان المعتزلة على خلاف مع الشيعة، بسبب موقفهم من علي أو من إمامته وهو أمر معروف، وعلى خلاف مع أهل السنة والخوارج، كما هو قول نللينو نفسه، الذي مر بنا قبل

٤٢

قليل فماذا بقي من الحركات والأحزاب السياسية التي كان المعتزلة على ( صلة وثيقة ) بهم ؟!

لعلي أرهقتك بطول الحديث عن بحث نللينو، وأحسبك ضقت به كما ضقت به أنا قبلك، ولكن ماذا أعمل إذا كان نللينو لا يريد ان يتركني ويتركك أنظر إليه وهو يحاول إثبات أن المعتزلة الكلاميين يمثلون امتداداً للمعتزلة السياسيين السابقين، كيف يطوف على المؤلفين ابتداءً من الطبري وانتهاء بابي الفداء، مستعرضا بعض الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه ولا ينسى أن يمر بمحمد بن عبد الله النفس الزكية لينتهي إلى القول ( فعندما إذن الدليل الحاسم على لفظ ( معتزل ) بهذا المعنى السياسي طوال هذا الزمن الذي عاش فيه مؤسسا مذهب المعتزلة).

هل تستطيع وأنت تقرأ هذا دون أن تتساءل كما تساءلت، وماذا في أن يكون الاعتزال بمعناه السياسي قد عرف في زمان واصل وعمرو، وهو لا بد أن يكون معروفا في زمانهما، وقد جرت الأحداث التي دفعت إليه في فترة ليست بعيدة عنهما ؟! أية قرينة في ذاك، وأي دليل على صلة المعتزلة الكلاميين بالمعتزلة السياسيين ؟ وهل كان نللينو في حاجة إلى كل هذا، ليثبت ما لم ينكره أحد ولم يشك فيه أحد، وهو أن الاعتزال بمعناه السياسي كان موجودا في زمان واصل وعمرو بن عبيد وقبلهما.

ولنترك هذا فما علاقة محمد النفس الزكية بالمعتزلة السياسيين ؟

أن ألا النفس الزكية لم ين طبعا من المعتزلة السياسيين، وهو قد عاش وقتل في القرن الثاني للهجرة، فهل يظن نللينو أن النفس الزكية كان

٤٣

في فكره واتجاهه السياسي والمذهبي، امتداداً لهؤلاء المعتزلة الذين أقل ما يوصفون به أنهم لم يكونوا من الذين يفضلون عليا أو يميلون إلى جانبه و إلا لما اعتزلوه في صراعه مع خصومه، وهو لم يقم بثورته ولم يتبعه التابعون فيها إلا على أساس حق أهل البيت من أبناء علي في خلافة المسلمين ورفع الظلم عنهم(١) .

أن المعتزلة الذين يرد ذكرهم في نص الطبري الذي استشهد به نللينو(٢) هم المعتزلة الكلاميين من أصحاب واصل بن عطاء، لا المعتزلة السياسيون لقد شارك أولئك كما يذكر الطبري في الاجتماع الذي تمت فيه بيعة النفس الزكية أواخر الحكم الأموي، وكان من بين المشاركين فيه أبو جعفر المنصور الذي ثار عليه محمد عام ١٤٥.

أما الذين اعتزلوا الصراع أو المعتزلة للقتال كما يسميهم الشريف المرتضى(٣) فلم يبق منهم أحد على عهد محمد ليبايع أو لينكث، ويكون موضع استشهاد محمد، فالاعتزال المشار إليه في نص الطبري لا يتضمن المعنى السياسي الذي تصوره نللينو وهو يكتب تاريخا لا يعرفه التاريخ.

٦ - رأي احمد أمين:

وللأستاذ احمد أمين رأي أو ( فرض ) في تسمية المعتزلة قال أنه لفته إليه ( ما قرأناه في خطط المقريزي(٤) من أن بين الفرق اليهودية ( التي كانت منتشرة في ذلك العهد وقبله ) الطائفة يقال لها، الفروشيم وقال أن معناها المعتزلة ( ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) وقد أكدت هذا المعنى المعاجم اللغوية الحديثة فقد

____________________

(١) ستأتي مناقشتنا لهذا النص في الفصل الثالث من الكتاب عند الحديث عن ثورة النفس الزكية.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمرتضى ط النجف ١٣٥٥ ج٢ ص٢٧.

(٣) تقي الدين احمد بن علي المقريزي مؤرخ الديار المصرية ولد في القاهرة ٧٦٦ وتوفي ٨٤٥، له مؤلفات كثيرة خصوصا في التاريخ منها ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) المعروف بخطط المقريزي وهو الذي ينقل عنه هنا احمد أمين.

(٤) وضعنا كلام المقريزي بين قوسين مفردين تمييزا له عن كلام احمد أمين الذي جعلناه بين قوسين مزدوجين.

٤٤

ذكرت أن معنى اللفظ الفروشيم PHARISEES و SEPARATED و وهو ينطبق على المعنى الذي تؤديه كلمة معتزلة ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنهاكانت تتكلم بالقدر ليس كل الأفعال خلقها الله ) فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه في القول بالقدر ونحو ذلك ).

هذا هو نص ما ورد في ص ٣٤٤، ٣٤٥ من فجر الإسلام بعضه للمقريزي وبعضه لأحمد أمين(١) .

وهذا الرأي أو الفرض فيه من التكلف والضعف بقدر ما فيه من البعد عن الروح العلمي الرصين فلماذا يلجأ احمد أمين في التفتيش عن أسم المعتزلة إلى ( قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه ) والاعتزال موجود كاسم وموجود كموقف ورأي قبل واصل مع المعتزلة السياسيين ومع واصل وعمرو في مرتكب الكبيرة والمعتزلة الكلاميين.

ثم أن اليهود كانوا يعيشون مع العرب منذ أقدم العهود، قبل الإسلام وبعده، يتكلمون لغتهم ويحيون حياتهم، فليست بهم حاجة لانتظار من يسلم منهم ليطلق هذه التسمية على المعتزلة أكان هناك ما يمنع اليهودي قبل إسلامه من الإطلاع على مذاهب المسلمين ومنها المعتزلة وإطلاق التسمية التي يراها أنسب وأكثر ملاءمة لما يعتقدون.

أما أن الفروشيم كانت تتكلم في القدر كما تكلمت المعتزلة وهو ما دعا أحمد أمين إلى رأيه أو فرضه فليس فيه - حتى مع التسليم بصحته - دليل على ما أراده منه إذ يكفي أن احمد أمين نفسه، وهو يمهد للحديث

____________________

(١) أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني من أبناء الفرس الذي بعث بهم كسرى الى اليمن لطرد الحبشة منها مؤرخ صاحب أخبار وقصص ومعرفة بأساطير الأولين سيما الإسرائيليات ولد في صنعاء عام ٣٤ وتوفي فيها عام ١١٠ أو ١١٤ أو بعدها.

٤٥

عن المعتزلة في الفصل الرابع المخصص لهم من فجر الإسلام يقول ( يدلنا تأريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار.).

فإذا كانت التسمية قد جاءت من الشبه في أن المعتزلى تكلموا في القدر كما تكلم الفروشيم فإن الناس قبل الفروشيم وبعد المعتزلة لم يكفوا يوما عن الحديث في القدر، مذاهب وأشخاصاً وسيبقون كذلك ما بقي للإنسان نشاط أو ما بقي الإنسان.

ثم أن القول بالقدر والكلام فيه كان أسبق في الوجود من المعتزلة حتى بين المسلمين لقد تكلم في القدر قبلهم عدد كبير كانوا يعرفون بالقدرية ولم يعرفوا بغيره على خلاف المعتزلة الذين كانت بدايتهم مع المنزلة بين المنزلتين ومنها جاءت تسميتهم، أما القدر فقد تكلموا فيه كما تكلموا في غيره ولكن ليس على وجه الاختصاص إذ شاركهم فيه من لم يكن معتزليا ومن سبق الاعتزال في الوجود.

ونصل إلى ابن منبه الذي يريد احمد أمين أن يجد في ذكر اسمه من قبل المقريزي ما يؤيد رأيه فحتى لو وافقناه على انه وهب بن منبه(١) الذي كان ممن أسلم من يهود صنعاء فليس في ما أورده المقريزي عنه ما يعزز الرأي الذي يذهب إليه احمد أمين، بل على العكس، ما يهد هذا الرأي ويهدمه من أساسه فلنستمع إلى المقريزي وهو يقول ( قال ابن منبة: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن - يعني الحسن البصري - فسمعوا المعتزلة ) فهل في هذا غير ما يقوله غالبية الرواة المسلمين في

____________________

(١) سبق ان عرضنا لمواقف المسلمين واختلافها من مرتكب الكبيرة.

٤٦

تسمية المعتزلة كما مر بنا ؟ هل فيه ما يشير ولو من بعيد إلى سبب آخر للتسمية، سبب يتصل بالفروشيم و ( يقول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) ؟!

ثم ماذا تفهم من عبارة احمد أمين ( المعاجم اللغوية الحديثة ) الواردة في بداية هذا البحث ؟ فهل تعني ان المعاجم اللغوية القديمة - المعاصرة أو القريبة من الفروشيم، لم تكن تطلق على هذه الطائفة اسم المعتزلة ولم تعرفها به، وان المعاجم الحديثة - البعيدة عن عصرهم - وحدها هي التي ألصقت هذا الاسم وأضافته إليهم.

ولماذا هذا ( البعض ) في ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنها كانت تتكلم بالقدر.) ألم يكن هذا الذي تقول به في القدر معروفا عنها بما يكفي للاستغناء عن ( بعضهم ) ؟ أكان هناك بعض آخر ينكر أن تكون هذه الفرقة قد تكلمت بالقدر، كما كانت هناك معاجم لغوية حديثة ومعاجم أخرى قديمة ؟

ولنفترض أن طائفة ما غير الفروشيم قد سبقت إلى الكلام في القدر، ولم يعلم بها الأستاذ احمد أمين إلا متأخراً، أكان سيبدل رأيه في هذه الحالة ليجعل من تلك الطائفة أصلاً للمعتزلة، أم ستكون كل الطوائف التي سبقت إلى القول بالقدر أصلاً مشتركا للمعتزلة ؟!

يضاف إلى كل ما سبق، أننا لم نجد بين كتبوا عن المعتزلة، على كثرتهم قبل المقريزي وربما بعده، من ذكر هذه الصلة أو أشار إليها، خصوصاً من أعداء المعتزلة وما أكثرهم، وهو أمر لن يثير أقل من الشك.

٤٧

وبعد، فإن استخلاص رأي في قضية ما - ولتكن تسمية المعتزلة - لمجرد وجود تشابه في الاسم أو في الفعل، هو أمر بعيد عن الروح العلمي الذي حاول الأستاذ احمد أمين أن يكون مدافعاً عنه، وهو يكتب عن فكر المعتزلة فما أحراه ان يكون كذلك وهو يناقش تسميتهم.

٧ - رأي الدكتور نادر:

وأقف الآن عند الدكتور البير نصري نادر، فهو أيضاً له رأي في تسمية المعتزلة.

ولأنني أخذت نفسي بألا أتجنى على أحد، ولا أحكم على رأي قبل عرضه ومناقشته، فسأحاول أن أعرض رأي الدكتور في تسمية المعتزلة تمهيداً لمناقشته بعد ذاك، وسترى انه كبير جداً أن يسمي ما طرحه الدكتور نادر رأياً، فضلاً عن انه رأي يستحق المناقشة.

تعرض الدكتور لتسمية المعتزلة في كتابين من كتبه الأول هو ( فلسفة المعتزلة ) المطبوع ١٩٥٠، والثاني ( أهم الفرق الإسلامية السياسية والكلامية )١٩٦٦.

ففي الأول يقول الدكتور بالنص: ( بينما كانت مختلف الفرق الإسلامية يكفر بعضها البعض نجد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد رأسي المعتزلة يأتيان بحل جديد فيه الكثير من التسامح فقالا: أن المؤمن الذي يأتي بكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الكفر والإيمان ولما كان هذا الحل جديداً ولم يقبله الحسن البصري وبعض أتباعه انعزل واصل وعمرو بن عبيد عنهم ).

٤٨

وبدءاً ألاحظ أن وصف الدكتور لفكرة المنزلة بين المنزلتين بأنها ( حل فيه الكثير من التسامح )، هو وصف غير صحيح ولا يمكن الأخذ به على إطلاقه، فإذا كانت هذه المنزلة تمثل حلاً متسامحاً بالنسبة بالغ التشدد بالنسبة للمسلمين الآخرين الذين يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا وان فسق بكبيرته(١) .

فالحل الذي عرضه واصل بالنسبة لمرتكب الكبيرة، يختلف إذن باختلاف الطائفة أو الفرقة التي تريد أن تقارن قوله بقولها، لا كما توهم الدكتور نادر.

هذه هي الملاحظة الأولى، وما أظن الدكتور سيخالفني فيها، إلا أن ينكر ما أجمع عليه المسلمون في هذه القضية ولن يستطيع.

أما الثانية فان الدكتور كما هو واضح هنا يعتمد في تسمية المعتزلة، الرواية المشهورة القائمة على اعتزال مجلس الحسن البصري لكنه لم يكن دقيقا - ولا أريد أن أقول غير ذلك - في نقلها، فالرواية لا تجمع ابتداءاً بين واصل وعمرو في القول بالمنزلة بين المنزلتين ولا يترك مجلس الحسن أو الطرد منه وإنما تفردهما كما ذكرنا فهي أما أن تعزو ترك المجلس أو الطرد منه إلى واصل بعد مقالته في المنزلة بين المنزلتين وخروجه برأي مخالف في ذلك، ومن ثم لحاق عمرو وانضمامه إليه وأما أن تجعل المعتزل الأول عمرو بن عبيد وتنسب إليه ترك المجلس لكنها لا تجمع بينهما كما يظهر من الصيغة التي استعملها الدكتور نادر وفي جميع

____________________

(١) لم نجد من جمع بينهما من المؤلفين غير الرازي في كتابه ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) كما أشرنا الى ذلك في موضعه والرازي متأخر توفي عام ٦٠٦ وكتابه في غاية الاختصار ثم انه حين يعرض لفرق المعتزلة يقول عن - الواصلية منهم - اتباع واصل بن عطاء الغزال وهو أول من قال أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر . الخ ) وحين يصل الى الفرقة الثالثة - العمرية - يقول ( اتباع عمرو بن عبيد ومن قولهم ان شهادة طلحة والزبير غير مقبولة بوجه عام ) دون أية إشارة أو ذكر للمنزلة بين المنزلتين فهو يثبت القول بها لواصل وحده متابعا في ذلك الذين سبقوه من المؤلفين والكتاب في الفرق والمقالات.

٤٩

الأحوال فإنها لا تنسب القول في المنزلة بين المنزلتين إلا إلى أحد الرجلين واصل بن عطاء الذي تبعه فيه بعد ذاك عمرو بن عبيد(١) .

وإذا كان الدكتور يحاول أن يتلافى في ( أهم الفرق الإسلامية ) المآخذ التي رأيناها في ( فلسفة المعتزلة ) فيأتي بالرواية على وجه قريب من وجهها وبتشويه أقل فانه ما إن يخرج من النص مجتهداً رأيا في أمر مرتكب الكبيرة حتى يزل ويبعد عن الصواب ألا ترى إليه وهو يتحدث عن المعتزلة في كتابه ذاك كيف يقرر ( إن المقصود بالكبيرة هنا الخروج على الإمام ) فمن أين علم الدكتور أن المقصود بالكبيرة ( هنا ) هو الخروج على الإمام ولم يقل بذلك أحد من الذين عالجوا هذا الموضوع أو تعرضوا له ؟ لو كانت الكبيرة هنا تعني الخروج على الإمام بحسب رأي الدكتور لكانت قد أثيرت قبل زمن طويل حين خرج من خرج على عثمان، وحين خرج من خرج على علي، ومن خرج على من جاء بعدهما.

ثم من أين أتى الدكتور بما أضافه إلى واصل في قوله ( ولا بكافر ( تجب علينا مقاتله ) فأنا لم أعثر على هذه الإضافة فيما بين يدي من مصادر، وأظنها كالإضافة التي سبقتها، وهو يتحدث عن عدم قبول الحسن ( وبعض اتباعه ) للحل الذي طرحه واصل في المنزلة بين المنزلتين.

ان الدكتور نادر يجتهد حيث لا يجب، لكنه يخطئ حيث يجتهد وحيث لا يجتهد: في الرأي أو في النص.

____________________

(١) أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان الخياط من مشايخ المعتزلة وأستاذ أبي القاسم البلخي توفي في حدود ٣٠٠ ه- كان كما يقول صاحب طبقات المعتزلة فقيها صاحب حديث واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين من أشهر كتبه ( الانتصار ) في الرد على ابن الروندي المطبعة الكاثوليكية بيروت ١٩٥٧.

٥٠

٨ - رأي المعتزلة في تسميتهم:

كنا قد تناولنا فيما مضى آراء الكتاب والمؤرخين من غير المعتزلة في أصل تسميتهم، والآن أفلا يجدر بنا أن نقف قليلا لنسأل المعتزلة أنفسهم - أصحاب الشأن - عن منشأ تسميتهم فعل عندهم من ذلك علماً ؟

فماذا عند المعتزلة من تسميتهم ؟

على خلاف الرأي الذي سبق، من ربط التسمية باعتزال ما اتفقت عليه الأمة حاول المعتزلة من جانبهم - وكأنهم يعكسون ذلك الرأي - الأخذ بالنقيض حين جعلوا الاعتزال، اعتزالا لما اختلفت فيه الأمة في قضية مرتكب الكبيرة فالخياط(١) يقول في ص١١٨ من كتابه ( الانتصار ) ( إن واصل بن عطاءرحمه‌الله لم يحدث قولا لم تكن الأمة تقول به فيكون قد خرج من الإجماع ولكنه ويجد الأمة مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم فأخذ بما أجعمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه ).

وإلى هذا الرأي أيضا يذهب قاضي القضاة في شرح الأصول الخمسة وفي المنية والأمل والشريف المرتضى في الأمالي وابن المرتضى في طبقات المعتزلة وان كان الثلاثة الأخيرون يوردون هذا الرأي ضمن الآراء الأخرى التي أشرنا إليها آنفا(٢) .

وإذا كانت قد رفضت سابقا الرأي الذي يرد التسمية إلى اعتزال ما أجمعت عليه الأمة فإني أرفض وبنفس القوة ما يتعلق به المعتزلة من أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة وأخذهم بالمجمع عليه وهو اسم الفاسق.

____________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص٧١٦ و ٧١٧ والمنية والأمل ص٤٠ وأمالي المرتضى ص١٦٦ وطبقات المعتزلة ص٣٨.

(٢) ولهذا لم نجد في أدبيات الخوارج أو في خطبهم ذكرا للفاسق إلا على سبيل الذم الذي يلحق سلوك الإنسان وسيرته وليس كمرتكب لمعصية معينة اسمها الكبيرة.

٥١

ولنلاحظ أولا أن الحديث عما اتفقت أو اختلفت فيه الأمة لا يتعلق باسم مرتكب الكبيرة فقط وكيف يجب أن يسمى ليصح للمعتزلة أن يحتجوا بوجود الإجماع عليه، سواء وجد هذا الإجماع فعلا أم لم يوجد، وإنما الخلاف أساسا في حكم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة هل سيكون مثواه الجنة أم النار، وما هو العذاب الذي سيتعرض له وما هي مدته.

ولهذا فان البغدادي وغير البغدادي حين يقولون أن واصلاً قد خرج برأي في صاحب الكبيرة خالف فيه الإجماع لم يكونوا يقصدون اسم ( الفاسق ) الذي يتفق واصل في جزء منه مع عدد من الفرق الإسلامية، ومنها الفرقة التي ينتمي إليها البغدادي نفسه، لكنهم كانوا يقصدون بالدرجة الأولى الحكم الذي يترتب على ارتكاب الكبيرة فهذا هو الموضوع المهم الذي خالف فيه واصل آراء الفرق الأخرى قبله.

ولنعد إلى الاسم نفسه، فهل حقا أن الإجماع واقع على تسمية مرتكب الكبيرة بالفاسق، كما يدعي الخياط وغيره من المعتزلة ؟

أن المصادر في الفرق والمذاهب لا تؤيد ذلك، فالخوارج يسمون صاحب الكبيرة كافراً، والحسن وأصحابه يسمونه منافقاً، وليس بين أولئك وهؤلاء من يضيف اسم الفاسق إلى الإسم الذي اختاره لمرتكب الكبيرة.

أما الخوارج، فلأن المسافة بين الإيمان والكفر عندهم من القصر بحيث لا تحتمل محطة أخرى اسمها ( الفسق )، ينزل عندها صاحب الكبيرة ( الفاسق )، فهم لا يعرفون إلا المؤمن والكافر، وليس هناك وسط بين الأثنين يحتاجون معه إلى اسم آخر يكون علما عليه(١) بل أن فرقاً مهمة منهم

____________________

(١) هذا هو مذهب الازارقة أكبر فرق الخوارج وأهمها.

٥٢

تتجاوز الكفر لتسمي المخالفين لهم، حتى مع عدم ارتكابهم لأية كبيرة مشركين ثم تجاوزا هذا فسموا القعدة من مذهبهم مشركين(١) .

وأما الحسن وأصحابه، فلأن النفاق يستغرق الفسق ويتعداه، فان محل لإضافة اسم الفاسق عندهم، وقد سموا مرتكب الكبيرة منافقاً، ورتبوا عليه حكم المنافق، فأية قيمة لتسمية لا حكم لها.

ولنسلم مع الخياط، أن الأمة ( مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور.)، فلماذا تمسك واصل باسم الفاسق وترك الفاجر، وقد أجمعت الأمة عليه إجماعها على الفاسق وقرنته به، كما يقول الخياط في نصه المشار إليه آنفا.

أن اختيار واصل أو غير واصل ل- ( الفاسق )، اسما لمرتكب الكبيرة، لن يلزمنا إذن بشيء لأنه سيكون ترجيحا بلا مرجح، فإذا اختار واصل اسم الفاسق فأنا أستطيع، ودون أي حرج، إن أختار اسم الفاجر لنفس الشخص، فليس أحدهما أولى من الآخر وليس لأحدهما امتياز ورجحان حتى لو أخذنا بقول الخياط الذي سبقت الإشارة إليه، إلا أن يكون الإجماع في نظر الخياط هو ما اختاره واصل.

هذا فيما يخص الاسم، أما ما يخص الحكم، أي جزاء مرتكب الكبيرة والعذاب الذي سيلقاه في الآخرة، فان آراء الفرق الإسلامية ليست متفقة بشأنه، فالخوارج وهم يعدون مرتكب الكبيرة كافرا، كما رأينا، يحكمون عليه بالخلود في النار، والشيعة الإمامية وأهل السنة، لا يخلدونه

____________________

(١) الفرق بين الفرق للبغدادي ص٢١٠ وأصول الدين له أيضا نشر مدرسة الالهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط أولى ١٩٢٨ ج١ ص٢٤٢ وما بعدها والفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للشريف المرتضى ج٢ ص١٣٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٦١ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين مطبعة العرفان صيدا ١٣٣٠ ه- ص٣٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين الجويني تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨١ وما بعدها والتبصير في الدين ص١٠٦ - ١٠٧ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٧١ والشيعة بين المعتزلة والاشاعرة لهاشم معروف الحسني ص٢٦٢ وما بعدها.

٥٣

بل هو ينال عندهم من العذاب بقدر معصبته(١) والمرجئة يصححون إيمانه، ويتركون الحكم عليه لله.

ليس هناك إذن من إجماع بين هذه الفرق في الموضوع، يمكن القول بان المعتزلة قد أخذوا به وتركوا المختلف فيه.

ومع ذاك فلا بأس أن نلم بالرأي الذي أتى به المعتزلة، لنرى إن كانوا قد أضافوا شيئا ذا قيمة في الموضوع بعد أن رأينا فشل دعواهم في الإجماع عليه.

يقول المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكنه في منزلة دون منزلة الكافر من حيث العذاب، وهذا رأي لا أصالة فيه، نصفه مسروق، ونصفه مقلوب.

أما النصف المسروق فهو رأي الخوارج كما ذكرنا، وأما النصف المقلوب، فهو رأي السنة والامامية من الشيعة، فقد قال هؤلاء: إن المؤمن لن يخلد في النار إذا مات من غير توبة عن كبيرة ارتكبها لكنا يعاقب بقدر كبيرته، وجاء المعتزلة فقالوا: انه يخلد في النار، مع تخفيف العقاب عليه إلى ما دون عقاب الكافر.

ركز السنة والامامية على العقاب، مع عدم التأبيد في النار، وركز المعتزلة على التأبيد مع تخفيف العقاب.

____________________

(١) بل ان فيما ذهب إليه المعتزلة إغراءاً بارتكاب المزيد من الكبائر المزيد من الكبائر ما دامت أية واحدة توجب الخلود لمرتكبيها في النار فما الذي يمنعه من ارتكاب المزيد والعقاب هو هو واحد لا يتغير بارتكاب واحدة أو ارتكاب أكثر.

٥٤

ورأي السنة والامامية أقرب إلى الحق والإنصاف، ذلك انه يجعل العقوبة متناسبة مع الجرم، فحين يستوفي مرتكب الكبيرة عقوبته فلن يكون ثمة سبب لإبقائه في النار مدة أخرى غير ما حدد لجرمه.

أما المعتزلة، فصاحب الكبيرة، مهما كانت، مخلد عندهم في النار، وهذا رأي فيه ظلم كبير من هذه الجهة، وفيه أظلم أكبر من جهة أخرى، لتسويته بين أصحاب الكبائر بتعريضهم لعقاب واحد دون تمييز بين كبيرة وكبيرة، مع ان العدل يقتضي عدم المساواة بين هؤلاء لأن الكبائر، رغم التسمية الواحدة، كثيرة جدا، ومختلفة جدا من حيث الخطورة، وليست في الدرجة نفسها لتوجب لأصحابها نفس العقاب، الذي هو الخلود في النار(١) .

ثم إن المعتزلة لم يوضحوا لنا فيما أضافوه، درجة العذاب الذي سيلقاه مرتكب الكبيرة، وإلى أي حد سيخفف عنه، وهل الفرق كبير بين عذابه وبين عذاب الكافر ؟

واختصارا أي درجات السعير سيحفظ لهذا السيئ الحظ الذي لا هو مؤمن ولا هو كافر ؟

وحتى لو تجاوزنا ذلك، واحسنا تقييم رأي المعتزلة، فأية أهمية في أن تأتي فرقة من المسلمين فتضيف إلى آراء الفرق الأخرى، وهي كثيرة في الموضوع، رأيا حديدا وهل يستحق هذا ان تنتزع اسمها منه، وتنسب إليه مع إن كل فرقة تعتبر معتزلة بالنسبة للفرق الأخرى في حكم مرتكب الكبيرة كما ذكرنا.

____________________

(١) المنية والأمل لقاضي القضاة ص٧ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص٢.

٥٥

ولنقبل رأي المعتزلة في ان اسمهم جاء من اعتزالهم ما اختلف فيه المسلمون، وأخذهم بما اجمعوا عليه ألم يكن من الأنسب لو انهم هم الذين اختاروا الاسم، كما يقولون، ان يختاروا من الأسماء ما يبرز معنى الإجماع الذي يدعون الأخذ به، لا اسم المعتزلة الذي قد يوحي العكس، وهو ما تعلق به خصومهم ضدهم، ذلك ان النسبة للإيجابي ( المجمع عليه ) أولى من النسبة للسلبي ( اعتزال المختلف فيه )، فان تكون ( مع ) أوضح في الدلالة من أن تكون ( ضد ).

كان من الممكن مثلا ان يطلق المعتزلة على أنفسهم لو أخذنا بوجهة نظرهم اسم ( الإجماعيين ) أو ( الإتفاقيين ) أو أي اسم آخر، يدل على الإجماع و الاتفاق أو يشير إليهما، فذلك أفضل من اسم ( المعتزلة ) الذي لا يشير في أفضل الحالات إلى أكثر من موقف سلبي بحت يلجأ إليه من لم يعرف الصواب ولم يهتد إلى الحق.

ثم أن المعتزلة قد تجاوزوا هذا الحد، فلم يقفوا عند مجرد الرفض واعتزال المختلف فيه من الآراء في مرتكب الكبيرة، بل أسسوا فرقة جديدة، وجاؤوا بمذهب جديد وكان يفترض - وأظننا لا نتجاوز في هذا دائرة المجمع عليه أيضا - أن يتحدد اسمهم، مما يشكل السمات الأساسية لمذهبهم، فاعتزال آراء الآخرين قد يشكل موقفا في ظرف معين وإزاء قضية معينة، ولكنه لا يمكن أن يؤلف في ذاته مذهبا ثم يكون هو الاسم المختار لهذا المذهب.

٥٦

على أن اعتزال الآخرين، لا يختص به المعتزلة وحدهم، وإنما هو نقطة البداية في بناء أية فرقة أو مذهب، دينيا كان ذلك المذهب، أم سياسيا، أم.الخ، وإلا فلم هذا العناء في تأسيس مذهب ما إذا هو تبني آراء وأفكاره غيره من المذاهب التي سبقته، فلم ( يعتزلها ) ولم يختلف عنها.

ويظهر أن المعتزلة، قد شعروا بعد ذلك بقصور حجتهم عن تفسير الاسم بالاستناد إلى اعتزال المختلف فيه من الآراء في شأن صاحب الكبيرة، فليس أسهل من عكس الحجة عليهم والقول بان الاعتزال، كان اعتزالا لما أجمع عليه المسلمون، فترد دعواهم بما يماثلها، وهذا ما فعله معهم خصومهم ابتداء، وتمسكوا به، كما رأينا، وهم أكثر عددا وأشد قوة , وليس في اللغة ما يرجح ادعاء على ادعاء، ولم يكن تخريج المعتزلة في اعتزال المختلف فيه بأقوى من تخريج خصومهم في اعتزال المجمع عليه، ما دام الاعتزال قابلا للطرفين، من غير اختصاص بواحد منهما.

ولهذا لجأ المعتزلة إلى القرآن، للدفاع عن الاسم، وبيان فضله، يسدون به قصور حجتهم في تفسيره باعتزال المختلف فيه، فاحتجوا لذلك بقوله تعالى في سورة مريم ٤٨ ( واعتزلكم )، وبقوله في سورة المزمل ١٠ ( واهجرهم هجرا جميلا )، وكأنهم يريدون أن يجعلوا الاعتزال، أينما ورد في القرآن، اعتزالاً للشر ليحجوا خصومهم ويفحموهم بما لا يستطيعون نقضه والرد عليه(١) .

وهذا تعسف ظاهر من المعتزلة في تفسير ألفاظ اللغة وتضييق لها، غير مبرر ولا مقبول، فإذا كان القرآن قد استعمل اللفظ في هاتين الآيتين

____________________

(١) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية هامش ص١٩٢.

٥٧

اعتزال الشر فانه استعمله في سورة الكهف ١٦ لاعتزال الخير إذ يقول ( وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . )(١) ، فليس في اللغة ما يمنع من استعمال اللفظ في الخير أيضا، فالفعل ( عزل ) يتسع لهما معا ولا يتجه لأحدهما دون الآخر، وليس وروده في هذه الآية أو تلك اعتزالا للشر يمانع من وروده في آية أو آيات أخرى اعتزالا للخير، فالحجة هنا ليست بأقوى من الحجة هناك.

وكما لجأ المعتزلة إلى القرآن، فقد لجؤوا إلى الحديث النبوي يستنجدونه في معركة التسمية، فاحتجوا بحديث رووه (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرها وأنقاها الفرقة المعتزلة ) أو ( ستفترق أمتي إلى فرق خيرها وأبرها المعتزلة) دون ذكر لعدد الفرق(٢) .

والمعتزلة في هذا ينهجون نهج الفرق الأخرى، في وضع الأحاديث تأييدا ودعما لها وحطا من شأن خصومها، وإضعافا لهم.

كما احتجوا للاعتزال بحديث آخر، رووه عن النبي يقول ( من اعتزل من الشر سقط في الخير )(٣) .

والغريب أن المعتزلة يرفضون الأخذ بالآيات القرآنية إذا رأوها تعارض مع العقل ويؤولنها بما يجعلها مسايرة له، موافقة لأحكامه، ثم يأتون هنا ليحتجوا بأحاديث، كمثل هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته في نظر أصحاب الجرح والتعديل، ولكن أحس إحساسا عميقا، بأنه لم يصدر عن إمام اللغة، وسيد بلغائها محمد بن عبد الله لسقوطه لغة ومضمونا، فإذا

____________________

(١) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

(٢) وحديث افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة من الأحاديث السيئة الصيت والتي يصعب تصديقها والوثوق بها وقد استغل ابشع استغلال في تصديع وحدة المسلمين وتكريس الفرقة بين طوائف الإسلام وتأليب بعضهم ضد بعض بل إن هذا الحديث ورد في كتاب ( الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة ) لعثمان بن عبد الله العراقي الحنفي تحقيق وتقديم الدكتور بشار قوتلواي أنقرة ١٩٦١ ص٣٠ لا عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفترض بل عن علي هذه المرة مع إضافة ما يناسبه طبعا من سب لمن ( ينتحلون حبنا أهل البيت . ) أو لمن ( يتشبع أو الشيعة ).

وللعلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري بحث قيم عن هذا الحديث في مقدمته لكتاب ( الفرق بين الفرق ) لعبد القاهر البغدادي و ( التبصير في الدين ) لأبي المظفر الاسفراييني.

وانظر كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية ) فقد فصلنا الحديث في هذا البحث.

ومعركة الأحاديث بين الفرق الإسلامية من أسوأ ما عرف تاريخ الإسلام من معارك.

(٣) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

٥٨

كان من اعتزال الشر وقع في الخير، فأين سيقع من فعل الخير ولم يكتف باعتزال الشر والكف عنه، ان من اعتزل الشر يكون وبكل بساطة قد اعتزل الشر فقط، وتلك المنزلة، أما عمل الخير فمنزلة أخرى غيرها، وما أظن المعتزلة يردون هذا أو يعترضون عليه، وهم - لا غيرهم - أصحاب تعدد المنازل.

ثم أن الحديث يتكلم عن اعتزال الشر، لا عن ( المعتزلة ) الفرقة المعروفة، ويبقى السؤال قائما لتحديد الجهة التي يتناولها الحديث في حال تصحيحه من هي هذه الجهة التي اعتزلت الشر ؟ من قال إنهم المعتزلة، ولماذا لا يكون غيرهم ؟ إن ما واجهنا في موضوع المجمع عليه، والمختلف فيه، من أقوال المسلمين والحجة وعكسها هناك، يمكن أن يواجهنا هنا في اعتزال الشر والسقوط في الخير، أو اعتزال الخير والسقوط في الشر، فليست فرقة أولى به من فرقة، فالحديث رغم ملاحظاتنا عليه عام يتعلق بمن اعتزل الشر عموماً، فهو لا يحدد جهة أو جماعة، ولا يختص بمذهب، وكل يستطيع التمسك به ودفع خصومه عنه.

بل أن المعتزلة قد تجاوزوا الحد وكأنهم في سباق مع الفرق الأخرى في رواية الأحاديث الموضوعية لتأييد مذهبهم، وهي الأحاديث التي حاربوها وحاربوا من وضعها ومن تسلح بها.

استمع إليهم وهم يروون عن النبي حديث ( يكون في أمتي رجل يقال له واصل بن عطاء يفصل بين الحق والباطل )، وأظن راوي الحديث

٥٩

نسي، فلم يذكر ( الغزال ) لقب واصل بعد ما ذكر اسمه واسم أبيه فلعل هناك واصل بن عطاء آخر يدعي انه المقصود بهذا الحديث !!

لقد كان المعتزلة في غنى عما يشوه صورتهم العقلية باللجوء إلى هذا ومثله مما حاربوا خصومهم عليه، ولو أنهم فعلوا لكانوا أحسنوا كثيرا لمذهبهم، ولاحتفظوا بتلك الصورة العقلية له، فلن يفعل حديث موضوع هنا وآخر مكذوب هناك، أكثر من تشويه هذه الصورة وهي خسارة على كل حال.

٩ - الرأي الذي نراه:

يبدو أنني انتهيت إلى رفض الآراء التي طرحت حتى الآن لتفسير اسم المعتزلة، سواء في ذلك ما تعلق به خصوم المعتزلة، أو ما تمسك به المعتزلة أنفسهم، فهل سنتوقف عند ذلك مكتفين بهذه النتيجة الهينة التي لا ترضي طموح العلم ولا تسد حاجة الباحثين أليس هناك من رأي نستطيع الأخذ به، مطمئنين إليه، واثقين بنسبة تتجاوز ما مر بنا على الأقل.

ولكن قبل ذاك، أود أن أعيد هنا ما سبق ان طرحته في بداية هذا الفصل، لماذا أثار اسم المعتزلة كل هذه الصعوبة، وكل هذا الاضطراب، خلافا للفرق الإسلامية الأخرى ؟ أهو وجه من وجوه الظلم الذي تعرضوا له في حياتهم ظل يلاحقهم، حتى بعد اختفائهم وزوال نشاطهم، في تسميتهم هذه المرة فلم يهتد لها باحث، بما يزيل الشك، ويبعث على الاطمئنان ؟!

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185