• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28830 / تحميل: 6795
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هذا وإن كان في الجواب الأوّل للإمامعليه‌السلام دلالة على خلقه ، وأنّه ليس بقديم ، إذ أنّ كلام الله معناه غير الله ، وكُلّ ما كان غير الله فهو حادث مخلوق.

( محمّد ـ السعودية ـ ١٦ سنة ـ طالب ثانوية )

قولنا : صدق الله العلي العظيم :

س : عندي سؤال وهو : نحن الشيعة عندما ننهي الآية أو السورة من القرآن الكريم نقول : صدق الله العلي العظيم ، ولا نقول : صدق الله العظيم ، فما هو السر في ذكر العلي؟ ودمتم موفّقين.

ج : من الطبيعي عدم ورود مثل هذه الأُمور في الروايات ، لذا فمن الناحية الأوّلية يمكن الإتيان بأيّهما شاء ، لكن لمّا كان في هذه الجملة « العلي العظيم » من زيادة في تعظيم الله تعالى أوّلاً ، وثانياً لأنّها وردت في القرآن الكريم بموردين :

١ ـ قوله تعالى :( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالى :( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٢) .

ولم نجد في القرآن اقتران العظيم بلفظ الجلالة لوحده فقط ، لذا كان الأفضل هو الجملة الأُولى ، أي : « العلي العظيم » ، ولهذا تمسّك بها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ المغرب ـ )

جواز قراءته بالقراءات المشهورة :

س : قرأت كلاماً للشيخ السبحاني مفاده : إنّ القراءة المعتمدة في القرآن الكريم هي القراءة المسندة إلى أمير المؤمنين علي أبي طالب عليه‌السلام دون باقي الروايات ، فهل هذا يعني أنّ القراءات الأُخرى لا تعتبرونها؟ وكيف يكون ذلك

__________________

١ ـ البقرة : ٢٥٥.

٢ ـ الشورى : ٤.

٢١

والقراءات الأُخرى مروية بالتواتر ، وتستند إلى أجلّة الصحابة ، كأُبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس.

ونحن في المغرب ، لا نعرف سوى رواية ورش عن نافع ، التي تنتهي إلى ابن عباس ، ثمّ إقرار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطّاب والصحابي لمّا أختلفا في قراءة آية وغير ذلك ، أليس هذا أصلاً لاختلاف القراءات؟ وفّقكم الله لإصابة الحقّ ولشفاء الصدر.

ج : إنّ فقهاء الشيعة يفتون بجواز قراءة القرآن بالقراءات المشهورة ، وكون القراءات السبع مجزية عندهم ، ولكن الاختلاف بين الشيعة وأهل السنّة في كون القرآن نزل على سبعة أحرف ، حيث تنفي الشيعة هذا ، وذلك بالاعتماد على ما روي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

فعن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : « كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد »(١) .

( ـ المغرب ـ سنّي )

نزل على حرف واحد :

س : أودّ من فضيلة العلماء أن يرشدوني في مسألة ما تزال غامضة إلى الآن ، خاصّة أنّ كثيراً ممّن تطرّق إليها لا يوفّي حقّها ، ويترك أمام القارئ سلسلة من الاحتمالات والمفاهيم الناقصة ، التي لا تشفي غليل الباحث عن الحقّ ، ذلك أنّي قرأت كتاباً للشيخ مناع القطان بعنوان : مباحث في علوم القرآن ، تطرّق فيه إلى مسألتين مهمّتين : الحروف السبع التي أنزل عليها القرآن الكريم ، والقراءات التي يقرأ بها.

فذكر أنّ القول الراجح هو : أنّ معنى الحروف السبع المذكورة في الأحاديث هي عدد لهجات العرب ، وهذا تخفيفاً على الناس كما ذكر ، ثمّ لمّا وقع

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢٢

الاختلاف والتنازع زمن عثمان بن عفّان ، تمّ جمع الناس على لغة قريش ، أمّا اختلاف القراءات يرجع إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بأحد أمرين :

أمّا أن يكون الاختلاف في القراءة صادراً عن النبيّ الكريم ، كقراءة ملك ومالك ، وإقرار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سلمان الفارسي ذلك : بأنّ منهم صدّيقين ورهباناً ، بدل قسّيسين ورهباناً الآية ، وغير ذلك ممّا هو كثير ، أو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّ من يقرأ على هذه القراءة.

إذاً ، فكُلّ قراءة توفّرت فيها الشروط ، ومنها التواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هي قراءة صحيحة ، كما أنّني كنت قرأت عن بعض علمائكم أنّكم لا تعتبرون إلاّ قراءة حفص عن عاصم ، فما مصير القراءات الأُخرى؟

ج : الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال تقول : أنّ القرآن نزل على حرف واحد ، لا على سبع حروف كما يدّعون ، فالقرآن واحد ، نزل من عند الواحد ، أنزله الواحد على الواحد ، فهذه هي عقيدة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بالقرآن.

وأمّا سبب اختلاف في القراءة فله تأويلات ، وأسباب كثيرة ، وعلى كُلّ حال ، فالقرآن لم ينزل على أشكال وقراءات ، وإنّما الاختلاف حصل من البشر.

( عادل عبد الحسين العطّار ـ البحرين ـ )

جواز قراءته في أيّام الدورة الشهرية غيباً :

س : هل يجوز لمن هي في أيّام الدورة الشهرية قراءة القرآن غيباً؟ ولكم منّي جزيل الشكر والاحترام.

ج : جوّز فقهاؤنا قراءة القرآن الكريم على ظهر الغيب ـ لمن هي في أيّام الدورة الشهرية ـ وفي المصحف ، ولكن لا تمسّ المصحف ، ولا تقرأ آيات السجدة.

ونلفت انتباهك إلى أنّ الروايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام وردت في جواز قراءة القرآن لمن هي في أيّام الدورة الشهرية ، إلاّ أنّها تنصّ على كراهة قراءة أكثر من سبع آيات.

٢٣

( يوسف العاملي ـ المغرب ـ )

تفسير( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) :

س : السلام على جميع العاملين في هذا المركز العظيم ، الذي نشر تعاليم آل محمّد وعلومهم ، جعلهم الله شفعاؤكم يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلاّ من أتى الله بقلب سليم ، وهكذا فإنّنا نبارك لكم حلول أيّام العيد الفطر السعيد ، جعله الله عليكم خيراً وغفراناً من كُلّ ذنب.

لقد أرسلتم لنا في شهر رمضان المبارك هذا العام كتاب جميل جدّاً : عقائد الإمامية لكاتبه العلاّمة الشيخ محمّد رضا المظفّر ، فالشكر لكم على ما تخصصوه من العناية والرعاية لأتباع هذا المذهب في كُلّ أنحاء العالم.

لكنّني عندما قرأت هذا الكتاب الرائع استوقفتني جملة في ، وهي كالتالي : يقول العلاّمة : كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمسّ كلماته أو حروفه( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) سواء كان محدثاً بالحدث الأكبر ، كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها

وبدوري أتساءل : هل يصحّ أن نفسّر هذه الآية بدلالتها اللفظية الظاهرية؟ ونحن نعلم جميعاً أنّ جلّ علماء الشيعة استدلّوا بهذه الآية على عمق علوم أهل البيتعليهم‌السلام فقالوا : إنّ تلك المعاني العميقة في القرآن لا يمكن لأحد غيرهم فهمها أو إدراكها؟ فكيف يمكن التوفيق بين ما جاء في هذا الكتاب وما قلناه نحن؟ لا تنسونا من خالص الدعاء.

ج : لا مانع من دلالة الآية الشريفة على المعنيين المذكورين بنظرتين مختلفتين في الرتبة ، فعندما ننظر إليها من زاوية الأخذ بظاهر الألفاظ ، تعطينا حكماً فقهياً يمكننا الاستدلال عليه بهذه الآية ، وحينما نريد أن نتأمّل فيها ونستنتج مفادها ، فسوف ترشدنا إلى حكم عقائدي في غاية الأهمّية ، وهو : الإشارة إلى عظمة مرتبة أهل البيتعليهم‌السلام العلمية ، وقد جاء هذان التفسيران للآية في مصادر الفريقين ، فلاحظ.

__________________

١ ـ الواقعة : ٧٩.

٢٤

ثمّ إنّ العلاّمة المظفرقدس‌سره لا يريد أن ينفي التفسير الثاني ، بل كان في مقام الاستدلال بالآية على المعنى الأوّل.

( محمّد الحلّي ـ البحرين ـ )

فائدة الآية المنسوخة :

س : ما الفائدة من الآية المنسوخة؟

ج : يتّضح الجواب بعد بيان عدّة نقاط :

الأُولى : ما معنى النسخ؟

أ ـ النسخ في اللغة : هو الاستكتاب ، كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظلّ ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ.

ب ـ النسخ في الاصطلاح : هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها ، من الأُمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط.

الثانية : هل وقع النسخ في الشريعة الإسلامية؟

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، فإنّ كثيراً من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإنّ جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أُخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد صرّح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجّه في الصلاة إلى القبلة الأُولى ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

الثالثة : أقسام النسخ في القرآن :

١ ـ نسخ التلاوة دون الحكم :

٢٥

وقد مثّلوا لذلك بآية الرجم فقالوا : إنّ هذه الآية كانت من القرآن ، ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، والقول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف ، ومستند هذا القول أخبار آحاد ، وأخبار الآحاد لا أثر لها.

٢ ـ نسخ التلاوة والحكم :

ومثّلوا لنسخ التلاوة والحكم معاً ، بما روي عن عائشة أنّها قالت : « كان فيما أُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهن فيما يقرأ من القرآن »(١) .

والكلام في هذا القسم ، كالكلام على القسم الأوّل بعينه.

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة :

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسّرين ، وقد ألّف فيه جماعة من العلماء كتباً مستقلّة ، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ ، وخالفهم في ذلك بعض المحقّقين ، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن ، وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك ، وعلى وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة ، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام.

الرابعة : ما الفائدة من الآية المنسوخة؟

سئل الإمام عليعليه‌السلام عن الناسخ والمنسوخ؟ فقال : « إنّ الله تبارك وتعالى بعث رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأفة والرحمة ، فكان من رأفته ورحمته أنّه لم ينقل قومه في أوّل نبوّته عن عادتهم ، حتّى استحكم الإسلام في قلوبهم ، وحلّت الشريعة في صدورهم ، فكان من شريعتهم في الجاهلية أنّ المرأة إذا زنت حبست في بيت ، وأقيم بأودها حتّى يأتيها الموت ، وإذا زنى الرجل نفوه من مجالسهم وشتموه ، وآذوه وعيّروه ولم يكونوا يعرفون غير هذا.

فقال الله تعالى في أوّل الإسلام :( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٤ / ١٦٧ ، الجامع الكبير ٢ / ٣٠٩.

٢٦

يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١) .

فلمّا كثر المسلمون وقوي ، واستوحشوا أُمور الجاهلية ، أنزل الله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ) (٢) ، فنسخت هذه الآية آية الحبس والأذى »(٣) .

يظهر من هذه الرواية أنّ هناك مصلحة إلهية اقتضت تغيير الحكم تدريجياً.

ومنها : بيان عظمة وقدرة الباري تعالى على تغيير الحكم ، مع وجود مصلحة مؤقّتة في كلا الحكمين ، ولكن في الحكم الأوّل كانت مصلحة مؤقّتة ، وفي الحكم الثاني كانت المصلحة دائمية ، وكلا المصلحتين كانتا بنفع المؤمنين.

ومنها : إظهار بلاغتها وإعجازها ، وغير ذلك.

( عبد الله ـ السعودية ـ )

تفصيل حول خلقه :

س : أُريد تفصيلاً عن مسألة خلق القرآن من عرض للروايات والأقوال ، مع جمع وتحليل ، وشكراً لكم.

ج : إنّ مسألة كون القرآن قديماً أو مخلوقاً ، والاختلاف في معنى المخلوق ، ونفي الإمامعليه‌السلام كونه مخلوقاً ، وإنّما كلام الله ، ويريد بذلك نفي ما ربما يتصوّر من كونه مخلوقاً أن يطرأ عليه الكذب ، أو احتمال أن يكون منحولاً ، وإلاّ فلا مجال للاختلاف من كون كلام الله حادثاً ، ومع هذا فهو غير مخلوق ، بمعنى غير مكذوب.

__________________

١ ـ النساء : ١٥ ـ ١٦.

٢ ـ النور : ٢.

٣ ـ بحار الأنوار ٩٠ / ٦.

٢٧

روي عن عبد الرحيم أنّه قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام : جعلت فداك أُختلف الناس في القرآن ، فزعم قوم أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقال آخرون : كلام الله مخلوق؟

فكتبعليه‌السلام : « فإنّ القرآن كلام الله محدث غير مخلوق ، وغير أزلي مع الله تعالى ذكره ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول ، كان عزّ وجلّ ولا متكلّم ولا مريد ، ولا متحرّك ولا فاعل ، جلّ وعزّ ربّنا.

فجميع هذه الصفات محدثة غير حدوث الفعل منه ، عزّ وجلّ ربّنا ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، فيه خبر من كان قبلكم ، وخبر ما يكون بعدكم ، أُنزل من عند الله على محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

قال الشيخ الصدوققدس‌سره : « كان المراد من هذا الحديث ما كان فيه من ذكر القرآن ، ومعنى ما فيه أنّه غير مخلوق أي غير مكذوب ، ولا يعني به أنّه غير محدث ، لأنّه قال : محدث غير مخلوق ، وغير أزلي مع الله تعالى ذكره »(٢) .

وقال أيضاً : « قد جاء في الكتاب أنّ القرآن كلام الله ، ووحي الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ولم يجيء فيه أنّه مخلوق ، وإنّما امتنعنا من إطلاق المخلوق عليه لأنّ المخلوق في اللغة قد يكون مكذوباً ، ويقال : كلام مخلوق أي مكذوب ، قال الله تبارك وتعالى :( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) (٣) أي كذباً ، وقال تعالى حكاية عن منكري التوحيد :( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) (٤) أي افتعال وكذب.

فمن زعم أنّ القرآن مخلوق بمعنى أنّه مكذوب فقد كذب ، ومن قال : أنّه غير مخلوق بمعنى أنّه غير مكذوب فقد صدق ، وقال الحقّ والصواب ، ومن

__________________

١ ـ التوحيد : ٢٢٧.

٢ ـ المصدر السابق : ٢٢٩.

٣ ـ العنكبوت : ٧.

٤ ـ ص : ٧.

٢٨

زعم أنّه غير مخلوق بمعنى أنّه غير محدث ، وغير منزل وغير محفوظ ، فقد أخطأ وقال غير الحقّ والصواب.

وقد أجمع أهل الإسلام على أنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ على الحقيقة دون المجاز ، وأنّ من قال غير ذلك فقد قال منكراً وزوراً ، ووجدنا القرآن مفصّلاً وموصلاً ، وبعضه غير بعض ، وبعضه قبل بعض ، كالناسخ الذي يتأخّر عن المنسوخ ، فلو لم يكن ما هذه صفته حادثاً بطلت الدلالة على حدوث المحدثات ، وتعذّر إثبات محدثها ، بتناهيها وتفرّقها واجتماعها.

وشيء آخر : وهو أنّ العقول قد شهدت ، والأُمّة قد أجمعت : أنّ الله عزّ وجلّ صادق في أخباره ، وقد علم أنّ الكذب هو أن يخبر بكون ما لم يكن ، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن فرعون وقوله :( أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (١) ، وعن نوح أنّه :( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) (٢) .

فإن كان هذا القول وهذا الخبر قديماً ، فهو قبل فرعون وقبل قوله ما أخبر عنه ، وهذا هو الكذب ، وإن لم يوجد إلاّ بعد أن قال فرعون ذلك ، فهو حادث ، لأنّه كان بعد أن لم يكن.

وأمر آخر وهو : أنّ الله عزّ وجلّ قال :( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (٣) ، وقوله :( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (٤) ، وما له مثل ، أو جاز أن يعدم بعد وجوده ، فحادث لا محالة »(٥) .

وقال الشيخ الطوسي : « كلام الله تعالى فعله ، وهو محدث ، وامتنع أصحابنا من تسميته بأنّه مخلوق ، لما فيه من الإيهام بكونه منحولاً ، وقال

__________________

١ ـ النازعات : ٢٤.

٢ ـ هود : ٤٢.

٣ ـ الإسراء : ٨٦.

٤ ـ البقرة : ١٠٦.

٥ ـ التوحيد : ٢٢٥.

٢٩

أكثر المعتزلة : أنّه مخلوق ، وفيهم من منع من تسميته بذلك ، وهو قول أبي عبد الله البصري وغيره.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد : أنّه مخلوق ، قال محمّد : وبه قال أهل المدينة ، قال الساجي : ما قال به أحد من أهل المدينة ، قال أبو يوسف : أوّل من قال بأنّ القرآن مخلوق أبو حنيفة ، قال سعيد بن سالم : لقيت إسماعيل بن حماد ابن أبي حنيفة في دار المأمون ، فقال : إنّ القرآن مخلوق ، هذا ديني ودين أبي وجدّي.

وروي عن جماعة من الصحابة الامتناع من تسميته بأنّه مخلوق ، وروي ذلك عن عليعليه‌السلام أنّه قال يوم الحكمين : «والله ما حكمت مخلوقاً ، ولكنّي حكمت كتاب الله » ، وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وبه قال جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام ـ فإنّه سئل عن القرآن ـ فقال : «لا خالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله » ، وبه قال أهل الحجاز.

وقال سفيان بن عيينة : سمعت عمرو بن دينار وشيوخ مكّة منذ سبعين سنة يقولون : إنّ القرآن غير مخلوق ، وقال إسماعيل بن أبي أويس : قال مالك : القرآن غير مخلوق ، وبه قال أهل المدينة ، وهو قول الأوزاعي وأهل الشام ، وقول الليث بن سعد ، وأهل مصر ، وعبيد الله بن الحسن العنبري البصري ، وبه قال من أهل الكوفة ابن أبي ليلى وابن شبرمة ، وهو مذهب الشافعي ، إلاّ أنّه لم يرو عن واحد من هؤلاء أنّه قال : القرآن قديم ، أو كلام الله قديم ، وأوّل من قال بذلك الأشعري ومن تبعه على مذهبه ، ومن الفقهاء من ذهب مذهبه.

دليلنا على ما قلناه : ما ذكرناه في الكتاب في الأُصول ليس هذا موضعها ، فمنها قوله :( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ ) (١) فسمّاه

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢.

٣٠

محدثاً ، وقال :( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (١) ، وقال :( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٢) فسمّاه عربياً ، والعربية محدثة ، وقال :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (٣) ، وقال :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) (٤) فوصفه بالتنزيل.

وهذه كُلّها صفات المحدث ، وذلك ينافي وصفه بالقدم ، ومن وصفه بالقدم فقد أثبت مع الله تعالى قديماً آخر ، وذلك خلاف ما أجمع عليه الأُمّة في عصر الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم إلى أيّام الأشعري ، وليس هذا موضع تقصّي هذه المسألة ، فإنّ الغرض هاهنا الكلام في الفروع.

وروي عن نافع قال : قلت لابن عمر : سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن شيئاً؟ قال : نعم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « القرآن كلام الله غير مخلوق ، ونور من نور الله » ، ولقد أقرّ أصحاب التوراة : أنّه كلام الله ، وأقرّ أصحاب الإنجيل : أنّه كلام الله.

وروى أبو الدرداء أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «القرآن كلام الله غير مخلوق ».

وقد مدح الصادقعليه‌السلام بما حكيناه عنه بالنظم ، فقال بعض الشعراء لاشتهاره عنه :

قد سأل عن ذا الناس من قبلكم

ابن النبيّ المرسل الصادق

فقال قولاً بيّناً واضحاً

ليس بقول المعجب المايق

كلام ربّي لا تمارونه

ليس بمخلوق ولا خالق

جعفر ذا الخيرات فافخر به

ابن الوصي المرتضى السابق(٥)

وفي الختام ننقل لكم عدّة روايات حول الموضوع ، وذلك لأهمّيته القصوى :

__________________

١ ـ الزخرف : ٣.

٢ ـ الشعراء : ١٩٤.

٣ ـ الحجر : ٩.

٤ ـ النحل : ٤٤.

٥ ـ الخلاف ٦ / ١١٨.

٣١

١ ـ عن ابن خالد قال : قلت للرضاعليه‌السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق؟ فقال : «ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الله عزّ وجلّ »(١) .

٢ ـ عن الريّان بن الصلت قال : قلت للرضاعليه‌السلام : ما تقول في القرآن؟ فقال : «كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا »(٢) .

٣ ـ عن علي بن سالم ، عن أبيه قال : سألت الصادقعليه‌السلام فقلت له : يا بن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقال : «هو كلام الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ووحي الله وتنزيله ، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد »(٣) .

٤ ـ عن اليقطيني قال : كتب علي الرضاعليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإلاّ يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة ، اشترك فيها السائل والمجيب ، فتعاطى السائل ما ليس له ، وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك ، فتكون من الضالّين ، جعلنا الله وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب ، وهم من الساعة مشفقون »(٤) .

٥ ـ عن الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسىعليه‌السلام : يا بن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقد أُختلف فيه من قبلنا ، فقال قوم : إنّه مخلوق ، وقال قوم : إنّه غير مخلوق ، فقالعليه‌السلام : «أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله عزّ وجلّ »(٥) .

__________________

١ ـ التوحيد : ٢٢٣.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ نفس المصدر السابق.

٣٢

٦ ـ عن فضيل بن يسار قال : سألت الرضاعليه‌السلام عن القرآن ، فقال لي : «هو كلام الله »(١) .

٧ ـ عن زرارة قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن القرآن ، فقال لي : «لا خالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الخالق »(٢) .

٨ ـ عن زرارة قال : سألته عن القرآن أخالق هو؟ قال : « لا » ، قلت : أمخلوق؟ قال : «لا ، ولكنّه كلام الخالق »(٣) .

٩ ـ عن ياسر الخادم عن الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن القرآن فقال : « لعن الله المرجئة ، ولعن الله أبا حنيفة ، إنّه كلام الله غير مخلوق ، حيث ما تكلّمت به ، وحيث ما قرأت ونطقت ، فهو كلام وخبر وقصص »(٤) .

١٠ ـ هشام المشرقي أنّه دخل على أبي الحسن الخراسانيعليه‌السلام ، فقال : إنّ أهل البصرة سألوا عن الكلام فقالوا : إنّ يونس يقول : إنّ الكلام ليس بمخلوق ، فقلت لهم : صدق يونس إنّ الكلام ليس بمخلوق ، أما بلغكم قول أبي جعفرعليه‌السلام حين سئل عن القرآن : أخالق هو أو مخلوق؟ فقال لهم : « ليس بخالق ولا مخلوق ، إنّما هو كلام الخالق » ، فقوّيت أمر يونس(٥) .

( أبو مهدي ـ ـ )

كيفية تصحيح الآراء المختلفة في تفسيره :

س : نسمع كثيراً عن اختلاف أصحاب المذاهب الأربعة في تفسير القرآن ، مثل محتوى التابوت الذي فيه آثار آل موسى وهارون ، والمفسّر يستشهد بهذه الآراء المختلفة على أنّها صحيحة.

__________________

١ ـ تفسير العيّاشي ١ / ٦.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٨٤.

٣٣

أرجو إعطاء بعض التفصيل ، ولكم جزيل الشكر.

ج : إنّ أصحاب المذاهب الأربعة يجتهدون بآرائهم ، واختلافهم يكون اختلاف بين مجتهدين ـ وهذا بخلاف أقوال الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّهم معصومون يستقون العلم من أصل أصيل ـ وعليه فإذا وجد اختلاف في رواياتهم في تفسير القرآن ، فهنا تجري عدّة مراحل :

١ ـ ملاحظة الأسانيد أوّلاً ، ليعمل بالصحيح المروي عنهم.

٢ ـ بعد التسليم بصحّة الأسانيد ، فإنّ الاختلاف في تفسير القرآن محمول على تعدّد معاني هذه الآيات ، وأنّ للقرآن عدّة بطون ، ولكُلّ بطن بطون

وأمّا التابوت الذي فيه آثار موسى ، فبعد التسليم بصحّة أسانيد كُلّ ما ورد من روايات في محتوى التابوت ، فلعلّ أنّ كُلّ رواية ناظرة إلى قسم من محتويات التابوت ، والجمع فيما بينها يعطينا نظرة عن محتويات التابوت.

( عبد الله ـ الكويت ـ ٢٨ سنة ـ خرّيج ثانوية )

مراحل نزوله :

س : تحية طيّبة وبعد : كيف نزل القرآن الكريم؟ وما هي المراحل التي استغرقها نزوله؟ وهل نزل جملة واحدة على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أم نزل على فترات متباعدة؟

وهل نحن الشيعة نعتقد كما يعتقد أهل السنّة ، بأنّ القرآن الكريم نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفترات متباعدة ، ولم ينزل جملة واحدة؟

أتمنّى أنّي أجد منكم الإجابة الوافية مع الأدلّة القاطعة ، ومن كتب الطرفين ، إنّ كنا نختلف معهم بالرأي ، وأكون لكم من الشاكرين.

ج : لاشكّ أنّ القرآن نزل تدريجاً ، وأنّ آياته تتابعت طبق المناسبات والظروف ، التي كانت تمر بها الرسالة الإلهية في مسيرتها ، تحت قيادة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد لمّحت إلى هذا النزول التدريجي للقرآن الآية

٣٤

الكريمة :( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) (١) ، وقوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) (٢) .

ومع ذلك فإنّ هناك نصوصاً قرآنية تشير إلى دفعية النزول القرآني على ما يفهم من ظاهرها ، وذلك كما في الآيات المباركة التالية : قال تعالى :( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقال تعالى :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٤) ، وقال تعالى :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٥) .

وقد أختلف الباحثون في وجه الجمع بين الأمرين ، وقد ذكروا في ذلك آراء ونظريات ، نذكر فيما يلي أهمّها :

النظرية الأُولى : وهي التي تعتبر للقرآن نزولين.

النزول الأوّل إلى البيت المعمور ، أو بيت العزّة ـ حسب بعض التعابير ـ وهذا هو النزول الدفعي الذي أشارت إليه بعض الآيات السابقة ، والنزول الثاني على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتدريج ، وطيلة المدّة التي كان يمارس فيها مهمّته القيادية في المجتمع الإسلامي.

وقد خالف المحقّقون من علماء القرآن هذا الرأي ، ورفضوا النصوص التي وردت فيها ، ورموها بالضعف والوهن ، وأقاموا شواهد على بطلانه.

وأهمّ ما يرد على هذه النظرية يتلخّص في شيئين :

__________________

١ ـ الإسراء : ١٠٦.

٢ ـ الفرقان : ٣٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ الدخان : ٣.

٥ ـ القدر : ١.

٣٥

١ ـ ورود الآيات القرآنية في بعض المناسبات الخاصّة ، بحيث لا يعقل التكلّم بتلك الآية قبل تلك المناسبة المعيّنة.

٢ ـ عدم تعقّل فائدة النزول الأوّل للقرآن من حيث هداية البشر ، فلا وجه لهذه العناية به في القرآن والاهتمام به.

النظرية الثانية : إنّ المراد من إنزاله في شهر رمضان ، وفي ليلة ابتداء القدر منه ، ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ، ثمّ استمر نزوله بعد ذلك على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتدريج ، ووفقاً للمناسبات والمقتضيات.

ويبدو أنّ هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الأغلبية من محققّي علوم القرآن والتفسير ، نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأُمور ، وأوفقها مع القرائن ، وظواهر النصوص القرآنية ، فإنّ القرآن يطلق على القرآن كُلّه ، كما يطلق على جزء منه ، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه.

وتأييداً لهذه الفكرة ، فإنّنا نحاول الاستفادة من التعابير الجارية بين عامّة الناس حين يقولون مثلاً : سافرنا إلى الحجّ في التاريخ الفلاني ، وهم لا يريدون بذلك إلاّ مبدأ السفر ، أو : نزل المطر في الساعة الفلانية ، ويقصد به ابتداء نزوله ، فإنّه قد يستمر إلى ساعات ، ومع ذلك يصحّ ذلك التعبير.

ولابدّ أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية وهي : أنّ المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه كان لسبع وعشرين خلون من رجب ـ على الرأي المشهور ـ وكانت الآيات التي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأوّل مرّة هي :( اقْرَأْ بِاسْمِ ) (١) .

ثمّ انقطع الوحي عنه لمدّة طويلة ، ثمّ ابتدأ الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة ، واستمرّ الوحي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١ ـ العلق : ١.

٣٦

حتّى وفاته ، وبما أنّ هذا كان بداية استمرار النزول القرآني ، فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.

النظرية الثالثة : وهي النظرية التي اختصّ بها العلاّمة الطباطبائي ، وهي تمثّل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري ، انطبعت بها مدرسة السيّد الطباطبائي في التفسير ، وهذه النظرية تعتمد على مقدّمات ثلاث ، تتلخّص فيما يلي :

١ ـ هناك فرق بين « الإنزال » و « التنزيل » ، والإنزال إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمراً وحدانياً نزل بدفعة واحدة ، والتنزيل إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمراً تدريجياً ، وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) ،( وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) (١) .

والتعبير بـ « الإنزال » إنّما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر ، أو شهر رمضان ، بخلاف الآيات الأُخرى التي يعبر فيها بـ « التنزيل ».

٢ ـ هناك آيات يستشعر منها أنّ القرآن كان على هيئة وحدانية ، لا أجزاء فيها ولا أبعاض ، ثمّ طرأ عليه التفصيل والتجزئة ، فجعل فصلاً فصلاً ، وقطعة قطعة ، قال تعالى :( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٢) .

فهذه الآية ظاهرة في أنّ القرآن حقيقة محكمة ، ثمّ طرأ عليها التفصيل والتفريق بمشيئة الله تعالى ، والأحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركّبه وتجزّئه.

٣ ـ هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللقيطة ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ « التأويل » في غير واحدة من الآيات ، قال تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ

__________________

١ ـ الإسراء : ١٠٦.

٢ ـ هود : ١.

٣٧

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقال تعالى :( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ) (٢) .

فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن ، وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الإلهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة.

واستنتاجاً من هذه المقدّمات الثلاث ، فللقرآن إذاً حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغيّر المتبدّل ، وإنّما هي من عالم أسمى من هذا العالم ، لا ينفذ إليه التغيّر ، ولا يطرأ عليه التبديل.

وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم ، الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته ، كما أنّه هو التأويل القرآني الذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.

وإذا آمنا بهذه الحقيقة ، فلا مشكلة إطلاقاً في الآيات التي تتضمّن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر ، وفي شهر رمضان ، فإنّ المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفّافة النبوية ، فإنّ هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي ، كما أنّ الوجود اللفظي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه التنزيل التدريجي.

وليس المقصود ممّا ورد من روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام حول النزول الأوّل للقرآن في البيت المعمور إلاّ نزوله على قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة ، وقد رمز إليها الحديث بهذا التعبير الكنائي.

وهذه النظرية مع ما تتّصف به من جمال معنوي ، لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلّفها ، كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه ، فليست النظرية هذه تتضمّن أمراً محالاً ، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحلّ المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن.

__________________

١ ـ يونس : ٣٨ ـ ٣٩.

٢ ـ الأعراف : ٥٢ ـ ٥٣.

٣٨

( إبراهيم ـ المغرب ـ )

معجزته غير البلاغية :

س : هل تضمّن القرآن جوانب أُخرى غير معجزة البلاغة والفصاحة ، تصلح مؤيّداً لنبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وأنّه المبعوث بحقّ من الله تعالى؟

ج : لقد تضمّن القرآن الكريم جملة مؤيّدات في هذا المجال ، نكتفي بذكر مؤيّدين فيها :

الأوّل : الإخبار عن الغيب.

إنّ في القرآن إشارات إلى وقوع بعض الحوادث ، والتي لم تكن قد وقعت بعد ، منها حادثة انتصار الروم على الفرس من بعد انكسارهم ، قال تعالى :( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (١) .

حيث انتصرت الإمبراطورية الفارسية على الإمبراطورية الرومانية عام ٦١٤ م ـ أي بعد أربع سنوات من ظهور الإسلام ـ وانتصرت الإمبراطورية الرومانية على الإمبراطورية الفارسية عام ٦٢٢ م ، الموافق للسنة الثانية للهجرة.

فتحقّق تنبّؤ القرآن الكريم ، وأثبت ما وعد الله تعالى من نصرة الروم على الفرس.

الثاني : الإخبار عن بعض الظواهر والقوانين الكونية.

لابدّ من التأكّد أوّلاً على أنّ القرآن ليس إلاّ كتاب هداية ، والهدف منه صنع الإنسان وسوقه إلى طريق الكمال والرقي ، ولا دخل له في ملاحظة ومتابعة الشؤون والمفردات المتعلّقة بالعلوم الأُخرى.

ومع هذا ، فقد أشار القرآن إلى بعض الظواهر والسنن الطبيعية ، ليجعلها دليلاً على وجود الله تعالى وعظمته ، وحقانية دعوة الأنبياء إلى ربّهم ، ومن تلك الظواهر العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم :

__________________

١ ـ الروم : ١ ـ ٣.

٣٩

١ ـ قانون الجاذبية : الذي اكتشفه نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ، والذي أكّد عليه نيوتن في هذا القانون هو : أنّ الجاذبية قانون عام ، وحاكم على أرجاء الوجود المادّي كافّة ، بينما هذه الفكرة مسلّمة في منطق القرآن ، وقبل نيوتن بألف عام.

قال تعالى :( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١) .

٢ ـ قانون الزوجية العام : الذي اكتشفه العالم السويدي شارك لينيه ، عام ١٧٣١ م ، والذي أكّد من خلاله على أنّ الأنوثة والذكورة حقيقة ثابتة في النبات ، وأنّ الأشجار لا يتمّ الحصول على ثمرها إلاّ من خلال تلقيح بذور النبات الذكري للنبات الأنثوي.

بينما القرآن الكريم أثبت وجود هذه الحقيقة لكُلّ الموجودات بقوله تعالى :( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٢) ، وأنّ تلقيح النباتات يتمّ عن طريق الرياح لقوله تعالى :( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) (٣) .

٣ ـ قد بيّن القرآن الكريم مسألة حركة الأرض ، والأجرام السماوية بقوله :( لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٤) ، في الوقت الذي تضارب فيه آراء علماء الهيئة في اليونان.

( رضا شريعتي ـ إيران ـ ٤٠ سنة ـ دكتور )

أُمّ الكتاب :

س : ما أُمّ الكتاب؟ هل هي بنفسها الإمام المبين؟ والكتاب المكنون؟ واللوح المحفوظ؟ والكتاب المبين؟ ومحكمات القرآن؟ وأمير المؤمنين؟ والأئمّة عليهم‌السلام ؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣.

٢ ـ الذاريات : ٤٩.

٣ ـ الحجر : ٢٢.

٤ ـ يس : ٤٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ليس هذا، كما أظن، فلقد تعرض الشيعة لأشد وأقسى مما تعرض له المعتزلة وتعرض الخوارج، كذلك، لأشد وأقسى مما تعرض له المعتزلة فلم يثر اسم الأولين، ولا اسم الآخرين الصعوبة التي أثارها اسم المعتزلة.

لماذا ؟ لأن اسم أولئك وهؤلاء، قد ارتبط بشخص معين متشيعين له، أو خارجين عليه، هو علي بن أبي طالب.

ولم يثر اسم الجهمية أية صعوبة للسبب نفسه.

ولم يثر اسم السنة والجماعة لارتباطه بواقعة معينة وبتاريخ معين.

وأعود إلى النقطة التي بدأت حديثي منها: هل سنقف إذن عند هذه النتيجة التي لا تتجاوز في أفضل الحالات دائرة الشكوك ونحن نبحث تسمية فرقة كانت في وقت ما، ذات شأن كبير في تاريخنا الإسلامي ؟ وهل استنفدت جميع الوسائل للوصول إلى رأي مقبول في هذه القضية أليس هناك ما يمكن أن يقدمه البحث بديلا لما رفضنا من آراء فيها ؟

يلوح لي ان رأيا سأبسطه هنا، قد يستطيع ان يكون ذلك البديل المقبول أو الاقرب إلى المقبول.

وأرجو ألا يستغرب القارئ، إذا قلت له إن هذا الرأي يعتمد أساسا له اعتزال واصل مجلس الحسن البصري، وهو الرأي الذي سبق أن رفضته كتفسير لتسمية المعتزلة إذن كيف أعود إلى رأي رفضته أنا قبل قليل لأقدمه الآن كاختيار لي ؟ أليس في هذا من التناقض، ما يمنع في أحسن

٦١

الفروض، من الأخذ بهما أو اطراحهما ورفضهما معاً، أم كنت أعبث بالقارئ ووقته، فأنكر هناك ما أتبناه هنا.

لا شيء من هذا ولا ذاك مطلقا، فقد قلت وأنا أناقش الرواية التي تنسب اعتزال واصل إلى السؤال عن مرتكب الكبيرة في مجلس الحسن، أنني أرفض هذه الرواية بالصيغة التي وردت بها، وكان هذا تحفظي عليها، فأنا لم أرفض الواقعة في ذاتها، ولا التسمية التي ارتبطت بها، إنما رفضت هناك، وارفض هنا الأسباب التي تسوقها الرواية تفسيرا للواقعة.

أنا أتفق مع الرواية في قولها باعتزال واصل مجلس الحسن، وفي أن تسمية المعتزلة جاءت من هذا الاعتزال، لكني أختلف معها فيما وراء ذلك في الأسباب التي دفعت واصلا إلى ترك مجلس الحسن واعتزاله فلست من السذاجة بالدرجة التي أقبل معها، أن شخصا ما سأل الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة، فانبرى له واصل بالإجابة دون انتظار رد الحسن، ثم.ثم قام واصل من وقته واعتزل الحسن ومجلسه، ليؤسس مجلسا جديدا.

أن هذا التفسير، لا أحسن الظن به كثيراً ولا قليلاً، وهو إلى العبث أقرب منه إلى الجد، في موضوع لا يحتمل العبث ولا يصلح له.

ولقد أوضحت أسباب رفضي هناك، بشيء من التفصيل، فلا حاجة إلى الخوض فيها من جديد هنا.

٦٢

واختلف مع الرواية الأخرى، التي تقوم هي أيضا على اعتزال واصل مجلس الحسن، ولكنها تعزو الاعتزال إلى طرد واصل من قبل الحسن بعد قوله الخاص في مرتكب الكبيرة، مع أن هذه القضية لم تكن - كما أتصور - الوحيدة التي طرحت وبحثت في مجلس الحسن، ولا الوحيدة التي وقع فيها الاختلاف، فيمكن الافتراض أن قضايا كثيرة كانت تطرح للبحث والمناقشة في ذلك المجلس، فتتفق الآراء، أو تختلف حسب طبيعة القضية واجتهادات المناقشين واتجاهاتهم دون أن يدفع ذلك إلى اعتزال أو إلى ما هو دونه، وإلا لما اجتمع اثنان في حلقة درس.

أنا أقبل الروايتين إذن في جزء منهما، أقبلهما فيما يتعلق باعتزال واصل مجلس الحسن، واعتبار هذا الاعتزال أساسا للتسمية، ولكني أفضهما فيما تقدمانه من أسباب لذلك الاعتزال.

يبقى الآن أن أسبب - كما يقول رجال القانون - موقفي هذا، فليس أسهل ولا أبعد عن العملية التي حاولت الالتزام بها من أن أقول ان هذا هو اختياري، ثم ألقي العبء على القارئ وأستريح، ليس هذا فعل من يريد أن يكون صادقا مع نفسه، أمينا لقيم العلم.

يبقى إذن الأصعب في مهمتي كما أظن، لان تفسير الحدث بعد وقوعه قد يكون أحيانا أصعب الأمرين، فكيف بحدث مرت عليه قرون وقرون تنازعت فيه أطراف كثيرة واختلفت أطراف كثيرة بين متعصب في الانتصار له وبين مسرف في الإنكار عليه.

٦٣

لقد مر على ميلاد المعتزلة أكثر من ثلاثة عشر قرنا، لم يتفق مؤرخو المذاهب الإسلامية على تفسير واحد لتسميتهم منذ أقرب العهود بنشأتهم وحتى اليوم.

فبين اعتزال ما اتفقت عليه الأمة، وبين اعتزال ما اختلفت فيه، هوة واسعة لا يمكن ردمها أو تجاوزها.

وبين اعتزال المتحاربين من أصحاب النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتزال مجلس الحسن البصري، هوة أخرى لا يمكن ردمها أو تجاوزها.

ولهذا فأنا لا أنشد اليقين في هذه المسألة، ولا في كثير غيرها من مسائل التاريخ الإسلامي الذي لعبت فيه وما تزال عوامل جعلت الوصول إلى اليقين، أو ما هو قريب منه، أمرا في غاية العسر.

يكفيني أن أطرح رأيا أراه الأقرب إلى القبول من بين آراء مطروحة في موضوع ما يزال قابلا للبحث والوصول إلى نتائج جديدة فيه وسأكون سعيدا لو كشف البحث يوما ما هو أفضل وأولى بالقبول.

لعلي أثقلت على القارئ، وأخذت الكثير من وقته في مقدمة عذري فيها، أنها قد تكون ضرورية، وأنا أحاول أن أتبنى رأيا أو بالأحرى نصف رأي وان أقيمه على أساس جديد غير الذي كان قائما عليه.

والآن أصل إلى السؤال الذي يمثل التكملة الطبيعية لما بدأت به: ما الذي يدعوني إلى تبني الذي يقوم على اعتزال واصل مجلس

٦٤

الحسن كأساس لتسمية المعتزلة ؟ أقوة في هذا الرأي، أم ضعف في الآراء الأخرى ؟

يبدو أن الأمرين معا قد حددا اختياري ودفعاني إلى الأخذ بهذا الرأي، وتفضيله على سواه.

فأنا لم أجد فيما استعرضت معك، من آراء ما يمكن الاطمئنان إليه، فالمطلي ينطلق من خلط غريب بين اعتزال أنصار علي بعد بيعة الحسن لمعاوية، وبين المعتزلة: الفرقة الدينية، موضوع بحثنا ويجمع الاثنين تحت هذه التسمية، وقد ناقشنا رأيه في موضعه هناك، ولم أجد فيه ما يصلح أن يكون مقنعا أو قريبا من الإقناع للتسمية، غير خلط - كما قلت - غريب وغير رؤية ن ان لم يشبها الكثير من التعصب، فقد شابها الكثير من عدم الدقة وعدم الوضوح.

وتسمية المعتزلة باعتزال ما أجمعت عليه الأمة، كما يتهمهم المتعصبون من خصومهم، ينقضها أن الأمة لم تكن مجتمعة على رأي واحد في شأن مرتكب الكبيرة ليجوز القول برفضه واعتزاله ولقد ناقشنا هذه الدعوى فيما سبق، ولن نحتاج إلى إعادة ما قلناه هناك.

كما إننا لا نستطيع الأخذ بقول المعتزلة في أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة، لأنه قول لا يدعمه دليل، فدعوى اعتزال المختلف فيه ليست بأقوى من دعوى خصومهم باعتزال المجمع عليه فتتكافأ الحجتان ولا تترجح أحداهما على الأخرى.

٦٥

ثم ان أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية، لم تأت من مفهوم مبهم واسع كاعتزال ما اختلفت فيه الأمة، فهذا كلام لا يقول شيئاً، لأنه يقول كل شيء، فهو أو مثله لا يصلح أن يكون علما على فرقة أو مذهب، وليس مذهب أولى بادعائه والانتساب إليه من مذهب آخر.

أية فرقة أو مذهب يرضى أن يكون اسمه مشتقا من موقف غاية في السعة والغموض والإبهام إلى الحد الذي لا يمثل شيئاً، بل إلى الحد الذي يمكن ان يستخدم ضده، كما هي الحال بالنسبة للمعتزلة.

ولا أحسبني متجنبا على المعتزلة، ولا بعيدا عن المنطق، إذا قلت ان فكرة اعتزال ما اختلفت فيه الأمة وتمسك المعتزلة بها، واتخاذها أساسا لتفسير الاسم، كل ذاك قد جاء متأخرا بعد أن صار هذا الاسم علما عليهم لا يستطيعون تغييره، وبعد ما أخذ خصومهم ينبزونهم به، باعتباره اعتزالا لما اتفقت عليه الأمة.

هنا فكر المعتزلة في استخدام نفس السلاح ودفع الحَجة بمثلها في الرد على الخصوم فلماذا اعتزال ما اجتمعت عليه الأمة، وليس اعتزال ما اختلفت فيه، مادام اللفظ قابلا للمعنيين غير مختص بواحد منهما، ولماذا اختلفت فيه، مادام اللفظ قابلا للمعنيين غير مختص بواحد منهما، ولماذا يترك المعتزلة لخصومهم سلاحا يستطيعون هم ان يستعملوه بنفس الحذق والمهارة ودون ان يتكلفوا فيه أكثر من إحلال لفظ محل لفظ.

ثم نقطة أخرى اعرضها هنا، بكل تواضع، فأنا وفي حدود علمي لم أجد الفعل ( اعتزل ) مستعملا في غير المعاني الحسية، فقد جاء في كلام

٦٦

العرب ( اعتزل ) القوم و ( اعتزل ) مجلسهم أو حربهم، ولكني لم أسمع ( اعتزل ) رأي فلان أو فكره أو ( اعتزل ) إجماع الأمة، إنما المستعمل في هذا المعنى أفعال أخرى ك- ( هجر ) أو ( ترك ) أو ( رفض ) . الخ ويكفي ان القرآن قد استعمل لفظ ( اعتزل ) في سبعة مواضع ليس بينها إلا الاعتزال بمعنى اعتزال الأشخاص(١) فكيف جرى استعمال اللفظ بهذا المعنى الذهني، إذا جاز التعبير، من خصوم المعتزلة ومن المعتزلة أنفسهم

بعد هذا العرض لا أستطيع بغير العناد للحق، إلا أن أرفض جميع تلك الآراء، فهي في نظري أضعف من أن تصلح أساسا للتسمية.

وعلي الآن أن أعرض الرأي الذي اخترته، وأنا لا أزعم انه الحق الذي لا يقبل نقضا ولكنه بالقياس إلى الآراء الأخرى يمثل عندي أفضلها وأجدرها بالاختيار وأقربها إلى ما هو معروف من أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى التي ارتبطت أسماؤها بأشخاص معينين أو بوقائع و مواقف معينة، فالشيعة وأهل السنة والجماعة والخوارج وباقي الفرق والمذاهب الإسلامية في الأصول والفروع، كالجعفرية والاشعرية والزيدية والحنفية والشافعية الخ، كل هؤلاء قد جرت أسماؤهم على هذه القاعدة، وتحددت بواحد مما ذكرنا، فلماذا يكون المعتزلة وحدهم خارجين عليها ليذهب اسمهم بعيدا وبعيدا جدا في السعة والإبهام حتى ( اعتزال ما اتفقت أو ما اختلفت فيه الأمة ).

____________________

(١) سورة البقرة ٢٢٢ والنساء ٩٠، ٩١ والكهف ١٦ ومريم ٤٨، ٤٩، والدخان ٢١.

٦٧

إن واقعة اعتزال واصل مجلس الحسن، واقعة محددة واضحة لا تختلف في شيء عن طبيعة الوقائع التي حددت أسماء الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، ولهذا فأنا أراها أليق بان تكون التفسير المنشود لاسم المعتزلة خصوصا وان هذه الواقعة تكاد تكون الأكثر شيوعا وانتشارا ان لم تكن أكثرها فعلا.

يضاف إلى هذا أن جميع الذين أرخوا للحسن ولواصل لم ينكروا علاقة واصل واتصاله بالحسن وحضوره مجلسه ثم اختلافه معه بعد ذاك واعتزاله له.

فاعتزال واصل كما أرى، هو الذي يفسر لنا اسم المعتزلة: لا اعتزال أنصار علي ولا اعتزال ما اجتمعت أو ما اختلفت فيه الأمة الذي لا يحدد ولا يقول شيئا.

هذا هو النصف الذي أتفق فيه مع الروايتين واقبله منهما، وهو النصف المتعلق بالواقعة ذاتها.

أما النصف الآخر المتصل بأسباب اعتزال واصل، فقد أعلنت رفضي له من قبل وبينت أسبابه بالتفصيل هناك، وقلت بالنسبة للأولى منهما: ان هذه الرواية بالصورة التي وردت بها، تبدو عاجزة تمام العجز عن تقديم سبب واحد معقول لاعتزال واصل مجلس الحسن: عاجزة عن تفسير السؤال، وعاجزة عن تفسير موقف واصل في تصديه للسائل، وعاجزة - وهذا هو الأهم - عن تفسير اعتزال واصل مجلس الحسن بعد ذاك إنها

٦٨

تقوم على فصل كامل بين المواقف، وكأنك أمام مسرحية لم يحسن تأليفها وإخراجها، لا مواقف إنسانية يرتبط بعضها ببعض، ويفسر بعضها بعضا.

وقلت بالنسبة للثانية، ان اختلاف الرأي في قضية وهو أمر مشروع لا يمكن أن يبلغ اعتزالا، وإلا لما عرضت قضية ولا كان مجلس ولا درس.

بعد هذه النتيجة التي وصلتها في رفض الأسباب التي تسوقها الروايتان تفسيرا لاعتزال واصل مجلس الحسن، ما هو إذن السبب أو الأسباب التي أراها لتفسير هذه الواقعة.

ولن أطيل هنا فقد أطلت في بداية هذا الحديث، لان ذلك كان ضروريا، لإيضاح موقفي الذي انتهيت إليه، فلأبسط رأيي سريعا في هذه الأسباب مؤكدا مرة أخرى، أن هذا رأي أراه سيسعدني أن يجده القارئ خليقا بالقبول، وسيسعدني أكثر أن يحفزه إلى مزيد من البحث، والوصول في ذلك إلى ما هو أفضل وأكثر قبولا، فالحق أردت فيما قصدت وفيما كتبت.

إن هذا الرأي يقوم، في نظري على أن اعتزال واصل مجلس الحسن قد سبقه اعتزال من نوع آخر، اعتزال ذهني أو روحي، استغرق فترة ربما كانت طويلة، قبل أن ينتهي بترك واصل مجلس أستاذه الشيخ ومفارقته له، فالاعتزال هنا كان خاتمة طبيعية لتطور عميق مستمر في علاقات الرجلين، لا فعلاً معزولاً جاء أثر سؤال لم ينتظر فيه واصل جواب أستاذه، ولم يتبين حتى مواضع اتفاقه أو اختلافه فيه، أو لرأي رآه واصل

٦٩

في حكم مرتكب الكبيرة خالف فيه الآخرين، والحسن نفسه خالفهم قبله حين أعتبر مرتكب الكبيرة منافقا.

لقد كان الحسن شخصية قوية نافذة، وكان مجلسه أو حلقته من الحلقات المشهورة في البصرة، ولا بد أن قضايا كثيرة مما كان يشغل الناس في ذلك العهد كانت تطرح للبحث والمناقشة، وان آراء المشاركين في الحلقة - ومنهم واصل - كانت تتباين بشأنها وتختلف سواء فيما بينهم وبين بعضهم، أم فيما بينهم وبين الشيخ الأستاذ، إذ كانت الحلقة منبرا حرا يستطيع الحاضرون عن طريقه أن يناقشوا ما يشاؤون ويبدوا ما يشاؤون فيما يعرض لهم دون أن يملي عليهم فيه رأي، إلا ما كانوا يقتنعون بصوابه، ودون ان يكون الاختلاف في هذا الرأي موجبا لترك الحلقة واعتزالها.

فليس في الأسباب التي تسوقها الروايتان، إذن ما يمكن أن يبرر اعتزال واصل ويفسره.

هذا ما لا أشك فيه، وهو ما دعاني إلى رفض أحد شطريهما، ولكن ما لا أشك فيه أيضاً، هو أن الخلاف بين واصل يؤيده عدد من أنصاره في الحلقة وبين الحسن والكثرة من طلابه وأتباعه، قد بلغ من العمق حدا وجد واصل نفسه وقد ابتعد عن الحسن لا في هذه القضية أو تلك فقط، فليس لذلك من الأهمية ما يدفعه إلى مفارقة الشيخ أو ما يدفع الشيخ ان يطلب منه اعتزال مجلسه، ولكن في الخط العام لهما، فكراً وعقيدة فكان عليه، وقد بلغ الخلاف هذا الحد أن يترك الحلقة ويعتزلها مكرهاً أو مختاراً.

٧٠

هذا هو منطق الأشياء: فراق لا بد منه بعد خلاف طويل، هو ما وقع لواصل وما يقع لغير واصل، لو تهيأت نفس الظروف سواء كان هناك سؤال عن مرتكب الكبيرة أم لم يكن، وسواء خالف واصل برأي فيها أم لم يخالف، فمن الغفلة أن يعطى لهذه المسألة وحدها كل الأهمية وكل النتائج التي ترتبت عليها.

وقد يؤكد ما نذهب إليه، أن واصلاً لم يترك حلقة الحسن حين تركها وحده، وإنما تعبه آخرون هم أنصاره ومؤيدوه فيها، وهذا يعني أن واصلاً قد بلغ عند ذاك من استقلال الرأي والابتعاد عن الحسن ما يتجاوز مجرد الاختلاف حول المسألة أو مسائل محددة مما كان مثار بحث في تلك الأيام، وان عددا من زملائه ورفاقه في الحلقة قد انحازوا إليه وتبنوا آراءه، وألفوا معه داخلها ما يمكن أن نسميه اليوم كتلة مستقلة، لها خطها الفكري الخاص ولها قيادتها الخاصة المتمثلة بواصل، ولم يكن يعوزها للإعلان عن نفسها ككيان مستقل إلا خطورة أخيرة خطوها حين تركوا حلقة الحسن واعتزلوها نهائيا، ليؤلفوا مذهبا جديدا هو الذي عرف فيما بعد باسم ( المعتزلة ).

فهذا، وهذا وحده في نظري هو الذي يفسر موقف هؤلاء في اعتزالهم حلقة الحسن والتحاقهم بواصل أثر اعتزاله لها، إذ ما الذي يدعوهم إلى ترك الحسن على جلالة قدره، واعتزاله والانضمام إلى واصل لو أن الأمر اقتصر على مجرد اختلاف في الرأي بين الحسن وبين واصل

٧١

حول مسألة مرتكب الكبيرة، وموقف الحسن فيها معروف من قبل لهم ولواصل، ولم يدفعهم ذلك إلى ترك الحسن واعتزال مجلسه.

ألا يعني هذا انه كان هناك اتجاه أو خط فكري واحد جمع هؤلاء بواصل، وكان أقوى عندهم من علاقتهم بالحسن وحرصهم على دوامها.

وقد يؤكد ذلك أيضا، أن واصلاً قد بدأ بعد اعتزاله حلقة الحسن في إرساء دعائم مذهبه الجديد وتحديد ملامحه بما يميزه عن الفرق والمذاهب الإسلامية التي كانت قائمة آنذاك، وانه أرسل البعوث من أصحابه للتبشير بمذهبه والدعوة له والوصول به إلى كافة أقطار العالم الإسلامي.

لقد كان مذهب إسلامي كامل في طريقه لأن يقوم فهل أستطيع أن اقتنع الآن بان واصلا ما ترك مجلس الحسن، ولا اتخذ مجلسا خاصا به، ولا تبعه المؤيدون والأنصار، إلا ليقرر أن مرتكب الكبيرة هو في الآخرة بمنزلة بين منزلتي المؤمن والكافر.

وانه لم يرسل البعوث إلى أقطار الإسلام إلا لتحديد مثوى هذا البائس بينهما.

أما أنا فقد أوضحت رأيي مقتنعا به مطمئنا إليه، ولك بعد أن تتفق معي فيه أو تختلف و ( تعتزلني ) و (تعتزله)، فذلك حق لك، لن أضع قيدا عليه.

٧٢

الفصل الثاني

في الكبيرة والفاسق والمنزلة بين المنزلتين

في الفصل السابق كان الحديث يدور كله تقريبا على محاور ثلاثة، تتمثل في مصطلحات ثلاثة، هي الكبيرة والفاسق والمنزلة بين المنزلتين، وقد آن لنا أن نلم بهذه المصطلحات، مبتدئين بالكبيرة التي كان الاختلاف في الحكم على مرتكبها، في نظر طائفة كبيرة من مؤرخي المذاهب، سببا في اعتزال واصل وقيام المعتزلة كفرقة دينية متميزة.

فما هي الكبيرة اصطلاحا، وما هي الظروف التي أثيرت فهيا كقضية، وهل كانت تعكس عند ذاك موقفا سياسيا، وفي أي اتجاه ؟

هذه وغيرها من المسائل، هي التي سنناقشها في هذا الفصل، إذ أن الإجابة عليها قد تسهم في تفسير مواقف المعتزلة من عدد من الأمور التي كانت مثار نزاع بين مختلف الفرق الإسلامية ومن هنا تبرز أهميتها، ومن هنا تأتي محاولاتنا للوصول الى رأي فيها.

ولنبدأ بأولى هذه المسائل واصلها الذي تفرعت عنه، وهي المتعلقة بالكبيرة كمصطلح لعب دورا في الحياة الإسلامية.

فماذا يعني هذا المصطلح على وجه التحديد ؟

٧٣

لقد ورد اللفظ في القرآن بصيغة المفرد ( كبيرة ) وبصيغة الجمع ( كبائر ) في أكثر من سورة(١) ، وتناوله المفسرون وأصحاب المقالات منذ تاريخ بعيد ومع ذاك فإننا لا نملك عنه حتى الآن غير صورة مشوشة و معنى غير واضح ولا دقيق، تستطيع أن تكونه أنت لنفسك، كما أستطيع أن أصوغه أنا لنفسي دون قيد إلا ما يفرضه هذا المعنى العام للفظ.

والكتب التي بين أيدينا خير شاهد على ذاك، فهي لا تتفق على تعريف الكبيرة يلم شتاتها وينظم مفرداتها كما هو الشأن في المصطلحات الدينية الأخرى، فالكبيرة عند بعضهم ( كل معصية فيها حد من الحدود ) وعند بعضهم الآخر ( ما أصر عليه العبد من المعاصي ) أو ( ما كان حراما لعينه ) وعند غيرهم ( ما كان من المعاصي شنيعا بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله وهتك الدين أو توعد الله أو رسوله فاعلها ) أو ( كل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده أو عظّم ضرره في الوجود ) وعند آخرين ( كل ما أوعد الله عليه بالنار ) أو ( كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به )(٢) .

وإذا كان المسلمون قد أختلفوا في تحديد الكبيرة عن طريق تعريفها كما رأينا، فإنهم أختلفوا أيضا في تحديدها عن طريق تعداد ما يعتبر من الكبائر، فذهبوا بين من نزل بها الى الثلاث أو الأربع وبين من صعد بها الى ما يقارب السبعمائة.

ويبدو أن السبب في كل هذا الاختلاف، يرجع من جهة الى أن المسلمين في الصدر الأول للإسلام لم يكونوا قد وصلوا بعد الى صياغة

____________________

(١) البقرة ٤٥، ١٤٣، والنساء ٣١ والتوبة ١٢١ والكهف ٤٩ والشورى ٣٧ والنجم ٣٢.

(٢) كتاب الكبائر للذهبي ط مكتبة النقاء ببغداد ص٦، ٧ و ( عقوبة أهل الكبائر ) لأبي الليث السمرقندي ت ٣٧٣ المقدمة بقلم محققه مصطفى عبد القادر عطا نشر مكتبة الشرق الجديد ببغداد ومقدمة كتاب ( الزواجر عن اقتراف الكبائر ) لابن حجر ط أولى ١٣٢٥ ه- ص٣ وما بعدها وتفسير القرطبي دار الكتاب المصرية ١٩٣٧ ج٥ ص١٥٨ وما بعدها ومواهب الرحمن في تفسير القرآن للسيد عبد الأعلى السبزواري مطبعة الآداب في النجف ج٨ ص١٤١ - ١٤٨ و ١٥١ - ١٥٨.

٧٤

تعريف للكبيرة يجنبهم ويجنب من بعدهم الاختلاف فيها وفي الحكم على مرتكبها، وإنما كانوا يناقشون وقائع جزئية مما يعتبرونه كذلك فمرحلة الأبنية العقلية كانت تبدو مرحلة متقدمة بالقياس الى ذلك العهد، ولم يبلغها المسلمون إلا في زمن تالٍ.

كما يرجع من جهة ثانية إلى أن الكبيرة من المفاهيم التي يصعب تحديدها انك تستطيع أن تعرف، وبسهولة، هذه الكبيرة أو تلك من الكبائر: القتل أو السرقة أو الزنا ولكنك ما أن تحاول صياغة تعريف للكبيرة كمفهوم، حتى تستشعر العجز ذلك أن المعاصي والآثام التي تنطوي تحت هذا المفهوم من الكثرة والاختلاف بحيث لا يمكن أن يضمها تعريف تطمئن إليه، كما ظهر لك من تعدد التعاريف وتباينها، وهذا ما دفع أحد أعلام الإمامية المعاصرين الى القول ( ان اختلاف العلماء في تعريف الكبائر وتعيينها لا يرجى زواله . )(١) .

على ان هذا الاختلاف في تعريف الكبيرة لم يمنع الفرق الإسلامية قبل المعتزلة، من تحديد مواقفها منها كل حسبما أداه إليه اجتهاده وما أملته عليه ظروفه، فقد سارع الخوارج في غالبيتهم وبتفصيل لا يغير كثيرا في الصورة، الى تكفير مرتكبي الكبائر واعتبار أصحابها مخلدين في النار، مخالفين في ذلك جميع المسلمين.

ورد المرجئة بتصحيح إيمان المسلم مهما كانت ذنوبه، ما لم تبلغ الكفر وذهب جمهور المسلمين سنة وشيعة ( إمامية ) الى اعتبار صاحب الكبيرة مؤمنا لكنه فاسق بكبيرته.

____________________

(١) هو السيد عبد الاعلى الموسوي السبزواري صاحب ( مواهب الرحمن في تفسير القرآن ) الذي أشرنا إليه قبل قليل انظر ج٨ ص١٥٤.

٧٥

وقضي الحسن البصري بنفاقه(١) .

وأعتذر للقارئ من استطراد يجرني إليه هذا الحديث عن مواقف الفرق والمذاهب الإسلامية من مرتكب الكبيرة فمن بين هذه المواقف والأسماء التي أطلقتها تلك الفرق والمذاهب عليه، يستوقفني رأي الحسن البصري وإطلاقه اسم المنافق على مرتكب الكبيرة، مع بعد ما بين الاثنين ويستوقفني أكثر ان هذا الاسم لم يثر أي اهتمام لدى المؤلفين الذين لم يتجاوزوا صيغته اللفظية، ولم يفكروا فيما يمكن ان يكون الحسن قد قصده وأراد الوصول إليه من اختياره له.

لقد مر به هؤلاء المؤلفون معجلين، فمنهم من أورده كما جاءت به الرواية دون مناقشة أو بحث، ومنهم من سارع الى نقده وتفنيده، متصورا ان الحسن أخطأ في تسمية مرتكب الكبيرة بالمنافق، لأن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويعلن الإسلام وهو شر من الكافر.

وقصر أولئك فلم يناقشوا ولم يجهدوا، وأخطأ هؤلاء فلم يوفقوا ولم يصيبوا، فما كان الحسن ليجهل ان المنافق هو الذي يسر الكفر ويعلن الإسلام وهو شر على المسلمين من الكافر المعلن لكفره فهل أراد الحسن شيئاً آخر غير ما فهمه المؤلفون، حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟ هل أراد ان يسم بالنفاق جهة محددة يتهمهما بارتكاب الكبائر ؟ ربما كان ذاك وأراني مضطرا هنا للجوء الى ( ربما ) والاتكاء عليها، فأنا لا أملك الدليل على ما أقول، وإنما هو رأي أراه، أخطئ فيه أو أصيب، فاشتراط الإصابة في بحث كهذا قد يمنع من الكتابة فيه، لأنها كتابة عن ماض

____________________

(١) تقدمت مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة في الفصل السابق.

٧٦

تضافرت عوامل كثيرة، ما هو مقصود وما هو غير مقصود، على تشويه صورته عبر قرون طويلة.

والآن من هي الجهة التي قد يكون الحسن عناها وأرداها حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟ هل هو المسلم العادي ؟ هل هم الخوارج، أم المرجئة، أم جهة أخرى غير أولئك وهؤلاء ؟

أستبعد أولا أن يكون الحسن قد أراد بالمنافق المسلم العادي المرتكب للكبيرة، فقد يسمى هذا مسلما فاسقا بإضافة الفسق إليه، وهو اسمه لدى جمهور المسلمين من السنة والشيعة، أو كافرا كما هو اسمه عند الخوارج، أو غير ذلك من الأسماء، لكن من غير الجائز ان يسمى منافقا لأن النفاق لا يصدق عليه لغة ولا دينا، ولا يمكن أن يكون هذا بعيدا عن الحسن، لأنه لا يمكن أن يكون بعيدا عمن هو دون الحسن معرفة باللغة وبالدين.

وكما استبعدت المسلم العادي، فما أظنني سأعدو رأي الحسن إذا أنا استبعدت الخوارج مما أراد بالاسم، فما كان هؤلاء منافقين في دينهم، ولا مداهنين في عقيدتهم لقد كانوا مصحرين واضحين فيما يؤمنون فتهمة النفاق لا تتجه إليهم ولا تصدق عليهم.

ثم أن الحسن لم يسمع عنه انه سمى الخوارج منافقين، مع انهم قد ارتكبوا الكبائر بقتالهم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، قريبا منه وفي مدينة البصرة وكان يفترض ان يدعوهم بالمنافقين، التزاما منه بالاسم الذي عرف به مرتكب الكبيرة.

٧٧

كذلك لا أظن الحسن كان يريد المرجئة برأيه ذاك، فليس فيما يقوله المرجئة، من عدم عد العمل جزءاً من الإيمان الذي لا تضر معه معصية، ما يمكن ان يسمى نفاقاً وصاحبه منافقاً، وهو بتأخيره العمل وعدم عده من الإيمان، يجيز ضمنا ارتكاب الكبيرة ومن أجاز فعلاً ثم أتاه فلا يسمى منافقاً.

قد تنكر تشدد الخوارج وتسامح المرجئة، وقد تنقم على أولئك ما أزهقوا من أرواح وما أسالوا من دماء، وتنعى على هؤلاء ما أباحوا من حرمات حين أطمعوا الفساق في عفو الله(١) ، لكنك لا تستطيع أن تنعتهما بما هو بعيد عنهما وما ليس من مذهبهما.

ماذا بقي إذن ممن يجوز أن يكون الحسن قد قصده في تسميته بالمنافق غير السلطة القائمة آنذاك.

فهل أراد الحسن هذه السلطة وعناها، حين ربط بين ارتكاب الكبيرة وبين النفاق ؟

أما أنا فأميل الى هذا الرأي وأرجحه، ولك أنت أن تأخذ به وان ترفضه، ما دمت لا أملك الدليل عليه، وما دام ميلي وترجيحي لا يصلحان دليلا ولا يعوضان عن دليل، وليس لدي في الموضوع إلا ( ربما ) التي أتوكأ عليها.

وأصل أخيرا الى النقطة التي أنهي بها الحديث عن الكبيرة، وهي المتعلقة بطبيعة الاختلاف حول مرتكبها وهل كان يعكس موقفا سياسيا للفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة فيه.

____________________

(١) والقول منسوب لزيد بن علي انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة لقاضي القضاة تحقيق فؤاد سيد - الدار التونسية للنشر ١٩٧٤ ص٢٢٨ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص١٦.

٧٨

لا يبدو الأمر كذلك، فالاختلاف في مرتكب الكبيرة - كما رأينا - لا يعكس أي موقف سياسي ولا يتصل به، وإنما هو اختلاف في شأن من شؤون الدين ذلك ان مفهوم الكبيرة التي يدور حول مرتكبها الاختلاف، هو مفهوم ديني بحت يتصل بالإيمان والكفر والجنة والنار، وهي الأخرى مفاهيم دينية لا تتصل بالسياسة، لأنها لا تتصل بحياة الإنسان الدنيوية، بل بحياته بعد الموت.

ولقد رأينا هذا واضحا في جميع التعاريف التي وضعت للكبيرة فليس بينها تعريف واحد يخرج عما ذكرنا ليدخل في مجال السياسة.

أين هو المعنى السياسي في اختلاف ينصب أصلا كما قلنا على الإيمان والكفر والثواب والعقاب هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم كافر، وأين سيكون مكانه في الآخرة، هل سينعم هناك بجنات الخلد كما ينعم المؤمن الكامل الإيمان، أم سيواجه العقاب الذي يواجه العقاب الذي يواجه الكافر، أم شيء آخر غير هذا وذاك.

فالحديث عن الكبيرة كمصطلح، وعن مرتكبها والاختلاف بشأنه بين الفرق والمذاهب، حديث عن أموات، ولا يمكن للأموات أن يكونوا موضوعا سياسيا أو موضوعا للسياسة.

هكذا كانت الكبيرة عندما أثيرت، وعندما اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في الحكم على مرتكبها.

لم يكن السؤال هل تجوز الثورة على مرتكب الكبيرة أم لا تجوز، ولم يكن الاختلاف في هذا، رغم أن افتراضه لا يغير من طبيعة الموضوع ،

٧٩

ولكن السؤال والاختلاف كانا دائما: ما هو حكم مرتكب الكبيرة إيمانا أو كفرا، أي ما هو مكانه وأين سيكون مثواه بين المؤمن والكافر بعد الموت.

ولهذا فمن الخطأ ربط الكبيرة، وهي مفهوم إيماني فردي، بمفهوم ثوري أو موقف سياسي.

وهذه مواقف الفرق الإسلامية خير شاهد على ما نقول لقد بدأت تلك الفرق بتحديد مواقفها من السلطة منذ وقت مبكر في الإسلام، بعيدا عن الكبيرة وبمعزل عنها، بل وقبل ان تطرح كمسألة يختلف فيها الرأي بوقت طويل.

وقد بلغت هذه المواقف عند بعضها حد الثورة وحمل السلاح.

ثار الخوارج منذ زمن علي، واستمرت ثوراتهم حتى زمن العباسيين.

وثار الشيعة بعد علي، واستمرت ثوراتهم حتى زمن العباسيين.

ثاروا قبل ان تطرح مسألة مرتكب الكبيرة، وقبل ان يختلف فيها الرأي، ثم ثاروا بعد ان طرحت المسألة واختلف فيها الرأي.

ثار الذين كانوا يعتبرون مرتكب الكبيرة كافرا ويخلدونه في النار(١)

وثار الذين كانوا يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا فاسقا بكبيرته(٢)

وثار الذين كانوا يعتبرونه مؤمنا كامل الإيمان(٣) .

ثار كل هؤلاء، مع اختلاف مواقفهم أو تناقضا من مرتكب الكبيرة، دون أن تحدد هذه المسألة مواقفهم من الثورة أو تؤثر فيها، وذلك لسبب

____________________

(١) وهم الخوارج كما مر.

(٢) وهم الشيعة.

(٣) وهم المرجئة وقد ثاروا مع الحارث بن سريج المجاشعي أواخر العهد الأموي واستمرت الثورة مدة تجاوزت العشر سنوات حتى قتل قائد الثورة الحارث عام ١٢٨ وقارئ سيرته جهم بن صفوان وكانوا قد شاركوا أيضا قبل ذاك في ثورة زيد بن المهلب ضد الأمويين عام ١٠٢ أنظر تأريخ ابن الأثير ج٤ حوادث سنة ١٠٢ في مقتل يزيد بن المهلب ص٣٤٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185