الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 81445
تحميل: 4493


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81445 / تحميل: 4493
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بروحه إلى السماء الدنيا اُغلقت منه أبواب السماء، وذلك قوله:( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ) إلى آخر الآية.

يقول الله: ردّوها عليه فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.

أقول: وروي ما في معناه في المجمع عنهعليه‌السلام .

وفي الدّر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية:( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) قال: هي طبقات من فوقه، وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته؟ غير أنّه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا، ويضيّق عليهما حتّى يكون بمنزلة الزجّ في القدح.

وفيه أخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عليّ ابن طالبعليه‌السلام قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية:( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) .

أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات وهي مكّيّة يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، وقد وقعت الجملة أيضاً في قوله تعالى:( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) الحجر: ٤٧، وهي أيضاً في سياق آيات أهل الجنّة، وهي مكّيّة.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يحبس أهل الجنّة بعد ما يجوزون الصراط حتّى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنّة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ.

وفيه أخرج النسائيّ وابن أبي الدنيا وابن جرير في ذكر الموت وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ إهل النار يرى منزله من الجنّة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، وكلّ أهل الجنّة يرى منزله من النار فيقول : لولا أن هدانا الله، فهذا شكرهم.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارميّ ومسلم والترمذيّ والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال: نودوا أن صحّوا

١٤١

فلا تسقموا، وأنعموا فلا تيأسوا، وشبّوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا.

اقول: وفي معنى وراثة الجنّة أخبار اُخر سيأتي إن شاء الله.

وفي الكافي وتفسير القمّيّ بإسنادهما عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) قال المؤذّن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

أقول: ورواه العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ورواه في روضة الواعظين عن الباقرعليه‌السلام قال: المؤذّن عليعليه‌السلام .

وفي المعاني بإسناده عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر محمّد بن علىّعليه‌السلام قال: خطب أميرالمؤمنين علىّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالكوفة منصرفه من النهروان وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه فقام خطيباً، وذكر الخطبة إلى أن قال فيها: وأنا المؤذّن في الدنيا والآخرة قال الله عزّوجلّ:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذّن، قال:( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان.

أقول : أي أنّا المؤذّن بذلك الأذان بقرينة صدر الكلام ويشيرعليه‌السلام به إلى قصّة آيات البراءه.

وفي المجمع روى الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ أنّه قال: أنا ذلك المؤذّن.

وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس أنّه قال: لعليّ في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: فأذّن مؤذّن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الّذين كذّبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي.

أقول: قال الآلوسيّ في روح المعاني في قوله تعالى:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ) الآية.

هو على ما روي عن ابن عبّاس صاحب الصور، وقيل: مالك خازن النار، وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، ورواية الإماميّة عن الرضا وابن عبّاس : أنّه عليّ كرّم الله وجهه ممّا يثبت من طريق أهل السنّة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذّناً وهو إذ ذاك في حظائر القدس (انتهى).

١٤٢

وقال صاحب المنار في تفسيره بعد نقله عنه: وأقول: إنّ واضعي كتب الجرح والتعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، وقد كان في أئمّتهم من يعدّ في شيعة عليّ وآله كعبد الرزّاق والحاكم، وما منهم أحد إلّا وقد عدّل كثيراً من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا ولا نرى كونه في حظائر القدس مانعاً منها، ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرّم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعاً أو معارضاً برواية أقوى سنداً أو أصحّ متناً (انتهى).

ولقد أجاد فيما أفاد غير أنّ الآحاد من الروايات لا تكون حجّة عندنا إلّا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التامّ الشخصيّ سواء كانت في اُصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلّا في الفقه فإنّ الوثوق النوعيّ كاف في حجيّة الرواية كلّ ذلك بعد عدم مخالة الكتاب والتفصيل موكول إلى فنّ اُصول الفقه.

وأمّا كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه وليعتبر التأذين الاُخرويّ بالتأذين الدنيويّ فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقرّ على المحكومين فالمؤذّن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم والرابطة في شرفها وخسّتها يتبع الطرفين، ومن الواضح أنّ الطرف إذا كان هو الله عزّ اسمه كان في ذلك من الشرف والكرامة ما لا يعادله شئ كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) الحجّ: ٢٧، ووساطة عليّعليه‌السلام في إبلاغ آيات البراءة:( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ) الخ، براءة: ٣، هذا في الأذان والإعلام التشريعيّ الّذي يستقرّ به حكم الحاكم على المحكومين به، وأمّا الأذان غير التشريعيّ كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التامّ واللّعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقيّه الوعد الإلهيّ الّذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه ورسله، وفيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد والوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك ولا يهوننّ عليك أمر الحقائق، ولا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.

١٤٣

وهذا هو الّذي يشير إليه عليّعليه‌السلام نفسه فيما مرّ من خطبته إذ قال: وأنا المؤذّن في الدنيا والآخرة.

والرواية - كما تقدّم - مرويّة بطرق متعدّدة من الشيعة عن عليّ والباقر والرضاعليهم‌السلام من طرق أهل السنّة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفيّة عن عليّ وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس والرجل جيّد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية وغيرها رواياته في التفسير لكنّهم لم يذكروا روايته هذه حتّى مثل السيوطيّ الّذي يستوفي في الدّر المنثور ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، وما أدري ما هو السبب فيه؟.

وفي الدّر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيّئات فمن رجحت حسنته على سيّئاته مثقال صؤابه دخل الجنّه، ومن رجحت سيّئاته على حسنته مثقال صؤابه دخل النار.

قيل: يا رسول الله فمن استوى حسنته وسيّئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون.

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ ربّ العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنّة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنّة حيث شئتم.

اقول: وروي القول بكون أهل الأعراف هم الّذين استوت حسنتهم وسيّئاتهم عن ابن مسعود وحذيفة وابن عبّاس من الصحابة.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة الطيّار قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الناس على ستّة أصناف - إلى أن قال - قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسنتهم وسيّئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته، الحديث.

وفيه بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : ما تقول في أصحاب الأعراف؟

١٤٤

فقلت: ما هم إلّا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون، وإن دخلوا النار فهم كافرون.

فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، ولكنّهم قوم استوت حسنتهم وسيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال، وإنّهم كما قال الله عزّوجلّ.

فقلت: أ من أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله.

فقلت: أ فاُرجئهم؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء الله أدخلهم الجنّة برحمته، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم.

فقلت: هل يدخل الجنّة كافر؟ قال: لا.

قلت: فهل يدخل النار إلّا كافر؟ فقال: لا إلّا أن يشاء الله.

يا زرارة إنّي أقول: ما شاء الله أما إن كبّرت رجعت وتحلّلت عنك عقدك.

اقول: قولهعليه‌السلام : أما إن كبّرت الخ، أي إن استعظمت قولي ولم تقبله خرجت عمّا كنت عليه من الحقّ وانحلّ ما عقدت عليه قلبك من التصديق.

والروايات - كما ترى - يفسّر أصحاب الأعراف بمن استوت حسنتهم وسيّئاتهم في الميزان، وفي بعضها أنّ قوله تعالى:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) الخ، من كلامهم وهذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتّة كما مرّ بينه.

على أنّك عرفت فيما تقدّم من تفسير قوله تعالى:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) الخ الأعراف: ٨، أنّ الميزان الّذي يذكره إمّا أن يثقل وهو رجحان الحسنات أو يخفّ وهو رجحان السيّئات، ولا معنى حينئذ لاستواء الحسنات والسيّئات الّذي هو ثقل الميزان وخفّته معاً ! فلو فرض أنّ هناك من لا يشخّص الميزان رجحان بعض أعماله، على بعض مثلاً كان ممّن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الّذي اُحبطت أعماله، والمستضعف الّذي لم تتمّ عليه الحجّة ولم يتعلّق به التكليف.

نعم ربّما يستفاد من الرواية الأخيرة أنّ المراد بالّذين استوت حسنتهم وسيّئاتهم هم المستضعفون المرجون لامرّ الله إن يشأ يغفر لهم وإن يشأ يعذّبهم.فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، ويندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات وفيها من صفات رجال الأعراف وأصحابه ما لا يتصّف به إلّا السابقون

١٤٥

المقرّبون المتصدّرون في حظيرة الكرامة والسعادة، وهؤلاء المستضعفون إن صحّ عدّهم من أهل السعادة فهم نازلون فئ أنزل منازلها.

وفي المجمع قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الأعراف كثبان بين الجنّة والنار يوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنّة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: أنظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلّم عليهم المذنبون وذلك قوله:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) ثمّ أخبر سبحانه وتعالى: أنّهم لم يدخلوها وهم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبيّ والإمام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون : ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

ثمّ ينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الّذين أقسمتم يعني أ هؤلاء المستضعفين الّذين كنتم تستضعفونهم وتحتقرونهم بفقرهم وتستطيلون بدنياكم عليهم - ثمّ يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

أقول: وروي القمّيّ في تفسيره عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيّوب عن مرثد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ما يقرب منه.

وهذه الرواية - كما ترى - تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم وسيّئاتهم صريحاً ثمّ تذكر أنّ هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنّة ويتعوّذون من دخول النار من غير أن تفسّر بهم الرجال الّذين ذكر الله تعالى أنّهم على الأعراف يعرفون كلّاً بسيماهم، ويسمّيهم أصحاب الأعراف.

ويسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، ولا يبقى من الإشكال إلّا ظهور الآيات في أنّ المسلّم على أهل الجنّة هم أصحاب الأعراف والرجال الّذين على الأعراف.

والظاهر أنّ في الروايات اختلالاً وهو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثمّ النقل ولعلّ الّذي بيّنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض الأئمّة أنّ هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنّة بشفاعة أو مشيّة ثمّ غيّره النقل بالمعنى وأخرجه إلى الصورة الّتي تراها، وهذا

١٤٦

ظاهر كسائر الروايات الوارادة عن ابن عبّاس وابن مسعود وحذيفه وغيرهم القائلة إنّ الرجال على الأعراف هم الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون وكذا رواية القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام فراجعها تعرف صدق ما ادّعيناه.

وفي البصائر بإسناده عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الأعراف ما هم؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى.

أقول: السائل يأخذ الأعراف والرجال الّذين عليه واحداً وعلى ذلك ورد الجواب منهعليه‌السلام فكأنّه أخذ جمعاً لعرف بمعنى العريف والعارف وفي هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.

وفيه بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلى الجنّة ومن أنكرنا فمآله إلى النار.

أقول: قوله من عرفنا ومن أنكرنا إن كان فعلا وفاعلا فهو، وإن كان فعلا ومفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم وعرفوه، ومن أنكرهم وأنكروه.

وفيه بإسناده عن الاصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له رجل:( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) فقال له عليّعليه‌السلام : نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الّذين لا يعرف الله إلّا بسبيل معرفتنا ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنار فلا يدخل الجنّة إلّا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه وذلك قول الله عزّوجلّ.

لو شاء لعرّف الناس نفسه حتّى يعرفوا حدّه ويأتونه من بابه، جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الّذي يؤتى منه.

اقول: ورواه أيضاً بإسناده عن مقرن عن أبي عبد اللهعليه‌السلام والرجل السائل هو ابن الكوّاء، وروى هذه القصّة أيضاً الكلينيّ في الكافي عن مقرن قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: جاء ابن الكوّاء، الخ.

والظاهر أنّ المراد بالمعرفة والإنكار في الرواية المعرفة بالحبّ والبغض إى لا يدخل

١٤٧

الجنّة إلّا من عرفنا بالولاية وعرفناه بالطاعة، ولا يدخل النار إلّا من أنكر ولايتنا وأنكرنا طاعته وهذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم، وإلّا أشكل انطباقه على قوله تعالى:( رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) وقوله تعالى:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ) الخ، ولعلّ ذلك إنّما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، ويؤيّد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التاليه.

وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الاصبغ بن نباتة قال: كنت جالساً عند عليّعليه‌السلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار وفي تفسير العيّاشيّ عن هلقام عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) ما يعني بقوله:( عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ؟ ) قال أ لستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى.

قال: فنحن أولئك الرجال الّذين يعرفون كلّا بسيماهم.

اقول: وهو مبني على أخذ الأعراف جمعاً للعرف كأقطاب جمع قطب والعرف هو المعروف من الأمر ولعلّه مصدر بمعنى المفعول فمعنى( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ) : وكلّ على اُمورهم وأحوالهم المعروفة منهم رجال، ولا ينافي ذلك ما تقدّم أنّ الأعراف أعالي الحجاب وكذا ما تقدّم في بعض الروايات أنّ الأعراف كثبان بين الجنّة والنار فإنّ المعرفة الّتي هي مادّة اللّفظ حافظة لمعناه في مشتقّاته وموارد استعمالها على إيّ حال.

وأعلم أنّ الأخبار من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جدّاً، وفيما أوردناه للإشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف وأصحاب الأعراف كفاية.

وفي تفسير البرهان عن الثعلبيّ في تفسيره عن ابن عبّاس أنّه قال: الأعراف موضع عال من الصراط عليه العبّاس وحمزة وعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وجعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه.

١٤٨

اقول: وقد تقدّم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان عن تفسير الثعلبي عن الضحّاك عن ابن عبّاس.

وفي الدّر المنثور أخرج الحارث بن أبي اُسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلاليّ عن أبيه: قال قائل: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أصحاب الأعراف قال: هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنّة فهم آخر من يدخل الجنّة.

اقول: وهذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي سعيد الخدريّ وإبى هريرة وابن عبّاس وقد تقدّم الإشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، والاصول المسلمه تعطي أنّه إن تعيّن الخروج وجوباً عينيّاً لم يؤثّر فيه عدم إذن الوالدين، وإن لم يتعيّن وبقى على الكفاية كان الخروج محرّماً ولم ينفعه القتل في المعركة إلّا أن يكون مستضعفاً من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين ويجري فيه البحث السابق.

١٤٩

( سورة الأعراف آية ٥٤ - ٥٨)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ  أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ  تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٥٤ ) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٥٥ ) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا  إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٦ ) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ  حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ  وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا  كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( ٥٨ )

( بيان)

بيان الآيات متّصلة بما قبلها مرتبطة بها فإنّ الآيات السابقة كانت تبيّن وبال الشرك بالله والتكذيب بآياته وأنّ ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبّد وشقاء مخلّد وهذه الآيات تعلّل ذلك بأن ربّ الجميع واحد إليه تدبير الكلّ يجب عليهم أن يدعوه ويشكروا له وتؤكّد توحيد ربّ العالمين من جهتين:

إحداهما: أنّه تعالى هو الّذي خلق السماوات والأرض جميعاً ثمّ دبّر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعاً فهو ربّ العالمين.

والثانية: أنّه تعالى هو الّذي يهيّئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات الّتي

١٥٠

يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتّخذة لذلك وألطفها وهو الإمطار فهو ربّهم لا ربّ سواه.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) سيأتي البحث في معنى السماء والأيّام الستّة الّتي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ - إلى قوله -بِأَمْرِهِ ) الاستواء الاعتدال على الشئ والاستقرار عليه، وربّما استعمل بمعنى التساوى، يقال: استوى زيد وعمرو أي تساويا قال تعالى:( لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ) .

والعرش ما يجلس عليه الملك وربّما كنّي به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات: العرش في الأصل شئ مسقّف وجمعه عروش قال:( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ومنه قيل: عرشت الكرم وعرّشتها إذا جعلت له كهيأة سقف.

قال: والعرش شبه الهودج للمرأة تشبيهاً في إلهيّة بعرش الكرم، وعرشت البئر جعلت له عريشا، وسمّي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً بعلوّه.

قال: وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلّا بالاسم، وليس كما يذهب إليه أوهام العامّة فإنّه لو كان كذلك لكان حاملاً له - تعالى عن ذلك - لا محمولاً والله تعالى يقول:( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ) وقال قوم: هو الفلك الأعلى والكرسيّ فلك الكواكب، واستدلّ بما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما السماوات السبع والأرضون السبع في جنب الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسيّ عند العرش كذلك (انتهى).

وقد استقرّت العادة منذ القديم أن يختصّ العظماء من ولاة الناس وحكّامهم ومصادر اُمورهم من المجلس بما يختصّ بهم ويتميّزون به عن غيرهم كالبساط والمتّكأ حتّى آل الأمر إلى إيجاد السرر والتخوت فاتّخذ للملك ما يسمّى عرشاً وهو أعظم وأرفع وأخصّ بالملك، والكرسيّ يعمّه وغيره، واستدعى التداول والتلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أوّل الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثّلا

١٥١

لمقام السلطنة إليه يرجع وينتهي وفيه تتوحّد أزمّة المملكة في تدبير اُمورها وإدارة شؤونها.

واعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمّة من الاُمم لعوامل طبيعيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة استقلّوا بذلك في أمرهم وتميّزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعاً من المجتمعات الإنسانيّة واختلطوا وامتزجوا بالأعمال ونتائجها ثمّ اقتسموا في التمتّع بالنتائج فاختصّ كلّ بشئ منها على قدر زنته الاجتماعيّة.

كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة والاتّصال المتكوّن بالاجتماع بمن يقوم عليها فإنّ التجربة القطعيّة أوضحت للإنسان أنّ العوامل المختلفة والأعمال والإرادات المتشتّتة إذا وجّهت نحو غرض واحد وسيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتّحاد والملاءمة إلّا أن تجمع أزمّه الاُمور المختلفة في زمام واحد وتوضع في يد من يحفظه ويديم حياته بالتدبير الحسن فتحيى به الجميع وإلّا فسرعان ما تتلاشى وتتشتّت.

ولذلك ترى أنّ المجتمع المترقّي ينوّع الأعمال الجزئيّة نوعاً نوعاً ثمّ يقدّم زمام كلّ نوع إلى كرسيّ من الكراسيّ كالدوائر والمصالح الجزئيّة المحليّة، ثمّ ينوّع أزمّه الكراسيّ فيعطي كلّ نوع كرسيّاً فوق ذلك، وعلى هذا القياس حتّى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدّم إلى العرش ويهدي لصاحب العرش.

ومن عجيب أمر هذا الزمام وانبساطه وسعته في عين وحدته أنّ الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسيّ التابعه له على كثرتها واختلاف مراتبها فيتشكّل في كلّ منزل بشكل يلائمه ويعرف فيه، ويتصوّر لصاحبه بصورة ينتفع بها ويأخذها ملاكاً لعمله.

يقول مصدر الأمر( ليجر الأمر ) فتأخذه المصالح الماليّة تكليفاً مالياً ومصالح السياسيّة تكليفاً سياسيّاً، ومصالح الجيش تكلّيفاً دفاعياً وعلى هذا القياس كلّما صعد أو نزل.

فجميع تفاصيل الأعمال والإرادات والأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة وهي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحّد وتجتمع في الكراسيّ حتّى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض وتندمج وتتداخل وتتوحّد حتّى تصير واحداً هو في وحدته

١٥٢

كلّ التفاصيل فيما دون العرش، وإإذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثّر ويتفصّل حتّى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع وإراداتهم.

هذا في النظام الوضعيّ الاعتباريّ الّذي عندنا، وهو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، والباحث عن النظام الكونيّ يجد أنّ الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئيّة تنتهي إلى علل وأسباب جزئيّة، وتنتهي هي إلى أسباب اُخرى كلّية حتّى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أنّ الله سبحانه مع كلّ شئ وهو محيط بكلّ شي، وليس كذلك الملك من ملوكنا لحقيقيّة ملكه تعالى واعتباريّة ملك غيره.

ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحله تنتهي إليها جميع أزمّة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، وأزمّة الأسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها، وترتّب مراتبها هو المسمّى عرشاً كما سيجئ، وفيه صور الاُمور الكونيّة المدبرّة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، وعنده مفاتح الغيب.

فقوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الأمر قياماً ينبسط على كلّ ما دقّ وجلّ، ويترشّح منه تفاصيل النظام الكونيّ ينال به كلّ ذي بغية بغيته، وتقضي لكلّ ذي حاجة حاجته، ولذلك عقّب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله:( يدبّر الأمر ) إذ قال:( ثمّ استوى على العرش يدبّر الأمر ) يونس: ٣.

ثمّ فصّل بقوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) ويستره به( يَطْلُبُهُ ) أي يطلب الليل النّهار ليغشيه ويستره( حَثِيثًا ) أي طلباً حثيثاً سريعاً، وفيه إشعار بأنّ الظلمة هي الأصل، والنهار الّذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها ممّا حولها، عارض للّيل الّذي هو الظلمة المخروطيّة اللازمة لأقلّ من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كأنّه اللّيل يعقبه ويهجم عليه.

وقوله:( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) أي خلقهنّ والحال أنّها مسخّرات بأمره يجرين على ما يشاء ولما يشاء وقرئ الجميع بالرفع، وعلى ذلك

١٥٣

فالشمس مبتدء والقمر والنجوم معطوفة عليها، ومسخّرات خبره، والباء في قوله:( بِأَمْرِهِ ) للسببيّة.

ومجموع قوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) الخ، يجري مجرى التفسير لقوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) على ما يعطيه السياق، وهو الّذي تعطيه أغلب الآيات القرآنيّة الّتي يذكر فيها العرش فإنّها تذكر معه شيئاً من التدبير أو ما يؤول إليه بحسب المعنى.

قوله تعالى: ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الخلق هو التقدير بضمّ شئ إلى شئ وإن استقرّ ثانياً في عرف الدين وأهله في معنى الإيجاد أو الابداع على غير مثال سابق، وأمّا الأمر فيستعمل في معنى الشأن وجمعه اُمور، ومصدراً بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، وليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللّفظ ثمّ يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر وهو النظم المستقرّ في جميع أفعال الماُمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثمّ يتوسّع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كلّ شئ فأمر كلّ شئ هو الشأن الّذي يصلح له وجوده، وينظّم له تفاريق حركاته وسكناته وشتّى أعماله وإراداته، يقال : أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبّر حياته ومعاشه، وأمر المال إلى مالكه، وأمر الإنسان إلى ربّه أي بيده تدبيره في مسير حياته.

ولا يرد عليه أنّ الأمر بمعنى الشأن يجمع على( أُمُورِ ) وبمعنى يقابل النهي على( أوامر ) وهو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى !، فإنّ أمثال هذه التفنّنات كثيرة في اللّغة يعثر عليها المتتبّع الناقد فالأمر كالمتوسّط بين من يملكه وبين من يملك منه كالمولى والعبد ويضاف إلى كلّ منهما يقال: أمر العبد وأمر المولى، قال تعالى:( وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) البقره: ٢٧٥، وقال:( أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ ) النحل: ١.

وقد فسّر سبحانه أمره الّذي يملكه من الأشياء بقوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس:٨٣ ، فبيّن أنّ أمره الّذي يملكه من كلّ شئ سواء كان ذاتاً أو صفه أو فعلا وأثراً هو قول كن وكلمة الإيجاد وهو الوجود الّذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال : لشئ: كن فكان، فقد أفاض عليه

١٥٤

ما وجد به من الوجود، وهذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه وهو بذاك الاعتبار أمره تعالى وكلمة( كُن ) الإلهيّة، وله نسبة إلى الشئ الموجود، وهو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربّه، وقد عبّر عنه في الآية بقوله( فَيَكُونُ ) .

وقد ذكر تعالى لكلّ من النسبتين - وإن شئت فقل: للإيجاد المنسوب إليه تعالى وللوجود المنسوب إلى الشئ - نعوتاً وأحكاماً مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محلّ يناسبه.

والحاصل: أنّ الأمر هو الإيجاد سواء تعلّق بذات الشئ أو بنظام صفاته وأفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله وأمر نظام وجودها إلى الله لأنّها لاتملك لنفسها شيئاً البتّة، والخلق هو الإيجاد عن تقدير وتأليف سواء كان ذلك بنحو ضمّ شئ إلى شئ كضمّ أجزاء النطفة بعضها إلى بعض وضمّ نطفة الذكور إلى نطفة الأناث ثمّ ضمّ الاجزاء الغذائيّة إليها في شرائط خاصّة حتّى يخلق بدن إنسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات الشئ البسيط وضمّ ماله من درجة الوجود وحدّه وماله من الآثار والروابط الّتي له مع غيره، فالاُصول الأوّليّة مقدّرة مخلوقة كما أنّ المركّبات مقدّرة مخلوقة. قال الله تعالى:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان: ٢، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥٠، وقال:( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر: ٦٢، فعمّم خلقه كلّ شئ.

فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشئ وتنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.

ولذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال:( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) بخلاف الأمر قال تعالى:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠، ولذلك أيضاً نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا ) المائدة: ١١٠، وقال:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون: ١٤.وأمّا الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصّه بنفسه، وجعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته كالروح الّذي يحيى به الجسد.

أنظر إلى قوله تعالى:( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) وقوله:

١٥٥

( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) الروم: ٤٦، وقوله:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢، وقوله:( وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنّه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببيّة أمره أو بمصاحبة أمره، فتلخّص أنّ الخلق والأمر يرجحان بالاخرة إلى معنى واحد وإن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.

فإذا انفرد كلّ من الخلق والأمر صحّ أنّ يتعلّق بكلّ شئ، كلّ بالعناية الخاصّة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلّق بالذوات لما أنّها أوجدت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلّق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها بالتفاعل العامّ بينها لما أنّ الآثار هي الّتي قدّرت للذوات ولا وجه لتقدير المقدّر فافهم ذلك.

ولذلك قال تعالى:( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه وكأنّ المراد بالخلق ما يتعلّق من الإيجاد بذوات الأشياء، وبالأمر ما يتعلّق بآثارها والاوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها كما ميّز بين الجهتين في أوّل الآية حيث قال:( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) وهذا هو إيجاد الذوات( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) وهو إيجاد النظام الاحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر والإتيان بالواحد منه بعد الواحد.

وما ربّما يقال: إنّ العطف لا يقتضي المغايرة، ولو اقتضى ذلك لدلّ في قوله:( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ) البقرة: ٩٨، على كون جبريل من غير جنس الملائكة ! مدفوع بأنّ المراد مغايرة مّا ولو اعتباراً لقبح قولنا جائني زيد وزيد ورأيت عمراً وعمراً فلا محيص عن مغايرة مّا ولو بحسب الاعتبار، وجبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم والقوّة والمكانة عند ذى العرش.

وقوله تعالى:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) أي كان ذا بركات ينزّلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربّهم.

١٥٦

( كلام في معنى العرش)

للناس في معنى العرش بل في معنى قوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) والآيات الّتي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنّها وما يشاكلها من الآيات من المتشابهات الّتي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، وهؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينيّة والتطلّع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسنّة بدعة، والعقل يخطّئهم في ذلك و الكتاب والسنّة لا يصدّقانهم فآيات الكتاب تحرّض كلّ التحريض على التدبّر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكّر والتفكّر و النظر فيها والاحتجاج بالحجج العقليّة، ومتفرّقات السنّة المتواترة معنى توافقها، ولا معنى للامر بالمقدمة والنهي عن النتيجة، وهؤلاء هم الّذين كانوا يحرّمون البحث عن حقائق الكتاب والسنّة - حتّى البحث الكلاميّ الّذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينيّة ووضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامّيّ ثمّ الدفاع عنها بما تيسّر من المقدّمات المشهورة والمسلّمة عند أهل الدين - ويعدّونها بدعه فلنتركهم وشأنهم.

وأمّا طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال:

١ - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة والله - تعالى عمّا يقول الظالمون - مستوٍ عليه كاستواء الملوك منّا على عروشهم، وأكثر هؤلاء على أنّ العرش والكرسيّ شئ واحد، وهو الّذي وصفناه.

وهؤلاء هم المشبّهة من المسلمين، والكتاب والسنّة والعقل تخاصمهم في ذلك وتنزّه ربّ العالمين أن يماثل شيئاً من خلقه ويشبهه في ذاتٍ، أو صفة أو فعل تعالى وتقدّس.

٢ - أنّ العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسمانيّ والمحدّد للجهات والأطلس الخالي من الكواكب، والراسم بحركته اليوميّة للزمان، وفي جوفه مماسّاً

١٥٧

به الكرسيّ وهو الفلك الثامن الّذي فيه الثوابت، وفي جوفه الأفلاك السبعة الكلّيّة الّتي هي أفلاك السيّارات السبع: زحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر بالترتيب محيطاً بعضها ببعض.

وهذه هي الّتي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلويّة الظاهرة للحسّ طبّقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع والكرسيّ والعرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة والطبيعيّات لايخالف الظواهر قبلوه، وما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردّوه كقولهم: ليس للفلك المحدّد وراء لاخلاء ولا ملأ ، وقولهم بدوام الحركات الفلكيّة، واستحالة الخرق والالتيام عليها، وكون كلّ فلك يماسّ بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها ولا سكنة فيها وكون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها ولا باب .

والظواهر من القرآن والحديث تثبت أنّ وراء العرش حجباً وسرادقات، وأنّ له قوائم، وأنّ له حملة، وأنّ الله سيطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب، وأنّ في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلّا وفيه ملك راكع أو ساجد يلجونه وينزلون منه ويصعدون إليه وأنّ للسماء أبواباً ، وأنّ الجنّة فيها عند سدرة المنتهى الّتي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك ممّا ينافى بظاهره ما افترضه علماء الهيئة والطبيعيّات سابقاً والقائلون منّا إنّ السماوات والكرسيّ والعرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلّيّة يدفعون ذلك كلّه بمخالفة الظواهر.

ولم ينبّههم هذا الاختلاف في الوصف على أنّ ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلويّة حتّى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة والطبيعيّات المؤيّدة بالحسّ و التجربة بطلان الفرضيّات السابقة من أصلها فاضطرّ هؤلاء إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه.

٣ - أن لا مصداق للعرش خارجاً وإنّما قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، وكثيراً مّا يطلق الاستواء على الشئ على الاستيلاء عليه كما قيل:

١٥٨

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أو أنّ الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الاُمور كما أنّ الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة اُمور مملكتهم استووا على عروشهم وجلسوا عليه والشروع والأخذ في أمر وجميع ما ينبئ عن تغيّر الأحوال وتبدّلها وإن كانت ممتنعة في حقّه تعالى لتنزّهه تعالى عن التغيّر والتبدّل لكن شأنه تعالى يسمّى شروعاً وآخذاً بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها وأعيانها يومئذ فيسمّى شأنه تعالى وهو الشمول بالرحمة إذا تعلّق بها شروعاً وآخذاً بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيّدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلاناً، وأحيا فلاناً، وأمات فلاناً، ورزق فلاناً، ونحو ذلك.

وفيه: أنّ كون قوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) جارياً مجرى الكناية بحسب اللّفظ وإن كان حقّاً لكنّه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه لعناية اللّفظيّة، والسلطة والاستيلاء والملك والأمرة والسلطنة والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجرى فينا اُمور وضعيّة اعتباريّة ليس في الخارج منها إلّا آثارها على ما سمعته منّا كراراً في الأبحاث الاعتباريّة السابقة والظواهر الدينيّة تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات اُمورنا وشؤننا الاعتباريّة لكن الله سبحانه يبيّن لنا أنّ هذه البيانات وراءها حقائق واقعيّة، وجهات خارجيّة ليست بوهميّة اعتباريّة.

فمعنى الملك والسلطنة والإحاطة والولاية وغيرها فيه سبحانه هو المعنى الّذي نفهمه من كلّ هذه الالفاظ عندنا لكنّ المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقيّة خارجيّة على ما يليق بساحة قدسه تعالى وأمّا ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنيّة ادّعائية وجهات وضعيّة اعتباريّة لا تتعدّى الوهم، وإنّما وضعناها وأخذنا بها للحصول على آثار حقيقيّة هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمّى الرئيس رئيساً إلّا لأن يتّبع الّذين نسمّيهم مرؤسين إراداته وعزائمه لا لأنّ الجماعة بدن حقيقة وهو رأسهم حقيقة ولا نسمّي جزء الهيئة المؤتلفة عضواً لأنّه يد أو رجل أو كبد أو رئة حقيقة بل لأن يتصدّى من الاُمور المقصودة في هذا التشكيل والاجتماع ما يتصدّاه عضو من الاعضاء الموجودة في بدن الإنسان مثلا.

١٥٩

وهذا هو الّذي يسمّيه الله تعالى لعباً و لهواً إذ يقول:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) العنكبوت: ٦٤، فالمقاصد الدنيويّة من زينة ومال وأولاد وتقدّم ورئاسة وحكومة وأمثالها ليست إلّا عناوين وهميّة لا تحقّق لها إلّا في الأوهام، وليس الاشتغال بها لغير المقاصد الاخرويّة إلّا اشتغالاً باُمور وهميّة وصور خياليّة، ولا المسابقة في تحصيلها إلّا كمسابقة الاطفال في تحصيل التقدّم في الملاعب الّتي يشتغلون بها، وليس إلّا تحصيل حالة خياليّة ليس منها في خارجه عين ولا أثر.

وحاشا لله سبحانه أن يذمّ هذه الحياة الفانية الغارّة، ويسمّيها لعباً لما تشتمل عليه من الشؤون الوهميّة ثمّ يكون تعالى وتقدّس أوّل اللّاعبين !.

وبالجملة قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) في عين أنّه تمثيل يبيّن به أنّ له إحاطة تدبيرية لملكه يدلّ على أنّ هناك مرحلة حقيقيّة هي المقام الّذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور على كثرتها واختلافها، ويدلّ عليه آيات أخر تذكر العرش وحده وينسبه إليه تعالى كقوله تعالى:( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبه: ١٢٩، وقوله:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) المؤمن: ٧، وقوله:( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) الحاقة: ١٧:، وقوله:( حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر: ٧٥.

فالآيات - كما ترى - تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وأمر من الاُمور الخارجيّة ولذلك نقول: إنّ للعرش في قوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) مصداقاً خارجيّاً، ولم يوضع في الكلام لمجرّد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلاً: إنّ في الوجود زجاجة إلهيّة أو شجرة زيتونة إلهيّة أو زيتاً إلهيّاً، ونقول: إنّ في الوجود عرشاً إلهيّاً، أو لوحاً وقلماً إلهيّين وكتاباً مكتوباً فافهم ذلك.

وهذا العرش الّذي يستفاد من مثل قوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) أنّه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمّة الحوادث والاُمور كما يجتمع أزمّة المملكة في عرش الملك على التفصيل الّذي تقدّم في بيان الآية يدلّ على تحقّق هذه الصفة له قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: ٣، ففسّر الاستواء على

١٦٠