• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28847 / تحميل: 6798
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ومن خلال هذا يمكن أن نقول بأنّ المدّعى عليه: هو من ادّعي عليه حقّاً، أو ملكاً مطلقاً، وخالف قوله قول الشاكي، وأنكر مدّعاه، ويجبر على الخصومة إن تَرَكَ.

ونقصد بالإطلاق هنا أي: سواء كان ذلك الحقّ حقّاً ماديّاً كالدين، أو معنوياً كالنسب مثلاً، وسواء كان الملك معيناً، كأنّ يقول: هذه الدار، أو غير معيّن فيحتاج إلى وصف.

المطلب الرابع: التعريف الاصطلاحي للمدّعى عليه

ذكر الفقهاء للمدّعى عليه تعاريفاً اصطلاحية نذكر بعضاً منها:

١ - المدّعى عليه: هو من ادّعي عليه شيء في يده، أو في ذمته، فهو المدّعى عليه لغة وشرعاً(١) .

٢ - المدّعى عليه: هو الذي لا يُتْرَكُ لو تَرَكَ الخصومة، أو الذي يدّعي الظاهر أو الأصل(٢) .

٣ - المدّعى عليه: هو الذي لا يُتْرَكُ لو تَرَكَ الخصومة، وقيل: هو الذي يدّعي الأصل، أو أمراً ظاهراً(٣) .

٤ - المدّعى عليه: هو كلّ مَنْ أطلق عليه العرف المدّعى عليه، يحكم عليه بما هي وظيفته شرعاً(٤) .

٥ - المدّعى عليه: هو مَنْ يرى العرف بشأنه أنّ عليه مؤونة عدم الإثبات(٥) .

____________________

(١) المبسوط للشيخ الطوسي ٨: ٢٥٦.

(٢) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٤٣٦، إيضاح الفوائد لابن العلامة ٤: ٣٢٣ بتصرف.

(٣) شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٩٣، كشف الرموز للفاضل الآبي ٢: ٥٠٤، المهذب البارع لابن فهد الحلي ٤: ٤٨١، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ١٤: ٥٩ بتصرف.

(٤) مقتبس من كتاب القضاء للمحقق الآشتياني: ٣٣٦.

(٥) مقتبس من كتاب مباني تكملة المنهاج للسيد الخوئي ١: ٤٢.

٢١

المطلب الخامس: ملاحظات حول التعاريف

١ - التعريف الذي ذكره صاحب كتاب (المبسوط) فيه وهم للقاريء في أوّل وهلة، إلاّ بعد التدقيق والنظر في المراد، بعد إرجاع الضمائر إلى ما يناسبها، وهذا لا يكون إلاّ لمن له باع في ذلك، حيث يقول & بعد ما ذكر يد الغير وذمته: (فإن كان الشيء في يده … إلى آخره) فلربّما يفسّرها البعض بيد الغير وهو غير صحيح، بل المقصود يد المدّعي وفي هذه الحالة لا يسمّى مدّعياً لأنّ يده يد إمارة على الملكية، إلاّ أن يثبت العكس، فمن يثبت العكس هو المدّعي، وصاحب اليد يكون مدّعياً عليه.

٢ - التعريفين الثاني والثالث لم يعطيا تعريفاً دقيقاً لهما، وخصوصاً أنّهما عبّرا عن (المدّعى عليه) بالمنكر، وليس بالضرورة أن يكون المدّعى عليه (منكراً)، بل ربّما يكون منصفاً، فيعطي الحقّ لأهله، وذلك باعترافه، أو يكون ذا شخصيّة لا تسمح له أن يلطّخ سمعته بشيء تافه، فيعطيه للمدّعي بغية الحفاظ على شخصيته، وإن كان الحقّ له.

٣ - التعريف الذي ذكره صاحب كتاب (الجواهر) - في النقطة الرابعة من (التعريف الاصطلاحي للمدّعي) - غير واضح البيان، ولا يمكن أن نصل به إلى نتيجة لتعريف المدّعي والمنكر، وكما عبّر بعض الفقهاء بأنّها عبارة (مشوشة)(١) .

____________________

(١) راجع كتاب القضاء في الفقه الإسلامي للسيد الحائري: ٢٥٩.

٢٢

ومن خلال ما قدمناه يظهر: أنّ المدّعي والمدّعى عليه ليس لهما تعريف خاص يتميزان به عن بعضهما البعض بنظر الشارع المقدس، بل هو موكول إلى العرف، لما قدّمناه في بداية تعريفهما، حيث قلنا - في بداية المبحث تحت عنوان (مقدّمة) -: أنّه يمكن أن يكون المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً وذلك بدفع الدّعوى من قبل المنكر وجعلها لصالحه.

والظاهر: أن العرف يرى أن المدّعي: هو الذي يتقدّم بشكوى ضد شخص معين زاعماً أنّ له حقّاً، أو ملكاً عنده، سواء كانت الشكوى عن طريق مجلس القضاء أم لا، وسواء كان متيقّناً مما يدّعي أم لا.

وأما المدّعى عليه: فهو ما قدّمت ضدّه الشكوى، سواء كان ظالماً أو مظلوماً.

المبحث الثالث: تعريف الإقرار والمُقِرّ والمُقَرّ له والمُقَرّ به

ويمكن البحث فيه عدّة مطالب، منها :

المطلب الأول: التعريف اللغوي للإقرار

الإقرار مصدر أقر، معناه: التثبت والتمكن، والإقرار: الاعتراف بالشيء، وأقر بالحقّ: اعترف به، واعترف بالشيء: أقرّ به، والاعتراف: الإقرار بالذنب.

قال تعالى في كتابه الكريم:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) ، وهو اعتراف الشخص بحقّ عليه لآخر(٢) .

فالإقرار بموردنا: هو اعتراف شخص لآخر، بأنّ هنالك حقّ له، أو ملك متعلق بذمته، أو تحت يده.

____________________

(١) سورة التوبة: آية ١٠٢.

(٢) العين للخليل الفراهيدي ٥: ٢٢، معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي: ٨٣، الصحاح ٢: ٧٩٠، القاموس الفقهي لأبي جيب: ٢٤٨، لسان العرب لابن منظور ٥: ٨٨ بتصرف.

٢٣

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي للإقرار

عرف الإقرار جملة من فقهاء الطائفة بقولهم:(الإقرار: إخبار الإنسان مطلقاً بحقّ واجب عليه، بشرط التنجيز لا التعليق فيه)(١) .

ونقصد بالإطلاق هنا: سواء كان الإقرار عن طريق اللسان، أو الإشارة المفهمة لذلك.

ونقصد بالتنجيز: أن لا يكون مقيّداً بشرط، مثل قوله: إن قدم زيد، وما شاكل ذلك، والتعليق عكسه.

وضربوا للإقرار عدة أمثله منها: (لو قال: لي عليك كذا، فقال: نعم، أو أجل، أو بلى، أو أنا مقرّ به فهو إقرار، وكذا لو قال: أليس لي عليك كذا؟ فقال: بلى)(٢) .

____________________

(١) المبسوط للشيخ الطوسي ٢: ٣٦٩، جواهر الفقه لابن البراج: ٩١، قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٢: ٤١١، إيضاح الفوائد لابن العلامة ٢: ٤٢٣، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٣: ٦٩٠، المهذب البارع لابن فهد الحلي ٤: ١٠٩، رسائل الكركي للمحقق الكركي ١: ٢٠٩، جامع المقاصد للمحقق الكركي ٩: ١٨٦، رياض المسائل للسيد علي الطباطبائي ١١: ٢٥، الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ٢٨٣، كشف الرموز للفاضل الآبي ٢: ٣١٤، شرح اللمعة للشهيد الثاني ٦: ٣٨، جامع المدارك للسيد الخوانساري ٥: ٣٤، بتصرف.

(٢) رياض المسائل للسيد علي الطباطبائي ١١: ٢٥.

٢٤

المطلب الثالث: تعريف المُقِرِّ والمُقَرِّ له والمُقَرِّ به

أولاً: تعريف المُقِرِّ

المقر: المعترف، وهو صاحب الإقرار: أي من أقر على نفسه بحقّ لغيره عليه، أو نفى حقّه على غيره(١) .

ثانياً: تعريف المُقَرِّ له

يمكن أن نقول أنّ المقرّ له: هو الشخص الذي اعترف له المقرّ بحقّ ما، كان له عليه.

ثالثاً: تعريف المُقَرِّ به

يمكن أن يقال أنّ المقرّ به: هو ما اعترف به المقرّ للمقرّ له، مبيّناً قيمته، وأوصافه، وما إلى ذلك، مما يتّضح به، إنْ تطلب الأمر ذلك.

____________________

(١) معجم ألفاظ الفقه الجعفري للدكتور أحمد فتح الله: ٤٠٣.

٢٥

المبحث الرابع: تعريف البيّنة

ونبحث فيه مطلبين، هما:

المطلب الأول: التعريف اللغوي

البيّنة: مذكّرها بيّن. وجمعها بيّنات. وهي صفة من بان يبين. بمعنى: وضح. وبيّنة أي واضحة. وهو صفة لمحذوف: أي الدلالة البيّنة، أو العلامة.

والبيّنة: هي الحجة والبرهان. قال تعالى:( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (١) أي هاتوا حجّتكم وبيّنتكم.

والبيّنة: بمعنى الجلاء والوضوح. قال الشاعر:

فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

والجلاء بكسر الجيم: البيّنة والشهود.

والبيّنة: بمعنى الانقطاع والانفصال. يقال: بان الشيء عن الشيء إذا انقطع وانفصل.

والبيّنة: بمعنى الظهور. يقال: بان الشيء بياناً، وأبان واستبان وبيّن وتبيّن إذا ظهر.

والبيّنة: الدلالة الواضحة. عقلية كانت أو حسّيّة، ومنه سمّيت شهادة الشاهدين بيّنة.

وقال الحرالي: البيّنة من القول والكون ما لا ينازعه منازع لوضوحه.

وقال بعضهم: البيّنة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة.

____________________

(١) سورة البقرة: آية ١١١، سورة النمل: آية ٦٤.

٢٦

وقال آخر: ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده(١) .

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي

ذكر الشيخ مكارم الشيرازي في كتابه (القواعد الفقهية) بأن البيّنة: (هي شهادة عدلين، أو ما يقوم مقامهما من شهادة المرأة، في جميع الموضوعات، مما ترتب على حكم من أحكام الشرع)(٢) .

ومما تقدّم - في التعريف اللغوي والاصطلاحي للبيّنة - يظهر أن البيّنة: هي كل ما يثبت قول الخصمين أو نفيه، سواء كان شاهدان أو دليل قاطع لا يمكن معارضته عقلاً أو نقلاً، كذكر مواصفات العين المدّعاة التي لا يمكن معرفتها إلاّ من قبل صاحبها، كما هو الحال في اللقطة.

____________________

(١) لسان العرب لابن منظور ١٣: ٥١، تاج العروس للزبيدي ١: ٨٣٣٠، المغرب من ترتيب المعرب لابن المطرز ١: ٩٨، أنيس الفقهاء للقونوي ١: ٢٣٧، التعاريف للمناوي ١: ١٥٤، المطلع للبعلي الحنفي ١: ٤٠٣ بتصرف.

(٢) القواعد الفقهية للشيخ مكارم الشيرازي ٢: ٤٥.

٢٧

المبحث الخامس: تعريف اليمين

وفيه مطلبان، هما:

المطلب الأول: التعريف اللغوي

اليمين: القسم. وهو عبارة عن تأكيد الأمر، وتقويته، وتحقيقه، بذكر اسم الله تعالى، أو بصفة من صفاته.

واليمين الغموس: هي التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، وقيل: هي التي تقتطع بها مال غيرك، وهي الكاذبة الفاجرة. وقيل: هي التي يتعمّدها صاحبها، عالماً بأنّ الأمر بخلافه، ليقتطع بها الحقوق، وهو الحلف على فعل أو ترك ماض كاذباً.

والإقتاب في اليمين: التغليظ فيها. ويقال: أرفق به ولا تقتب عليه في اليمين: أي لا تغلّظ عليه فيها. وكذلك غلَّظتُ اليمين: أي قوّيتها وأكّدتها، وعَقَّدَ اليمين: أكّدها كذلك. قال أبو زيد في قوله تعالى:( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (١) وعاقَدَت أيمانُكُم، وقد قُرئ عَقَّدت بالتشديد معناه التوكيد والتغليظ كقوله تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) (٢) ، وكذلك قوله تعالى:( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ) (٣) ، ويقال للقسم أيضاً: يمين، لأنهم كانوا إذا تحالفوا أو توافقوا ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، كما يفعل في بيعة السلطان، فيقال: أخذ يمينه، وأخذ صفقته، إذا فعل ذلك، ثم قيل للحلف بالله، وبكل ما يحلف به يمين، إذ كان ذلك يقع مع التصافق بالأيمان(٤) .

____________________

(١) سورة النساء: آية ٣٣.

(٢) سورة النحل: آية ٩١.

(٣) سورة المائدة: آية ٨٩.

(٤) لسان العرب لابن منظور ٦: ١٥٦، القاموس المحيط للفيروزآبادي ١: ٧٢٤ وص ١٦٠٢، تاج العروس للزبيدي ١: ٨٤٠ وص ٢١٢٦ وص ٤٠٤٥، المصباح المنير للمقري الفيومي ٢: ٤٢١ و ص ٤٥١ وص ٤٥٣، النهاية في غريب الحديث والأثر للجزري ٣: ٧٢٤، غريب الحديث لابن الجوزي ١: ٥٠ وج٢: ١٦٣، العين للخليل الفراهيدي ١: ١٤٠ وج ٤ ص ٣٨٠ وج ٨: ٣٨٧، أنيس الفقهاء للقونوي ١: ١٧٢، التعريفات للجرجاني ١: ٣٣٢، التعاريف للمناوي ١: ٧٥١، مختار الصحاح للرازي ١: ٤٨٨ بتصرف.

٢٨

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي

لقد عرف صاحب كتاب (مهذب الأحكام) اليمين بقوله: (هو الحلف بالله تعالى، لترك فعل فيما مضى، أو عدم إتيان فعل فيما يأتي، ويطلق عليه القَسَم أيضاً)(١) .

وهذا التعريف غير تام لكل أقسام اليمين التي سوف نذكرها لاحقاً إنشاء الله تعالى.

ويمكن أن نستخلص من مطالعتنا على أراء الفقهاء بما كتبوه في اليمين أن نعرف اليمين بأنّه: حلف الشخص مطلقاً، على أمر ما في داخله، يرى أنّه من مصلحته فعل ذلك من أجله، سواء كان ذلك الأمر يجلب له نفعاً دنيوياً، أم نفعاً، أو ضرّاً أخروياً.

____________________

(١) مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام للسيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري٢٢:٢٤٢.

٢٩

ونقصد ب- (مطلقاً) هنا: سواء كان الحلف (بالله U ) أو بغيره، ونقصد ب- (أمر ما) سواء كان يجب عليه فعل ذلك الأمر أو لا يجب، ونقصد ب- (يجلب له نفعاً دنيوياً، أم نفعاً أو ضراً أخروياً) سواء كان الحلف كاذباً لإنقاذ نفسه، أو ماله، أو نفس أخرى أو مالها، وسواء كان ظلماً أولا.

تنبيه :

ذكرنا الحلف بغير الله تعالى - بقولنا (نقصد) - لا يعني أننا نعتقد بانعقاده، بل هو حلف باطل، ولكن ذكرنا ذلك لكي يتم التعريف به حتى عند من يعتقد بانعقاده بغير الله تعالى.

المبحث السادس: تعريف الإنكار

ونبحث فيه مطلبين، هما:

المطلب الأول: التعريف اللغوي

النكر: الدهاء، وهو نعت للأمر الشديد، والرجل الداهي، والنكرة: نقيض المعرفة، الإنكار: قلة المعرفة، والتنكير: التغير عن حال تسرك إلى حال تكرهها، والنكير: اسم للإنكار الذي يعني به التغير، ونكر الأمر بالضم: أي صعب واشتد، وأنكر الأمر: جهله، والإنكار الجحود، والمنكر من الأمر: خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث الإنكار والمنكر، وهو ضد المعروف، وكل ما قبّحه الشرع وحرمه وكرهه، فهو منكر، قال تعالى في كتابه الكريم:( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (١) ، والنكير: اسم الإنكار الذي معناه التغيير، قال تعالى:( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) (٢) والتناكر: التجاهل(٣) .

فتبين مما تقدم أن معنى الإنكار: هو ما صعب واشتدّ على الشخص تصديقه ومعرفته، لجهله فيه، وما كره انتسابه إليه، وجحوده وإنكاره له.

____________________

(١) سورة الكهف: آية ٧٤.

(٢) سورة الحج: آية ٤٤، سورة سبأ: آية ٤٥، سورة فاطر: آية ٢٦، سورة الملك: آية ١٨.

(٣) العين للخليل الفراهيدي ٥: ٣٥٥، ترتيب إصلاح المنطق لابن السكيت الأهوازي: ٦٦، الصحاح للجوهري ٢: ٨٣٧، لسان العرب لابن منظور ٥: ٢٣٢ - ٢٣٤، القاموس المحيط للفيروزآبادي ٢: ١٤٨، تاج العروس للزبيدي ٣: ٥٨٣ - ٥٨٤.

٣٠

المطلب الثاني: التعريف الإصطلاحي

يمكن استلهام التعريف الإصطلاحي للإنكار من كلمات الفقهاء، وذلك بالرجوع إلى معنى الإقرار، حيث إنّه عكسه تماماً.

ولهذا يمكن أن يقال بأنّ الإنكار: (هو نفي الإنسان مطلقاً بأن هناك حقاً واجباً عليه)(١) .

ونقصد بالإطلاق هنا: سواء كان الإنكار عن طريق اللسان، أو الإشارة المفهمة لذلك.

____________________

(١) راجع المبسوط للشيخ الطوسي ٢: ٣٦٩، جواهر الفقه لابن البرّاج: ٩١، قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٢: ٤١١، إيضاح الفوائد لابن العلامة ٢: ٤٢٣، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٣: ٦٩٠، المهذب البارع لابن فهد الحلي ٤: ١٠٩، رسائل المحقق الكركي ١: ٢٠٩ وجامع المقاصد للمحقق الكركي٩: ١٨٦، رياض المسائل للسيد علي الطباطبائي ١١: ٢٥، الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ٢٨٣، كشف الرموز للفاضل الآبي٢: ٣١٤، شرح اللمعة للشهيد الثاني ٦: ٣٨، جامع المدارك للسيد الخوانساري ٥: ٣٤، بتصرف.

٣١

المبحث السابع: تعريف النكول والسكوت

ونبحث فيه عدّة مطالب، منها:

المطلب الأول: التعريف اللغوي للنكول

نكل: بمعنى امتنع وترك، وينكل: يمتنع ويترك، ويقال: (نكل زيد) إذا أراد أن يصنع شيئاً فهابه. ونكل بفتح الكاف وكسرها حكاه ابن القطاع وغيره. قال المطرز: وذلك بأن يرجع عن شيء قاله، وعدو قاومه، أو شهادة أرادها، أو يمين تعين عليه أن يحلفها. ونكل عن اليمين: حاد وامتنع عنه، وترك الإقدام عليه(١) .

وتبين مما تقدّم أن معنى النكول: هو رجوع الشخص وندمه عما أقدم عليه سابقاً، مضمراً ذلك غير كشاف لحقيقته خارجاً.

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي للنكول

يمكن أن نستنتج مما هو مضمر في طيّات عبارات الفقهاء الفقهية أنّ النكول هو عبارة عن: سكوت المدّعى عليه عن أداء اليمين، وعدم إرجاعه إلى المدّعي لكي تتبين الحقيقة.

____________________

(١) المصباح المنير للمقري الفيومي ٢: ٦٢٥، النهاية في غريب الأثر للجزري ٥: ٢٤٥، العين للخليل الفراهيدي ٥: ٣٧٢، تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ١: ٣٣٥، المطلع للبعلي الحنبلي ١: ٢٣٨ بتصرف.

٣٢

المطلب الثالث: التعريف اللغوي للسكوت

سَكَتَ سَكْتاً وسُكُوتاً: أي صَمَتَ، وسَكَتَ الغَضَبُ: بمعنى سكن، والسكوت: معناه السكون، والانقطاع عن الكلام. يقال: سَكَتَ الرجلُ يَسْكُتُ سَكْتَاً: إذا سكن. وسَكَتَ يَسْكُتُ سُكُوتاً وسَكْتاً: إذا قطع الكلام، ورجلٌ سِكّيْتٌ: كثير السكوت صبراً عن الكلام، وأسْكَتَ عن الشيء: أعرض(١) .

ومما تقدّم يمكن أن يقال بأنّ السكوت: هو الإعراض عن الكلام، سواء كان بإرادة من الساكت أم لا.

المطلب الرابع: التعريف الاصطلاحي للسكوت

يمكن أن يستفاد من كلمات الفقهاء معنى السكوت بأنّه: إمساك آلة الكلام عن استعمالها فيه، مع التمكن من ذلك(٢) .

____________________

(١) لسان العرب لابن منظور ٢: ٤٣، المصباح المنير للمقري الفيومي ١: ٢٨١، العين للخليل الفراهيدي ٥: ٣٠٥ - ٣٠٦ بتصرف.

(٢) رسائل المرتضى للشريف المرتضى ٢: ٢٧٢ - ٢٧٣ بتصرف.

٣٣

المبحث الثامن: تعريف القرعة

ونبحث فيه مطلبين، هما :

المطلب الأول: التعريف اللغوي

القُرْعَةً والمُقارَعَةُ: المساهمة. والإقتراع: الاختيار. وتَقارَعَ القومُ واقْتَرَعُوا بمعنى واحد، والاسم: القُرْعَةُ. واقترعتُ بينهم إقراعاً هيأتهم للقُرْعَةِ على شيء. وقارَعْتُهُ فَقَرَعْتُهُ أصابتني القُرْعَةُ دونه، ومنه حديث عائشة: (أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرع بين نسائه فقَرَعْتُ في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني)(١) .

ومن خلال ما تقدم يمكن تعريف القُرْعَةُ بأنّها: المساهمة والمشاركة على حيازة شيء، عن طريق اختيار، وإخراج ما يُساهَمُ ويُشارَكُ به من بين المجموع.

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي

عند مراجعة الكتب الفقية في مسألة القرعة، ومتى يمكن استخدامها، وكيفيتها، وما إلى ذلك من المسائل العالقة بها، يمكن أن تُعَرَّفَ بهذا التعريف وهو:

القرعة: عبارة عن المساهمة والاشتراك في أمر مستعصٍ ليس له حل، إلاّ التسليم لما سوف يخرجه الله تعالى لمن هو له من بين المشتركين فيها، سواء كان ذلك الأمر طلب حقّ أو غيره.

____________________

(١) القاموس المحيط للفيروزآبادي ١: ٩٦٩ - ٩٧٠، تاج العروس للزبيدي ١: ٥٤٦٧، النهاية في غريب الأثر للجزري ٥: ٣٦٠، مختار الصحاح للرازي ١: ٥٦٠، المصباح المنير للمقري الفيومي ٢: ٤٩٩، المغرب في ترتيب المعرب لابن المطرز ٢: ١٧٠ بتصرف.

٣٤

الفصل الثاني: شروط المدّعي والمدّعى عليه والمدّعى به ومصبّ النزاع

وفيه عدّة مباحث، منها :

المبحث الأول: شروط المدّعي.

المبحث الثاني: شروط المدّعى عليه.

المبحث الثالث: شروط المدّعى به.

المبحث الرابع: مصبّ النّزاع بين المدّعي والمدّعى به.

المبحث الأول: شروط المدّعي

ذكر الفقهاء(١) شروطاً للمدّعي، ومنها:

١ - البلوغ، فلا تقبل الدّعوى من الصغير ولو كان مراهقاً.

٢ - العقل، فلا تسمع من المجنون ولو كان إدوارياً إذا ترافع حال جنونه.

٣ - أن يدّعي لنفسه، فلو أدّعى لأجنبي لم تقبل.

٤ - أن يدّعي لمن له ولاية الدّعوى عنه ما يصح منه تملكه، خرج بالقيد الأول من هذا الشرط المدّعي لغيره، إلاّ إذا كان وليّاً، أو وكيلاً، أو وصيّاً على ذلك الغير، أو حاكماً، أو نائباً للحاكم لمن لم يجد المذكورين الثلاثة، وبالقيد الثاني منه خروج ادّعاء المسلم لما لم يحل تملّكه كالخمر أو الخنزير ولو على ذمي.

٥ - عدم الحجر لسفه إذا كانت الدّعوى مستلزمة للتصرف المالي، نعم تقبل إذا كان السفه قبل الحجر.

وقد جمع البعض الشرطين الأوليين بشرط واحد بقولهم (كمال المدّعي) كما في الدروس للشهيد الأول، أو ب- (التكليف) كما جاء في القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري، وكذلك كشف الرموز للفاضل الآبي(٢) .

____________________

(١) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٤٣٦، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٩٣، الدروس للشهيد الأول ٢: ٨٤ ، القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري: ١٦٧، كشف الرموز للفاضل الآبي٢: ٥٠٥، تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٢: ٤١٠.

(٢) راجع نفس المصدر أعلاه.

٣٥

المبحث الثاني: شروط المدّعى عليه

أنّ للمدّعى عليه شروطاً يجب توفرها فيه، وإلاّ تكون الدّعوى مختلة، ومنها :

١ - أن يكون معيناً. خرج بهذا الشرط الجماعة غير المعينة (غير المحصورين).

أفتى بذلك صاحب كتاب (قواعد الأحكام) بقوله: (الثاني تعلق الدّعوى بشخص معين، أو أشخاص معينين، فلو ادّعى على مجهولين لم تسمع)(١) .

٢ - جائز التصرف. فلا تصح الدّعوى على المملوك والمحجور عليه لسفه وغيره إذا كان الحجر قبل الدّعوى.

أفتى بذلك صاحب كتاب (شرائع الإسلام)(٢) في جواب المدّعى عليه بقوله: ( وأما الإقرار: فيلزم إذا كان جائز التصرف).

وكذلك صاحب كتاب (المقنعة)(٣) بقوله: (فإن أقر به، ولم يرتب بعقله واختياره، ألزمه الخروج منه إليه). أي أنه جائز التصرف ليس محجور عليه بسفه وغيره.

٣ - أن يكون ممن يصح منه مباشرة الجناية.

قال بذلك صاحب كتاب (قواعد الأحكام) بقوله: (الثالث: توجه الدّعوى إلى من تصح منه مباشرة الجناية)(٤) .

تنبيه :

لا يشترط في المدّعى عليه البلوغ والعقل.

ذكر ذلك صاحب كتاب (قواعد الأحكام) في شروط الدعوى حيث ذكر أن يكون بالغاً رشيداً حال الدعوى - أي المدّعي - ثم قال: (ولا يشترط ذلك في المدّعى عليه، بل لو ادعى على مجنون أو طفل تولي الحكومة الولي)(٥) .

____________________

(١) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٦١٠.

(٢) شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧٢.

(٣) المقنعة للشيخ المفيد: ٧٢٣.

(٤) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٦١١.

(٥) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٦١٠.

٣٦

المبحث الثالث: شروط المدّعى به

من أهم الشروط التي ذكرها الفقهاء(١) في المدّعى به ما يلي:

١ - أن يكون معلوماً. خرج بهذا الشرط المجهول المطلق مثل قوله لي عليه شيئاً، وأما غير المطلق فيطالب مدعيه بالوصف.

٢ - أن يكون ممن يصح تملكه.

٣- ذكر مواصفاته إن كان مثلياً، وذكر قيمته إن كان قيميّاً.

أفتى بذلك الفقهاء ومفاده: (إذا كان المدّعى به من الأثمان - كالدينار- ، افتقر إلى ذكر جنسه ونوعه وقدره، وإن كان مثلياً - كالفرش - ، ضبطت أوصافه، وإن كان قيميّاً فقيمته)(٢) .

____________________

(١) المختصر النافع للمحقق الحلي: ٢٧٦، تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٢: ٤١٠.

(٢) راجع الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني ٢: ٢٤١، تحرير الأحكام للعلامة الحلي ٢: ١٨٦، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧٢.

٣٧

المبحث الرابع: مصبّ النزاع بين المدّعي والمدّعى عليه

من المعلوم أن النزاع بين المدّعي والمدّعى عليه إنما يتم على حق أو عين يدّعيه أحدهما على الآخر، سواء كانت بيده أم لا.

أما إذا كانا معترفين بالحق أو العين لأحدهما، وإنما النزاع في مخالفة الآخر لهذا الحق أو غصبه لهذه العين، فهذا أمر أخر لا يدخل في باب النزاع الذي يحمل أحكام المدّعي والمدّعى عليه، لأن معنى المدّعي في باب القضاء هو مَنْ يدّعي حقاً أو عيناً على أحد، والمدّعى عليه هو مَنْ ادُّعي عليه هذا الحق أو هذه العين، سواء أنكر أو أقر أو سكت.

أما لو ادّعى مثلاً: أن فلاناً ساكن في بيتي، ويعترف فلان أن هذا بيته، ولكن ينكر أنه ساكن فيه، وكانت دعوى المدّعي لا لأجل المطالبة بأجرة السكن لكي يرجع الأمر إلى دعوى حق عليه ينكره، بل لخروجه من الدار، فهذا ليس من باب القضاء المتعارف الذي يحكم فيه بأن البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه.

وكذلك لو ادعى أن فلاناً يريد قتلي، وأنكر فلان ذلك، فهذا ليسي من باب القضاء ليحكم فيه بالبيّنات والأيمان، وإنما هذا من باب دفع الظلم والمنكر، وحفظ الأمن.

وإذا ما قام الحاكم بهذا - بوصفه ولياً للأمر أو وكيلاً عنه، إن كانت وكالته شاملة لأمور من هذا القبيل لا بوصفه قاضياً - فليس مورده القضاء لأن معنى القضاء عرفاً لا يشمل مثل هذا المورد.

ويمكن التمييز بين ما يراد به الفصل بين الخصومات، وبين ما يراد به الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر بما يلي:

١ - إذا كان النزاع في تدارك حق أُهدِرَ فبابه القضاء، وما كان في إهدار حق فبابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢ - إذا كان النزاع في رفع الظلم فبابه القضاء، وإذا كان في دفع الظلم فبابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣ - إذا كان النزاع راجعاً إلى الماضي فبابه القضاء، وإذا كان راجعاً إلى المستقبل فبابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مسألة القضاء.

وبكلام آخر أدق: أن القضاء عرفاً يعني: إدانة أحد المدّعيين أو تبرئته، وكل ما خرج عن هذا فلا تثبت به أحكام المدّعي والمدّعى عليه.

إذن فالحق في مصبّ النزاع هو معرفة عنوان المدّعي والمدّعى عليه، وعلى القاضي ملاحظة الصدق العرفي لمعرفتها(١) .

____________________

(١) راجع: القواعد الفقهية للشيخ مكارم الشيرازي ٢: ٣٥٠، القضاء في الفقه الإسلامي للسيد الحائري: ٩٣ - ٩٥.

٣٨

الفصل الثالث: شروط الدعوى وأنواعها

ويمكن البحث فيه في عدّة مباحث، منها:

المبحث الأول: أركان الدعوى وشروطها.

المبحث الثاني: أنواع الدعوى.

المبحث الأول: أركان الدعوى وشروطها

وفيه مطالب، منها:

المطلب الأول: أركان الدعوى

ولابد لكل دعوى من أركان أساسية ثلاثة لكي يتم من خلالها البت بالحكم، وهي كالآتي:

الركن الأول: المدّعي.

الركن الثاني: المدّعى عليه.

الركن الثالث: المدّعى به.

ولقد ذكرنا التعاريف الخاصة بهم وشروط كل واحد منهم في الفصول الأول والثاني فلا نعيد.

المطلب الثاني: شروط الدعوى وأدلّة مشروعيتها

ويمكن البحث فيه بعدّة نقاط، منها:

النقطة الأولى: شروط سماع الدّعوى

يشترط في سماع الدّعوى عدة أمور منها:

٣٩

١ - أن تكون الدّعوى صحيحة ولازمة للطرفين(١) .

أفتى صاحب كتاب (قواعد الأحكام)(٢) حيث قال: (يشترط في الدّعوى الصحة واللزوم، فلو ادعى هبة لم تسمع إلاّ مع دعوى الإقباض، وكذا الوقف والرهن عند مشترطه فيه ).

٢ - يجب أن يكون المدّعي جازماً بما يدعيه، فلا تصح بمجرد الشك والظن والاحتمال.

ذكر ذلك بعض فقهاء الطائفة(٣) حيث قال: (ولا بد من إيراد الدّعوى بصيغة الجزم، فلو قال: أظن أو أتوهم لم تسمع).

٣ - تسمع دعوى المدّعي على الغائب في حقوق الناس لا في حقوق الله تعالى إذا أقام على دعواه البينة.

ذكر ذلك صاحب كتاب (تحرير الوسيلة)(٤) بقوله: (مسألة ٥: لا يشترط في سماع الدّعوى حضور المدّعى عليه في بلد المدّعى، فلو ادعى على الغائب من البلد سواء كان مسافراً أو كان من بلد آخر، قريباً كان أو بعيداً تسمع، فإذا أقام البينة حكم القاضي … إلى آخره ).

وكذلك قوله في مسألة ٦: (الظاهر اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس فلا يجوز الحكم عليه في حقوق الله تعالى مثل الزنا … إلى آخره ).

٤ - أن يكون لها أثر لو حكم على طبقها. فلا تصح دعوى الهبة والوقف من دون إقباض.

٥ - تسمع دعوى من كان أكثرهما شهوداً إذا تنازعا على عيناً لا يد لأحدهما عليها مع يمينه.

أفتى بذلك صاحب كتاب (الخلاف)(٥) بقوله: ( مسألة ٤: إذا تنازعا عيناً لا يد لواحد منهما عليها، فأقام أحدهما شاهدين، والآخر أربعة شهود، فالظاهر من مذهب أصحابنا أنه يرجع بكثرة الشهود، ويحلف، ويحكم له بالحق).

____________________

(١) نقصد بالصحيحة في مقابل الفاسدة، ونعني بها التي استوفت كل الشروط المتوفرة في قبولها من أهلية المدّعي والمدّعى عليه للدّعوى والخصومة وأن يكون المدّعى به معلوماً ومما يصح تملكه وما إلى ذلك.

ونقصد باللزوم: أن يكون المدّعي والمدّعى عليه ملزمَين بقبول وتنفيذ الحكم الصادر تجاههما والعمل على طبقه.

(٢) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٤٣٦

(٣) راجع رسائل الكركي للمحقق الكركي ٢: ٢١٩، كشف الرموز للفاضل الآبي ٢: ٥٠٥، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧١، تكملة منهاج الصالحين للسيد الخوئي: ٦، تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٢: ٤١٢.

(٤) تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٤: ٤١٤.

(٥) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٣.

٤٠

فيه وأخذوا بالمجمع عليه في تسمية مرتكب الكبيرة، دون أي ذكر أو حديث عن فئتي الضلالة.

وابن منظور بعد، متأخر من حيث الزمان فقد عاش بين القرنين السابع والثامن الهجري، فهو لم يتصل بالأحداث من طريق مباشر ولا من طريق قريب كالذين سبقوه، في ما يخص المادة التاريخية التي تضمنها كتابه.

كما ألاحظ أيضا أن ابن منظور قد ساق عبارته بصيغة ضعيفة كأنه لا يريد أن يحمل عليه ما يقوله هؤلاء الذين ( يلقبون ) المعتزلة والذين زعموا.

يضاف إلى كل ذلك، أن ابن منظور يتحدث عن موقف سياسي بين أهل السنة وبين الخوارج ويربط تسمية المعتزلة به كما يبدو من عبارته.

( ففي الضلالة.والذي يستعرضون الناس قتلاً ) فاستشهاد نللينو به، بعد ما ربط الاعتزال بسبب ديني يخص الخلاف في قضية مرتكب الكبيرة الدينية، هو استشهاد غير موفق ولا مقبول.

ويستمر نللينو مضيفاً ( ثم ان قول المسعودي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني والسياسي الذي وقفه واصل بن عطاء بازاء من اشتركوا في الحروب الدينية في القرن الأول بين أنصار علي وأنصار عثمان.الخ ).

ونعود مضطرين إلى النقطة التي انتهينا منها ونسأل مرة أخرى، ما هو قول المسعودي، هذا الذي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني

٤١

والسياسي الذي وقفه واصل ؟ ان المسعودي كما رأينا لم يقل في فقرتيه شيئا يتصل بالموقف السياسي لواصل ولم يعرض له، وإنما تحدث عن الفاسق الذي هو في منزلة بين المنزلتين والذي سميت به المعتزلة، كما تحدث الكثيرون غيره قبله وبعده.

ويمضي نللينو قائلا ( ويؤيد هذا كله ما كان بين نشأة الاعتزال وبين الأحزاب السياسية في العصر الأموي من صلة وثيقة ).

فهل قامت فرقة أو مذهب من فراغ أو عدم ؟ وهل نشأ حزب، وهو مقطوع الصلة بأحداث وأفكار عصره تأييداً أو رفضاً، اتفاقاً أو اختلافاً ؟! هل حدثنا التاريخ عن حركة من هذا النوع، بل هل يمكن أن تقوم ؟ ولنأخذ الحركات والفرق والمذاهب الإسلامية فهل شذت حركة أو فرقة أو مذهب عن هذه القاعدة ؟ هل كان الشيعة سيوجدون لو لا علي وأفضليته عندهم وخلافه مع من خالفه ؟ وهل خرج الخوارج لولا القتال وصفين والتحكيم ؟! فأين اختصاص المعتزلة في أن تكون نشأتهم ذات صلة وثيقة بالأحزاب السياسية في العصر الأموي ؟!

أما إذا كان يقصد ب- ( الصلة الوثيقة ) قوة الرابطة وحسن العلاقة التي كانت تشد المعتزلة إلى الحركات والأحزاب السياسية في عصرهم فهذا هو الخطأ الكبير الذي أوقع نللينو نفسه فيه، فإذا كان المعتزلة على خلاف مع الشيعة، بسبب موقفهم من علي أو من إمامته وهو أمر معروف، وعلى خلاف مع أهل السنة والخوارج، كما هو قول نللينو نفسه، الذي مر بنا قبل

٤٢

قليل فماذا بقي من الحركات والأحزاب السياسية التي كان المعتزلة على ( صلة وثيقة ) بهم ؟!

لعلي أرهقتك بطول الحديث عن بحث نللينو، وأحسبك ضقت به كما ضقت به أنا قبلك، ولكن ماذا أعمل إذا كان نللينو لا يريد ان يتركني ويتركك أنظر إليه وهو يحاول إثبات أن المعتزلة الكلاميين يمثلون امتداداً للمعتزلة السياسيين السابقين، كيف يطوف على المؤلفين ابتداءً من الطبري وانتهاء بابي الفداء، مستعرضا بعض الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه ولا ينسى أن يمر بمحمد بن عبد الله النفس الزكية لينتهي إلى القول ( فعندما إذن الدليل الحاسم على لفظ ( معتزل ) بهذا المعنى السياسي طوال هذا الزمن الذي عاش فيه مؤسسا مذهب المعتزلة).

هل تستطيع وأنت تقرأ هذا دون أن تتساءل كما تساءلت، وماذا في أن يكون الاعتزال بمعناه السياسي قد عرف في زمان واصل وعمرو، وهو لا بد أن يكون معروفا في زمانهما، وقد جرت الأحداث التي دفعت إليه في فترة ليست بعيدة عنهما ؟! أية قرينة في ذاك، وأي دليل على صلة المعتزلة الكلاميين بالمعتزلة السياسيين ؟ وهل كان نللينو في حاجة إلى كل هذا، ليثبت ما لم ينكره أحد ولم يشك فيه أحد، وهو أن الاعتزال بمعناه السياسي كان موجودا في زمان واصل وعمرو بن عبيد وقبلهما.

ولنترك هذا فما علاقة محمد النفس الزكية بالمعتزلة السياسيين ؟

أن ألا النفس الزكية لم ين طبعا من المعتزلة السياسيين، وهو قد عاش وقتل في القرن الثاني للهجرة، فهل يظن نللينو أن النفس الزكية كان

٤٣

في فكره واتجاهه السياسي والمذهبي، امتداداً لهؤلاء المعتزلة الذين أقل ما يوصفون به أنهم لم يكونوا من الذين يفضلون عليا أو يميلون إلى جانبه و إلا لما اعتزلوه في صراعه مع خصومه، وهو لم يقم بثورته ولم يتبعه التابعون فيها إلا على أساس حق أهل البيت من أبناء علي في خلافة المسلمين ورفع الظلم عنهم(١) .

أن المعتزلة الذين يرد ذكرهم في نص الطبري الذي استشهد به نللينو(٢) هم المعتزلة الكلاميين من أصحاب واصل بن عطاء، لا المعتزلة السياسيون لقد شارك أولئك كما يذكر الطبري في الاجتماع الذي تمت فيه بيعة النفس الزكية أواخر الحكم الأموي، وكان من بين المشاركين فيه أبو جعفر المنصور الذي ثار عليه محمد عام ١٤٥.

أما الذين اعتزلوا الصراع أو المعتزلة للقتال كما يسميهم الشريف المرتضى(٣) فلم يبق منهم أحد على عهد محمد ليبايع أو لينكث، ويكون موضع استشهاد محمد، فالاعتزال المشار إليه في نص الطبري لا يتضمن المعنى السياسي الذي تصوره نللينو وهو يكتب تاريخا لا يعرفه التاريخ.

٦ - رأي احمد أمين:

وللأستاذ احمد أمين رأي أو ( فرض ) في تسمية المعتزلة قال أنه لفته إليه ( ما قرأناه في خطط المقريزي(٤) من أن بين الفرق اليهودية ( التي كانت منتشرة في ذلك العهد وقبله ) الطائفة يقال لها، الفروشيم وقال أن معناها المعتزلة ( ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) وقد أكدت هذا المعنى المعاجم اللغوية الحديثة فقد

____________________

(١) ستأتي مناقشتنا لهذا النص في الفصل الثالث من الكتاب عند الحديث عن ثورة النفس الزكية.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمرتضى ط النجف ١٣٥٥ ج٢ ص٢٧.

(٣) تقي الدين احمد بن علي المقريزي مؤرخ الديار المصرية ولد في القاهرة ٧٦٦ وتوفي ٨٤٥، له مؤلفات كثيرة خصوصا في التاريخ منها ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) المعروف بخطط المقريزي وهو الذي ينقل عنه هنا احمد أمين.

(٤) وضعنا كلام المقريزي بين قوسين مفردين تمييزا له عن كلام احمد أمين الذي جعلناه بين قوسين مزدوجين.

٤٤

ذكرت أن معنى اللفظ الفروشيم PHARISEES و SEPARATED و وهو ينطبق على المعنى الذي تؤديه كلمة معتزلة ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنهاكانت تتكلم بالقدر ليس كل الأفعال خلقها الله ) فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه في القول بالقدر ونحو ذلك ).

هذا هو نص ما ورد في ص ٣٤٤، ٣٤٥ من فجر الإسلام بعضه للمقريزي وبعضه لأحمد أمين(١) .

وهذا الرأي أو الفرض فيه من التكلف والضعف بقدر ما فيه من البعد عن الروح العلمي الرصين فلماذا يلجأ احمد أمين في التفتيش عن أسم المعتزلة إلى ( قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه ) والاعتزال موجود كاسم وموجود كموقف ورأي قبل واصل مع المعتزلة السياسيين ومع واصل وعمرو في مرتكب الكبيرة والمعتزلة الكلاميين.

ثم أن اليهود كانوا يعيشون مع العرب منذ أقدم العهود، قبل الإسلام وبعده، يتكلمون لغتهم ويحيون حياتهم، فليست بهم حاجة لانتظار من يسلم منهم ليطلق هذه التسمية على المعتزلة أكان هناك ما يمنع اليهودي قبل إسلامه من الإطلاع على مذاهب المسلمين ومنها المعتزلة وإطلاق التسمية التي يراها أنسب وأكثر ملاءمة لما يعتقدون.

أما أن الفروشيم كانت تتكلم في القدر كما تكلمت المعتزلة وهو ما دعا أحمد أمين إلى رأيه أو فرضه فليس فيه - حتى مع التسليم بصحته - دليل على ما أراده منه إذ يكفي أن احمد أمين نفسه، وهو يمهد للحديث

____________________

(١) أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني من أبناء الفرس الذي بعث بهم كسرى الى اليمن لطرد الحبشة منها مؤرخ صاحب أخبار وقصص ومعرفة بأساطير الأولين سيما الإسرائيليات ولد في صنعاء عام ٣٤ وتوفي فيها عام ١١٠ أو ١١٤ أو بعدها.

٤٥

عن المعتزلة في الفصل الرابع المخصص لهم من فجر الإسلام يقول ( يدلنا تأريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار.).

فإذا كانت التسمية قد جاءت من الشبه في أن المعتزلى تكلموا في القدر كما تكلم الفروشيم فإن الناس قبل الفروشيم وبعد المعتزلة لم يكفوا يوما عن الحديث في القدر، مذاهب وأشخاصاً وسيبقون كذلك ما بقي للإنسان نشاط أو ما بقي الإنسان.

ثم أن القول بالقدر والكلام فيه كان أسبق في الوجود من المعتزلة حتى بين المسلمين لقد تكلم في القدر قبلهم عدد كبير كانوا يعرفون بالقدرية ولم يعرفوا بغيره على خلاف المعتزلة الذين كانت بدايتهم مع المنزلة بين المنزلتين ومنها جاءت تسميتهم، أما القدر فقد تكلموا فيه كما تكلموا في غيره ولكن ليس على وجه الاختصاص إذ شاركهم فيه من لم يكن معتزليا ومن سبق الاعتزال في الوجود.

ونصل إلى ابن منبه الذي يريد احمد أمين أن يجد في ذكر اسمه من قبل المقريزي ما يؤيد رأيه فحتى لو وافقناه على انه وهب بن منبه(١) الذي كان ممن أسلم من يهود صنعاء فليس في ما أورده المقريزي عنه ما يعزز الرأي الذي يذهب إليه احمد أمين، بل على العكس، ما يهد هذا الرأي ويهدمه من أساسه فلنستمع إلى المقريزي وهو يقول ( قال ابن منبة: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن - يعني الحسن البصري - فسمعوا المعتزلة ) فهل في هذا غير ما يقوله غالبية الرواة المسلمين في

____________________

(١) سبق ان عرضنا لمواقف المسلمين واختلافها من مرتكب الكبيرة.

٤٦

تسمية المعتزلة كما مر بنا ؟ هل فيه ما يشير ولو من بعيد إلى سبب آخر للتسمية، سبب يتصل بالفروشيم و ( يقول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) ؟!

ثم ماذا تفهم من عبارة احمد أمين ( المعاجم اللغوية الحديثة ) الواردة في بداية هذا البحث ؟ فهل تعني ان المعاجم اللغوية القديمة - المعاصرة أو القريبة من الفروشيم، لم تكن تطلق على هذه الطائفة اسم المعتزلة ولم تعرفها به، وان المعاجم الحديثة - البعيدة عن عصرهم - وحدها هي التي ألصقت هذا الاسم وأضافته إليهم.

ولماذا هذا ( البعض ) في ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنها كانت تتكلم بالقدر.) ألم يكن هذا الذي تقول به في القدر معروفا عنها بما يكفي للاستغناء عن ( بعضهم ) ؟ أكان هناك بعض آخر ينكر أن تكون هذه الفرقة قد تكلمت بالقدر، كما كانت هناك معاجم لغوية حديثة ومعاجم أخرى قديمة ؟

ولنفترض أن طائفة ما غير الفروشيم قد سبقت إلى الكلام في القدر، ولم يعلم بها الأستاذ احمد أمين إلا متأخراً، أكان سيبدل رأيه في هذه الحالة ليجعل من تلك الطائفة أصلاً للمعتزلة، أم ستكون كل الطوائف التي سبقت إلى القول بالقدر أصلاً مشتركا للمعتزلة ؟!

يضاف إلى كل ما سبق، أننا لم نجد بين كتبوا عن المعتزلة، على كثرتهم قبل المقريزي وربما بعده، من ذكر هذه الصلة أو أشار إليها، خصوصاً من أعداء المعتزلة وما أكثرهم، وهو أمر لن يثير أقل من الشك.

٤٧

وبعد، فإن استخلاص رأي في قضية ما - ولتكن تسمية المعتزلة - لمجرد وجود تشابه في الاسم أو في الفعل، هو أمر بعيد عن الروح العلمي الذي حاول الأستاذ احمد أمين أن يكون مدافعاً عنه، وهو يكتب عن فكر المعتزلة فما أحراه ان يكون كذلك وهو يناقش تسميتهم.

٧ - رأي الدكتور نادر:

وأقف الآن عند الدكتور البير نصري نادر، فهو أيضاً له رأي في تسمية المعتزلة.

ولأنني أخذت نفسي بألا أتجنى على أحد، ولا أحكم على رأي قبل عرضه ومناقشته، فسأحاول أن أعرض رأي الدكتور في تسمية المعتزلة تمهيداً لمناقشته بعد ذاك، وسترى انه كبير جداً أن يسمي ما طرحه الدكتور نادر رأياً، فضلاً عن انه رأي يستحق المناقشة.

تعرض الدكتور لتسمية المعتزلة في كتابين من كتبه الأول هو ( فلسفة المعتزلة ) المطبوع ١٩٥٠، والثاني ( أهم الفرق الإسلامية السياسية والكلامية )١٩٦٦.

ففي الأول يقول الدكتور بالنص: ( بينما كانت مختلف الفرق الإسلامية يكفر بعضها البعض نجد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد رأسي المعتزلة يأتيان بحل جديد فيه الكثير من التسامح فقالا: أن المؤمن الذي يأتي بكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الكفر والإيمان ولما كان هذا الحل جديداً ولم يقبله الحسن البصري وبعض أتباعه انعزل واصل وعمرو بن عبيد عنهم ).

٤٨

وبدءاً ألاحظ أن وصف الدكتور لفكرة المنزلة بين المنزلتين بأنها ( حل فيه الكثير من التسامح )، هو وصف غير صحيح ولا يمكن الأخذ به على إطلاقه، فإذا كانت هذه المنزلة تمثل حلاً متسامحاً بالنسبة بالغ التشدد بالنسبة للمسلمين الآخرين الذين يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا وان فسق بكبيرته(١) .

فالحل الذي عرضه واصل بالنسبة لمرتكب الكبيرة، يختلف إذن باختلاف الطائفة أو الفرقة التي تريد أن تقارن قوله بقولها، لا كما توهم الدكتور نادر.

هذه هي الملاحظة الأولى، وما أظن الدكتور سيخالفني فيها، إلا أن ينكر ما أجمع عليه المسلمون في هذه القضية ولن يستطيع.

أما الثانية فان الدكتور كما هو واضح هنا يعتمد في تسمية المعتزلة، الرواية المشهورة القائمة على اعتزال مجلس الحسن البصري لكنه لم يكن دقيقا - ولا أريد أن أقول غير ذلك - في نقلها، فالرواية لا تجمع ابتداءاً بين واصل وعمرو في القول بالمنزلة بين المنزلتين ولا يترك مجلس الحسن أو الطرد منه وإنما تفردهما كما ذكرنا فهي أما أن تعزو ترك المجلس أو الطرد منه إلى واصل بعد مقالته في المنزلة بين المنزلتين وخروجه برأي مخالف في ذلك، ومن ثم لحاق عمرو وانضمامه إليه وأما أن تجعل المعتزل الأول عمرو بن عبيد وتنسب إليه ترك المجلس لكنها لا تجمع بينهما كما يظهر من الصيغة التي استعملها الدكتور نادر وفي جميع

____________________

(١) لم نجد من جمع بينهما من المؤلفين غير الرازي في كتابه ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) كما أشرنا الى ذلك في موضعه والرازي متأخر توفي عام ٦٠٦ وكتابه في غاية الاختصار ثم انه حين يعرض لفرق المعتزلة يقول عن - الواصلية منهم - اتباع واصل بن عطاء الغزال وهو أول من قال أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر . الخ ) وحين يصل الى الفرقة الثالثة - العمرية - يقول ( اتباع عمرو بن عبيد ومن قولهم ان شهادة طلحة والزبير غير مقبولة بوجه عام ) دون أية إشارة أو ذكر للمنزلة بين المنزلتين فهو يثبت القول بها لواصل وحده متابعا في ذلك الذين سبقوه من المؤلفين والكتاب في الفرق والمقالات.

٤٩

الأحوال فإنها لا تنسب القول في المنزلة بين المنزلتين إلا إلى أحد الرجلين واصل بن عطاء الذي تبعه فيه بعد ذاك عمرو بن عبيد(١) .

وإذا كان الدكتور يحاول أن يتلافى في ( أهم الفرق الإسلامية ) المآخذ التي رأيناها في ( فلسفة المعتزلة ) فيأتي بالرواية على وجه قريب من وجهها وبتشويه أقل فانه ما إن يخرج من النص مجتهداً رأيا في أمر مرتكب الكبيرة حتى يزل ويبعد عن الصواب ألا ترى إليه وهو يتحدث عن المعتزلة في كتابه ذاك كيف يقرر ( إن المقصود بالكبيرة هنا الخروج على الإمام ) فمن أين علم الدكتور أن المقصود بالكبيرة ( هنا ) هو الخروج على الإمام ولم يقل بذلك أحد من الذين عالجوا هذا الموضوع أو تعرضوا له ؟ لو كانت الكبيرة هنا تعني الخروج على الإمام بحسب رأي الدكتور لكانت قد أثيرت قبل زمن طويل حين خرج من خرج على عثمان، وحين خرج من خرج على علي، ومن خرج على من جاء بعدهما.

ثم من أين أتى الدكتور بما أضافه إلى واصل في قوله ( ولا بكافر ( تجب علينا مقاتله ) فأنا لم أعثر على هذه الإضافة فيما بين يدي من مصادر، وأظنها كالإضافة التي سبقتها، وهو يتحدث عن عدم قبول الحسن ( وبعض اتباعه ) للحل الذي طرحه واصل في المنزلة بين المنزلتين.

ان الدكتور نادر يجتهد حيث لا يجب، لكنه يخطئ حيث يجتهد وحيث لا يجتهد: في الرأي أو في النص.

____________________

(١) أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان الخياط من مشايخ المعتزلة وأستاذ أبي القاسم البلخي توفي في حدود ٣٠٠ ه- كان كما يقول صاحب طبقات المعتزلة فقيها صاحب حديث واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين من أشهر كتبه ( الانتصار ) في الرد على ابن الروندي المطبعة الكاثوليكية بيروت ١٩٥٧.

٥٠

٨ - رأي المعتزلة في تسميتهم:

كنا قد تناولنا فيما مضى آراء الكتاب والمؤرخين من غير المعتزلة في أصل تسميتهم، والآن أفلا يجدر بنا أن نقف قليلا لنسأل المعتزلة أنفسهم - أصحاب الشأن - عن منشأ تسميتهم فعل عندهم من ذلك علماً ؟

فماذا عند المعتزلة من تسميتهم ؟

على خلاف الرأي الذي سبق، من ربط التسمية باعتزال ما اتفقت عليه الأمة حاول المعتزلة من جانبهم - وكأنهم يعكسون ذلك الرأي - الأخذ بالنقيض حين جعلوا الاعتزال، اعتزالا لما اختلفت فيه الأمة في قضية مرتكب الكبيرة فالخياط(١) يقول في ص١١٨ من كتابه ( الانتصار ) ( إن واصل بن عطاءرحمه‌الله لم يحدث قولا لم تكن الأمة تقول به فيكون قد خرج من الإجماع ولكنه ويجد الأمة مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم فأخذ بما أجعمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه ).

وإلى هذا الرأي أيضا يذهب قاضي القضاة في شرح الأصول الخمسة وفي المنية والأمل والشريف المرتضى في الأمالي وابن المرتضى في طبقات المعتزلة وان كان الثلاثة الأخيرون يوردون هذا الرأي ضمن الآراء الأخرى التي أشرنا إليها آنفا(٢) .

وإذا كانت قد رفضت سابقا الرأي الذي يرد التسمية إلى اعتزال ما أجمعت عليه الأمة فإني أرفض وبنفس القوة ما يتعلق به المعتزلة من أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة وأخذهم بالمجمع عليه وهو اسم الفاسق.

____________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص٧١٦ و ٧١٧ والمنية والأمل ص٤٠ وأمالي المرتضى ص١٦٦ وطبقات المعتزلة ص٣٨.

(٢) ولهذا لم نجد في أدبيات الخوارج أو في خطبهم ذكرا للفاسق إلا على سبيل الذم الذي يلحق سلوك الإنسان وسيرته وليس كمرتكب لمعصية معينة اسمها الكبيرة.

٥١

ولنلاحظ أولا أن الحديث عما اتفقت أو اختلفت فيه الأمة لا يتعلق باسم مرتكب الكبيرة فقط وكيف يجب أن يسمى ليصح للمعتزلة أن يحتجوا بوجود الإجماع عليه، سواء وجد هذا الإجماع فعلا أم لم يوجد، وإنما الخلاف أساسا في حكم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة هل سيكون مثواه الجنة أم النار، وما هو العذاب الذي سيتعرض له وما هي مدته.

ولهذا فان البغدادي وغير البغدادي حين يقولون أن واصلاً قد خرج برأي في صاحب الكبيرة خالف فيه الإجماع لم يكونوا يقصدون اسم ( الفاسق ) الذي يتفق واصل في جزء منه مع عدد من الفرق الإسلامية، ومنها الفرقة التي ينتمي إليها البغدادي نفسه، لكنهم كانوا يقصدون بالدرجة الأولى الحكم الذي يترتب على ارتكاب الكبيرة فهذا هو الموضوع المهم الذي خالف فيه واصل آراء الفرق الأخرى قبله.

ولنعد إلى الاسم نفسه، فهل حقا أن الإجماع واقع على تسمية مرتكب الكبيرة بالفاسق، كما يدعي الخياط وغيره من المعتزلة ؟

أن المصادر في الفرق والمذاهب لا تؤيد ذلك، فالخوارج يسمون صاحب الكبيرة كافراً، والحسن وأصحابه يسمونه منافقاً، وليس بين أولئك وهؤلاء من يضيف اسم الفاسق إلى الإسم الذي اختاره لمرتكب الكبيرة.

أما الخوارج، فلأن المسافة بين الإيمان والكفر عندهم من القصر بحيث لا تحتمل محطة أخرى اسمها ( الفسق )، ينزل عندها صاحب الكبيرة ( الفاسق )، فهم لا يعرفون إلا المؤمن والكافر، وليس هناك وسط بين الأثنين يحتاجون معه إلى اسم آخر يكون علما عليه(١) بل أن فرقاً مهمة منهم

____________________

(١) هذا هو مذهب الازارقة أكبر فرق الخوارج وأهمها.

٥٢

تتجاوز الكفر لتسمي المخالفين لهم، حتى مع عدم ارتكابهم لأية كبيرة مشركين ثم تجاوزا هذا فسموا القعدة من مذهبهم مشركين(١) .

وأما الحسن وأصحابه، فلأن النفاق يستغرق الفسق ويتعداه، فان محل لإضافة اسم الفاسق عندهم، وقد سموا مرتكب الكبيرة منافقاً، ورتبوا عليه حكم المنافق، فأية قيمة لتسمية لا حكم لها.

ولنسلم مع الخياط، أن الأمة ( مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور.)، فلماذا تمسك واصل باسم الفاسق وترك الفاجر، وقد أجمعت الأمة عليه إجماعها على الفاسق وقرنته به، كما يقول الخياط في نصه المشار إليه آنفا.

أن اختيار واصل أو غير واصل ل- ( الفاسق )، اسما لمرتكب الكبيرة، لن يلزمنا إذن بشيء لأنه سيكون ترجيحا بلا مرجح، فإذا اختار واصل اسم الفاسق فأنا أستطيع، ودون أي حرج، إن أختار اسم الفاجر لنفس الشخص، فليس أحدهما أولى من الآخر وليس لأحدهما امتياز ورجحان حتى لو أخذنا بقول الخياط الذي سبقت الإشارة إليه، إلا أن يكون الإجماع في نظر الخياط هو ما اختاره واصل.

هذا فيما يخص الاسم، أما ما يخص الحكم، أي جزاء مرتكب الكبيرة والعذاب الذي سيلقاه في الآخرة، فان آراء الفرق الإسلامية ليست متفقة بشأنه، فالخوارج وهم يعدون مرتكب الكبيرة كافرا، كما رأينا، يحكمون عليه بالخلود في النار، والشيعة الإمامية وأهل السنة، لا يخلدونه

____________________

(١) الفرق بين الفرق للبغدادي ص٢١٠ وأصول الدين له أيضا نشر مدرسة الالهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط أولى ١٩٢٨ ج١ ص٢٤٢ وما بعدها والفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للشريف المرتضى ج٢ ص١٣٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٦١ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين مطبعة العرفان صيدا ١٣٣٠ ه- ص٣٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين الجويني تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨١ وما بعدها والتبصير في الدين ص١٠٦ - ١٠٧ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٧١ والشيعة بين المعتزلة والاشاعرة لهاشم معروف الحسني ص٢٦٢ وما بعدها.

٥٣

بل هو ينال عندهم من العذاب بقدر معصبته(١) والمرجئة يصححون إيمانه، ويتركون الحكم عليه لله.

ليس هناك إذن من إجماع بين هذه الفرق في الموضوع، يمكن القول بان المعتزلة قد أخذوا به وتركوا المختلف فيه.

ومع ذاك فلا بأس أن نلم بالرأي الذي أتى به المعتزلة، لنرى إن كانوا قد أضافوا شيئا ذا قيمة في الموضوع بعد أن رأينا فشل دعواهم في الإجماع عليه.

يقول المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكنه في منزلة دون منزلة الكافر من حيث العذاب، وهذا رأي لا أصالة فيه، نصفه مسروق، ونصفه مقلوب.

أما النصف المسروق فهو رأي الخوارج كما ذكرنا، وأما النصف المقلوب، فهو رأي السنة والامامية من الشيعة، فقد قال هؤلاء: إن المؤمن لن يخلد في النار إذا مات من غير توبة عن كبيرة ارتكبها لكنا يعاقب بقدر كبيرته، وجاء المعتزلة فقالوا: انه يخلد في النار، مع تخفيف العقاب عليه إلى ما دون عقاب الكافر.

ركز السنة والامامية على العقاب، مع عدم التأبيد في النار، وركز المعتزلة على التأبيد مع تخفيف العقاب.

____________________

(١) بل ان فيما ذهب إليه المعتزلة إغراءاً بارتكاب المزيد من الكبائر المزيد من الكبائر ما دامت أية واحدة توجب الخلود لمرتكبيها في النار فما الذي يمنعه من ارتكاب المزيد والعقاب هو هو واحد لا يتغير بارتكاب واحدة أو ارتكاب أكثر.

٥٤

ورأي السنة والامامية أقرب إلى الحق والإنصاف، ذلك انه يجعل العقوبة متناسبة مع الجرم، فحين يستوفي مرتكب الكبيرة عقوبته فلن يكون ثمة سبب لإبقائه في النار مدة أخرى غير ما حدد لجرمه.

أما المعتزلة، فصاحب الكبيرة، مهما كانت، مخلد عندهم في النار، وهذا رأي فيه ظلم كبير من هذه الجهة، وفيه أظلم أكبر من جهة أخرى، لتسويته بين أصحاب الكبائر بتعريضهم لعقاب واحد دون تمييز بين كبيرة وكبيرة، مع ان العدل يقتضي عدم المساواة بين هؤلاء لأن الكبائر، رغم التسمية الواحدة، كثيرة جدا، ومختلفة جدا من حيث الخطورة، وليست في الدرجة نفسها لتوجب لأصحابها نفس العقاب، الذي هو الخلود في النار(١) .

ثم إن المعتزلة لم يوضحوا لنا فيما أضافوه، درجة العذاب الذي سيلقاه مرتكب الكبيرة، وإلى أي حد سيخفف عنه، وهل الفرق كبير بين عذابه وبين عذاب الكافر ؟

واختصارا أي درجات السعير سيحفظ لهذا السيئ الحظ الذي لا هو مؤمن ولا هو كافر ؟

وحتى لو تجاوزنا ذلك، واحسنا تقييم رأي المعتزلة، فأية أهمية في أن تأتي فرقة من المسلمين فتضيف إلى آراء الفرق الأخرى، وهي كثيرة في الموضوع، رأيا حديدا وهل يستحق هذا ان تنتزع اسمها منه، وتنسب إليه مع إن كل فرقة تعتبر معتزلة بالنسبة للفرق الأخرى في حكم مرتكب الكبيرة كما ذكرنا.

____________________

(١) المنية والأمل لقاضي القضاة ص٧ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص٢.

٥٥

ولنقبل رأي المعتزلة في ان اسمهم جاء من اعتزالهم ما اختلف فيه المسلمون، وأخذهم بما اجمعوا عليه ألم يكن من الأنسب لو انهم هم الذين اختاروا الاسم، كما يقولون، ان يختاروا من الأسماء ما يبرز معنى الإجماع الذي يدعون الأخذ به، لا اسم المعتزلة الذي قد يوحي العكس، وهو ما تعلق به خصومهم ضدهم، ذلك ان النسبة للإيجابي ( المجمع عليه ) أولى من النسبة للسلبي ( اعتزال المختلف فيه )، فان تكون ( مع ) أوضح في الدلالة من أن تكون ( ضد ).

كان من الممكن مثلا ان يطلق المعتزلة على أنفسهم لو أخذنا بوجهة نظرهم اسم ( الإجماعيين ) أو ( الإتفاقيين ) أو أي اسم آخر، يدل على الإجماع و الاتفاق أو يشير إليهما، فذلك أفضل من اسم ( المعتزلة ) الذي لا يشير في أفضل الحالات إلى أكثر من موقف سلبي بحت يلجأ إليه من لم يعرف الصواب ولم يهتد إلى الحق.

ثم أن المعتزلة قد تجاوزوا هذا الحد، فلم يقفوا عند مجرد الرفض واعتزال المختلف فيه من الآراء في مرتكب الكبيرة، بل أسسوا فرقة جديدة، وجاؤوا بمذهب جديد وكان يفترض - وأظننا لا نتجاوز في هذا دائرة المجمع عليه أيضا - أن يتحدد اسمهم، مما يشكل السمات الأساسية لمذهبهم، فاعتزال آراء الآخرين قد يشكل موقفا في ظرف معين وإزاء قضية معينة، ولكنه لا يمكن أن يؤلف في ذاته مذهبا ثم يكون هو الاسم المختار لهذا المذهب.

٥٦

على أن اعتزال الآخرين، لا يختص به المعتزلة وحدهم، وإنما هو نقطة البداية في بناء أية فرقة أو مذهب، دينيا كان ذلك المذهب، أم سياسيا، أم.الخ، وإلا فلم هذا العناء في تأسيس مذهب ما إذا هو تبني آراء وأفكاره غيره من المذاهب التي سبقته، فلم ( يعتزلها ) ولم يختلف عنها.

ويظهر أن المعتزلة، قد شعروا بعد ذلك بقصور حجتهم عن تفسير الاسم بالاستناد إلى اعتزال المختلف فيه من الآراء في شأن صاحب الكبيرة، فليس أسهل من عكس الحجة عليهم والقول بان الاعتزال، كان اعتزالا لما أجمع عليه المسلمون، فترد دعواهم بما يماثلها، وهذا ما فعله معهم خصومهم ابتداء، وتمسكوا به، كما رأينا، وهم أكثر عددا وأشد قوة , وليس في اللغة ما يرجح ادعاء على ادعاء، ولم يكن تخريج المعتزلة في اعتزال المختلف فيه بأقوى من تخريج خصومهم في اعتزال المجمع عليه، ما دام الاعتزال قابلا للطرفين، من غير اختصاص بواحد منهما.

ولهذا لجأ المعتزلة إلى القرآن، للدفاع عن الاسم، وبيان فضله، يسدون به قصور حجتهم في تفسيره باعتزال المختلف فيه، فاحتجوا لذلك بقوله تعالى في سورة مريم ٤٨ ( واعتزلكم )، وبقوله في سورة المزمل ١٠ ( واهجرهم هجرا جميلا )، وكأنهم يريدون أن يجعلوا الاعتزال، أينما ورد في القرآن، اعتزالاً للشر ليحجوا خصومهم ويفحموهم بما لا يستطيعون نقضه والرد عليه(١) .

وهذا تعسف ظاهر من المعتزلة في تفسير ألفاظ اللغة وتضييق لها، غير مبرر ولا مقبول، فإذا كان القرآن قد استعمل اللفظ في هاتين الآيتين

____________________

(١) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية هامش ص١٩٢.

٥٧

اعتزال الشر فانه استعمله في سورة الكهف ١٦ لاعتزال الخير إذ يقول ( وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . )(١) ، فليس في اللغة ما يمنع من استعمال اللفظ في الخير أيضا، فالفعل ( عزل ) يتسع لهما معا ولا يتجه لأحدهما دون الآخر، وليس وروده في هذه الآية أو تلك اعتزالا للشر يمانع من وروده في آية أو آيات أخرى اعتزالا للخير، فالحجة هنا ليست بأقوى من الحجة هناك.

وكما لجأ المعتزلة إلى القرآن، فقد لجؤوا إلى الحديث النبوي يستنجدونه في معركة التسمية، فاحتجوا بحديث رووه (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرها وأنقاها الفرقة المعتزلة ) أو ( ستفترق أمتي إلى فرق خيرها وأبرها المعتزلة) دون ذكر لعدد الفرق(٢) .

والمعتزلة في هذا ينهجون نهج الفرق الأخرى، في وضع الأحاديث تأييدا ودعما لها وحطا من شأن خصومها، وإضعافا لهم.

كما احتجوا للاعتزال بحديث آخر، رووه عن النبي يقول ( من اعتزل من الشر سقط في الخير )(٣) .

والغريب أن المعتزلة يرفضون الأخذ بالآيات القرآنية إذا رأوها تعارض مع العقل ويؤولنها بما يجعلها مسايرة له، موافقة لأحكامه، ثم يأتون هنا ليحتجوا بأحاديث، كمثل هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته في نظر أصحاب الجرح والتعديل، ولكن أحس إحساسا عميقا، بأنه لم يصدر عن إمام اللغة، وسيد بلغائها محمد بن عبد الله لسقوطه لغة ومضمونا، فإذا

____________________

(١) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

(٢) وحديث افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة من الأحاديث السيئة الصيت والتي يصعب تصديقها والوثوق بها وقد استغل ابشع استغلال في تصديع وحدة المسلمين وتكريس الفرقة بين طوائف الإسلام وتأليب بعضهم ضد بعض بل إن هذا الحديث ورد في كتاب ( الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة ) لعثمان بن عبد الله العراقي الحنفي تحقيق وتقديم الدكتور بشار قوتلواي أنقرة ١٩٦١ ص٣٠ لا عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفترض بل عن علي هذه المرة مع إضافة ما يناسبه طبعا من سب لمن ( ينتحلون حبنا أهل البيت . ) أو لمن ( يتشبع أو الشيعة ).

وللعلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري بحث قيم عن هذا الحديث في مقدمته لكتاب ( الفرق بين الفرق ) لعبد القاهر البغدادي و ( التبصير في الدين ) لأبي المظفر الاسفراييني.

وانظر كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية ) فقد فصلنا الحديث في هذا البحث.

ومعركة الأحاديث بين الفرق الإسلامية من أسوأ ما عرف تاريخ الإسلام من معارك.

(٣) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

٥٨

كان من اعتزال الشر وقع في الخير، فأين سيقع من فعل الخير ولم يكتف باعتزال الشر والكف عنه، ان من اعتزل الشر يكون وبكل بساطة قد اعتزل الشر فقط، وتلك المنزلة، أما عمل الخير فمنزلة أخرى غيرها، وما أظن المعتزلة يردون هذا أو يعترضون عليه، وهم - لا غيرهم - أصحاب تعدد المنازل.

ثم أن الحديث يتكلم عن اعتزال الشر، لا عن ( المعتزلة ) الفرقة المعروفة، ويبقى السؤال قائما لتحديد الجهة التي يتناولها الحديث في حال تصحيحه من هي هذه الجهة التي اعتزلت الشر ؟ من قال إنهم المعتزلة، ولماذا لا يكون غيرهم ؟ إن ما واجهنا في موضوع المجمع عليه، والمختلف فيه، من أقوال المسلمين والحجة وعكسها هناك، يمكن أن يواجهنا هنا في اعتزال الشر والسقوط في الخير، أو اعتزال الخير والسقوط في الشر، فليست فرقة أولى به من فرقة، فالحديث رغم ملاحظاتنا عليه عام يتعلق بمن اعتزل الشر عموماً، فهو لا يحدد جهة أو جماعة، ولا يختص بمذهب، وكل يستطيع التمسك به ودفع خصومه عنه.

بل أن المعتزلة قد تجاوزوا الحد وكأنهم في سباق مع الفرق الأخرى في رواية الأحاديث الموضوعية لتأييد مذهبهم، وهي الأحاديث التي حاربوها وحاربوا من وضعها ومن تسلح بها.

استمع إليهم وهم يروون عن النبي حديث ( يكون في أمتي رجل يقال له واصل بن عطاء يفصل بين الحق والباطل )، وأظن راوي الحديث

٥٩

نسي، فلم يذكر ( الغزال ) لقب واصل بعد ما ذكر اسمه واسم أبيه فلعل هناك واصل بن عطاء آخر يدعي انه المقصود بهذا الحديث !!

لقد كان المعتزلة في غنى عما يشوه صورتهم العقلية باللجوء إلى هذا ومثله مما حاربوا خصومهم عليه، ولو أنهم فعلوا لكانوا أحسنوا كثيرا لمذهبهم، ولاحتفظوا بتلك الصورة العقلية له، فلن يفعل حديث موضوع هنا وآخر مكذوب هناك، أكثر من تشويه هذه الصورة وهي خسارة على كل حال.

٩ - الرأي الذي نراه:

يبدو أنني انتهيت إلى رفض الآراء التي طرحت حتى الآن لتفسير اسم المعتزلة، سواء في ذلك ما تعلق به خصوم المعتزلة، أو ما تمسك به المعتزلة أنفسهم، فهل سنتوقف عند ذلك مكتفين بهذه النتيجة الهينة التي لا ترضي طموح العلم ولا تسد حاجة الباحثين أليس هناك من رأي نستطيع الأخذ به، مطمئنين إليه، واثقين بنسبة تتجاوز ما مر بنا على الأقل.

ولكن قبل ذاك، أود أن أعيد هنا ما سبق ان طرحته في بداية هذا الفصل، لماذا أثار اسم المعتزلة كل هذه الصعوبة، وكل هذا الاضطراب، خلافا للفرق الإسلامية الأخرى ؟ أهو وجه من وجوه الظلم الذي تعرضوا له في حياتهم ظل يلاحقهم، حتى بعد اختفائهم وزوال نشاطهم، في تسميتهم هذه المرة فلم يهتد لها باحث، بما يزيل الشك، ويبعث على الاطمئنان ؟!

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185