• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28838 / تحميل: 6796
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فيه وأخذوا بالمجمع عليه في تسمية مرتكب الكبيرة، دون أي ذكر أو حديث عن فئتي الضلالة.

وابن منظور بعد، متأخر من حيث الزمان فقد عاش بين القرنين السابع والثامن الهجري، فهو لم يتصل بالأحداث من طريق مباشر ولا من طريق قريب كالذين سبقوه، في ما يخص المادة التاريخية التي تضمنها كتابه.

كما ألاحظ أيضا أن ابن منظور قد ساق عبارته بصيغة ضعيفة كأنه لا يريد أن يحمل عليه ما يقوله هؤلاء الذين ( يلقبون ) المعتزلة والذين زعموا.

يضاف إلى كل ذلك، أن ابن منظور يتحدث عن موقف سياسي بين أهل السنة وبين الخوارج ويربط تسمية المعتزلة به كما يبدو من عبارته.

( ففي الضلالة.والذي يستعرضون الناس قتلاً ) فاستشهاد نللينو به، بعد ما ربط الاعتزال بسبب ديني يخص الخلاف في قضية مرتكب الكبيرة الدينية، هو استشهاد غير موفق ولا مقبول.

ويستمر نللينو مضيفاً ( ثم ان قول المسعودي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني والسياسي الذي وقفه واصل بن عطاء بازاء من اشتركوا في الحروب الدينية في القرن الأول بين أنصار علي وأنصار عثمان.الخ ).

ونعود مضطرين إلى النقطة التي انتهينا منها ونسأل مرة أخرى، ما هو قول المسعودي، هذا الذي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني

٤١

والسياسي الذي وقفه واصل ؟ ان المسعودي كما رأينا لم يقل في فقرتيه شيئا يتصل بالموقف السياسي لواصل ولم يعرض له، وإنما تحدث عن الفاسق الذي هو في منزلة بين المنزلتين والذي سميت به المعتزلة، كما تحدث الكثيرون غيره قبله وبعده.

ويمضي نللينو قائلا ( ويؤيد هذا كله ما كان بين نشأة الاعتزال وبين الأحزاب السياسية في العصر الأموي من صلة وثيقة ).

فهل قامت فرقة أو مذهب من فراغ أو عدم ؟ وهل نشأ حزب، وهو مقطوع الصلة بأحداث وأفكار عصره تأييداً أو رفضاً، اتفاقاً أو اختلافاً ؟! هل حدثنا التاريخ عن حركة من هذا النوع، بل هل يمكن أن تقوم ؟ ولنأخذ الحركات والفرق والمذاهب الإسلامية فهل شذت حركة أو فرقة أو مذهب عن هذه القاعدة ؟ هل كان الشيعة سيوجدون لو لا علي وأفضليته عندهم وخلافه مع من خالفه ؟ وهل خرج الخوارج لولا القتال وصفين والتحكيم ؟! فأين اختصاص المعتزلة في أن تكون نشأتهم ذات صلة وثيقة بالأحزاب السياسية في العصر الأموي ؟!

أما إذا كان يقصد ب- ( الصلة الوثيقة ) قوة الرابطة وحسن العلاقة التي كانت تشد المعتزلة إلى الحركات والأحزاب السياسية في عصرهم فهذا هو الخطأ الكبير الذي أوقع نللينو نفسه فيه، فإذا كان المعتزلة على خلاف مع الشيعة، بسبب موقفهم من علي أو من إمامته وهو أمر معروف، وعلى خلاف مع أهل السنة والخوارج، كما هو قول نللينو نفسه، الذي مر بنا قبل

٤٢

قليل فماذا بقي من الحركات والأحزاب السياسية التي كان المعتزلة على ( صلة وثيقة ) بهم ؟!

لعلي أرهقتك بطول الحديث عن بحث نللينو، وأحسبك ضقت به كما ضقت به أنا قبلك، ولكن ماذا أعمل إذا كان نللينو لا يريد ان يتركني ويتركك أنظر إليه وهو يحاول إثبات أن المعتزلة الكلاميين يمثلون امتداداً للمعتزلة السياسيين السابقين، كيف يطوف على المؤلفين ابتداءً من الطبري وانتهاء بابي الفداء، مستعرضا بعض الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه ولا ينسى أن يمر بمحمد بن عبد الله النفس الزكية لينتهي إلى القول ( فعندما إذن الدليل الحاسم على لفظ ( معتزل ) بهذا المعنى السياسي طوال هذا الزمن الذي عاش فيه مؤسسا مذهب المعتزلة).

هل تستطيع وأنت تقرأ هذا دون أن تتساءل كما تساءلت، وماذا في أن يكون الاعتزال بمعناه السياسي قد عرف في زمان واصل وعمرو، وهو لا بد أن يكون معروفا في زمانهما، وقد جرت الأحداث التي دفعت إليه في فترة ليست بعيدة عنهما ؟! أية قرينة في ذاك، وأي دليل على صلة المعتزلة الكلاميين بالمعتزلة السياسيين ؟ وهل كان نللينو في حاجة إلى كل هذا، ليثبت ما لم ينكره أحد ولم يشك فيه أحد، وهو أن الاعتزال بمعناه السياسي كان موجودا في زمان واصل وعمرو بن عبيد وقبلهما.

ولنترك هذا فما علاقة محمد النفس الزكية بالمعتزلة السياسيين ؟

أن ألا النفس الزكية لم ين طبعا من المعتزلة السياسيين، وهو قد عاش وقتل في القرن الثاني للهجرة، فهل يظن نللينو أن النفس الزكية كان

٤٣

في فكره واتجاهه السياسي والمذهبي، امتداداً لهؤلاء المعتزلة الذين أقل ما يوصفون به أنهم لم يكونوا من الذين يفضلون عليا أو يميلون إلى جانبه و إلا لما اعتزلوه في صراعه مع خصومه، وهو لم يقم بثورته ولم يتبعه التابعون فيها إلا على أساس حق أهل البيت من أبناء علي في خلافة المسلمين ورفع الظلم عنهم(١) .

أن المعتزلة الذين يرد ذكرهم في نص الطبري الذي استشهد به نللينو(٢) هم المعتزلة الكلاميين من أصحاب واصل بن عطاء، لا المعتزلة السياسيون لقد شارك أولئك كما يذكر الطبري في الاجتماع الذي تمت فيه بيعة النفس الزكية أواخر الحكم الأموي، وكان من بين المشاركين فيه أبو جعفر المنصور الذي ثار عليه محمد عام ١٤٥.

أما الذين اعتزلوا الصراع أو المعتزلة للقتال كما يسميهم الشريف المرتضى(٣) فلم يبق منهم أحد على عهد محمد ليبايع أو لينكث، ويكون موضع استشهاد محمد، فالاعتزال المشار إليه في نص الطبري لا يتضمن المعنى السياسي الذي تصوره نللينو وهو يكتب تاريخا لا يعرفه التاريخ.

٦ - رأي احمد أمين:

وللأستاذ احمد أمين رأي أو ( فرض ) في تسمية المعتزلة قال أنه لفته إليه ( ما قرأناه في خطط المقريزي(٤) من أن بين الفرق اليهودية ( التي كانت منتشرة في ذلك العهد وقبله ) الطائفة يقال لها، الفروشيم وقال أن معناها المعتزلة ( ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) وقد أكدت هذا المعنى المعاجم اللغوية الحديثة فقد

____________________

(١) ستأتي مناقشتنا لهذا النص في الفصل الثالث من الكتاب عند الحديث عن ثورة النفس الزكية.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمرتضى ط النجف ١٣٥٥ ج٢ ص٢٧.

(٣) تقي الدين احمد بن علي المقريزي مؤرخ الديار المصرية ولد في القاهرة ٧٦٦ وتوفي ٨٤٥، له مؤلفات كثيرة خصوصا في التاريخ منها ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) المعروف بخطط المقريزي وهو الذي ينقل عنه هنا احمد أمين.

(٤) وضعنا كلام المقريزي بين قوسين مفردين تمييزا له عن كلام احمد أمين الذي جعلناه بين قوسين مزدوجين.

٤٤

ذكرت أن معنى اللفظ الفروشيم PHARISEES و SEPARATED و وهو ينطبق على المعنى الذي تؤديه كلمة معتزلة ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنهاكانت تتكلم بالقدر ليس كل الأفعال خلقها الله ) فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه في القول بالقدر ونحو ذلك ).

هذا هو نص ما ورد في ص ٣٤٤، ٣٤٥ من فجر الإسلام بعضه للمقريزي وبعضه لأحمد أمين(١) .

وهذا الرأي أو الفرض فيه من التكلف والضعف بقدر ما فيه من البعد عن الروح العلمي الرصين فلماذا يلجأ احمد أمين في التفتيش عن أسم المعتزلة إلى ( قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه ) والاعتزال موجود كاسم وموجود كموقف ورأي قبل واصل مع المعتزلة السياسيين ومع واصل وعمرو في مرتكب الكبيرة والمعتزلة الكلاميين.

ثم أن اليهود كانوا يعيشون مع العرب منذ أقدم العهود، قبل الإسلام وبعده، يتكلمون لغتهم ويحيون حياتهم، فليست بهم حاجة لانتظار من يسلم منهم ليطلق هذه التسمية على المعتزلة أكان هناك ما يمنع اليهودي قبل إسلامه من الإطلاع على مذاهب المسلمين ومنها المعتزلة وإطلاق التسمية التي يراها أنسب وأكثر ملاءمة لما يعتقدون.

أما أن الفروشيم كانت تتكلم في القدر كما تكلمت المعتزلة وهو ما دعا أحمد أمين إلى رأيه أو فرضه فليس فيه - حتى مع التسليم بصحته - دليل على ما أراده منه إذ يكفي أن احمد أمين نفسه، وهو يمهد للحديث

____________________

(١) أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني من أبناء الفرس الذي بعث بهم كسرى الى اليمن لطرد الحبشة منها مؤرخ صاحب أخبار وقصص ومعرفة بأساطير الأولين سيما الإسرائيليات ولد في صنعاء عام ٣٤ وتوفي فيها عام ١١٠ أو ١١٤ أو بعدها.

٤٥

عن المعتزلة في الفصل الرابع المخصص لهم من فجر الإسلام يقول ( يدلنا تأريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار.).

فإذا كانت التسمية قد جاءت من الشبه في أن المعتزلى تكلموا في القدر كما تكلم الفروشيم فإن الناس قبل الفروشيم وبعد المعتزلة لم يكفوا يوما عن الحديث في القدر، مذاهب وأشخاصاً وسيبقون كذلك ما بقي للإنسان نشاط أو ما بقي الإنسان.

ثم أن القول بالقدر والكلام فيه كان أسبق في الوجود من المعتزلة حتى بين المسلمين لقد تكلم في القدر قبلهم عدد كبير كانوا يعرفون بالقدرية ولم يعرفوا بغيره على خلاف المعتزلة الذين كانت بدايتهم مع المنزلة بين المنزلتين ومنها جاءت تسميتهم، أما القدر فقد تكلموا فيه كما تكلموا في غيره ولكن ليس على وجه الاختصاص إذ شاركهم فيه من لم يكن معتزليا ومن سبق الاعتزال في الوجود.

ونصل إلى ابن منبه الذي يريد احمد أمين أن يجد في ذكر اسمه من قبل المقريزي ما يؤيد رأيه فحتى لو وافقناه على انه وهب بن منبه(١) الذي كان ممن أسلم من يهود صنعاء فليس في ما أورده المقريزي عنه ما يعزز الرأي الذي يذهب إليه احمد أمين، بل على العكس، ما يهد هذا الرأي ويهدمه من أساسه فلنستمع إلى المقريزي وهو يقول ( قال ابن منبة: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن - يعني الحسن البصري - فسمعوا المعتزلة ) فهل في هذا غير ما يقوله غالبية الرواة المسلمين في

____________________

(١) سبق ان عرضنا لمواقف المسلمين واختلافها من مرتكب الكبيرة.

٤٦

تسمية المعتزلة كما مر بنا ؟ هل فيه ما يشير ولو من بعيد إلى سبب آخر للتسمية، سبب يتصل بالفروشيم و ( يقول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) ؟!

ثم ماذا تفهم من عبارة احمد أمين ( المعاجم اللغوية الحديثة ) الواردة في بداية هذا البحث ؟ فهل تعني ان المعاجم اللغوية القديمة - المعاصرة أو القريبة من الفروشيم، لم تكن تطلق على هذه الطائفة اسم المعتزلة ولم تعرفها به، وان المعاجم الحديثة - البعيدة عن عصرهم - وحدها هي التي ألصقت هذا الاسم وأضافته إليهم.

ولماذا هذا ( البعض ) في ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنها كانت تتكلم بالقدر.) ألم يكن هذا الذي تقول به في القدر معروفا عنها بما يكفي للاستغناء عن ( بعضهم ) ؟ أكان هناك بعض آخر ينكر أن تكون هذه الفرقة قد تكلمت بالقدر، كما كانت هناك معاجم لغوية حديثة ومعاجم أخرى قديمة ؟

ولنفترض أن طائفة ما غير الفروشيم قد سبقت إلى الكلام في القدر، ولم يعلم بها الأستاذ احمد أمين إلا متأخراً، أكان سيبدل رأيه في هذه الحالة ليجعل من تلك الطائفة أصلاً للمعتزلة، أم ستكون كل الطوائف التي سبقت إلى القول بالقدر أصلاً مشتركا للمعتزلة ؟!

يضاف إلى كل ما سبق، أننا لم نجد بين كتبوا عن المعتزلة، على كثرتهم قبل المقريزي وربما بعده، من ذكر هذه الصلة أو أشار إليها، خصوصاً من أعداء المعتزلة وما أكثرهم، وهو أمر لن يثير أقل من الشك.

٤٧

وبعد، فإن استخلاص رأي في قضية ما - ولتكن تسمية المعتزلة - لمجرد وجود تشابه في الاسم أو في الفعل، هو أمر بعيد عن الروح العلمي الذي حاول الأستاذ احمد أمين أن يكون مدافعاً عنه، وهو يكتب عن فكر المعتزلة فما أحراه ان يكون كذلك وهو يناقش تسميتهم.

٧ - رأي الدكتور نادر:

وأقف الآن عند الدكتور البير نصري نادر، فهو أيضاً له رأي في تسمية المعتزلة.

ولأنني أخذت نفسي بألا أتجنى على أحد، ولا أحكم على رأي قبل عرضه ومناقشته، فسأحاول أن أعرض رأي الدكتور في تسمية المعتزلة تمهيداً لمناقشته بعد ذاك، وسترى انه كبير جداً أن يسمي ما طرحه الدكتور نادر رأياً، فضلاً عن انه رأي يستحق المناقشة.

تعرض الدكتور لتسمية المعتزلة في كتابين من كتبه الأول هو ( فلسفة المعتزلة ) المطبوع ١٩٥٠، والثاني ( أهم الفرق الإسلامية السياسية والكلامية )١٩٦٦.

ففي الأول يقول الدكتور بالنص: ( بينما كانت مختلف الفرق الإسلامية يكفر بعضها البعض نجد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد رأسي المعتزلة يأتيان بحل جديد فيه الكثير من التسامح فقالا: أن المؤمن الذي يأتي بكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الكفر والإيمان ولما كان هذا الحل جديداً ولم يقبله الحسن البصري وبعض أتباعه انعزل واصل وعمرو بن عبيد عنهم ).

٤٨

وبدءاً ألاحظ أن وصف الدكتور لفكرة المنزلة بين المنزلتين بأنها ( حل فيه الكثير من التسامح )، هو وصف غير صحيح ولا يمكن الأخذ به على إطلاقه، فإذا كانت هذه المنزلة تمثل حلاً متسامحاً بالنسبة بالغ التشدد بالنسبة للمسلمين الآخرين الذين يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا وان فسق بكبيرته(١) .

فالحل الذي عرضه واصل بالنسبة لمرتكب الكبيرة، يختلف إذن باختلاف الطائفة أو الفرقة التي تريد أن تقارن قوله بقولها، لا كما توهم الدكتور نادر.

هذه هي الملاحظة الأولى، وما أظن الدكتور سيخالفني فيها، إلا أن ينكر ما أجمع عليه المسلمون في هذه القضية ولن يستطيع.

أما الثانية فان الدكتور كما هو واضح هنا يعتمد في تسمية المعتزلة، الرواية المشهورة القائمة على اعتزال مجلس الحسن البصري لكنه لم يكن دقيقا - ولا أريد أن أقول غير ذلك - في نقلها، فالرواية لا تجمع ابتداءاً بين واصل وعمرو في القول بالمنزلة بين المنزلتين ولا يترك مجلس الحسن أو الطرد منه وإنما تفردهما كما ذكرنا فهي أما أن تعزو ترك المجلس أو الطرد منه إلى واصل بعد مقالته في المنزلة بين المنزلتين وخروجه برأي مخالف في ذلك، ومن ثم لحاق عمرو وانضمامه إليه وأما أن تجعل المعتزل الأول عمرو بن عبيد وتنسب إليه ترك المجلس لكنها لا تجمع بينهما كما يظهر من الصيغة التي استعملها الدكتور نادر وفي جميع

____________________

(١) لم نجد من جمع بينهما من المؤلفين غير الرازي في كتابه ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) كما أشرنا الى ذلك في موضعه والرازي متأخر توفي عام ٦٠٦ وكتابه في غاية الاختصار ثم انه حين يعرض لفرق المعتزلة يقول عن - الواصلية منهم - اتباع واصل بن عطاء الغزال وهو أول من قال أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر . الخ ) وحين يصل الى الفرقة الثالثة - العمرية - يقول ( اتباع عمرو بن عبيد ومن قولهم ان شهادة طلحة والزبير غير مقبولة بوجه عام ) دون أية إشارة أو ذكر للمنزلة بين المنزلتين فهو يثبت القول بها لواصل وحده متابعا في ذلك الذين سبقوه من المؤلفين والكتاب في الفرق والمقالات.

٤٩

الأحوال فإنها لا تنسب القول في المنزلة بين المنزلتين إلا إلى أحد الرجلين واصل بن عطاء الذي تبعه فيه بعد ذاك عمرو بن عبيد(١) .

وإذا كان الدكتور يحاول أن يتلافى في ( أهم الفرق الإسلامية ) المآخذ التي رأيناها في ( فلسفة المعتزلة ) فيأتي بالرواية على وجه قريب من وجهها وبتشويه أقل فانه ما إن يخرج من النص مجتهداً رأيا في أمر مرتكب الكبيرة حتى يزل ويبعد عن الصواب ألا ترى إليه وهو يتحدث عن المعتزلة في كتابه ذاك كيف يقرر ( إن المقصود بالكبيرة هنا الخروج على الإمام ) فمن أين علم الدكتور أن المقصود بالكبيرة ( هنا ) هو الخروج على الإمام ولم يقل بذلك أحد من الذين عالجوا هذا الموضوع أو تعرضوا له ؟ لو كانت الكبيرة هنا تعني الخروج على الإمام بحسب رأي الدكتور لكانت قد أثيرت قبل زمن طويل حين خرج من خرج على عثمان، وحين خرج من خرج على علي، ومن خرج على من جاء بعدهما.

ثم من أين أتى الدكتور بما أضافه إلى واصل في قوله ( ولا بكافر ( تجب علينا مقاتله ) فأنا لم أعثر على هذه الإضافة فيما بين يدي من مصادر، وأظنها كالإضافة التي سبقتها، وهو يتحدث عن عدم قبول الحسن ( وبعض اتباعه ) للحل الذي طرحه واصل في المنزلة بين المنزلتين.

ان الدكتور نادر يجتهد حيث لا يجب، لكنه يخطئ حيث يجتهد وحيث لا يجتهد: في الرأي أو في النص.

____________________

(١) أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان الخياط من مشايخ المعتزلة وأستاذ أبي القاسم البلخي توفي في حدود ٣٠٠ ه- كان كما يقول صاحب طبقات المعتزلة فقيها صاحب حديث واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين من أشهر كتبه ( الانتصار ) في الرد على ابن الروندي المطبعة الكاثوليكية بيروت ١٩٥٧.

٥٠

٨ - رأي المعتزلة في تسميتهم:

كنا قد تناولنا فيما مضى آراء الكتاب والمؤرخين من غير المعتزلة في أصل تسميتهم، والآن أفلا يجدر بنا أن نقف قليلا لنسأل المعتزلة أنفسهم - أصحاب الشأن - عن منشأ تسميتهم فعل عندهم من ذلك علماً ؟

فماذا عند المعتزلة من تسميتهم ؟

على خلاف الرأي الذي سبق، من ربط التسمية باعتزال ما اتفقت عليه الأمة حاول المعتزلة من جانبهم - وكأنهم يعكسون ذلك الرأي - الأخذ بالنقيض حين جعلوا الاعتزال، اعتزالا لما اختلفت فيه الأمة في قضية مرتكب الكبيرة فالخياط(١) يقول في ص١١٨ من كتابه ( الانتصار ) ( إن واصل بن عطاءرحمه‌الله لم يحدث قولا لم تكن الأمة تقول به فيكون قد خرج من الإجماع ولكنه ويجد الأمة مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم فأخذ بما أجعمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه ).

وإلى هذا الرأي أيضا يذهب قاضي القضاة في شرح الأصول الخمسة وفي المنية والأمل والشريف المرتضى في الأمالي وابن المرتضى في طبقات المعتزلة وان كان الثلاثة الأخيرون يوردون هذا الرأي ضمن الآراء الأخرى التي أشرنا إليها آنفا(٢) .

وإذا كانت قد رفضت سابقا الرأي الذي يرد التسمية إلى اعتزال ما أجمعت عليه الأمة فإني أرفض وبنفس القوة ما يتعلق به المعتزلة من أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة وأخذهم بالمجمع عليه وهو اسم الفاسق.

____________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص٧١٦ و ٧١٧ والمنية والأمل ص٤٠ وأمالي المرتضى ص١٦٦ وطبقات المعتزلة ص٣٨.

(٢) ولهذا لم نجد في أدبيات الخوارج أو في خطبهم ذكرا للفاسق إلا على سبيل الذم الذي يلحق سلوك الإنسان وسيرته وليس كمرتكب لمعصية معينة اسمها الكبيرة.

٥١

ولنلاحظ أولا أن الحديث عما اتفقت أو اختلفت فيه الأمة لا يتعلق باسم مرتكب الكبيرة فقط وكيف يجب أن يسمى ليصح للمعتزلة أن يحتجوا بوجود الإجماع عليه، سواء وجد هذا الإجماع فعلا أم لم يوجد، وإنما الخلاف أساسا في حكم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة هل سيكون مثواه الجنة أم النار، وما هو العذاب الذي سيتعرض له وما هي مدته.

ولهذا فان البغدادي وغير البغدادي حين يقولون أن واصلاً قد خرج برأي في صاحب الكبيرة خالف فيه الإجماع لم يكونوا يقصدون اسم ( الفاسق ) الذي يتفق واصل في جزء منه مع عدد من الفرق الإسلامية، ومنها الفرقة التي ينتمي إليها البغدادي نفسه، لكنهم كانوا يقصدون بالدرجة الأولى الحكم الذي يترتب على ارتكاب الكبيرة فهذا هو الموضوع المهم الذي خالف فيه واصل آراء الفرق الأخرى قبله.

ولنعد إلى الاسم نفسه، فهل حقا أن الإجماع واقع على تسمية مرتكب الكبيرة بالفاسق، كما يدعي الخياط وغيره من المعتزلة ؟

أن المصادر في الفرق والمذاهب لا تؤيد ذلك، فالخوارج يسمون صاحب الكبيرة كافراً، والحسن وأصحابه يسمونه منافقاً، وليس بين أولئك وهؤلاء من يضيف اسم الفاسق إلى الإسم الذي اختاره لمرتكب الكبيرة.

أما الخوارج، فلأن المسافة بين الإيمان والكفر عندهم من القصر بحيث لا تحتمل محطة أخرى اسمها ( الفسق )، ينزل عندها صاحب الكبيرة ( الفاسق )، فهم لا يعرفون إلا المؤمن والكافر، وليس هناك وسط بين الأثنين يحتاجون معه إلى اسم آخر يكون علما عليه(١) بل أن فرقاً مهمة منهم

____________________

(١) هذا هو مذهب الازارقة أكبر فرق الخوارج وأهمها.

٥٢

تتجاوز الكفر لتسمي المخالفين لهم، حتى مع عدم ارتكابهم لأية كبيرة مشركين ثم تجاوزا هذا فسموا القعدة من مذهبهم مشركين(١) .

وأما الحسن وأصحابه، فلأن النفاق يستغرق الفسق ويتعداه، فان محل لإضافة اسم الفاسق عندهم، وقد سموا مرتكب الكبيرة منافقاً، ورتبوا عليه حكم المنافق، فأية قيمة لتسمية لا حكم لها.

ولنسلم مع الخياط، أن الأمة ( مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور.)، فلماذا تمسك واصل باسم الفاسق وترك الفاجر، وقد أجمعت الأمة عليه إجماعها على الفاسق وقرنته به، كما يقول الخياط في نصه المشار إليه آنفا.

أن اختيار واصل أو غير واصل ل- ( الفاسق )، اسما لمرتكب الكبيرة، لن يلزمنا إذن بشيء لأنه سيكون ترجيحا بلا مرجح، فإذا اختار واصل اسم الفاسق فأنا أستطيع، ودون أي حرج، إن أختار اسم الفاجر لنفس الشخص، فليس أحدهما أولى من الآخر وليس لأحدهما امتياز ورجحان حتى لو أخذنا بقول الخياط الذي سبقت الإشارة إليه، إلا أن يكون الإجماع في نظر الخياط هو ما اختاره واصل.

هذا فيما يخص الاسم، أما ما يخص الحكم، أي جزاء مرتكب الكبيرة والعذاب الذي سيلقاه في الآخرة، فان آراء الفرق الإسلامية ليست متفقة بشأنه، فالخوارج وهم يعدون مرتكب الكبيرة كافرا، كما رأينا، يحكمون عليه بالخلود في النار، والشيعة الإمامية وأهل السنة، لا يخلدونه

____________________

(١) الفرق بين الفرق للبغدادي ص٢١٠ وأصول الدين له أيضا نشر مدرسة الالهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط أولى ١٩٢٨ ج١ ص٢٤٢ وما بعدها والفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للشريف المرتضى ج٢ ص١٣٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٦١ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين مطبعة العرفان صيدا ١٣٣٠ ه- ص٣٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين الجويني تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨١ وما بعدها والتبصير في الدين ص١٠٦ - ١٠٧ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٧١ والشيعة بين المعتزلة والاشاعرة لهاشم معروف الحسني ص٢٦٢ وما بعدها.

٥٣

بل هو ينال عندهم من العذاب بقدر معصبته(١) والمرجئة يصححون إيمانه، ويتركون الحكم عليه لله.

ليس هناك إذن من إجماع بين هذه الفرق في الموضوع، يمكن القول بان المعتزلة قد أخذوا به وتركوا المختلف فيه.

ومع ذاك فلا بأس أن نلم بالرأي الذي أتى به المعتزلة، لنرى إن كانوا قد أضافوا شيئا ذا قيمة في الموضوع بعد أن رأينا فشل دعواهم في الإجماع عليه.

يقول المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكنه في منزلة دون منزلة الكافر من حيث العذاب، وهذا رأي لا أصالة فيه، نصفه مسروق، ونصفه مقلوب.

أما النصف المسروق فهو رأي الخوارج كما ذكرنا، وأما النصف المقلوب، فهو رأي السنة والامامية من الشيعة، فقد قال هؤلاء: إن المؤمن لن يخلد في النار إذا مات من غير توبة عن كبيرة ارتكبها لكنا يعاقب بقدر كبيرته، وجاء المعتزلة فقالوا: انه يخلد في النار، مع تخفيف العقاب عليه إلى ما دون عقاب الكافر.

ركز السنة والامامية على العقاب، مع عدم التأبيد في النار، وركز المعتزلة على التأبيد مع تخفيف العقاب.

____________________

(١) بل ان فيما ذهب إليه المعتزلة إغراءاً بارتكاب المزيد من الكبائر المزيد من الكبائر ما دامت أية واحدة توجب الخلود لمرتكبيها في النار فما الذي يمنعه من ارتكاب المزيد والعقاب هو هو واحد لا يتغير بارتكاب واحدة أو ارتكاب أكثر.

٥٤

ورأي السنة والامامية أقرب إلى الحق والإنصاف، ذلك انه يجعل العقوبة متناسبة مع الجرم، فحين يستوفي مرتكب الكبيرة عقوبته فلن يكون ثمة سبب لإبقائه في النار مدة أخرى غير ما حدد لجرمه.

أما المعتزلة، فصاحب الكبيرة، مهما كانت، مخلد عندهم في النار، وهذا رأي فيه ظلم كبير من هذه الجهة، وفيه أظلم أكبر من جهة أخرى، لتسويته بين أصحاب الكبائر بتعريضهم لعقاب واحد دون تمييز بين كبيرة وكبيرة، مع ان العدل يقتضي عدم المساواة بين هؤلاء لأن الكبائر، رغم التسمية الواحدة، كثيرة جدا، ومختلفة جدا من حيث الخطورة، وليست في الدرجة نفسها لتوجب لأصحابها نفس العقاب، الذي هو الخلود في النار(١) .

ثم إن المعتزلة لم يوضحوا لنا فيما أضافوه، درجة العذاب الذي سيلقاه مرتكب الكبيرة، وإلى أي حد سيخفف عنه، وهل الفرق كبير بين عذابه وبين عذاب الكافر ؟

واختصارا أي درجات السعير سيحفظ لهذا السيئ الحظ الذي لا هو مؤمن ولا هو كافر ؟

وحتى لو تجاوزنا ذلك، واحسنا تقييم رأي المعتزلة، فأية أهمية في أن تأتي فرقة من المسلمين فتضيف إلى آراء الفرق الأخرى، وهي كثيرة في الموضوع، رأيا حديدا وهل يستحق هذا ان تنتزع اسمها منه، وتنسب إليه مع إن كل فرقة تعتبر معتزلة بالنسبة للفرق الأخرى في حكم مرتكب الكبيرة كما ذكرنا.

____________________

(١) المنية والأمل لقاضي القضاة ص٧ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص٢.

٥٥

ولنقبل رأي المعتزلة في ان اسمهم جاء من اعتزالهم ما اختلف فيه المسلمون، وأخذهم بما اجمعوا عليه ألم يكن من الأنسب لو انهم هم الذين اختاروا الاسم، كما يقولون، ان يختاروا من الأسماء ما يبرز معنى الإجماع الذي يدعون الأخذ به، لا اسم المعتزلة الذي قد يوحي العكس، وهو ما تعلق به خصومهم ضدهم، ذلك ان النسبة للإيجابي ( المجمع عليه ) أولى من النسبة للسلبي ( اعتزال المختلف فيه )، فان تكون ( مع ) أوضح في الدلالة من أن تكون ( ضد ).

كان من الممكن مثلا ان يطلق المعتزلة على أنفسهم لو أخذنا بوجهة نظرهم اسم ( الإجماعيين ) أو ( الإتفاقيين ) أو أي اسم آخر، يدل على الإجماع و الاتفاق أو يشير إليهما، فذلك أفضل من اسم ( المعتزلة ) الذي لا يشير في أفضل الحالات إلى أكثر من موقف سلبي بحت يلجأ إليه من لم يعرف الصواب ولم يهتد إلى الحق.

ثم أن المعتزلة قد تجاوزوا هذا الحد، فلم يقفوا عند مجرد الرفض واعتزال المختلف فيه من الآراء في مرتكب الكبيرة، بل أسسوا فرقة جديدة، وجاؤوا بمذهب جديد وكان يفترض - وأظننا لا نتجاوز في هذا دائرة المجمع عليه أيضا - أن يتحدد اسمهم، مما يشكل السمات الأساسية لمذهبهم، فاعتزال آراء الآخرين قد يشكل موقفا في ظرف معين وإزاء قضية معينة، ولكنه لا يمكن أن يؤلف في ذاته مذهبا ثم يكون هو الاسم المختار لهذا المذهب.

٥٦

على أن اعتزال الآخرين، لا يختص به المعتزلة وحدهم، وإنما هو نقطة البداية في بناء أية فرقة أو مذهب، دينيا كان ذلك المذهب، أم سياسيا، أم.الخ، وإلا فلم هذا العناء في تأسيس مذهب ما إذا هو تبني آراء وأفكاره غيره من المذاهب التي سبقته، فلم ( يعتزلها ) ولم يختلف عنها.

ويظهر أن المعتزلة، قد شعروا بعد ذلك بقصور حجتهم عن تفسير الاسم بالاستناد إلى اعتزال المختلف فيه من الآراء في شأن صاحب الكبيرة، فليس أسهل من عكس الحجة عليهم والقول بان الاعتزال، كان اعتزالا لما أجمع عليه المسلمون، فترد دعواهم بما يماثلها، وهذا ما فعله معهم خصومهم ابتداء، وتمسكوا به، كما رأينا، وهم أكثر عددا وأشد قوة , وليس في اللغة ما يرجح ادعاء على ادعاء، ولم يكن تخريج المعتزلة في اعتزال المختلف فيه بأقوى من تخريج خصومهم في اعتزال المجمع عليه، ما دام الاعتزال قابلا للطرفين، من غير اختصاص بواحد منهما.

ولهذا لجأ المعتزلة إلى القرآن، للدفاع عن الاسم، وبيان فضله، يسدون به قصور حجتهم في تفسيره باعتزال المختلف فيه، فاحتجوا لذلك بقوله تعالى في سورة مريم ٤٨ ( واعتزلكم )، وبقوله في سورة المزمل ١٠ ( واهجرهم هجرا جميلا )، وكأنهم يريدون أن يجعلوا الاعتزال، أينما ورد في القرآن، اعتزالاً للشر ليحجوا خصومهم ويفحموهم بما لا يستطيعون نقضه والرد عليه(١) .

وهذا تعسف ظاهر من المعتزلة في تفسير ألفاظ اللغة وتضييق لها، غير مبرر ولا مقبول، فإذا كان القرآن قد استعمل اللفظ في هاتين الآيتين

____________________

(١) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية هامش ص١٩٢.

٥٧

اعتزال الشر فانه استعمله في سورة الكهف ١٦ لاعتزال الخير إذ يقول ( وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . )(١) ، فليس في اللغة ما يمنع من استعمال اللفظ في الخير أيضا، فالفعل ( عزل ) يتسع لهما معا ولا يتجه لأحدهما دون الآخر، وليس وروده في هذه الآية أو تلك اعتزالا للشر يمانع من وروده في آية أو آيات أخرى اعتزالا للخير، فالحجة هنا ليست بأقوى من الحجة هناك.

وكما لجأ المعتزلة إلى القرآن، فقد لجؤوا إلى الحديث النبوي يستنجدونه في معركة التسمية، فاحتجوا بحديث رووه (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرها وأنقاها الفرقة المعتزلة ) أو ( ستفترق أمتي إلى فرق خيرها وأبرها المعتزلة) دون ذكر لعدد الفرق(٢) .

والمعتزلة في هذا ينهجون نهج الفرق الأخرى، في وضع الأحاديث تأييدا ودعما لها وحطا من شأن خصومها، وإضعافا لهم.

كما احتجوا للاعتزال بحديث آخر، رووه عن النبي يقول ( من اعتزل من الشر سقط في الخير )(٣) .

والغريب أن المعتزلة يرفضون الأخذ بالآيات القرآنية إذا رأوها تعارض مع العقل ويؤولنها بما يجعلها مسايرة له، موافقة لأحكامه، ثم يأتون هنا ليحتجوا بأحاديث، كمثل هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته في نظر أصحاب الجرح والتعديل، ولكن أحس إحساسا عميقا، بأنه لم يصدر عن إمام اللغة، وسيد بلغائها محمد بن عبد الله لسقوطه لغة ومضمونا، فإذا

____________________

(١) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

(٢) وحديث افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة من الأحاديث السيئة الصيت والتي يصعب تصديقها والوثوق بها وقد استغل ابشع استغلال في تصديع وحدة المسلمين وتكريس الفرقة بين طوائف الإسلام وتأليب بعضهم ضد بعض بل إن هذا الحديث ورد في كتاب ( الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة ) لعثمان بن عبد الله العراقي الحنفي تحقيق وتقديم الدكتور بشار قوتلواي أنقرة ١٩٦١ ص٣٠ لا عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفترض بل عن علي هذه المرة مع إضافة ما يناسبه طبعا من سب لمن ( ينتحلون حبنا أهل البيت . ) أو لمن ( يتشبع أو الشيعة ).

وللعلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري بحث قيم عن هذا الحديث في مقدمته لكتاب ( الفرق بين الفرق ) لعبد القاهر البغدادي و ( التبصير في الدين ) لأبي المظفر الاسفراييني.

وانظر كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية ) فقد فصلنا الحديث في هذا البحث.

ومعركة الأحاديث بين الفرق الإسلامية من أسوأ ما عرف تاريخ الإسلام من معارك.

(٣) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

٥٨

كان من اعتزال الشر وقع في الخير، فأين سيقع من فعل الخير ولم يكتف باعتزال الشر والكف عنه، ان من اعتزل الشر يكون وبكل بساطة قد اعتزل الشر فقط، وتلك المنزلة، أما عمل الخير فمنزلة أخرى غيرها، وما أظن المعتزلة يردون هذا أو يعترضون عليه، وهم - لا غيرهم - أصحاب تعدد المنازل.

ثم أن الحديث يتكلم عن اعتزال الشر، لا عن ( المعتزلة ) الفرقة المعروفة، ويبقى السؤال قائما لتحديد الجهة التي يتناولها الحديث في حال تصحيحه من هي هذه الجهة التي اعتزلت الشر ؟ من قال إنهم المعتزلة، ولماذا لا يكون غيرهم ؟ إن ما واجهنا في موضوع المجمع عليه، والمختلف فيه، من أقوال المسلمين والحجة وعكسها هناك، يمكن أن يواجهنا هنا في اعتزال الشر والسقوط في الخير، أو اعتزال الخير والسقوط في الشر، فليست فرقة أولى به من فرقة، فالحديث رغم ملاحظاتنا عليه عام يتعلق بمن اعتزل الشر عموماً، فهو لا يحدد جهة أو جماعة، ولا يختص بمذهب، وكل يستطيع التمسك به ودفع خصومه عنه.

بل أن المعتزلة قد تجاوزوا الحد وكأنهم في سباق مع الفرق الأخرى في رواية الأحاديث الموضوعية لتأييد مذهبهم، وهي الأحاديث التي حاربوها وحاربوا من وضعها ومن تسلح بها.

استمع إليهم وهم يروون عن النبي حديث ( يكون في أمتي رجل يقال له واصل بن عطاء يفصل بين الحق والباطل )، وأظن راوي الحديث

٥٩

نسي، فلم يذكر ( الغزال ) لقب واصل بعد ما ذكر اسمه واسم أبيه فلعل هناك واصل بن عطاء آخر يدعي انه المقصود بهذا الحديث !!

لقد كان المعتزلة في غنى عما يشوه صورتهم العقلية باللجوء إلى هذا ومثله مما حاربوا خصومهم عليه، ولو أنهم فعلوا لكانوا أحسنوا كثيرا لمذهبهم، ولاحتفظوا بتلك الصورة العقلية له، فلن يفعل حديث موضوع هنا وآخر مكذوب هناك، أكثر من تشويه هذه الصورة وهي خسارة على كل حال.

٩ - الرأي الذي نراه:

يبدو أنني انتهيت إلى رفض الآراء التي طرحت حتى الآن لتفسير اسم المعتزلة، سواء في ذلك ما تعلق به خصوم المعتزلة، أو ما تمسك به المعتزلة أنفسهم، فهل سنتوقف عند ذلك مكتفين بهذه النتيجة الهينة التي لا ترضي طموح العلم ولا تسد حاجة الباحثين أليس هناك من رأي نستطيع الأخذ به، مطمئنين إليه، واثقين بنسبة تتجاوز ما مر بنا على الأقل.

ولكن قبل ذاك، أود أن أعيد هنا ما سبق ان طرحته في بداية هذا الفصل، لماذا أثار اسم المعتزلة كل هذه الصعوبة، وكل هذا الاضطراب، خلافا للفرق الإسلامية الأخرى ؟ أهو وجه من وجوه الظلم الذي تعرضوا له في حياتهم ظل يلاحقهم، حتى بعد اختفائهم وزوال نشاطهم، في تسميتهم هذه المرة فلم يهتد لها باحث، بما يزيل الشك، ويبعث على الاطمئنان ؟!

٦٠

ليس هذا، كما أظن، فلقد تعرض الشيعة لأشد وأقسى مما تعرض له المعتزلة وتعرض الخوارج، كذلك، لأشد وأقسى مما تعرض له المعتزلة فلم يثر اسم الأولين، ولا اسم الآخرين الصعوبة التي أثارها اسم المعتزلة.

لماذا ؟ لأن اسم أولئك وهؤلاء، قد ارتبط بشخص معين متشيعين له، أو خارجين عليه، هو علي بن أبي طالب.

ولم يثر اسم الجهمية أية صعوبة للسبب نفسه.

ولم يثر اسم السنة والجماعة لارتباطه بواقعة معينة وبتاريخ معين.

وأعود إلى النقطة التي بدأت حديثي منها: هل سنقف إذن عند هذه النتيجة التي لا تتجاوز في أفضل الحالات دائرة الشكوك ونحن نبحث تسمية فرقة كانت في وقت ما، ذات شأن كبير في تاريخنا الإسلامي ؟ وهل استنفدت جميع الوسائل للوصول إلى رأي مقبول في هذه القضية أليس هناك ما يمكن أن يقدمه البحث بديلا لما رفضنا من آراء فيها ؟

يلوح لي ان رأيا سأبسطه هنا، قد يستطيع ان يكون ذلك البديل المقبول أو الاقرب إلى المقبول.

وأرجو ألا يستغرب القارئ، إذا قلت له إن هذا الرأي يعتمد أساسا له اعتزال واصل مجلس الحسن البصري، وهو الرأي الذي سبق أن رفضته كتفسير لتسمية المعتزلة إذن كيف أعود إلى رأي رفضته أنا قبل قليل لأقدمه الآن كاختيار لي ؟ أليس في هذا من التناقض، ما يمنع في أحسن

٦١

الفروض، من الأخذ بهما أو اطراحهما ورفضهما معاً، أم كنت أعبث بالقارئ ووقته، فأنكر هناك ما أتبناه هنا.

لا شيء من هذا ولا ذاك مطلقا، فقد قلت وأنا أناقش الرواية التي تنسب اعتزال واصل إلى السؤال عن مرتكب الكبيرة في مجلس الحسن، أنني أرفض هذه الرواية بالصيغة التي وردت بها، وكان هذا تحفظي عليها، فأنا لم أرفض الواقعة في ذاتها، ولا التسمية التي ارتبطت بها، إنما رفضت هناك، وارفض هنا الأسباب التي تسوقها الرواية تفسيرا للواقعة.

أنا أتفق مع الرواية في قولها باعتزال واصل مجلس الحسن، وفي أن تسمية المعتزلة جاءت من هذا الاعتزال، لكني أختلف معها فيما وراء ذلك في الأسباب التي دفعت واصلا إلى ترك مجلس الحسن واعتزاله فلست من السذاجة بالدرجة التي أقبل معها، أن شخصا ما سأل الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة، فانبرى له واصل بالإجابة دون انتظار رد الحسن، ثم.ثم قام واصل من وقته واعتزل الحسن ومجلسه، ليؤسس مجلسا جديدا.

أن هذا التفسير، لا أحسن الظن به كثيراً ولا قليلاً، وهو إلى العبث أقرب منه إلى الجد، في موضوع لا يحتمل العبث ولا يصلح له.

ولقد أوضحت أسباب رفضي هناك، بشيء من التفصيل، فلا حاجة إلى الخوض فيها من جديد هنا.

٦٢

واختلف مع الرواية الأخرى، التي تقوم هي أيضا على اعتزال واصل مجلس الحسن، ولكنها تعزو الاعتزال إلى طرد واصل من قبل الحسن بعد قوله الخاص في مرتكب الكبيرة، مع أن هذه القضية لم تكن - كما أتصور - الوحيدة التي طرحت وبحثت في مجلس الحسن، ولا الوحيدة التي وقع فيها الاختلاف، فيمكن الافتراض أن قضايا كثيرة كانت تطرح للبحث والمناقشة في ذلك المجلس، فتتفق الآراء، أو تختلف حسب طبيعة القضية واجتهادات المناقشين واتجاهاتهم دون أن يدفع ذلك إلى اعتزال أو إلى ما هو دونه، وإلا لما اجتمع اثنان في حلقة درس.

أنا أقبل الروايتين إذن في جزء منهما، أقبلهما فيما يتعلق باعتزال واصل مجلس الحسن، واعتبار هذا الاعتزال أساسا للتسمية، ولكني أفضهما فيما تقدمانه من أسباب لذلك الاعتزال.

يبقى الآن أن أسبب - كما يقول رجال القانون - موقفي هذا، فليس أسهل ولا أبعد عن العملية التي حاولت الالتزام بها من أن أقول ان هذا هو اختياري، ثم ألقي العبء على القارئ وأستريح، ليس هذا فعل من يريد أن يكون صادقا مع نفسه، أمينا لقيم العلم.

يبقى إذن الأصعب في مهمتي كما أظن، لان تفسير الحدث بعد وقوعه قد يكون أحيانا أصعب الأمرين، فكيف بحدث مرت عليه قرون وقرون تنازعت فيه أطراف كثيرة واختلفت أطراف كثيرة بين متعصب في الانتصار له وبين مسرف في الإنكار عليه.

٦٣

لقد مر على ميلاد المعتزلة أكثر من ثلاثة عشر قرنا، لم يتفق مؤرخو المذاهب الإسلامية على تفسير واحد لتسميتهم منذ أقرب العهود بنشأتهم وحتى اليوم.

فبين اعتزال ما اتفقت عليه الأمة، وبين اعتزال ما اختلفت فيه، هوة واسعة لا يمكن ردمها أو تجاوزها.

وبين اعتزال المتحاربين من أصحاب النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتزال مجلس الحسن البصري، هوة أخرى لا يمكن ردمها أو تجاوزها.

ولهذا فأنا لا أنشد اليقين في هذه المسألة، ولا في كثير غيرها من مسائل التاريخ الإسلامي الذي لعبت فيه وما تزال عوامل جعلت الوصول إلى اليقين، أو ما هو قريب منه، أمرا في غاية العسر.

يكفيني أن أطرح رأيا أراه الأقرب إلى القبول من بين آراء مطروحة في موضوع ما يزال قابلا للبحث والوصول إلى نتائج جديدة فيه وسأكون سعيدا لو كشف البحث يوما ما هو أفضل وأولى بالقبول.

لعلي أثقلت على القارئ، وأخذت الكثير من وقته في مقدمة عذري فيها، أنها قد تكون ضرورية، وأنا أحاول أن أتبنى رأيا أو بالأحرى نصف رأي وان أقيمه على أساس جديد غير الذي كان قائما عليه.

والآن أصل إلى السؤال الذي يمثل التكملة الطبيعية لما بدأت به: ما الذي يدعوني إلى تبني الذي يقوم على اعتزال واصل مجلس

٦٤

الحسن كأساس لتسمية المعتزلة ؟ أقوة في هذا الرأي، أم ضعف في الآراء الأخرى ؟

يبدو أن الأمرين معا قد حددا اختياري ودفعاني إلى الأخذ بهذا الرأي، وتفضيله على سواه.

فأنا لم أجد فيما استعرضت معك، من آراء ما يمكن الاطمئنان إليه، فالمطلي ينطلق من خلط غريب بين اعتزال أنصار علي بعد بيعة الحسن لمعاوية، وبين المعتزلة: الفرقة الدينية، موضوع بحثنا ويجمع الاثنين تحت هذه التسمية، وقد ناقشنا رأيه في موضعه هناك، ولم أجد فيه ما يصلح أن يكون مقنعا أو قريبا من الإقناع للتسمية، غير خلط - كما قلت - غريب وغير رؤية ن ان لم يشبها الكثير من التعصب، فقد شابها الكثير من عدم الدقة وعدم الوضوح.

وتسمية المعتزلة باعتزال ما أجمعت عليه الأمة، كما يتهمهم المتعصبون من خصومهم، ينقضها أن الأمة لم تكن مجتمعة على رأي واحد في شأن مرتكب الكبيرة ليجوز القول برفضه واعتزاله ولقد ناقشنا هذه الدعوى فيما سبق، ولن نحتاج إلى إعادة ما قلناه هناك.

كما إننا لا نستطيع الأخذ بقول المعتزلة في أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة، لأنه قول لا يدعمه دليل، فدعوى اعتزال المختلف فيه ليست بأقوى من دعوى خصومهم باعتزال المجمع عليه فتتكافأ الحجتان ولا تترجح أحداهما على الأخرى.

٦٥

ثم ان أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية، لم تأت من مفهوم مبهم واسع كاعتزال ما اختلفت فيه الأمة، فهذا كلام لا يقول شيئاً، لأنه يقول كل شيء، فهو أو مثله لا يصلح أن يكون علما على فرقة أو مذهب، وليس مذهب أولى بادعائه والانتساب إليه من مذهب آخر.

أية فرقة أو مذهب يرضى أن يكون اسمه مشتقا من موقف غاية في السعة والغموض والإبهام إلى الحد الذي لا يمثل شيئاً، بل إلى الحد الذي يمكن ان يستخدم ضده، كما هي الحال بالنسبة للمعتزلة.

ولا أحسبني متجنبا على المعتزلة، ولا بعيدا عن المنطق، إذا قلت ان فكرة اعتزال ما اختلفت فيه الأمة وتمسك المعتزلة بها، واتخاذها أساسا لتفسير الاسم، كل ذاك قد جاء متأخرا بعد أن صار هذا الاسم علما عليهم لا يستطيعون تغييره، وبعد ما أخذ خصومهم ينبزونهم به، باعتباره اعتزالا لما اتفقت عليه الأمة.

هنا فكر المعتزلة في استخدام نفس السلاح ودفع الحَجة بمثلها في الرد على الخصوم فلماذا اعتزال ما اجتمعت عليه الأمة، وليس اعتزال ما اختلفت فيه، مادام اللفظ قابلا للمعنيين غير مختص بواحد منهما، ولماذا اختلفت فيه، مادام اللفظ قابلا للمعنيين غير مختص بواحد منهما، ولماذا يترك المعتزلة لخصومهم سلاحا يستطيعون هم ان يستعملوه بنفس الحذق والمهارة ودون ان يتكلفوا فيه أكثر من إحلال لفظ محل لفظ.

ثم نقطة أخرى اعرضها هنا، بكل تواضع، فأنا وفي حدود علمي لم أجد الفعل ( اعتزل ) مستعملا في غير المعاني الحسية، فقد جاء في كلام

٦٦

العرب ( اعتزل ) القوم و ( اعتزل ) مجلسهم أو حربهم، ولكني لم أسمع ( اعتزل ) رأي فلان أو فكره أو ( اعتزل ) إجماع الأمة، إنما المستعمل في هذا المعنى أفعال أخرى ك- ( هجر ) أو ( ترك ) أو ( رفض ) . الخ ويكفي ان القرآن قد استعمل لفظ ( اعتزل ) في سبعة مواضع ليس بينها إلا الاعتزال بمعنى اعتزال الأشخاص(١) فكيف جرى استعمال اللفظ بهذا المعنى الذهني، إذا جاز التعبير، من خصوم المعتزلة ومن المعتزلة أنفسهم

بعد هذا العرض لا أستطيع بغير العناد للحق، إلا أن أرفض جميع تلك الآراء، فهي في نظري أضعف من أن تصلح أساسا للتسمية.

وعلي الآن أن أعرض الرأي الذي اخترته، وأنا لا أزعم انه الحق الذي لا يقبل نقضا ولكنه بالقياس إلى الآراء الأخرى يمثل عندي أفضلها وأجدرها بالاختيار وأقربها إلى ما هو معروف من أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى التي ارتبطت أسماؤها بأشخاص معينين أو بوقائع و مواقف معينة، فالشيعة وأهل السنة والجماعة والخوارج وباقي الفرق والمذاهب الإسلامية في الأصول والفروع، كالجعفرية والاشعرية والزيدية والحنفية والشافعية الخ، كل هؤلاء قد جرت أسماؤهم على هذه القاعدة، وتحددت بواحد مما ذكرنا، فلماذا يكون المعتزلة وحدهم خارجين عليها ليذهب اسمهم بعيدا وبعيدا جدا في السعة والإبهام حتى ( اعتزال ما اتفقت أو ما اختلفت فيه الأمة ).

____________________

(١) سورة البقرة ٢٢٢ والنساء ٩٠، ٩١ والكهف ١٦ ومريم ٤٨، ٤٩، والدخان ٢١.

٦٧

إن واقعة اعتزال واصل مجلس الحسن، واقعة محددة واضحة لا تختلف في شيء عن طبيعة الوقائع التي حددت أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، ولهذا فأنا أراها أليق بان تكون التفسير المنشود لاسم المعتزلة خصوصا وان هذه الواقعة تكاد تكون الأكثر شيوعا وانتشارا ان لم تكن أكثرها فعلا.

يضاف إلى هذا أن جميع الذين أرخوا للحسن ولواصل لم ينكروا علاقة واصل واتصاله بالحسن وحضوره مجلسه ثم اختلافه معه بعد ذاك واعتزاله له.

فاعتزال واصل كما أرى، هو الذي يفسر لنا اسم المعتزلة: لا اعتزال أنصار علي ولا اعتزال ما اجتمعت أو ما اختلفت فيه الأمة الذي لا يحدد ولا يقول شيئا.

هذا هو النصف الذي أتفق فيه مع الروايتين واقبله منهما، وهو النصف المتعلق بالواقعة ذاتها.

أما النصف الآخر المتصل بأسباب اعتزال واصل، فقد أعلنت رفضي له من قبل وبينت أسبابه بالتفصيل هناك، وقلت بالنسبة للأولى منهما: ان هذه الرواية بالصورة التي وردت بها، تبدو عاجزة تمام العجز عن تقديم سبب واحد معقول لاعتزال واصل مجلس الحسن: عاجزة عن تفسير السؤال، وعاجزة عن تفسير موقف واصل في تصديه للسائل، وعاجزة - وهذا هو الأهم - عن تفسير اعتزال واصل مجلس الحسن بعد ذاك إنها

٦٨

تقوم على فصل كامل بين المواقف، وكأنك أمام مسرحية لم يحسن تأليفها وإخراجها، لا مواقف إنسانية يرتبط بعضها ببعض، ويفسر بعضها بعضا.

وقلت بالنسبة للثانية، ان اختلاف الرأي في قضية وهو أمر مشروع لا يمكن أن يبلغ اعتزالا، وإلا لما عرضت قضية ولا كان مجلس ولا درس.

بعد هذه النتيجة التي وصلتها في رفض الأسباب التي تسوقها الروايتان تفسيرا لاعتزال واصل مجلس الحسن، ما هو إذن السبب أو الأسباب التي أراها لتفسير هذه الواقعة.

ولن أطيل هنا فقد أطلت في بداية هذا الحديث، لان ذلك كان ضروريا، لإيضاح موقفي الذي انتهيت إليه، فلأبسط رأيي سريعا في هذه الأسباب مؤكدا مرة أخرى، أن هذا رأي أراه سيسعدني أن يجده القارئ خليقا بالقبول، وسيسعدني أكثر أن يحفزه إلى مزيد من البحث، والوصول في ذلك إلى ما هو أفضل وأكثر قبولا، فالحق أردت فيما قصدت وفيما كتبت.

إن هذا الرأي يقوم، في نظري على أن اعتزال واصل مجلس الحسن قد سبقه اعتزال من نوع آخر، اعتزال ذهني أو روحي، استغرق فترة ربما كانت طويلة، قبل أن ينتهي بترك واصل مجلس أستاذه الشيخ ومفارقته له، فالاعتزال هنا كان خاتمة طبيعية لتطور عميق مستمر في علاقات الرجلين، لا فعلاً معزولاً جاء أثر سؤال لم ينتظر فيه واصل جواب أستاذه، ولم يتبين حتى مواضع اتفاقه أو اختلافه فيه، أو لرأي رآه واصل

٦٩

في حكم مرتكب الكبيرة خالف فيه الآخرين، والحسن نفسه خالفهم قبله حين أعتبر مرتكب الكبيرة منافقا.

لقد كان الحسن شخصية قوية نافذة، وكان مجلسه أو حلقته من الحلقات المشهورة في البصرة، ولا بد أن قضايا كثيرة مما كان يشغل الناس في ذلك العهد كانت تطرح للبحث والمناقشة، وان آراء المشاركين في الحلقة - ومنهم واصل - كانت تتباين بشأنها وتختلف سواء فيما بينهم وبين بعضهم، أم فيما بينهم وبين الشيخ الأستاذ، إذ كانت الحلقة منبرا حرا يستطيع الحاضرون عن طريقه أن يناقشوا ما يشاؤون ويبدوا ما يشاؤون فيما يعرض لهم دون أن يملي عليهم فيه رأي، إلا ما كانوا يقتنعون بصوابه، ودون ان يكون الاختلاف في هذا الرأي موجبا لترك الحلقة واعتزالها.

فليس في الأسباب التي تسوقها الروايتان، إذن ما يمكن أن يبرر اعتزال واصل ويفسره.

هذا ما لا أشك فيه، وهو ما دعاني إلى رفض أحد شطريهما، ولكن ما لا أشك فيه أيضاً، هو أن الخلاف بين واصل يؤيده عدد من أنصاره في الحلقة وبين الحسن والكثرة من طلابه وأتباعه، قد بلغ من العمق حدا وجد واصل نفسه وقد ابتعد عن الحسن لا في هذه القضية أو تلك فقط، فليس لذلك من الأهمية ما يدفعه إلى مفارقة الشيخ أو ما يدفع الشيخ ان يطلب منه اعتزال مجلسه، ولكن في الخط العام لهما، فكراً وعقيدة فكان عليه، وقد بلغ الخلاف هذا الحد أن يترك الحلقة ويعتزلها مكرهاً أو مختاراً.

٧٠

هذا هو منطق الأشياء: فراق لا بد منه بعد خلاف طويل، هو ما وقع لواصل وما يقع لغير واصل، لو تهيأت نفس الظروف سواء كان هناك سؤال عن مرتكب الكبيرة أم لم يكن، وسواء خالف واصل برأي فيها أم لم يخالف، فمن الغفلة أن يعطى لهذه المسألة وحدها كل الأهمية وكل النتائج التي ترتبت عليها.

وقد يؤكد ما نذهب إليه، أن واصلاً لم يترك حلقة الحسن حين تركها وحده، وإنما تعبه آخرون هم أنصاره ومؤيدوه فيها، وهذا يعني أن واصلاً قد بلغ عند ذاك من استقلال الرأي والابتعاد عن الحسن ما يتجاوز مجرد الاختلاف حول المسألة أو مسائل محددة مما كان مثار بحث في تلك الأيام، وان عددا من زملائه ورفاقه في الحلقة قد انحازوا إليه وتبنوا آراءه، وألفوا معه داخلها ما يمكن أن نسميه اليوم كتلة مستقلة، لها خطها الفكري الخاص ولها قيادتها الخاصة المتمثلة بواصل، ولم يكن يعوزها للإعلان عن نفسها ككيان مستقل إلا خطورة أخيرة خطوها حين تركوا حلقة الحسن واعتزلوها نهائيا، ليؤلفوا مذهبا جديدا هو الذي عرف فيما بعد باسم ( المعتزلة ).

فهذا، وهذا وحده في نظري هو الذي يفسر موقف هؤلاء في اعتزالهم حلقة الحسن والتحاقهم بواصل أثر اعتزاله لها، إذ ما الذي يدعوهم إلى ترك الحسن على جلالة قدره، واعتزاله والانضمام إلى واصل لو أن الأمر اقتصر على مجرد اختلاف في الرأي بين الحسن وبين واصل

٧١

حول مسألة مرتكب الكبيرة، وموقف الحسن فيها معروف من قبل لهم ولواصل، ولم يدفعهم ذلك إلى ترك الحسن واعتزال مجلسه.

ألا يعني هذا انه كان هناك اتجاه أو خط فكري واحد جمع هؤلاء بواصل، وكان أقوى عندهم من علاقتهم بالحسن وحرصهم على دوامها.

وقد يؤكد ذلك أيضا، أن واصلاً قد بدأ بعد اعتزاله حلقة الحسن في إرساء دعائم مذهبه الجديد وتحديد ملامحه بما يميزه عن الفرق والمذاهب الإسلامية التي كانت قائمة آنذاك، وانه أرسل البعوث من أصحابه للتبشير بمذهبه والدعوة له والوصول به إلى كافة أقطار العالم الإسلامي.

لقد كان مذهب إسلامي كامل في طريقه لأن يقوم فهل أستطيع أن اقتنع الآن بان واصلا ما ترك مجلس الحسن، ولا اتخذ مجلسا خاصا به، ولا تبعه المؤيدون والأنصار، إلا ليقرر أن مرتكب الكبيرة هو في الآخرة بمنزلة بين منزلتي المؤمن والكافر.

وانه لم يرسل البعوث إلى أقطار الإسلام إلا لتحديد مثوى هذا البائس بينهما.

أما أنا فقد أوضحت رأيي مقتنعا به مطمئنا إليه، ولك بعد أن تتفق معي فيه أو تختلف و ( تعتزلني ) و (تعتزله)، فذلك حق لك، لن أضع قيدا عليه.

٧٢

الفصل الثاني

في الكبيرة والفاسق والمنزلة بين المنزلتين

في الفصل السابق كان الحديث يدور كله تقريبا على محاور ثلاثة، تتمثل في مصطلحات ثلاثة، هي الكبيرة والفاسق والمنزلة بين المنزلتين، وقد آن لنا أن نلم بهذه المصطلحات، مبتدئين بالكبيرة التي كان الاختلاف في الحكم على مرتكبها، في نظر طائفة كبيرة من مؤرخي المذاهب، سببا في اعتزال واصل وقيام المعتزلة كفرقة دينية متميزة.

فما هي الكبيرة اصطلاحا، وما هي الظروف التي أثيرت فهيا كقضية، وهل كانت تعكس عند ذاك موقفا سياسيا، وفي أي اتجاه ؟

هذه وغيرها من المسائل، هي التي سنناقشها في هذا الفصل، إذ أن الإجابة عليها قد تسهم في تفسير مواقف المعتزلة من عدد من الأمور التي كانت مثار نزاع بين مختلف الفرق الإسلامية ومن هنا تبرز أهميتها، ومن هنا تأتي محاولاتنا للوصول الى رأي فيها.

ولنبدأ بأولى هذه المسائل واصلها الذي تفرعت عنه، وهي المتعلقة بالكبيرة كمصطلح لعب دورا في الحياة الإسلامية.

فماذا يعني هذا المصطلح على وجه التحديد ؟

٧٣

لقد ورد اللفظ في القرآن بصيغة المفرد ( كبيرة ) وبصيغة الجمع ( كبائر ) في أكثر من سورة(١) ، وتناوله المفسرون وأصحاب المقالات منذ تاريخ بعيد ومع ذاك فإننا لا نملك عنه حتى الآن غير صورة مشوشة و معنى غير واضح ولا دقيق، تستطيع أن تكونه أنت لنفسك، كما أستطيع أن أصوغه أنا لنفسي دون قيد إلا ما يفرضه هذا المعنى العام للفظ.

والكتب التي بين أيدينا خير شاهد على ذاك، فهي لا تتفق على تعريف الكبيرة يلم شتاتها وينظم مفرداتها كما هو الشأن في المصطلحات الدينية الأخرى، فالكبيرة عند بعضهم ( كل معصية فيها حد من الحدود ) وعند بعضهم الآخر ( ما أصر عليه العبد من المعاصي ) أو ( ما كان حراما لعينه ) وعند غيرهم ( ما كان من المعاصي شنيعا بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله وهتك الدين أو توعد الله أو رسوله فاعلها ) أو ( كل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده أو عظّم ضرره في الوجود ) وعند آخرين ( كل ما أوعد الله عليه بالنار ) أو ( كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به )(٢) .

وإذا كان المسلمون قد أختلفوا في تحديد الكبيرة عن طريق تعريفها كما رأينا، فإنهم أختلفوا أيضا في تحديدها عن طريق تعداد ما يعتبر من الكبائر، فذهبوا بين من نزل بها الى الثلاث أو الأربع وبين من صعد بها الى ما يقارب السبعمائة.

ويبدو أن السبب في كل هذا الاختلاف، يرجع من جهة الى أن المسلمين في الصدر الأول للإسلام لم يكونوا قد وصلوا بعد الى صياغة

____________________

(١) البقرة ٤٥، ١٤٣، والنساء ٣١ والتوبة ١٢١ والكهف ٤٩ والشورى ٣٧ والنجم ٣٢.

(٢) كتاب الكبائر للذهبي ط مكتبة النقاء ببغداد ص٦، ٧ و ( عقوبة أهل الكبائر ) لأبي الليث السمرقندي ت ٣٧٣ المقدمة بقلم محققه مصطفى عبد القادر عطا نشر مكتبة الشرق الجديد ببغداد ومقدمة كتاب ( الزواجر عن اقتراف الكبائر ) لابن حجر ط أولى ١٣٢٥ ه- ص٣ وما بعدها وتفسير القرطبي دار الكتاب المصرية ١٩٣٧ ج٥ ص١٥٨ وما بعدها ومواهب الرحمن في تفسير القرآن للسيد عبد الأعلى السبزواري مطبعة الآداب في النجف ج٨ ص١٤١ - ١٤٨ و ١٥١ - ١٥٨.

٧٤

تعريف للكبيرة يجنبهم ويجنب من بعدهم الاختلاف فيها وفي الحكم على مرتكبها، وإنما كانوا يناقشون وقائع جزئية مما يعتبرونه كذلك فمرحلة الأبنية العقلية كانت تبدو مرحلة متقدمة بالقياس الى ذلك العهد، ولم يبلغها المسلمون إلا في زمن تالٍ.

كما يرجع من جهة ثانية إلى أن الكبيرة من المفاهيم التي يصعب تحديدها انك تستطيع أن تعرف، وبسهولة، هذه الكبيرة أو تلك من الكبائر: القتل أو السرقة أو الزنا ولكنك ما أن تحاول صياغة تعريف للكبيرة كمفهوم، حتى تستشعر العجز ذلك أن المعاصي والآثام التي تنطوي تحت هذا المفهوم من الكثرة والاختلاف بحيث لا يمكن أن يضمها تعريف تطمئن إليه، كما ظهر لك من تعدد التعاريف وتباينها، وهذا ما دفع أحد أعلام الإمامية المعاصرين الى القول ( ان اختلاف العلماء في تعريف الكبائر وتعيينها لا يرجى زواله . )(١) .

على ان هذا الاختلاف في تعريف الكبيرة لم يمنع الفرق الإسلامية قبل المعتزلة، من تحديد مواقفها منها كل حسبما أداه إليه اجتهاده وما أملته عليه ظروفه، فقد سارع الخوارج في غالبيتهم وبتفصيل لا يغير كثيرا في الصورة، الى تكفير مرتكبي الكبائر واعتبار أصحابها مخلدين في النار، مخالفين في ذلك جميع المسلمين.

ورد المرجئة بتصحيح إيمان المسلم مهما كانت ذنوبه، ما لم تبلغ الكفر وذهب جمهور المسلمين سنة وشيعة ( إمامية ) الى اعتبار صاحب الكبيرة مؤمنا لكنه فاسق بكبيرته.

____________________

(١) هو السيد عبد الاعلى الموسوي السبزواري صاحب ( مواهب الرحمن في تفسير القرآن ) الذي أشرنا إليه قبل قليل انظر ج٨ ص١٥٤.

٧٥

وقضي الحسن البصري بنفاقه(١) .

وأعتذر للقارئ من استطراد يجرني إليه هذا الحديث عن مواقف الفرق والمذاهب الإسلامية من مرتكب الكبيرة فمن بين هذه المواقف والأسماء التي أطلقتها تلك الفرق والمذاهب عليه، يستوقفني رأي الحسن البصري وإطلاقه اسم المنافق على مرتكب الكبيرة، مع بعد ما بين الاثنين ويستوقفني أكثر ان هذا الاسم لم يثر أي اهتمام لدى المؤلفين الذين لم يتجاوزوا صيغته اللفظية، ولم يفكروا فيما يمكن ان يكون الحسن قد قصده وأراد الوصول إليه من اختياره له.

لقد مر به هؤلاء المؤلفون معجلين، فمنهم من أورده كما جاءت به الرواية دون مناقشة أو بحث، ومنهم من سارع الى نقده وتفنيده، متصورا ان الحسن أخطأ في تسمية مرتكب الكبيرة بالمنافق، لأن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويعلن الإسلام وهو شر من الكافر.

وقصر أولئك فلم يناقشوا ولم يجهدوا، وأخطأ هؤلاء فلم يوفقوا ولم يصيبوا، فما كان الحسن ليجهل ان المنافق هو الذي يسر الكفر ويعلن الإسلام وهو شر على المسلمين من الكافر المعلن لكفره فهل أراد الحسن شيئاً آخر غير ما فهمه المؤلفون، حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟ هل أراد ان يسم بالنفاق جهة محددة يتهمهما بارتكاب الكبائر ؟ ربما كان ذاك وأراني مضطرا هنا للجوء الى ( ربما ) والاتكاء عليها، فأنا لا أملك الدليل على ما أقول، وإنما هو رأي أراه، أخطئ فيه أو أصيب، فاشتراط الإصابة في بحث كهذا قد يمنع من الكتابة فيه، لأنها كتابة عن ماض

____________________

(١) تقدمت مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة في الفصل السابق.

٧٦

تضافرت عوامل كثيرة، ما هو مقصود وما هو غير مقصود، على تشويه صورته عبر قرون طويلة.

والآن من هي الجهة التي قد يكون الحسن عناها وأرداها حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟ هل هو المسلم العادي ؟ هل هم الخوارج، أم المرجئة، أم جهة أخرى غير أولئك وهؤلاء ؟

أستبعد أولا أن يكون الحسن قد أراد بالمنافق المسلم العادي المرتكب للكبيرة، فقد يسمى هذا مسلما فاسقا بإضافة الفسق إليه، وهو اسمه لدى جمهور المسلمين من السنة والشيعة، أو كافرا كما هو اسمه عند الخوارج، أو غير ذلك من الأسماء، لكن من غير الجائز ان يسمى منافقا لأن النفاق لا يصدق عليه لغة ولا دينا، ولا يمكن أن يكون هذا بعيدا عن الحسن، لأنه لا يمكن أن يكون بعيدا عمن هو دون الحسن معرفة باللغة وبالدين.

وكما استبعدت المسلم العادي، فما أظنني سأعدو رأي الحسن إذا أنا استبعدت الخوارج مما أراد بالاسم، فما كان هؤلاء منافقين في دينهم، ولا مداهنين في عقيدتهم لقد كانوا مصحرين واضحين فيما يؤمنون فتهمة النفاق لا تتجه إليهم ولا تصدق عليهم.

ثم أن الحسن لم يسمع عنه انه سمى الخوارج منافقين، مع انهم قد ارتكبوا الكبائر بقتالهم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، قريبا منه وفي مدينة البصرة وكان يفترض ان يدعوهم بالمنافقين، التزاما منه بالاسم الذي عرف به مرتكب الكبيرة.

٧٧

كذلك لا أظن الحسن كان يريد المرجئة برأيه ذاك، فليس فيما يقوله المرجئة، من عدم عد العمل جزءاً من الإيمان الذي لا تضر معه معصية، ما يمكن ان يسمى نفاقاً وصاحبه منافقاً، وهو بتأخيره العمل وعدم عده من الإيمان، يجيز ضمنا ارتكاب الكبيرة ومن أجاز فعلاً ثم أتاه فلا يسمى منافقاً.

قد تنكر تشدد الخوارج وتسامح المرجئة، وقد تنقم على أولئك ما أزهقوا من أرواح وما أسالوا من دماء، وتنعى على هؤلاء ما أباحوا من حرمات حين أطمعوا الفساق في عفو الله(١) ، لكنك لا تستطيع أن تنعتهما بما هو بعيد عنهما وما ليس من مذهبهما.

ماذا بقي إذن ممن يجوز أن يكون الحسن قد قصده في تسميته بالمنافق غير السلطة القائمة آنذاك.

فهل أراد الحسن هذه السلطة وعناها، حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟

أما أنا فأميل الى هذا الرأي وأرجحه، ولك أنت أن تأخذ به وان ترفضه، ما دمت لا أملك الدليل عليه، وما دام ميلي وترجيحي لا يصلحان دليلا ولا يعوضان عن دليل، وليس لدي في الموضوع إلا ( ربما ) التي أتوكأ عليها.

وأصل أخيرا الى النقطة التي أنهي بها الحديث عن الكبيرة، وهي المتعلقة بطبيعة الاختلاف حول مرتكبها وهل كان يعكس موقفا سياسيا للفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة فيه.

____________________

(١) والقول منسوب لزيد بن علي انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة لقاضي القضاة تحقيق فؤاد سيد - الدار التونسية للنشر ١٩٧٤ ص٢٢٨ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص١٦.

٧٨

لا يبدو الأمر كذلك، فالاختلاف في مرتكب الكبيرة - كما رأينا - لا يعكس أي موقف سياسي ولا يتصل به، وإنما هو اختلاف في شأن من شؤون الدين ذلك ان مفهوم الكبيرة التي يدور حول مرتكبها الاختلاف، هو مفهوم ديني بحت يتصل بالإيمان والكفر والجنة والنار، وهي الأخرى مفاهيم دينية لا تتصل بالسياسة، لأنها لا تتصل بحياة الإنسان الدنيوية، بل بحياته بعد الموت.

ولقد رأينا هذا واضحا في جميع التعاريف التي وضعت للكبيرة فليس بينها تعريف واحد يخرج عما ذكرنا ليدخل في مجال السياسة.

أين هو المعنى السياسي في اختلاف ينصب أصلا كما قلنا على الإيمان والكفر والثواب والعقاب هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم كافر، وأين سيكون مكانه في الآخرة، هل سينعم هناك بجنات الخلد كما ينعم المؤمن الكامل الإيمان، أم سيواجه العقاب الذي يواجه العقاب الذي يواجه الكافر، أم شيء آخر غير هذا وذاك.

فالحديث عن الكبيرة كمصطلح، وعن مرتكبها والاختلاف بشأنه بين الفرق والمذاهب، حديث عن أموات، ولا يمكن للأموات أن يكونوا موضوعا سياسيا أو موضوعا للسياسة.

هكذا كانت الكبيرة عندما أثيرت، وعندما اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في الحكم على مرتكبها.

لم يكن السؤال هل تجوز الثورة على مرتكب الكبيرة أم لا تجوز، ولم يكن الاختلاف في هذا، رغم أن افتراضه لا يغير من طبيعة الموضوع ،

٧٩

ولكن السؤال والاختلاف كانا دائما: ما هو حكم مرتكب الكبيرة إيمانا أو كفرا، أي ما هو مكانه وأين سيكون مثواه بين المؤمن والكافر بعد الموت.

ولهذا فمن الخطأ ربط الكبيرة، وهي مفهوم إيماني فردي، بمفهوم ثوري أو موقف سياسي.

وهذه مواقف الفرق الإسلامية خير شاهد على ما نقول لقد بدأت تلك الفرق بتحديد مواقفها من السلطة منذ وقت مبكر في الإسلام، بعيدا عن الكبيرة وبمعزل عنها، بل وقبل ان تطرح كمسألة يختلف فيها الرأي بوقت طويل.

وقد بلغت هذه المواقف عند بعضها حد الثورة وحمل السلاح.

ثار الخوارج منذ زمن علي، واستمرت ثوراتهم حتى زمن العباسيين.

وثار الشيعة بعد علي، واستمرت ثوراتهم حتى زمن العباسيين.

ثاروا قبل ان تطرح مسألة مرتكب الكبيرة، وقبل ان يختلف فيها الرأي، ثم ثاروا بعد ان طرحت المسألة واختلف فيها الرأي.

ثار الذين كانوا يعتبرون مرتكب الكبيرة كافرا ويخلدونه في النار(١)

وثار الذين كانوا يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا فاسقا بكبيرته(٢)

وثار الذين كانوا يعتبرونه مؤمنا كامل الإيمان(٣) .

ثار كل هؤلاء، مع اختلاف مواقفهم أو تناقضا من مرتكب الكبيرة، دون أن تحدد هذه المسألة مواقفهم من الثورة أو تؤثر فيها، وذلك لسبب

____________________

(١) وهم الخوارج كما مر.

(٢) وهم الشيعة.

(٣) وهم المرجئة وقد ثاروا مع الحارث بن سريج المجاشعي أواخر العهد الأموي واستمرت الثورة مدة تجاوزت العشر سنوات حتى قتل قائد الثورة الحارث عام ١٢٨ وقارئ سيرته جهم بن صفوان وكانوا قد شاركوا أيضا قبل ذاك في ثورة زيد بن المهلب ضد الأمويين عام ١٠٢ أنظر تأريخ ابن الأثير ج٤ حوادث سنة ١٠٢ في مقتل يزيد بن المهلب ص٣٤٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185