• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28840 / تحميل: 6796
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لماذا لم يعتزل واصل مجلس الحسن من قبل، ما دام رأي الحسن معروفا فيها كما افترضنا بل لماذا السؤال مع هذا الفرض أصلاً ؟

أم أن المسألة طرحت لأول مرة في مجلس الحسن وفي هذه الحالة ما أظنني سأقبل أن واصلاً أو غير واصل يترك مجلس أستاذه ويعتزله ويعتزل أستاذه قبل أن يستمع رأيه ويناقشه فيه ويعرف قوته وضعفه واتفاقه أو اختلافه معه، فيترك حين يترك بعد ذلك، بعذر وسبب، برغم أن اختلاف الرأي في هذه القضية لا يمكن أن يبلغ وحده ودون سبب أو أسباب أخرى، تركاً وقطيعة و ( اعتزالاً ).

تلك بعض الملاحظات التي لا تستطيع هذه الرواية أن تقدم لنا أجوبة عليها، ذلك إنها تقوم على قطع كامل ومفاجئ بين وقائع الحادثة التي ترويها، وهو قطع لا نجد تبريراً مقبولاً له، بل لا تحتمله طبيعة العلاقة بين الحسن وواصل، وهي علاقة علمية ثرية وعميقة استمرت مدة غير قصيرة في مجلس كان يعتبر من معالم البصرة في ذلك الحين.

وملاحظة أخرى لا تتعلق هذه المرة بواصل ولا بالحسن ولا بالقضيّة المسؤول عنها، طرحت من قبل أم لم تطرح ورأي الحسن فيها ولكن بالسؤال نفسه فهذا السؤال - كما سنرى - لا يمكن إلا أن يدفعك دفعا إلى الشك فيه، وربما إلى ما هو أبعد من الشك.

ولكن قبل أن أنتقل إلى السؤال، أرى أن أقف أولا عند الصيغة التي تمهد بها الرواية لذلك السؤال في حلقة الحسن، فهي صيغة تدفعك هي الأخرى إلى الشك وربما إلى ما هو أبعد من الشك.

٢١

تبدأ الرواية بالقول ( دخل واحد . ) وهذا أول الضعف فيها فصيغة ( دخل واحد ) بالإثبات هنا وما شابهها من صيغ أخرى ك- ( روي أو نقل واحد ) دون تحديد، اعتدنا أن نواجهها كلما أريد تجنب مسؤولية ما يروى وينقل وهي تتساوى عندي مع ( لم يدخل واحد ) و ( لم يرو أو ينقل واحد ) بالنفي، ما دام هذا الواحد غير معروف ولا مشخص وما أحسبها تختلف عن الصيغة الأخرى التي يلجأ إليها الرواة عادة كلما أرادوا دفع الحرج عنهم فيما يروون، ك- ( قيل ) و ( روي )، ففي كليهما إسناد لمجهول وحمل عليه.

الرواية إذن تبدأ مع المجهول ( واحد ) فإذا سرنا مع هذا ( الواحد ) خطوة أخرى رأيناه يقول (.لقد ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر.وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر.وهم مرجئة الأمة.).

والسؤال ينطلق أساسا من خطأ واضح، ذلك أنه لا الخوارج الذين يكفرون أصحاب الكبائر ولا المرجئة الذين لا تضر عندهم الكبيرة مع الإيمان قد ظهروا في زمان هذا ( الواحد ) الذي وجه السؤال، فالفرقتان سبق وجودهما وعرفت مبادؤهما قبل ذلك بوقت طويل، فالخوارج في الأقل يبدأ تاريخهم مع التحكيم في صفين أي قبل ولادة واصل - لا السؤال الذي سبب اعتزاله كما تقول الرواية - بأكثر من أربعين عاماً، وهذا يعني أن الخوارج كانوا، عندما طرح السؤال، قد طووا مرحلة طويلة من أقوى وأروع مراحل نشاطهم.

٢٢

وهم على امتداد تاريخهم يكفرون أصحاب الكبائر، بل يكفرون عموم المسلمين المخالفين لهم، حتى من غير أصحاب الكبائر، وكان ذلك معروفا عنهم فكيف جهل هذا ( الواحد ) ما لا يمكن أن يجهل، فزعم أن الخوارج قد ظهروا أو قالوا بتكفير أصحاب الكبائر في زمانه.

أيبلغ الجهل بهذا ( الواحد ) وهو يخوض في موضوع كالكبيرة وموقف الخوارج والمرجئة من مرتكبها، ويحرص على أن يسمع رأي الحسن فيما اختلفوا من ذلك، ثم هو لا يعرف إن كان الخوارج قد ظهروا في زمانه أم في زمان آخر سابق له، وهو أمر من الشهرة والذيوع بحيث لا يجهله إنسان ؟! أكان يعرف رأي الخوارج ورأي المرجئة في مرتكب الكبيرة وهو لا يعرف متى ظهر أولئك أو هؤلاء ؟!

فهل أشك في علم السائل أم في صحة السؤال ؟!

وإذا كان السائل يعرف رأي الخوارج الذين يكفرون أصحاب الكبائر ورأي المرجئة الذين يرجئون أصحاب الكبائر فكيف جهل رأي الحسن فيهم، فجاء يستعلم عنه، وهو رأي مشهور شهرة الحسن نفسه ؟! أليس الأولى بالقبول أن يكون السائل على معرفة برأي الحسن في مرتكب الكبيرة لا تقل عن معرفته برأي الخوارج والمرجئة، وهو علم من أعلام المسلمين ومعاصر للسائل بحيث يتوجه بالسؤال إليه، وآراؤه معروفة في هذه القضية وفي غيرها ؟

وشك آخر تبعثه هذه الرواية في نفسي هو أنها - على شهرتها وذيوعها - تنتهي في جميع المصادر عند شخص واحد وكتاب واحد هما

٢٣

الشهرستاني وكتابه ( الملل والنحل )(١) والشهرستاني عاش أكثر حياته في القرن السادس الهجري وقد سبقه الكثيرون ممن كتبوا في العقائد والفرق لكن أحدا منهم لم يورد هذه الرواية ولم يذكرها كأساس لتسمية المعتزلة(٢) .

فكيف يمكن أن نفسر انفراد الشهرستاني بها من بين جميع الذين كتبوا عن المعتزلة قبله، مع إنهم أقرب عهدا منه وأخرى أن يعرفوها ويشيروا إليها في كتبهم عن الفرق والمذاهب الإسلامية.

لهذا أجدني مضطرا لاستبعاد هذه الرواية، لا لأني أرفض النتيجة التي انتهت إليها من اعتزال واصل مجلس الحسن، فهذه النتيجة هي التي ستكون اختياري في التسمية، ولكن للأسباب التي تسوقها لتبرير اعتزال واصل مجلس الحسن وبالتالي تفسير التسمية.

أما الروايات الأخرى التي تربط التسمية باعتزال عمرو مجلس الحسن بعدما أحدثه من بدع، فقد رددت عليها في بعض ما رددت به على رواية اعتزال واصل مجلس الحسن بعد سؤاله عن حكم مرتكب الكبيرة كما مر بنا قبل قليل يضاف إلى ذلك هنا ان اسم المعتزلة قد ارتبط بواصل أكثر مما ارتبط بعمرو، فواصل هو أشهر الاثنين وابلغهما وأعلمهما وأقدرهما على الإقناع، وهو الذي أرسل البعوث للدعوة إلى الاعتزال والتبشير به، ولم يكن عمرو يجاريه في كل ذلك فمن المستبعد والحال هكذا، أن يكون هو التابع لعمرو في اعتزال مجلس الحسن، وإنما الأقرب وما تؤيده كثرة الروايات أن عمراً هو الذي تبع واصلاً بعد حوار بينهما، انتهى بان أخذ

____________________

(١) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني العلامة المتكلم المعروف ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم عام ٤٧٩ وتوفي عام ٥٤٨ ألف في الكلام والعقائد وغيرهما، من أشهر مؤلفاته كتاب ( الملل والنحل ) الذي نقل عنه.

(٢) هذه الرواية تجدها في ( الملل والنحل ) ج١ ص٤٨ وعنه ( المنية والأمل ) لقاضي القضاة ص ٨ و ( طبقات المعتزلة ) لأبن المرتضى ص٣ ملاحظين ان قاضي القضاة عاش ومات قبل الشهرستاني بأكثر من قرن فمن المستحيل ان يحيل عليه ولكن مقدمة ( المنية والأمل ) التي تبدأ ب- ( باب ذكر المعتزلة وطبقاتهم ) وتنتهي عند ( تعيين طبقات المعتزلة ) والتي تورد الرواية يبدو أنها أضيفت فيما بعد الى ( المنية والأمل ) أما من قبل جامعه أبن المرتضى حيث تجد المقدمة نفسها في طبقات المعتزلة مع اختلاف يسير أكبر الظن أنه بفعل النسخ وأما من قبل محقق الكتاب الذي أدخل فيها أيضا ( المسائل التي اتفق فيها المعتزلة واجمعوا عليها كما جاء بكتاب ( الفرق بين الفرق ) كما يقول وإذا تركت الشهرستاني فان هذه الرواية لم يذكرها لا الاشعري ولا المفيد ولا البغدادي ولا المرتضى ولا الاسفراييني وهم يتحدثون عن واصل وما أحدثه من القول في مرتكب الكبيرة، مع انهم عاشوا كلهم قبل الشهرستاني، كما لم يذكرها الذين ترجموا لواصل او تعرضوا له وهم يذكرون خلافة في تلك المسألة وخروجه على الأقوال التي كانت معروفة فيها آنذاك.

٢٤

عمرو برأي واصل فيه، وهذا ما يؤكد أن عمراً استمر على علاقته بالحسن فترة بعد خلاف واصل واعتزاله، وانه لم يترك الحسن ويعتزل حلقته وينضم إلى واصل في تأسيس المذهب وقيام المعتزلة إلا بعد ذاك(١) .

٣ - التسمية جاءت من قتادة:

وليست بأوفر حظا في القبول، الرواية التي تزعم ان قتادة بن دعامة السدوسي(٢) وهو من مشاهير أصحاب الحسن البصري وكان أعمى، دخل المسجد للصلاة فأم عمرو بن عبيد وأصحابه ظاناً أنهم حلقة الحسن، وكان عمرو قد اعتزل هو وأصحابه الحلقة، فلما عرف قتادة أنهم ليسوا أصحابه قال ( إنما هؤلاء المعتزلة ) ثم قام عنهم.

وهذه الرواية التي توردها المصادر باختلاف يسير في ألفاظها، تفترض سبق اعتزال عمرو وأصحابه، لكنها لا تقدم لنا تفسيرا لهذا الاعتزال وهو ما نبحث عنه هنا.

ولنعد إلى قتادة، ولنفترض مع الرواية انه لم يستطع لعماه، ان يميز هؤلاء الجماعة شكلاً، أكان صعباً عليه أن يميزهم صوتاً(٣) وهم من أصحابه السابقين ومن الملازمين وإياه لمجلس الحسن فترة ليست بالقصيرة، وكيف قبلوا هم - ولم يكونوا مصابين بعاهة قتادة - أن يأتموا به لو أخطأ هو فأمهم، بعد ما بلغ الخلاف بينهم الحد الذي دفعهم إلى ترك المجلس واعتزاله.

ثم كيف نستطيع أن نقبل أن قتادة وهو يأتي كل يوم إلى مجلس الحسن في الجامع ويصلي فيه فلا يخطئ الذين يؤمهم، لماذا يخطئ هذه

____________________

(١) أنظر هذا الحوار في المنية والأمل ص٣٩ وطبقات المعتزلة ص٣٧ وأمالي المرتضى ج١ ص١٦٦ على إني أشك كثيرا فيما ورد على لسان واصل فيه من دعوى إجماع الفرق الإسلامية على تسمية صاحب الكبيرة بالفاسق، فما أظن واصلا بالذي يجهل مذهب الخوارج الذين يكفرونه، وهو نفسه يؤكد ذلك ويشير إليه في حواره المذكور وإذا جاز لبقاي الفرق الإسلامية ان تضيف اسم الفاسق الى مرتكب الكبيرة الذي يبقى في نظرها مؤمنا قد فسق بكبيرته، فلا يمكن ان يضيف الخوارج اسم الفاسق الى مرتكب الكبيرة الذي اصبح في رأيهم كافرا مخلدا في النار، فأية حاجة الى هذا الاسم الذي سيبقى بلا حكم والذي سيكون ضربا من العبث ما أبعد الخوارج المتشددين عنه، ولهذا فإذا صح ما ورد عن واصل في هذا الحوار فما أراه ورد إلا على سبيل التكثير ودعم الحجة ثم ان الشيعة - الإمامية منهم على الأقل - لا تسمي صاحب الكبيرة كافر نعمة فاسقا كما ذكر في حوار واصل وإنما تسميه مؤمنا فاسقا وما احسب واصلا يجهل ذلك، وهو ما يشككنا أكثر في صدوره عنه، أو ان واصلا لم يقصد فيه - كما قلت - الى غير التكثير فقط، وسيأتي رأي أهل السنة والامامية فيما بعد أما إذا كان المقصود بالشيعة، الزيدية أو فريقا منهم ممن يسمون مرتكب الكبيرة كافر نعمة فاسقا فيلاحظ أولا ان هؤلاء الزيدية لم يكونوا قد ظهروا كفرقة عند حوار واصل مع عمرو، فهذا الحوار جرى كما يتفق الناقلون عند اعتزال واصل وقبل انضمام عمرو إليه وذلك في بداية القرن الثاني الهجري أي قبل حوالي العشرين عاما من ثورة زيد واستشهاده وقبل قيام الزيدية كفرقة لها كيانها وآراؤها الخاصة بها في القضايا الإسلامية.

(٢) أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي عربي صليبة من سدوس من بكر بن وائل تابعي من كبار أصحاب الحسن البصري ضليع بأخبار العرب وآدابهم وأنسابهم كان أكمه (أعمى ) ولد عام ٦٠ أو ٦١ وتوفي بواسط عام ١١٣ أو ١١٧ أو ١١٨ باختلاف الروايات.

(٣) وفيات الأعيان ج٤ ص٨٥ في ترجمة قتادة بن دعامة ( فدخل مسجد البصرة فإذا بعمرو بين عبيد ونفر معه.وارتفعت أصواتهم.).

٢٥

المرة فلا يؤم إلا الذين اعتزلوه وتركوه، مع إن هؤلاء قد اتخذوا لهم مكاناً آخر غير مكانهم المعتاد في الجامع، بعد اعتزالهم حلقة الحسن فيه أتراه كان يأتي لأول مرة إلى الجامع ويصلي، أم أنه ضل مكانه، وهو الذي كان يدور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد كما يقول مترجموه ؟(١) وقبل ذلك يرد السؤال الأتي، من الذي كان إمام الصلاة في ذلك الوقت، أهو قتادة أم الحسن البصري ؟ والحديث كله يدور عن الاعتزال في زمن الحسن لا بعده. إننا لا نستطيع إلا أن نرفض هذه الرواية التي تبدأ من حيث انتهت الروايات الأخرى في التسمية، مضيفة إلى ركام الأسئلة التي واجهناها هناك، أسئلة جديدة أخرى هنا.

٤ - اعتزال قول الأمة:

أما عبد القاهر البغدادي(٢) فيقول في كتابه ( الفرق بين الفرق ) وهو يتحدث عن ( المعتزلة عن الحق ) كما يسميهم، أن التسمية جاءتهم من اعتزالهم ( قول الأمة بأسرها ) وهو يقصد طبعا ما يذهب إليه المعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة من أنه لا مؤمن ولا كافر بل في منزلة بينهما(٣) . ويبدو أن عبد القاهر يبعد كثيرا في اتجاهه ذاك مدفوعا بما عرف عنه من كره شديد للمخالفين من الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، حتى قال فيه الفخر الرازي ( وهذا الأستاذ - يعني البغدادي - كان شديد التعصب على المخالفين ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه )(٤)

____________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان ج٤ ص٨٥. (٢) أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي ولد ونشأ في بغداد وورد نيسابور مع أبيه وتوفي في أسفرايين فيما وراء النهر عام ٤٢٩ من كبار العلماء كان شديدا على المخالفين له في الرأي ألف في عدة فنون من تأليفه كتاب ( الفرق بين الفرق ) الذي ننقل عنه والذي يعتبر من المصادر المهمة في المذاهب والفرق الإسلامية وحيدثه هذا نجده في ص٦٧، ٦٨، ٧٠، ٧١ من كتابه المذكور. (٣) يخلط عبد القاهر بين اعتزال قول الأمة وبين اعتزال مجلس الحسن البصري فهو يقول في ص٦٨ ( ولأجل هذا - يعني قول المعتزلة في الفاسق - سماهم المسلمون المعتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها ) ولكنه يعود الى الرواية المشهورة عن اعتزال مجلس الحسن فيقرر في ص٧١ ( فلما سمع الحسن من واصل بدعته ههذ التي خالف بها أقوال الفرق قبله طرده من مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة.) ثم يعود بعد سطر واحد ليقول ( ان الاسم جاءها - يقصد واصلا وعمرو بن عبيد - من قول الناس فيهما ( انهما اعتزلا قول الأمة ) فهو يجمع في الاسم بين اعتزال قول الأمة وبين اعتزال مجلس الحسن وفي كل منهما اعتزال واعتزال قول الأمة لا ينفرد به البغدادي وإنما سبقه إليه الأشعري في كتابه ( اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ) بعناية الأب يوسف مكارثي المطبعة الكاثوليكية ١٩٥٢ ص٧٦ أما الأسفراييني فيجمع بين الاعتزاليين في التسمية حيث يقول في ص٦٤ من التبصير ( فاعتزل - يعني واصلا - جانبا مع اتباعه فسموا معتزلة لاعتزالهم مجلسه - مجلس الحسن البصري - واعتزالهم قول الأمة ) والحق ان الاسفراييني قلما رأيناه يخالف البغدادي فيما يخص عقائد الفرق والمذاهب الإسلامية ويقول أبو اليسر محمد بن محمد البزدوي في ص١٣١ من كتابه ( أصول الدين ) تحقيق الدكتور هانز بيتر لنس - دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي القاهرة ١٩٦٣ وهو يتحدث عن المعتزلة ( وهو قول - المعتزلة في مرتكب الكبيرة - بالمنزلة بين المنزلتين وبه سموا ( معتزلة ) اعتزلوا عن الناس أجمع بهذا القول ) وانظر أيضا ( الحور العين ) لنشوان بن سعيد الحميري تحقيق كمال مصطفى ١٩٧٣ ص٢٠٥ في أحد الأقوال التي يذكرها عن تسمية المعتزلة. والحق ان الصلة وثيقة بين اعتزال مجلس الحسن وبين اعتزال أقوال الأمة في أمر مرتكب الكبيرة ذلك ان اعتزال المجلس كان نتيجة للاعتزال الأول، أي اعتزال أقوال الأمة، ولذا فان الكثير من المؤرخين يخلطون او يجمعون بين الاعتزالين، قاصدين أو غير قاصدين، فتراهم يقولون خرج على أقوال الأمة أو اعتزلها ثم يضيفون ( اعتزل ) مجلس الحسن كنتيجة لذلك الاعتزال السابق.

(٤) نقلا عن مقدمة كتاب ( الفرق بين الفرق ) للبغدادي بقلم محققه العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري ص٦٠.

٢٦

وإذا كان التعصب يفسد الحكم ويمنع المتعصب من التزام جانب الحق فيما يتناول ويناقش ويروي، فما ظنك بمن كان شديد التعصب، عندما يتعرض لمخالفيه من المذاهب الأخرى، في مسائل بالغة الدقة والخطورة كمسائل العقيدة، وما ظنك إذا جاءت هذه التهمة - تهمة التعصب - لا من واحد من خصومه في الرأي ولا المخالفين له في المذهب، وإنما من أحد كبار علماء مذهبه وأجلائهم هو الفخر الرازي.

ومن هنا كانت أحكام البغدادي ظاهرة التعصب شديدة القسوة كحكمه على المعتزلة، بأنهم اعتزلوا قول الأمة بأسرها في قضية مرتكب الكبيرة، مع ان الأمة - وهو يعني المسلمين - لم تكن أبدا متفقة الرأي بشأن هذه القضية ليمكن الادعاء بعد، بان المعتزلة خالفوا قول الأمة وخرجوا على إجماعها.

فإذا كان البغدادي، وهو يمثل رأيا من آراء الأمة، يسمى صاحب الكبيرة مؤمنا فاسقا - وهو أيضا رأي الشيعة الإمامية فيه - وان فسقه بارتكابه الكبيرة ( لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام )(١) فان الخوارج في عمومهم يكفرونه(٢) والمرجئة يحكمون بصحة إيمانه(٣) والزيدية من الشيعة والأباضية من الخوارج يجعلونه كافراً كفر نعمة(٤) والحسن البصري وأصحابه يسمونه منافقاً(٥) وهذا ما يثبته البغدادي نفسه في أكثر من موضع من كتابه ( الفرق بين الفرق ) المشار إليه فأين هو الإجماع في هذه القضية ؟! أين هو ( قول الأمة بأسرها ) فيها، إلا إذا كان البغدادي ينكر

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص٧٠ و ٢١٢ وهذا هو رأي أهل السنة في مرتكب الكبيرة وانظر في ذلك أيضا الابانة عن أصول الديانة للاشعري مكتب تعز للنشر ببغداد ص١٠ و ٧٤ واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع للاشعري أيضا ص٧٥ ومقالات الإسلاميين له أيضا تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية ١٩٥٠ ج١ ص٣٢٢ وكذلك التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري ط أولى ١٩٤٠ ص١٠٦ والفصل في الملل والأهواء والنحل لأبن حزم ج٣ ص٢٧٤ وأصول الدين لأبي اليسر محمد ابن محمد بن عبد الكريم البزدوي ت ٤٩٣ تحقيق هانز بيتر ليتس القاهرة ١٩٦٣ ص٢٤٤ ومختصر شرح العقيدة الطحاوية اختصار وتخريج صلاح أحمد السامرائي مكتب التراث العربي ١٩٩٠ ص٧٥ وشرح النسفية للدكتور عبد الملك السعدي بغداد ١٩٨٨ ص١٤٩ و ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ) لفخر الدين الرازي ط أولى بالمطبعة الحسينية المصرية ص١٧٥ ولباب المحصل في أصول الدين لابن خلدون نشر الأب لوسيانو روبيو ج١ النص العربي ١٩٥٢ ص١٢٦. وهو أيضا رأي الشيعة الامامية كما يظهر من ( أوائل المقالات ) في المذاهب المختارات للشيخ المفيد ص٤٨ و ١٠٣ و ١٠٤ و ( شرح تجريد الاعتقاد ) للعلامة الحلي ص٢٧١ و ( الاعتقاد فيما يتعلق بالاعتقاد ) للشيخ الطوسي ص٢٣٣ مع تقييد التسمية فلا يقال هو مؤمن مطلقا أو هو فاسق مطلق ( لئلا يوهم ارتفاع أحدهما إذا أطلقنا الآخر ) وإنما يقال ( هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه فاسق بتركه ما يجب عليه من أفعال الجوارح ) و ( الشيعة بين المعتزلة والاشاعرة ) لهاشم معروف الحسني طبعة دار النشر للجامعيين ١٩٦٤ ص٢٦٤.

(٢) الفرق بين الفرق ص ٤٥، ٥٠، ٧٠ والابانة ص١٠ واللمع ص٧٦ ومقالات الإسلاميين ج١ ص١٥٧ والاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ وأمالي المرتضى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى الابي الحلبي وشركاه ١٩٥٤ ج١ ص١٦٥ وشرح تجريد الاعتقاد ص٢٧١ والملل والنحل ج١ ص١١٥ والتنبيه والرد ص٥١ وشرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة ص٧١٢ و٧١٣ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد مطبعة دار الكتب العربية الكبرى المجلد الثاني ص٣٠٧ وفيه ( ان الخوارج كلها تذهب الى تكفير أهل الكبائر ) و ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ) للفخر الرازي ص١٧٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأمام الحرمين الجويني ت ٤٧٨ تحقيق وتعليق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي في القاهرة ط ١٠٥٠ ص ٣٨٥.

(٣) مقالات الإسلاميين للاشعري ج١ ص١٩٧ وأوائل المقالات للمفيد ص٤٨ والتنبيه والرد للملطي ص٤٧ والفصل في الملل والأهواء=

٢٧

____________________

=والنحل لابن حزم ج٣ ص٢٧٣ وأمالي المرتضى ص١٦٥ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٧١ والفرق بين الفرق للبغدادي المشار إليه أعلاه ص١٢٢ والملل والنحل للشهرساني ج١ ص١٣٩ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط دار الكتب العربية الكبرى مصطفى البابي الحلبي المجلد الثاني ص٢٤٩ وفرق الشيعة للنوبختي ص٦ ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني تحرير وتصحيح الفريد جيوم ص٤٧١ وأصول الدين لأبي اليسر البزدوي تحقيق الدكتور هاتز بيتر لنس دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي - القاهرة ١٩٦٣ ص٢٥٢.

(٤) فيما يتعلق بالإباضية انظر الفصل لابن حزم ج٣ ص٢٧٣ والملل والنحل ص١٣٥ ومقالات الإسلاميين ج١ ص١٧٥ - ١٧٦ وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع - المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر ١٩٦٣ ص١١٣ ولم يعرض البغدادي لمقالتهم في أصحاب الكبائر وهو يتحدث عنهم الملطي في التنبيه والرد ص٥٥ انهم يكفرون الأمة دون ذكر للكبائر أو لكفر النعمة، وفي الحور العين للحميري ص١٧٣ ( قالوا - الإباضية - ان مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمشركين ) دون أن أي ذكر لا لكفر النعمة ولا لعموم الكفر.

أما الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ والعلامة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ص٢٧١ والمفيد في أوائل المقالات ص٤٨ فيتحدثون عن موقف الخوارج عموما من مرتكب الكبيرة دون التعرض لموقف الاباضية فيها، وهو ما نجده أيضا عند الفخر الرازي في محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص١٧٥، وان كان للمفيد هنا رأي يخالف فيه بقية المؤرخين اذ يقول ( وكثير من الخوارج في جمهورهم يكفرون أصحاب الكبائر والازارقة وهم أهم فرقهم يعتبرون مشركين.

وانظر أيضا رغبة الآمل من كتاب الكامل لسيد بن علي المرصفي ط أولى مطبعة النهضة بمصر ١٩٢٩ ج٧ ص٢٤٠ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأمام الحرمين الجويني ت ٤٧٨ تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨٥. وفيما يخص الزيدية يراجع شرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٧١ ومقالات الإسلاميين للاشعري ج١ ص١٤٠ ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للفخر الرازي ص١٧٥ أما الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص٢٢٨ فيميز بين من كان من الزيدية على مذهب الناصر وهم يسمون أصحاب الكبائر كفار نعمة وبين غيرهم من الزيدية الذين يذهبون مذهب المعتزلة في هذه المسألة أما المرتضى في أماليه ج١ ص١٦٦ فلا يتحدث عن موقف الزيدية من مرتكب الكبيرة إلا في معرض تصحيحه لما أورده واصل في محاجته لعمرو بن عبيد في ان الشيعة تسمي مرتكب الكبيرة كافر نعمة فاسقا فقد عقب المرتضى بان واصلا يعني بالشيعة ( الزيدية ) ويبدو ان المرتضى قد فاته الصواب في تعليقه هذا فالزيدية لم يعرفوا بهذا الاسم ولم يصبحوا فرقة لها عقيدة ومذهب متميز إلا ابتداء من ثورة زيد عام ١٢٢ه- وكان واصل وعمرو بن عبيد قد أسسا مذهبهما في الاعتزال قبل ذاك بأكثر من عشر سنوات إذ أن الحسن البصري الذي انفصل عنه واصل أو عمرو أو واصل وعمرو توفي عام ١١٠ ه- وحتى لو قلنا ان الاعتزال حصل في زمن قتادة بن دعامة السدوسي فهذا توفي في ابعد التواريخ عام ١١٨ أي قبل ثورة زيد وقيام الزيدية ومن كل هذا يبدو واضحا ان موقف الزيدية من مرتكب الكبيرة جاء بعد الحوار الذي حصل بين واصل وعمرو لان قيام الزيدية كفرقة جاء بعد هذا الحوار. ولا يتعرض الشهرستاني لموقف الزيدية من مرتكب الكبيرة، ويقول البغدادي ص٢٥ من الفرق بين الفرق بان الزيدية يجمعون على القول بان أصحاب الكبائر من الأمة مخلدون في النار كالخوارج ولا أدري لماذا اختار البغدادي الخوارج دون المعتزلة الذين يخلدون هم أيضا مرتكب الكبيرة في النار مع إن الزيدية أقرب الى المعتزلة منهم الى الخوارج. ويذكر المفيد في ص٤٨ من أوائل المقالات ان الزيدية تفسق مرتكب الكبيرة وهو عندهم ليس بمؤمن ولا مسلم ولكن نفرا منهم يتفقون مع الإمامية والمرجئة وأصحاب الحديث في أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإسلام وانه مسلم وان كان فاسقا بما فعله من الكبائر والآثام.وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة ص٧١٤ ومنه يظهر أن الناصر من الزيدية وبعض الخوارج - دون تحديد لهم - يسمون مرتكب الكبيرة كافر نعمة ويتفق الشيخ محمد أبو زهرة في تأريخ المذاهب الإسلامية دار الفكر العربي ص٤٦ مع البغدادي في أن الزيدية يرون خلود مرتكب الكبيرة في النار لكنه يختلف عنه في أن أبا زهرة يرى أن الزيدية ينهجون في ذلك منهج المعتزلة بينما يشبههم البغدادي في أمر مرتكب الكبيرة بالخوارج كما رأينا.

(٥) سبق الحديث عن رأي الحسن في هذا الموضوع.

٢٨

أن تكون الفرق المخالفة الأخرى من الأمة ؟ لماذا إذن لا يسع المعتزلة ما وسع غيرهم في هذا الموضوع ؟!

إن رأي الأمة، كما عرضنا، ليس واحداً، بل هناك آراء للأمة تبدأ بالتكفير وتنتهي بتصحيح الإيمان بشكل مطلق فأي جديد أو بدعة في أن يكون للمعتزلة رأي يضاف إلى ما سبق من آراء في موضوع انقسمت فيه الأمة أصلاً وتباينت مواقفها منه ؟! وماذا في قولهم أن الفاسق من المسلمين - وهو ما يشترك فيه المعتزلة مع السنة والشيعة الإمامية، و الذي اختاره البغدادي نفسه لصحاب الكبيرة - هو في منزلة بين الإيمان والكفر ؟! لماذا يتسامح البغدادي مع أقوال الآخرين، على بعد ما بينها، ويستكثر على المعتزلة رأيا جديدا يرونه، بصرف النظر عن قوة هذا الرأي أو ضعفه ؟!

لقد اعتزل الخوارج أقوال الفرق الأخرى بتكفير مرتكب الكبيرة واعتزل المرجئة بتصحيح إيمانه، واعتزل الزيدية أو طائفة منهم بتكفيره كفر نعمة، واعتزل الحسن البصري وأصحابه بجعله منافقاً اعتزلت كل فرقة أقوال الفرق الأخرى في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، فلم يسم أولئك معتزلة لقولهم ولا هؤلاء معتزلة لرأيهم، فلماذا لزم هذا الاسم المعتزلة وحدهم وأصبح علماً دون غيرهم من الفرق والمذاهب ؟!

ثم إننا لو أخذنا بما يذهب إليه البغدادي، ألا يمكن أن يسري هذا على المسلمين عموما بالنسبة للأديان الأخرى، فيسمون معتزلة لاعتزالهم ما جاءت به اليهودية والنصرانية من أحكام وعقائد ؟

٢٩

ولو جاز أن يطلق على أية فرقة أو مذهب أو حزب اسمه من مخالفته واعتزاله آراء الآخرين، وهو ما يفترض بالضرورة، لأصبحت هذه التسمية علماً على ما لا يعلمه إلا الله من الفرق والمذاهب والأحزاب.

على أن البغدادي يخطئ من جهة أخرى حين يربط بين فتنة الأزارقة وبين رأي واصل في شأن مرتكب الكبيرة، وقد يكون من المفضل لإيضاح هذه النقطة أن أنقل نص ما ذكره البغدادي ( على الوجه ) لا كما يفعل هو مع خصومه.

يقول البغدادي في صفحة ٧١ من ( الفرق بين الفرق ) ( فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها(١) خرج واصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر وجعل الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.الخ ).

فإلى ما سبقت الإشارة إليه من عدم اتفاق الأمة على رأي واحد في أمر مرتكب الكبيرة خلافاً لما يذهب إليه البغدادي، يلاحظ أن الأزارقة كانوا قد ضعف أمرهم وتشتت كلمتهم وقتل زعمائهم قبل ولادة واصل بسنين(٢) .

فأين فتنة الأزارقة من واصل وجواب واصل أو بدعته كما يسميها البغدادي.

بل إن ربط مسألة الكبيرة أساساً بفتنة الأزارقة كما يوحي النص هو أمر لا يستند إلى حقيقة تاريخية، فحين جرد الأزارقة سيوفهم ثائرين يقتلون من يقتلون، لم يقصدوا مرتكب الكبيرة فقط ولم يريدوا إليه وحده

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص٧٠ ويلاحظ ان الوجوه التي ذكرها البغدادي في حكم مرتكب الكبيرة هي ستة لا خمسة إلا اذا اعتبرنا رأي الازارقة والصفرية من الخوارج واحدا بعد ترك اختلافهم في الأطفال.

(٢) قتل نافع بن الازرق رأس الازارقة عام ٦٥ وعبيدة بن هلال من كبار زعمائهم عام ٧٧ وقطري بن الفجاءة ( أو نعامة ) أكبر زعمائهم بعد نافع عام ٧٨ وعبد ربه الصغير قبل عبيدة وقطري وكانت الخلافات قد فرقتهم ومزقت شملهم خلال ذاك وهذا يعني أن خطرهم قد انحسر أو ضعف ولم يعودوا يمثلون خطرا جادا بعد كل الذي حصل لهم وقبل ولادة واصل بسنين كما ذكرنا.

٣٠

ولم يميزوا بينه وبين سواه، وإنما كانوا يعتبرون جميع المسلمين غيرهم مشركين، من ارتكب أو من لم يرتكب كبيرة منهم وهذا ما أكده البغدادي نفسه بقوله عنهم ( والذي جمعهم - يعني الأزارقة - من الدين أشياء منها قولهم بان مخالفيهم من هذه الأمة مشركون )(١) .

فحروب الأزارقة كانت أكبر من ( الكبيرة ) التي لم يعرفوها كاصطلاح ديني ولم ترد في خطاباتهم ولا في كتبهم لبعضهم أو للمخالفين لهم.

لقد خاض الأزارقة حروبا طويلة سالت فيها دماؤهم ودماء خصومهم، وما كان أهونها وأيسر شأنها لو اقتصرت على مرتكبي الكبائر وحدهم.

ليس بإمكاني إذن أن آخذ بالرأي يسوقه البغدادي كسبب للتسمية لا لأنه صادر عن عدو للمعتزلة، وهذا ما يجعلني أشك فيه، بل لأنه يتعارض مع حقائق التاريخ وهذا ما يدفعني إلى رفضه.

٥ - رأي نللينو:

في بحث طويل عن المعتزلة(٢) حشرت فيه الوقائع والأسماء والمعلومات، واختلطت الأقوال بشكل لا يسمح لك في غير عنت شديد ان تبلغ ما قصده صاحبه منه، يتوصل كارلو نللينو إلى بعض النتائج التي يمكن إجمالها فيما يأتي:

١- أن تسمية المعتزلة لم تطلق للدلالة على إنهم انفصلوا عن أهل السنة، ولكنها ترتبط بموقفهم الوسط بين أهل السنة والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة.

____________________

(١) لا يكتفي الازارقة باعتبار مخالفيهم من الأمة مشركين بل انهم يعتبرون حتى القعدة منهم كذلك وهو ما يذكره البغدادي حين يشير الى ما اجمع عليه الازارقة في ص٥٠ من كتابه ( الفرق بين الفرق ) وما يؤكده الشهرستاني في ص١٢١ من ج١ من الملل والنحل حين يذكر عنهم انهم يكفرون مخالفيهم من المسلمين وحتى القعدة من نحلتهم وهو أيضا ما تجده لدى الاشعري في مقالات الإسلاميين ج١ ص١٥٨ - ١٥٩ وكذلك ما يظهر من رغبة الامل من كتاب الكامل ص٢٣٢ ج٧.

(٢) نشر هذا البحث مترجما الى العربية بقلم الدكتور عبد الرحمن بدوي في ( التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ) ط رابعة نشر وكالة المطبوعات بالكويت ودار القلم ببيروت ١٩٨٠ ص١٧٣ وما بعدها تحت عنوان ( بحوث في المعتزلة ).

وكارلو الفونسو نللينو إيطالي من كبار المستشرقين ولد في تورينو بإيطاليا ١٨٧٢ وتوفي في روما ١٩٣٨ عضو الأكاديمية الإيطالية تولى الإشراف على مجلة الدراسة الشرقية منذ عام ١٩١٥ واشغل كرسي تاريخ الإسلام ونظمه منذ ١٩١٥ في جامعة روما درس في الجامعة المصرية تاريخ الفلك عند العرب ١٩٠٩ - ١٩١٠ ثم تاريخ الأدب العربي بعد ذاك له بحوث ومقالات كثيرة منها هذا البحث المتعلق بأصل تسمية المعتزلة باختصار عن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية المشار إليه أعلاه بقلم الدكتور عبد الرحمن بدوي وج٦ من الأعلام للزركلي.

٣١

٢- وإنهم هم الذين سموا أنفسهم معتزلة.

٣- وإنهم - يقصد الفرقة الكلامية الإسلامية - امتداد للمعتزلة السابقين أي الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه فلم يشاركوا فيه ولم ينضموا لأحد طرفيه.

هذه هي النتائج التي انتهى إليها نللينو في بحثه المذكور عن المعتزلة فكيف توصل إليها وما هي القيمة العلمية لها ؟

يمهد نللينو لذلك بالحديث عن اختلاف المسلمين في مسألة مرتكب الكبيرة والآثار التي ترتبت عليه، ثم يشير إلى خروج واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد برأي وسط بين أهل السنة وبين الخوارج فيها.

وهذا ما سبق إليه المؤرخون المسلمون وتناوله غالبية الذين كتبوا في العقائد والفرق منهم، فليس لنللينو فيه رأي جديد إلا ما نلاحظه من عدم الدقة في النقل عن هؤلاء حين يقول (.أن المؤلفين العرب على اختلاف آرائهم في أصل تسمية المعتزلة ومعناها الأول يكاد يتفقون على ان الخلاف بين أهل السنة وبين مؤسسي مذهب المعتزلة ( واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ) إنما نشأ حين احتدم النزاع واشتدت الخصومة بين متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة حول مسألة مرتكب الكبيرة.).

وهذا الكلام لا يبدو دقيقا، فإذا كان المؤلفون العرب يكاد يتفقون - كما يقول - على ان الخلاف نشأ بسبب الموقف من مرتكب الكبيرة، فإنهم لم يقولوا أبداً أن هذا الخلاف نشأ حين احتدم النزاع بين ( متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة ) حول هذه المسألة، وإنما كانوا يقولون أن المسلمين

٣٢

كانوا فيها على أقوال فخرج واصل برأي خالف فيه - وليس وسطا - جميع الأقوال السابقة حين قرر أن مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، لكنه في منزلة بين منزلتيهما.

هذا أو في معناه ما يقوله المؤلفون العرب عند تناولهم لهذه المسألة(١) وفرق كبير بين القولين، فهؤلاء المؤلفون لم يصفوا موقف واصل بالوسط ولم يشيروا إلى الكلام والمتكلمين والخلاف بينهم، لسبب بسيط هو ان الكلام، بمعناه الاصطلاحي، لم يكن قد نشأ بعد في ذلك الوقت - قبل واصل أو قبل اعتزاله - وبالتالي فان الحديث عن الخلاف بين متكلمي الخوارج ومتكلمي أهل السنة حديث لا يستند إلى أساس مقبول، فضلاً عن إننا لا نعرف شيئا عمن أسماهم نللينو بمتكلمي الخوارج، وأظنه لا يعرف، فالخوارج لم يكن لديهم متكلمون، لأنهم لم يكونوا في حاجة إليهم وقد جعلوا ( الكلام ) للسيف في نزاعهم مع مخالفيهم خلال المرحلة التي يتناولها البحث.

ثم يستمر نللينو بعد ذاك فيقول أن واصلاً وعمراً قد اعتزلا أهل السنة في مسألة مرتكب الكبيرة حين ( وقفا موقفا وسطا شبه حياد بين الرأيين المتعارضين: رأي الخوارج ورأي أهل السنة، وقالا أن الفاسق أو صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وكانت نتيجة هذا الموقف الوسط في هذه المسألة الدينية، الحياد في النزاع السياسي الذي كان على أشده بين الفريقين المتنازعين ).

____________________

(١)هذا ما يقوله المرتضى في أماليه ج١ ص١٦٥ وما نجده في الفرق بين الفرق ص٧٠ وأوائل المقالات للمفيد ص٣٦ واللمع للاشعري ص٧٦ ومعجم البلدان لياقوت الرومي ج١٩ ص٢٤٦.

٣٣

وأظن نللينو يقصد بالفريقين المتنازعين، أهل السنة والخوارج، وهنا ألاحظ أيضا أن النزاع لم يكن في يوم ما بين الخوارج كفريق، وبين أهل السنة وحدهم كفريق آخر، وإنما بين الخوارج وبين عموم المسلمين المخالفين لهم في العقيدة، لا فرق بين أن يكونوا من أهل السنة أو من غيرهم كما أن المعتزلة لم يكونوا أصحاب ثقل سياسي حينذاك يمكن أن يحسب أو يؤثر في هذا النزاع، فيقال إنهم كانوا محايدين فيه، وأغلب الظن إنهم لم يكونوا قد وجدوا بعد.

ثم ألاحظ ثانياً أن الموقف الوسط للمعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة الدينية، لم يمنع عددا كبيرا من زعمائهم من اتخاذ موقف آخر ( غير وسط ) من الصراع السياسي بين علي وبين خصومه(١) .

ويمضي نللينو في بحثه فينتقد غالبية المؤلفين العرب لاتخاذهم لفظ ( معتزل ) بمعنى منشق واعتبار المعتزلة فرقة منشقة على أهل السنة.

ولكي يعزز رأيه في كل ما بلغه من نتائج وما تبناه من أفكار، فاته يلجأ إلى فقرتين للمسعودي يحملهما كل ما أراده هو من ذلك، وكأن أحدا لم يعرفهما قبله وسأسوق نص الفقرتين تمهيدا لمناقشة نللينو فيهما.

تقول الأولى ( ومات واصل بن عطاء ويكنى بأبي حذيفة في سنة إحدى وثلاثين ومائة وهو شيخ المعتزلة وقديمها وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سميت المعتزلة وهو الاعتدال ).

____________________

(١) فمن المعتزلة من كان منحرفا عن علي الى حد تفسيقه وتخليده في النار كما مر بنا ومنهم من كان يفضل عليا على جميع الناس بعد محمد كمعتزلة بغداد بصفة عامة.

٣٤

وتقول الثانية ( وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين - وهو الأصل الرابع - فهو ان الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر بل يسمى فاسقا على حسب ما ورد التوقيف بتسميته واجمع أهل الصلاة على فسوقه قال المسعودي وبهذا الباب سميت المعتزلة وهو الاعتزال.الخ )(١) .

وقبل أن أناقش نللينو في فهمه للفقرتين، وفي النتائج التي رتبها عليها، أجد من المناسب أن أثبت أيضا نص ما قاله نللينو كما أثبت نص ما قاله المسعودي في فقرتيه لتكون المناقشة، في ضوء النص ومع وجوده أقرب إلى الحق والعدل، برغم ما أثقل به على القارئ من تطويل، عذري فيه هو ما أشرت إليه الآن من توخي الحق والعدل فيما كتبت.

يقول نللينو ( ومن هذا - يقصد فقرتي المسعودي - ينتج أن اسم المعتزلة لم يطلق على الذين قاموا بإنشاء المدرسة الكلامية الجديدة، للدلالة على انهم انفصلوا عن أهل السنة وتركوا مشايخهم القدماء ورفقاءهم، وإنما أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين بين طرفي رجال الدين والسياسة في وقت ما، ممتنعين هكذا عن الخصومات والمنازعات القائمة بين المسلمين وإلى جانب ذلك يرى - يعني المسعودي - ان اسم المعتزلة لم يطلقه عليهم أهل السنة، وإنما اختاره المعتزلة أنفسهم للدلالة على موقفهم الخاص في هذه المسألة(٢) وهو موقف وصفه نللينو ب- ( الوسط ) حين كان يمهد لفقرتي المسعودي قائلا ( فقد وجد مع ذلك كتاب يربطون اسم المعتزلة بوقوفهم ذلك الموقف الذي أشرنا إليه آنفاً ( وسطا ) بين أهل السنة والخوارج )(٣) .

____________________

(١) تجد نص الفقرة الأولى في مروج الذهب للمسعودي نشر دار الأندلس ببيروت ١٩٨١ ط رابعة ج ٤ ص٢٢ والثانية ج٣ ص ٢٢٢.

(٢) سيأتي ردنا على هذا الرأي فيما بعد.

(٣) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ص١٨١.

٣٥

نللينو إذن يرى أن تسمية المعتزلة لا تعني انفصالهم عن أهل السنة: مشايخهم القدماء، وإنما ترتبط بموقفهم الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة وحيادهم بين طرفي رجال الدين والسياسة فما هو الانفصال في نظر نللينو ؟ ! كيف يسمي شخصا أو جماعة تركوا مذهبهم السابق واعتزلوا مشايخهم ورفاقهم، بعد خلاف معهم في مسألة ما، ليستقلوا عنهم ويؤسسوا مذهبا جديدا يقوم على إنكار ما يدين به شيوخهم القدماء ويسفه آراءهم ويهاجمهم ويتهمهم كأعنف ما يكون الهجوم وأقسى ما يكون الاتهام ؟!

ماذا يعني الانفصال غير هذا أو ما هو دونه ؟! كيف فهم نللينو أن الاعتزال هنا لا يعني الانفصال عن أهل السنة، وهو نفسه يقول عن هؤلاء: انهم مشايخ المعتزلة ورفاقهم السابقون وان اعتزال المعتزلة لهم كان بسبب الموقف من مرتكب الكبيرة والخلاف بشأنه !

صحيح إن الاعتزال لا يعني دائما الانفصال والانشقاق، لكن هذا يصدق عندما يكون هناك استقلال فكري سابق أو مذهب قائم، ثم جاء الاعتزال في مسألة ما كنتيجة لهذا الاستقلال وأثر من آثاره ألا ترى انك لا تستطيع أن تسمي الخوارج منفصلين أو منشقين على أهل السنة في مسألة مرتكب الكبيرة، لما كانوا يؤلفون في الأصل فرقة مستقلة ومذهباً خاصاً، له رأيه في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل.

ولكنك على العكس، تقول عن الأشعري مثلاً: أنه انفصل أو انشق على المعتزلة، إذ كان في السابق منهم ومن مذهبهم.

٣٦

هذا عن معنى الاعتزال عند نللينو وعند عدد ممن يشاركونه هذا الرأي يبقى قول نللينو عن اسم المعتزلة بأنه ( أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين.ممتنعين هكذا عن الخصومات والمنازعات القائمة بين المسلمين.).

فهل هناك من مذهب إسلامي أثار من الخصومات والمنازعات ما أثاره المعتزلة ؟!

أما رأي نللينو في الربط بين اسم المعتزلة وبين موقفهم الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة وحيادهم بين طرفي رجال الدين والسياسة، فنرى أن الرجل قد فاته الصواب هنا كما فاته هناك، فالاعتزال لا يرتبط بالموقف الوسط ولا يستمد اسمه منه، بل بالموقف الخاص المستقل وسطا كان هذا الموقف أم غير وسط أترى لو أن الخوارج مثلا كانوا قد التزموا الوسط في مسألة مرتكب الكبيرة ثم جاء المعتزلة فابتعدوا عن أهل السنة وعن الخوارج في الوقت نفسه واتخذوا لهم موقفا طرفا بالنسبة للموقفين، كأن كفروا مرتكب الكبيرة بدلاً من الخوارج، أكانت تسميتهم تختلف ؟ ألا يكونون قد اعتزلوا المواقف والآراء السابقة وتبنوا رأيا مغايرا خاصا في مرتكب الكبيرة وان كان متطرفاً.

فالاعتزال إذن لا يرتبط بموضع هذا الرأي بين الآراء وإنما باستقلاله بينها، وهو ما لم يدركه نللينو.

إن مشكلة نللينو تأتي من فهمه الاعتزال على انه الوسط ( بين ) وهو ما تمسك به وثبت عنده، ونضيف إلى ذلك ان الخلاف في مرتكب الكبيرة لم

٣٧

يكن في الواقع محصورا بين رأيين فقط لتصح ( البينية ) وإنما كانت هناك آراء كثيرة مطروحة عددنا منها خمسة أو ستة كما أذكر عند ردنا على البغدادي.

ملاحظة أخرى أرى من الضروري أن أشير إليها هنا، فنللينو وهو يتكلم عن الربط بين اسم المعتزلة وبين موقفهم في مسألة مرتكب الكبيرة يقول: انه ( أطلق للدلالة على موقفهم كأناس مبتعدين محايدين بين طرفي رجال الدين والسياسة ) ولا أدري ما الذي يعنيه نللينو بطرفي رجال الدين والسياسة، وحديثه كله كان عن مرتكب الكبيرة ومكانه بين المؤمن والكافر، والخلاف في ذلك بين أهل السنة وبين الخوارج، أو كما يقول بين ( متكلمي ) أهل السنة والخوارج فما الذي نقل هذا الخلاف وجعله هذه المرة بين رجال الدين والسياسة، ومن هم رجال الدين في نظره أهم أهل السنة أم الخوارج.

وأنتقل إلى القضية الأخرى التي أثارها نللينو، وهي أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم كذلك، ولأني عالجت هذه القضية بتفصيل واف في مكانها من هذا الكتاب فسأكتفي بذاك واحيل عليه(١) لأعود الآن إلى السؤال الذي بدأت به نقاشي لنللينو، وهو كيف فهم كلام المسعودي، بما رتب عليه النتائج التي وصل إليها ؟ كيف فهم فقرتيه على أنهما تعنيان أن اسم المعتزلة لم يطلق للدلالة على انفصالهم عن أهل السنة بل للدلالة على موقفهم الوسط، ثم كيف فهمهما على أنهما تعنيان ان المعتزلة هم الذين اختاروا هذا الاسم ؟!

____________________

(١) انظر هذا فيما بعد.

٣٨

هل في الأولى منهما غير ( ومات واصل وهو شيخ المعتزلة وقديمها وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سميت المعتزلة وهو الاعتدال ).

وهل في الثانية غير العبارات نفسها مكررة تقريبا مع بعض التقديم والتأخير.

أننا والحمد لله ما نزال نقرأ العربية فنفهمها، نقرأها في المسعودي، ونقرأها في غير المسعودي، وما أظن المسعودي كتب فقرتيه بلغة غير ما يكتب الآخرون من المؤلفين العرب الذين نقرأ لهم فنفهمهم فهل في عبارته ( وبه سميت المعتزلة وهو الاعتزال ) ما يسمح لنللينو ب- ( ومن هذا ينتج.) مرتبا كل النتائج التي لا يحتملها كلام المسعودي والتي أرادها نللينو نفسه فأخطأ الطريق إليها وماذا سيفهم نللينو لو كانت العبارة ( وبه سمى المعتزلة أنفسهم ) أو في أضعف الفروض ( وبه استحق المعتزلة اسمهم ).

وأصل الآن القضية الأخيرة التي أثارها نللينو، وهي محاولة الربط بين المعتزلة - الفرقة الكلامية المعروفة - وبين المعتزلة السابقين الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه، وهو رأي سبق إليه الكثيرون ممن كتبوا في الفرق والعقائد من المسلمين قبل نللينو بقرون منهم في سبيل المثال الحسن بن موسى النوبختي المتوفي عام ٣١٠(١) والملطي الذي أشرنا إليه آنفا والمتوفى عام ٣٧٧(٢) وثانيهما وأن ربط الاعتزال بمبايعة الحسن لمعاوية والصلح معه، لا بالصراع بين علي وبين خصومه ،

____________________

(١) كتابه ( فرق الشيعة ) ص٥.

(٢) كتابه ( التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ) ص٤١.

٣٩

إلا أن الذين اعتزلوا ولزموا منازلهم ومساجدهم بعد المبايعة والصلح كانوا أصلا من أصحاب على كما يقول الملطي فاعتزالهم مرتبط إذن بالصراع ضد خصوم علي وبالفشل في هذا الصراع، وعلى كل فهو اعتزال سياسي.

وإذا كان نللينو قد تبنى هذا الرأي، فانه لم يحسن عرضه ولا تأييده، فهو يبدأ بالكلام عن اسم المعتزلة الذي (اختاره المعتزلة أنفسهم للدلالة على موقفهم الخاص في هذه المسألة ) مسألة مرتكب الكبيرة الدينية كما يسميها، ثم يستشهد بابن منظور صاحب لسان العرب(١) ومن تبعه من اللغويين في قوله ( وقوم من القدرية يلقبون المعتزلة زعموا أنهم اعتزلوا فئتي الضلالة عندهم يعنون أهل السنة والجماعة والخوارج الذين يستعرضون الناس قتلا ) ولا ادري هل يريد نللينو بالاستشهاد بابن منظور إثبات أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم كذلك أم إثبات أنهم امتداد للمعتزلة الأولين.

وعلى كل، فيلاحظ أولا أن ابن منظور لم يكن صاحب تاريخ وعقائد ليحتج بقوله هنا، وإنما هو صاحب لغة لا يتناول المادة التاريخية إلا بقدر ارتباطها بالجانب اللغوي الذي يمثل الأساس في كتابه، وإلا فان ربط اسم المعتزلة باعتزال فئتي الضلالة: أهل السنة والخوارج، لم يقل به أحد عند قيام المعتزلة وتأسيس مذهبهم، حتى المعتزلة أنفسهم، فقد انحصرت مقالتهم إبتداء من مؤسس المذهب واصل بن عطاء، بأنهم تركوا المختلف

____________________

(١) محمد بن مكرم بن علي الأنصاري اللغوي المعروف صاحب المؤلفات الكثيرة في اللغة والأدب وأشهر كتبه في اللغة ( لسان العرب ) الذي يذكره نللينو ولد عام ٦٣٠ وتوفي في مصر عام ٧١١.

٤٠

ج : إنّ المعاني التي ذكرتها يطلق عليها أُمّ الكتاب على بعض الأقوال ، فالنذكر المعاني مع الأقوال :

١ ـ الإمام المبين ، ورد في تفسير الصافي ما نصّه : « في المجمع أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت الآية( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) ، قيل : يعني اللوح المحفوظ ، والقمّي يعني في كتاب مبين »(٢) .

فعلى هذا القول الذي نقله الفيض الكاشاني ، أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، وقد ذكر في معنى اللوح المحفوظ أنّه أُمّ الكتاب ، إذاً فالإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

وورد في تفسير الميزان ما نصّه : « والمراد بكتابة ما قدّموا وآثارهم ، ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها ، بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة ، وهذه الكتابة غير كتابة الأعمال وإحصائها في الإمام المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي : أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، والنتيجة كسابقه أي : أنّ الإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

٢ ـ الكتاب المكنون ، قال العلاّمة الطباطبائي ما نصّه : « ثمّ إنّه تعالى قال :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٤) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطّهرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون ، والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المس إلاّ نيل الفهم والعلم ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الكتاب المكنون هذا هو أُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله :( يَمْحُو اللهُ

__________________

١ ـ يس : ١٢.

٢ ـ تفسير الصافي ٤ / ٢٤٦.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٦٦.

٤ ـ الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩.

٤١

مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) ، وهو المذكور في قوله :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي أنّ الكتاب المكنون هو أُمّ الكتاب.

٣ ـ اللوح المحفوظ ، ورد في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية ما نصّه : «( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) من القرآن( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ) أي : لمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام الله ، وأنّه حقّ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ) أي : صدّقنا بأنّه كلامك أنزلته على نبيّك( فَاكْتُبْنَا ) أي : فاجعلنا بمنزلة من قد كتب ودوّن.

وقيل : فاكتبنا في أُمّ الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ( مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي : مع محمّد وأُمّته الذين يشهدون بالحقّ ، عن ابن عباس(٤) »(٥) .

فعلى هذا القول الذي نقله الشيخ الطبرسي ، أنّ أُمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ.

٤ ـ الكتاب المبين ، ورد في تفسير نور الثقلين ما نصّه : « عن يعقوب بن جعفر ابن إبراهيم قال : كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، إذ أتاه رجل نصراني فقال : إنّي أسألك أصلحك الله ، فقال : « سل » ، فقال : أخبرني عن كتاب الله الذي أُنزل على محمّد ، ونطق به ، ثمّ وصفه بما وصفه ، فقال :( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٦) ، ما تفسيرها في الباطن؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ الزخرف : ٤.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ٣ / ٥٤.

٤ ـ المائدة : ٨٣.

٥ ـ مجمع البيان ٣ / ٤٠٢.

٦ ـ الزخرف : ١ ـ ٣.

٤٢

فقال : « أمّا حم فهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو في كتاب هود الذي أُنزل عليه ، وهو منقوص الحروف ، وأمّا الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وأمّا الليلة ففاطمةعليها‌السلام »(١) .

فالكتاب المبين هو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وعلي هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ الكتاب المبين هو أُمّ الكتاب.

قال العلاّمة الطباطبائي : « ولا مانع من أن يرزق الله عبداً وحده ، وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين ، وهوعليه‌السلام سيّد الموحّدين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

٥ ـ محكمات القرآن أو الآيات المحكمات ، أطلق عليها المولى عزّ وجلّ أنّها أُمّ الكتاب في قوله :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٣) .

٦ ـ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من ولده ، ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « أنا والله الإمام المبين ، أُبيّن الحقّ من الباطل ، وورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٤) .

فعليعليه‌السلام إمام مبين ، والإمام المبين هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ علياًعليه‌السلام هو أُمّ الكتاب.

وفي أُصول الكافي : « عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال : أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام ،( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) قال : فلان وفلان ،( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابهم وأهل ولايتهم ،( فَيَتَّبِعُونَ مَا

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ٤ / ٦٢٣.

٢ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٧٠.

٣ ـ آل عمران : ٧.

٤ ـ تفسير القمّي ٢ / ٢١٢.

٤٣

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام »(١) .

( أبو مهدي ـ السعودية ـ )

بحث في القراءات :

س : من فوائد إثبات عدم تحريف القرآن هي القدرة على استنباط الأحكام والمفاهيم من القرآن الكريم ، مع اليقين بأنّها صادرة عن الله تعالى ، وبالتالي نستطيع الاعتماد على القرآن الكريم في جميع أُمورنا الدينية.

لكنّ مع وجود قراءات مختلفة للقرآن الكريم ـ سبع قراءات ـ فذلك قد ينفي الفائدة المذكورة أعلاه ، أو يقلّل من شأنها ، بسبب عدم يقيننا بالنصّ الوارد في القرآن الكريم.

كمثال واضح : قال تعالى :( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ) (٢) ، وبحسب إحدى القراءات ، كما سمعت في إحدى المحاضرات( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكاً ) وهو نوع من الفاكهة ، فالمعنى يتراوح بين المتّكَأ والفاكهة.

فتغيّر القراءات بغير المعاني ، وبالتالي قد تتغيّر المفاهيم والأحكام تبعاً لذلك ، فكيف نوفّق بين القراءات وبين حفظ القرآن الكريم؟ وبالخصوص في المثال الذي ذكرت ، شاكرين لكم جهودكم ، ونسألكم الدعاء.

ج : إنّ ثبوت القرآن واتصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قراناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة.

والمعروف عن الشيعة الإمامية : أنّ القراءات غير متواترة ، بل هي بين ما هو اجتهاد من القارئ ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٤١٤.

٢ ـ يوسف : ٣١.

٤٤

من المحققّين من العامّة ، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم ، وهناك أدلّة كثيرة يُستدل بها على عدم تواتر القراءات.

ومن ضمن الأخبار الوارد في ذلك ، خبر الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(١) ، ويؤيّده خبر زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(٢) .

وبعد معرفة عدم تواتر القراءات ، لا يبقى مجال للاستدلال بتلك القراءات ، إلاّ أن يقال : إنّها أخبار آحاد ، وتشملها الأدلّة القطعية الدالّة على حجّية خبر الواحد ، ولكنّ هذا غير ظاهر ، لعدم ثبوت كونها رواية ، بل يحتمل أن تكون اجتهادات من القرّاء واستنباطات منهم ، وقد صرّح بعض الأعلام بذلك.

وعلى فرض كونها رواية ، إلاّ أنّه لم يحرز كونها مستوفية لشرائط الحجّية ، ومع جمعها للشرائط يبقى أنّه مع العلم الإجمالي بعدم صدور بعضها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقع بينها التعارض ، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، فلا يبقى مجال لدعوى الحجّية ، وجواز الاستدلال بكُلّ واحدة منها ، كما هو الظاهر.

وقد صرّح السيّد الخوئي بعدم الحجّية بقوله : « ولكنّ الحقّ عدم حجّية هذه القراءات ، فلا يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، والدليل على ذلك أنّ كُلّ واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه الغلط والاشتباه ، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب إتباع قارئ منهم بالخصوص ، وقد استقلّ العقل ، وحكم الشرع بالمنع عن إتباع غير العلم »(٣) .

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ البيان في تفسير القرآن : ١٦٤.

٤٥

أمّا ما يتعلّق بجواز القراءة بتلك القراءات ، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام إمضاء القراءات المعروفة في زمانهمعليهم‌السلام ، بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس »(١) .

وبعد كُلّ هذا ، وما عرفت من عدم الاعتماد على تلك القراءات في استنباط الحكم الشرعي ، ينحلّ ما أشكل عليك في الآية القرآنية التي استشهدت بها ، إضافة إلى أنّ صاحب مجمع البيان نقل عن الطبري قوله : « وروي في الشواذ قراءة مجاهد متكاً خفيفة ساكنة التاء »(٢) .

( ـ ـ )

معنى نزوله على سبعة أحرف :

س : السادة الأعزاء ، أودّ الاستفسار عن موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف ، كما يقول أبناء المذاهب الأُخرى ، فهل هذا الشيء يقول به الشيعة؟ وكيف ذلك ، أرجو الإفادة عنه ، مشكورين ومقدّرين.

ج : حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، جاء في مصادر أهل السنّة ، وقد أُدّعي تواتره عندهم ، وكيف ما كان فلا أثر لهذا الحديث في مجامعنا الحديثية ، إلاّ ما جاء في الخصال للشيخ الصدوق ، وتفسير العيّاشي بصورة روايتين غير نقيتي السند(٣) ، ومنهما قد انتقل الحديث إلى بعض المصادر الأُخرى ـ كالبحار وبعض التفاسير : كمجمع البيان ، والصافي وغيرهما ـ وعليه فيلاحظ في المقام :

أوّلاً : إنّ الحديث عنها غير ثابت سنداً بشكل قطعي ، فلا يكون حجّة علينا.

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٣.

٢ ـ مجمع البيان ٥ / ٣٩٢.

٣ ـ أُنظر : الخصال : ٣٥٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ١٢.

٤٦

ثانياً : إنّ هذا الحديث على فرض وروده ، يتعارض مع روايات أُخرى ، تصرّح بكذب مضمونه ، منها : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(١) .

ومنها : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(٢) .

ثالثاً : الطريقة الصحيحة هنا لحلّ التعارض هي : أن نلتزم بحكومة هذه الروايات على ذلك الحديث ، أي أنّ هذه الروايات تأخذ في منظارها ذلك الحديث وتردّه وتكذّبه ، ولكن ذلك الحديث لم ينظر إلى هذه الروايات تأييداً أو ردّاً ، فبناءً على القاعدة المقرّرة في علم الأُصول ، تقدّم هذه الروايات دلالة على ذلك الحديث.

ثمّ هناك طريقة أُخرى لحلّ التعارض وهي : تساقط الروايات والحديث من حيث الدلالة ، والرجوع إلى ثبوت شكل واحد في النزول ، كما هو ظاهر القرآن الكريم الفعلي.

وأيضاً لدينا طريق آخر لرفع التعارض في المقام وهو : ترجيح جانب الروايات لاحتمال صدور الحديث ـ في مصادر الشيعة ـ تقية موافقاً للعامّة.

رابعاً : أختلف علماء العامّة في معنى سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولاً ، أو أربعين(٣) ؛ وهذا إن دلّ على شي? ، فإنّما يدلّ على عدم الوثوق بأيّ معنى من تلك المعاني ، فتبقى الدلالة مجملة وغير واضحة ، فلا حجّية للحديث من حيث الدلالة ، حتّى لو فرضنا صحّة صدوره سنداً.

خامساً : إنّ مضمون هذا الحديث يأباه العقل ، إذ كيف يتصوّر نزول قرآن واحد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة صور؟ وهل هذا كان ينسجم مع الاحتفاظ على هذا

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ أُنظر : البرهان في علوم القرآن ١ / ٢١٢.

٤٧

الكتاب المقدّس لدى المسلمين؟ أليس فرض هذا الحديث كان يفتح الباب على تعويم النصّ القرآني وبالتالي تحريفه؟ ومن أجل هذه المحاذير ترى أنّ هذا الحديث يجب أن يردّ علمه إلى الله تعالى ، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ ـ )

حصل جمعه في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

س : ما هي الانتقادات الموجّهة لعملية جمع القرآن الكريم من طرف عثمان؟

ج : إنّ إسناد جمع القرآن الكريم إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، بل إنّ جمعه وتأليفه قد حصل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ القرآن كان معروفاً بسوره وآياته حتّى عند المشركين وأهل الكتاب ، لما ثبت من تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإتيان به أو بسورة منه ، ومعناه إنّ سور القرآن كانت في متناول أيدي الناس ، وأيضاً وردت مجموعة كثيرة من الروايات بهذا المضمون حتّى عند أهل السنّة ، تصرّح بجمعه وتأليفه في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ومن جانب آخر لا يعقل أن يكون القرآن ـ مع اهتمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين به ـ عرضة للضياع في عهد الرسالة ، بل كان مورد تعظيمهم وتبجيلهم وحفظهم له ، مضافاً إلى إجماع المسلمين قاطبة : بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، والحال أنّ الروايات المزعومة في جمع الخلفاء تعتمد في إثباته على شهادة شاهدين ، بل وشهادة رجل واحد في بعض الأحيان ، خصوصاً أنّ هذه الروايات مختلفة فيما بينها في مسألة الجمع ، فلم يعلم أنّ عملية الجمع كانت في زمن أبي بكر أو عمر أو عثمان؟ ومن كانوا العاملين عليها؟

__________________

١ ـ أُنظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٩ و ٦ / ١٠٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤٩ ، الجامع الكبير ٥ / ٣٣١ ، مسند أحمد ٣ / ٢٣٣ و ٢٧٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٢١١ ، مسند أبي داود : ٢٧٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩ ، مسند أبي يعلى ٥ / ٢٥٨ و ٤٦٧ و ٦ / ٢٢ ، صحيح ابن حبّان ١٦ / ٧٢.

٤٨

فبالجملة : لا دليل على جمع القرآن أو تدوينه في زمن الخلفاء الثلاثة ، نعم قد ثبت أنّ عثمان جمع الناس على قراءة واحدة ، وحذف القرائات الأُخر ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، ولكن الأمر الذي يؤخذ عليه هو إحراقه لمجموعة كبيرة من المصاحف ، وأمره بإحراقها في مختلف الأمصار في سبيل توحيد القراءة ، وهو كما ترى لا وجه لعمله هذا ، وقد اعترض جماعة من المسلمين في ذلك عليه ، حتّى أنّهم سمّوه بحرّاق المصاحف(١) .

( العلام غزوي ـ المغرب ـ ٤٠ سنة ـ أولى ماجستير )

منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي :

س : أودّ من سيادتكم تسليط الضوء على منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي.

ج : إنّ منهج السيّد الطباطبائي ـ كما يوضّحه في كتابه الميزان ـ هو تفسير القرآن بالقرآن ، واستيضاح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن ، وتشخيص المصاديق والتعرّف عليها بالخواص التي تعطيها الآيات ، ويستشهد بقوله تعالى :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكُلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقوله تعالى :( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٤) .

وكيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مُبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج ، وقوله تعالى :

__________________

١ ـ أُنظر : الجامع لأحكام القرآن ١ / ٥٤ ، تاريخ المدينة ٣ / ٩٩٥.

٢ ـ النحل : ٨٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ النساء : ١٧٤.

٤٩

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن؟

ثمّ لا يخفى تأثير الجنبة الفلسفية للسيّد الطباطبائي على تفسيره ، وذلك العمق العقلي الدقيق ، والتشقيق للمطالب.

ولاحظ أنّ السيّد يبحث الموضوع المشار إليه في الآية ، مورد البحث كاملاً ، ويأتي بالآيات الأُخرى المتفرّقة الدالّة على الموضوع ، ويصبّها في صميم البحث ، مع مراعاة عدم الغفلة عن الروايات الخاصّة به ، وهي نفس الطريقة والمحاولة التي حاولها صدر المتألّهين الشيرازي في مزاوجة وموافق العقل مع النقل.

( الموالي ـ السعودية ـ ٢٢ سنة ـ طالب حوزة )

الآراء المطروحة في نزوله :

س : كيف نجمع بين نزول القرآن في شهر رمضان ـ كما في سورة القدر( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ـ وبين لقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجبرائيل للمرّة الأُولى في غار حراء ، وقراءة خمس آيات من سورة العلق؟

أتمنّى التوضيح ، ولكم جزيل الشكر.

ج : هنالك آراء كثيرة حول هذا الموضوع ، ولكن الرأي المشهور هو :

إنّ للقرآن نزولين ، الأوّل : دفعي ويسمّى أيضاً إجمالي ، والثاني : تدريجي أو تنجيمي ، وهو الذي استمر خلال فترة البعثة النبوية قرابة ( ٢٣ ) سنة ، وعلى هذا الرأي فلا إشكال في أنّ أوّل ما نزل من القرآن كانت الآيات الخمس الأوّل من سورة العلق إلى آخر ما نزل كسورة تامّة وهي النصر.

أمّا في النزول الإجمالي أو الدفعي وهو المتحقّق في ليلة القدر ، فكان النازل لا هذا القرآن بسوره وآياته ، وأسباب نزوله المختلفة والمتفرّقة ، لأنّها تابعة

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٥٠

لحوادث شخصية وزمانية ومكانية لا تصدق عليها إلاّ بحصولها ـ أي حصول مواردها ـ وحسب التعابير اللفظية من ماضي ومضارع أو الحال ، التي جميعها تستدعي النزول المتفرّق ، بل النازل هو حقيقة القرآن بعلومه ومعارفه الإلهية ، ليتنوّر قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعارف القرآنية.

وهذا الرأي ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في الميزان ، والسيّد محمّد باقر الصدر في المدرسة القرآنية ، والسيّد محمّد باقر الحكيم في علوم القرآن ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل ، والشيخ هاشم البحراني في البرهان ، والشيخ جواد مغنية في الكاشف.

وإليك الآراء الأُخرى غير المشهورة :

١ ـ المراد بنزوله في ليلة القدر افتتاح نزوله التدريجي ، حيث إنّ أوّل سورة ـ وهي الحمد ـ نزلت في ليلة القدر ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأخبار.

٢ ـ إنّه نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثمّ نزل نجوماً إلى الأرض.

٣ ـ معظم القرآن نزل في شهر رمضان ، فصحّ نسبة الجميع إليه.

٤ ـ كان ينزل في كُلّ ليلة قدر من كُلّ عام ما يحتاج إليه الناس في تلك السنّة من القرآن.

٥ ـ شهر رمضان الذي نزل في فضله القرآن ، أي فرضَ صيامه.

٦ ـ إنّ بدء نزول القرآن في ليلة القدر ، ولكنّه يختلف عن القول الأوّل ، بأنّ القرآن الذي نزل في ليلة القدر هو هذا القرآن بسوره واسمه قرآن ، والسور المتقدّمة على ليلة القدر ، مثل سورة العلق ـ أوائل ـ وغيرها لم تجمع بما يسمّى قرآن.

هذا ملخّص الآراء المطروحة ، والتي تردّ من قبل أصحاب هذا الفن.

٥١

( علي ـ البحرين ـ ٢٥ سنة ـ طالب )

المخاطب في قوله( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) الزوجان لا آدم وحوّاء :

س : قال تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (١) ، المعروف أنّ النبيّ آدم وحوّاء معصومان عن الخطأ ، فعن مجاهد : كان لا يعيش لآدم عليه‌السلام ولد ، فقال الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمّياه عبد الحارث ـ وكان الشيطان يسمّى بالحارث ـ فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) ما تعليقكم على هذا التفسير؟ نرجو الجواب الكافي.

ج : هذه الرواية واضحة الكذب والبطلان ، فإنّ الله سبحانه وهب العقل للإنسان ليفكّر به ، وليميّز الحقّ عن الباطل من خلاله ، فلماذا نعطّل عقولنا إلى هذا الحدِّ؟!

إنّ مضمون القصّة المذكورة نرفض نسبته إلى الإنسان العادي ، فكيف بآدمعليه‌السلام ؟! وكيف نحتمل في حقّه أن يتابع الشيطان إلى هذا الحدِّ ، ويجعل لله شريكاً؟!

إنّه أمر مرفوض ، فآدمعليه‌السلام حتّى إذا لم نقل بعصمته ، ولكن لا نحتمل أن يكون مستواه بالغاً إلى هذا الحدِّ الذي هو دون مستوى الإنسان العادي.

فلماذا هذا مع خليفة الله في الأرض؟! ولماذا هذا مع مَنْ علّمهُ الله سبحانه الأسماء؟! ولماذا هذا مع أنبياء الله تعالى؟! إنّنا نأسف أن تدخل أساطير الإسرائيليات ، وتشقّ طريقها إلى كتبنا بهذا الشكل ، ويأخذ بتناقلها هذا عن ذاك.

إنّ المقصود من الآية الكريمة واضح ، فهي تشير إلى نوع الإنسان ـ وليس إلى آدم وحوّاء ـ وتقول : إنّ أمر الإنسان غريب ، فعندما يتحقّق الحمل يطلب الزوجان من الله سبحانه أن يكون ذلك الحمل ولداً صالحاً ، ويكونان بذلك من

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٠.

٥٢

الشاكرين له ، ولكن حينما يرزقهما ذلك يأخذ كلامهما بالتغيّر ، فيقولان : إنّ ولدنا كان من عطاء الشيطان ، أو أنّه كان كاملاً ، لأنّ غذاءه وظروفه الصحّية كانت جيّدة ، أو ما شاكل ذلك.

( علي ـ الكويت ـ ٣٠ سنة ـ دبلوم )

معنى( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) :

س : أُريد تفسير الآية الكريمة : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (١) ؟

ج : إنّ الدعوة إلى النار ، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار ، من الكفر والمعاصي ، لكونها هي التي تتصوّر لهم يوم القيامة ناراً يعذّبون فيها ، أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازاً من باب إطلاق المسبّب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمّة يدعون إلى النار ، تصيرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم اللاحقون ، ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجمود ، وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وفي الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) : «يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ »(٢) .

__________________

١ ـ القصص : ٤١.

٢ ـ الكافي ١ / ٢١٦.

٥٣

( فادي نجدي ـ لبنان ـ ٢٧ سنة )

ترتيب آيتي البلاغ والإكمال :

س : بالنسبة إلى موضوع ترتيب الآيات في القرآن أرى يستحقّ النظر : إنّ الترتيب الزمني يستوجب أنّ آية البلاغ تأتي بعد آية الإكمال ، بالرغم أنّهما في القرآن موجودتان في سورة واحدة بالترتيب المعكوس.

وقد ألزمتم أنفسكم بأنّ الترتيب للسور والآيات كان منذ عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تردّون على هذه الشبهة التي تجعل من دلالة الآيات منافية لما ندّعيه من نزولها في شأن ولاية علي عليه‌السلام ؟

ج : لا يخفى أنّ القرآن الكريم رتّبت آياته من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الوحي عن الله تعالى ، ولا علاقة لذلك بترتيب السابق واللاحق في النزول ، وهذا ما يسمّى بالنظم ، أي : نظم آيات السورة بحسب أغراض ومصالح معيّنة ، تظهر أسبابها عندنا ، وقد تخفى أسباب بعضها كذلك.

واعلم إنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (١) إذا أخذنا ترتيب الآيات ـ وهو ما نسمّيه بسياق الآيات ـ بنظر الاعتبار ، فإنّ سياق الآيات لا تساعد على قولنا أنّها نزلت في الإمام عليعليه‌السلام ، بل إنّ الآيات التي قبلها والتي بعدها تتحدّث عن أهل الكتاب ، فالآية التي قبلها هي قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) (٢) ، والآية التي بعدها هي قوله تعالى :( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) (٣) ، مع أنّ اليهود والنصارى في ذلك العهد النبوي لم يكن لهم شأنٌ وخطر ، فهم ليس بأهل قوّةٍ ولا شوكةٍ ، ولا سطوة حتّى يخشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم إنّ هو بلّغ الإسلام.

__________________

١ ـ المائدة : ٦٧.

٢ ـ المائدة : ٦٦.

٣ ـ المائدة : ٦٨.

٥٤

فإنّ الإسلام عند نزول الآية قد أعزّه الله تعالى بقوّته وتمكّنت سطوته ، فلا معنى لخوف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من النصارى في تبليغ الإسلام ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ الآية تشير إلى تبليغ أعظم ، وأمر أخطر لم يألفه المسلمون ، وسيرتاب منه المنافقون ، ويتزعّزع لعظم خطره أهل الجاه والدنيا ، وهذا الأمر هو تبليغ ولاية عليعليه‌السلام الذي لا يطيقه المنافقون ، والذين في قلوبهم مرض ، فإنّهم سيحاولون إلى التصدّي لجهودهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا أخبره تعالى إنّ الله سيعصمك من خطر هؤلاء ومن مؤامراتهم.

مع أنّ الروايات من قبل الفريقين تؤكّد أنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قد نزلت في تبليغ ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ممّا يعني أنّ ترتيب الآيات وسياقها لا علاقة له بمعنى الآية وسبب نزولها ، لذا فلا عليك أن ترى تقدّم آية( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) ، على آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ؟ فإنّ روايات السنّة والشيعة كُلّها متّفقة على نزولهما في تبليغ ولاية عليعليه‌السلام .

( ـ ـ )

المقصود بالفؤاد :

س : قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٢) ، ما المقصود بالفؤاد؟ وما معنى مسؤولية الفؤاد؟ نرجو منكم الإجابة الوافية ، ولكم جزيل الشكر والتحية الطيّبة.

ج : قال العلاّمة الطباطبائيقدس‌سره ما نصّه : « قوله تعالى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به ، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً ،

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٥٥

وتتحصّل في مثل قولنا : لا تعتقد ما لا علم لك به ، ولا تقل ما لا علم لك به ، ولا تفعل ما لا علم لك به ، لأنّ في ذلك كُلّه اتباعاً

وقوله :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) تعليل للنهي السابق في قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

والظاهر المتبادر إلى الذهن ، أنّ الضميرين في (كَانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) ، فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله :( مَسْؤُولاً ) مقدّماً عليه ، كما ذكره الزمخشري في الكشّاف ، أو مغنياً عن نائب الفاعل ، وقوله :( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد

والمعنى : لا تتبع ما ليس لك به علم ، لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد ، وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم ، والمحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ، أنّ السمع والبصر والفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ، ليشخّص بها الحقّ ، ويحصّل بها على الواقع ، فيعتقد به ويبني عليه عمله ، وسيسأل عن كُلّ منها ، هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علمياً؟

وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكّره ، وقضى به يقينياً لاشكّ فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحقّ ، وتشهد على ما هو الواقع ، فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتباع ما ليس له به علم ، فإنّ الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل ، فتشهد عليه فيما اتبعه ممّا حصلته ، ولم يكن له به علم ، ولا يقبل حينئذ له عذر.

وما له إلى نحو من قولنا : لا تقف ما ليس لك به علم ، فإنّه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك ، والله سائلها عن عملك لا محالة ، فتكون الآية في معنى قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ـ إلى أن قال ـ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

٥٦

سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (١) ، وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان ، وهو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر ، ويدرك ما يدرك ، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر ، أن يوقف الله النفس الإنسانية ، فيسألها عمّا أدركت ، فتشهد على الإنسان نفسه.

وقد تبيّن : أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به ، سواء كان اعتقاداً مع الجهل ، أو عملاً مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه ، أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به ، وذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد ، ولا ضير في كون العلّة أعم ممّا عللتها ، فإنّ الأعضاء مسؤولة حتّى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام ، قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الآية(٢) .

قال في المجمع في معنى قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) : معناه لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً ، أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن ، وقيل : هو شهادة الزور ، عن محمّد بن الحنفية.

والأصل أنّه عام في كُلّ قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم ، فكأنّه سبحانه قال : لا تقل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يقال ، ولا تفعل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يفعل ، ولا تعتقد إلاّ ما تعلم أنّه ممّا يجوز أن يعتقد انتهى »(٣) .

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٠ ـ ٢٣.

٢ ـ يس : ٦٥.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٣ / ٩٢.

٥٧

وقال الشيخ الطبرسيقدس‌سره ما نصّه : «( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) معناه : إنّ السمع يسأل عمّا سمع ، والبصر عمّا رأى ، والقلب عمّا عزم عليه.

ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، والمراد أنّ أصحابها هم المسؤولون ، ولذلك قال :( كُلُّ أُولئِكَ ) وقيل : المعنى كُلّ أُولئك الجوارح يسأل عمّا فعل بها.

قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيما استعملوها »(١) .

( عبد الماجد ـ فرنسا ـ ٣٤ سنة ـ ليسانس )

ثواب سورة الواقعة :

س : هل صحيح أنّ من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة يحفظه الله من الفقر؟

ج : مصدر هذا الخبر رواية وردت عن أهل العامّة ، نقلها الكثير منهم عن عبد الله بن مسعود في محاورة مع عثمان بن عفّان ، يقول عبد الله بن مسعود في آخرها : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة لم يصبه فاقة أبداً »(٢) .

وقد نقلها من علمائنا الشيخ الطبرسي في تفسيره(٣) ، ويبدو أنّه نقله عنهم ، وإن لم يصرّح بذلك.

ومن يعمل بها من أصحابنا فهو استناداً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، والتي تعني أنّ المستحبّات التي ترد في الشريعة المستندة إلى روايات تدلّ على ذلك ، لا ينظر إلى سند تلك الروايات ومدى صحّته وعدمه ، لأنّ الرواية أكثر

__________________

١ ـ مجمع البيان ٦ / ٢٥١.

٢ ـ معالم التنزيل ٤ / ٢٩٢ ، الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٤ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ٣٠٢.

٣ ـ أُنظر : مجمع البيان ٩ / ٣٥٤.

٥٨

ما تدلّ على الاستحباب ، وليس هناك محذور في الفعل أو الترك ، بل يعمل بالرواية رجاء صحّة صدورها ، فإنّ المرء يثاب على ذلك العمل.

وقد ورد خبر آخر في سورة الواقعة ، نقله الشيخ الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من قرأ في كُلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله ، وأحبّه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّة لم يشركه فيها أحد »(١) ، وبضمّ هذا الخبر إلى ذاك يقوى احتمال صحّة الأثر المترتّب على قراءة تلك السورة ، ويقوى أكثر بضمّهما إلى الخبر الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه »(٢) .

( نسمة ـ الإمارات ـ ٢٠ سنة ـ طالبة جامعة )

معنى الحجّة البالغة :

س : وفّقكم الله تعالى لكُلّ خير ، عندي استفسار حول الآية الكريمة ، ( فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٣) ، كيف نربط بين هذه الآية وبين من لم يصل لهم الإسلام ، بمعنى أنّ الحجّة بالغة علينا نحن المسلمين ، ممّن ولد في بيئة مسلمة ، ولكن كيف تكون الحجّة بالغة على ممّن ولد في بيئة كافرة ، لا يعرف عن الإسلام شيئاً؟ وشكراً.

ج : إنّ فهمك للآية القرآنية بما ذكرت غير صحيح ، بل إنّ مراد الآية الردّ على المشركين ، الذين أرادوا أن يثبتوا شركهم بحجّتهم التي ما هي إلاّ إتباع

__________________

١ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ١١٧.

٢ ـ الكافي ٢ / ٨٧.

٣ ـ الأنعام : ١٤٩.

٥٩

الظنّ ، فجاءت هذه الآية تفريعاً على تلك الآية السابقة ، وفاء التفريع الموجودة في أوّل الآية تدلّ على ذلك.

وقال العلاّمة الطباطبائي حول الآية ما نصّه : « والمعنى : أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم وإتباعكم الظنّ ، وتخرّصكم في المعارف الإلهية ، فحجّتكم تدلّ على أنّ لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك ، وترك الافتراء عليه ، وأنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم ، فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين ، وأجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم »(١) .

وقال الشيخ الطوسي حول الآية ما نصّه : « ومعنى البالغة : التي تبلغ قطع عذر المحجوج ، وتزيل كُلّ لبس وشبهة عمّن نظر فيها ، واستدلّ أيضاً بها »(٢) ، لأنّ معناها أنّها تبلغ إلى جميع أفراد البشر كما فهمت.

وعلى هذا فليس هناك أيّ تعارض بين الآية القرآنية وبين عدم وصول الدين الحقّ إلى مجموعة من الأفراد ، بل أنّ القرآن يوضّح أنّ مجموعة من الناس سوف لا يصل إليهم الحقّ ، ويسمّيهم بالمستضعفين ، وهم معذورون في عدم وصول الدين الحقّ إليهم ، يقول تعالى :( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) .

قال صاحب الميزان : « يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه »(٤) .

__________________

١ ـ الميزان في تفسير القرآن ٧ / ٣٦٦.

٢ ـ التبيان ٤ / ٣١١.

٣ ـ النساء : ٩٨.

٤ ـ الميزان في تفسير القرآن ٥ / ٥١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185