الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 81455
تحميل: 4493


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81455 / تحميل: 4493
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يدعو بمثل قوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) لم يشكّوا أنّه سيتركهم ويهاجر إلى أرض غير أرضهم، ويتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم:( لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) فهدّدوهم وخوّفوهم بالخسران أن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنّهم إنّما كانوا يعادونه إيّاه بالأصلة، وأمّا المؤمنون فإنّما كانوا يبغضون من جهته ولأجله.

وعلى أيّ الوجهين كان فالآية كالتوطئة والتمهيد للآية الآتية:( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ) كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، وقد تقدّم معنى الآية في نظيرتها من قصّة صالح.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا - إلى قوله -الْخَاسِرِينَ ) قال الراغب في المفردات: وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره بغنى قال: كأن لم يغنوا فيها (انتهى). و( كَأَن ) مخفّف كأنّ خفّف لدخوله الجملة الفعليّة.

فقوله:( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) فيه تشبيه حال المكذّبين من قومه بمن لم يطيلوا الإقامة في أرضهم فإنّ أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلّقهم بها في عشيرة وأهل أو دار أو ضياع وعقار، وأمّا من تمكّن في أرض واستوطنها وأطال المقام بها وتعلّق بها بكلّ ما يقع به التعلّق في الحياة المادّيّة فإنّ تركها له متعسّر كالمتعذّر وخاصّة ترك الاُمّة القاطنة في أرض أرضها وما اقتنته فيها طول مقامها. وقد ترك هؤلاء وهم أمّة عريقةٌ في الأرض دارهم وما فيها، في أيسر زمان أخذتهمٌ الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

وقد كانوا يزعمون أنّ شعيباً ومن تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنّهم وانقلبت الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

وإلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أوّلاً قولهم: إنّ متّبعي شعيب خاسرون، ثمّ

٢٠١

ذكر نزول العذاب وأبهم الّذين أخذتهم الرجفة فقال:( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) ولم يقل: فأخذت الّذين كفروا الرجفة، ثمّ صرّح في قوله:( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا ) الآية أنّ الحكم الإلهي والهلاك والخسران كان لشعيب ومن تبعه على الّذين كذّبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، وهم يزعمون خلافه.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ) إلى آخر الآية. ظاهر السياق أنّه إنّما تولّى بعد نزول العذاب عليهم وهلاكهم، وأنّ الخطاب خطاب اعتبار، وقوله:( فَكَيْفَ آسَىٰ ) (الخ) هو من الآسى أي كيف أحزن والباقي ظاهر.

٢٠٢

( سورة الأعراف آية ٩٤ - ١٠٢)

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( ٩٤ ) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩٥ ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ٩٦ ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ( ٩٧ ) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٩٨ ) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ  فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( ٩٩ ) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ  وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا  وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ  كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( ١٠١ ) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ  وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( ١٠٢ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها وهي تلخّص القول في قصص الامم الغابرة فتذكر أنّ أكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زيّ العبوديّة لم يفوا بالعهد الإلهيّ والميثاق الّذي أخذ منهم لأوّل يوم، وتبيّن أنّ ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصّة إلهيّة يتبع بعضها بعضاً، وهي أنّ الله سبحانه كان كلّما أرسل إليهم نبيّاً من أنبيائه يمتحنهم ويختبرهم بالبأساء والضرّاء فكانوا يعرضون عن آيات الله الّتي كانت تدعوهم

٢٠٣

إلى الرجوع إلى الله والتضرّع والإنابة إليه، ولا ينتبهون بهاتيك المنبّهات، وهذه سنّة.

وإذا لم ينفع ذلك بدّلت هذه السنّة بسنّة أخرى، وهي الطبع على قلوبهم بتقسيتها وصرفها عن الحقّ وتعليقها بالشهوات المادّيّة وزينات الحياة الدنيا وزخارفها، وهذة سنّة المكر.

ثمّ تتبعها سنّة ثالثة وهي الاستدراج، وهي بتبديل السيّئة حسنة، والنقمة نعمة والبأساء والضرّاء، سرّاء وفي ذلك تقريبهم يوماً فيوماً وساعة فساعة إلى العذاب الإلهيّ حتّى يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون به لأنّهم كانوا يرون أنفسهم في مهد الامن والسلام فرحين بما عندهم من العلم، وما في اختيارهم من الوسائل الكافية على زعمهم في دفع ما يهدّدهم بهلاك أو يؤذنهم بالزوال.

وقد أشار الله سبحانه في خلال هذه الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الّذي يدور عليه أساس نزول النعم والنقم على العالم الإنسانيّ حيث يقول:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الآية.

وتوضيحها أنّ العالم بما فيه من الأجزاء متعلّق الأبعاض مرتبط الأطراف يتّصل بعضها ببعض اتّصال أعضاء بدن واحد وأجزائه بعضها ببعض في صحّتها وسقمها واستقامتها في صدور أفاعيلها، وقيامها بالواجبات من أعمالها فالتفاعل بالآثار والخواصّ جار بينها عام شامل لها.

والجميع على ما يبيّنه القرآن الشريف سائرٌ إلى الله سبحانه سالك نحو الغاية الّتي قدّرت له فإذا اختلّ أمر بعض أجزائه وخاصّه الأجزاء الشريفة، وضعف أثره وانحرف عن مستقيم صراطه بان أثر فساده في غيره، وانعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار الّتي يرسلها ذلك الغير إليه، وهي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف - وهي المحنة والبليّة الّتي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الأسباب - فإن استقام بنفسه أو باعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، ولو استمرّ على إنحرافه واعوجاجه، وأدام فساد حاله دامت له المحنة حتّى إذا طغى وتجاوز حدّه، وأوقفت سائر الأسباب المحيطة به في عتبة

٢٠٤

الفساد انتهضت عليه سائر الأسباب وهاجت بقواها الّتي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته ودكّته ومحته بغتة وهو لا يشعر.

وهذه السنّة الّتي هي من السنن الكونيّة الّتي أقرّها الله سبحانه في الكون غير متخلّفة عن الإنسان، ولا الإنسان مستثنى منها فالأمّة من الاُمم إذا أنحرفت عن صراط الفطرة إنحرافاً يصدّه عن السعادة الإنسانيّة الّتي قدّرت غاية لمسيرة في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره ممّا يحيط به من الأسباب الكونيّة المرتبطة به، وينعكس إليه أثره السيّئ الّذي لا سبب له إلّا إنحرافه عن الصراط وتوجيهه آثاراً سيّئة من نفسه إلى تلك الأسباب، وعند ذلك يظهر اختلالات في اجتماعاتهم، ومحن عامّة في روابطهم العامّة كفساد الاخلاق، وقسوة القلوب، وفقدان العواطف الرقيقة، وتهاجم النوائب وتراكم المصائب والبلايا الكونيّة كامتناع السماء من أن تمطر والأرض من أن تنبت، والبركات من أن تنزل، ومفاجاة السيول والطوفانات والصواعق والزلازل وخسف البقاع وغير ذلك كلّ ذلك آيات إلهيّة تنبّه الإنسان وتدعو الاُمّة إلى الرجوع إلى ربّه، والعود إلى ما تركه من صراط الفطرة المستقيم، وامتحان بالعسر بعد ما امتحن باليسر.

تأمل في قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٤١ تراه شاهداً ناطقاً بذلك، فالآية تذكر أنّ المظالم والذنوب الّتي تكسبها أيدي الناس توجب فساداً في البرّ والبحر ممّا يعود إلى الإنسان كوقوع الحروب وانقطاع الطرق وارتفاع الامن وغير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الاوضاع الجوّيّة والأرضيّة الّذي يستضرّ به الإنسان في حياته ومعاشه.

ونظيره بوجه قوله تعالى:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ على ما سيجئ إن شاء الله من تقرير معناه، وكذلك قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الرعد: ١١، وما في معناه من الآيات.

وبالجملة فإن رجعت الاُمّة بذلك - وما أقلّه وأندره في الاُمم - فهو، وإن استمرّت على ضلالها وخبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، وأصبحوا يحسبون أنّ الحياة

٢٠٥

الإنسانيّة ليست الّا هذه الحياة المضطربة الشقيّة الّتي تزاحمها أجزاء العالم المادّيّ وتضطهدها النوائب والرزايا، ويحطمها قهر الطبيعة الكونيّة - وأن ليس للإنسان إلّا أن يتقدّم في العلم ويتجهّز بالحيل الفكريّة فيبارزها ويتّخذ وسائل كافية في دفع قهرها وابطال مكرها كما اتّخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط والجدب والوباء والطاعون وسائر الأمراض العامّة السارية، وأخرى تنفي بها السيول والطوفانات والصواعق وغير ذلك ممّا يأتي به طاغية الطبيعة، ويهدّد النوع بالهلاك.

قتل الإنسان ما أكفره ! أخذه الخيلاء فظنّ أنّ التقدّم فيما يسمّيه حضارة وعلماً يعده أنّه سيغلب طبيعة الكون، ويبطل عزائمها، ويقهرها على أن تطيعه في مشيّته، وتنقاد لأهوائه، وهو أحد أجزائها المحكومة بحكمها الضعيفة في تركيبها ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، ولو فسدت لكان الإنسان الضعيف من أقدم أجزائها في الفساد وأسرعها إلى الهلاك.

ويخيّل إليه أنّ الّذي ترومه المعرفة الدينيّة هو أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعيّة ثمّ تضع زمامها في يد صانعها فيكون شريكاً من الشركاء، للأسباب الاُخر آثارها من الحوادث - وهي الحوادث الّتي يسعنا البحث عن عللها وأسبابها - وللسبب الّذي هو الصانع بقيّة الآثار من الحوادث كالحوادث العامّة والوقائع الجوّيّة كالوباء والقحط والامطار والصواعق وغيرها ثمّ إذا كشف عن العلل الطبيعيّة المكتنفة لهذه الاُمور زعم أنّه في غنىً عن ربّ العالمين وتدبير ربوبيّته.

وقد فاته أنّ الله عزّ اسمه ليس سبباً في عرض الأسباب وعلّة في صفّ العلل المادّيّة والقوى الفعّالة في الطبيعة بل هو الّذي أحاط بكلّ شئ، وخلق كلّ سبب فساقه وقاده إلى مسبّبه وأعطى كلّ شئ خلقه ثمّ هدى ولايحيط بخلقه ومسبّبه غيره فله أنّ يتسبّب إلى كلّ شئ بما أراده من الأسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا.

وإلى ذلك يشير نحو قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق: ٣، وقوله:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف: ٢١، وقوله:( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا

٢٠٦

نَصِيرٍ ) الشورى: ٣١، إلى غير ذلك من الآيات.

وكيف يسع للإنسان أن يحارب الله في ملكه ويتّخذ بفكره وسائل لابطال حكمه وإرادته، وليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الّذي خلق الإنسان وخلق منه هذه الارادة ثمّ الفكر ثمّ الوسائل المتّخذة، ووضع كلّاً في موضعه، ورابط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتّى أنهاها إلى الغاية الاخيرة الّتي يريد الإنسان بجهالته أن يحارب بالتوسل إليها ربّه في قضائه وقدره، ويناقضه في حكمه، وهو أحد الايادي العمّالة لما يريده ويحكم به وبعض الأسباب المجرية لما يقدّره ويقضى به.

وإلى هذا الموقف الفضيح الإنسانيّ يشير تعالى بعد ذكر أخذه الإنسان بالبأساء والضرّاء بقوله:( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) على ما سيجئ إن شاء الله تعالى من تقرير معنى الآية عنقريب.

فهذه حقيقة برهانيّة تقرّر أنّ الإنسان كغيره من الأنواع الكونيّة مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، ولأعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء، وإن فسدت أفسدت الكون وقابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فيها، وإلّا جرى على فساده حتّى إذا تعرّق فيه انتهض عليه الكون وأهلكه بهدم بنيانه وإعفاء أثره، وطهّر الأرض من رجسه.

وكيف يمكن للإنسان وأنّى يسعه أن يعارض الكون بعمله وهو أحد أجزائه الّتي لا تستقلّ دونه البتّة؟ أو يماكره بفكره وإنّما يفكّر بترتيب القوانين الكلّيّة المأخوذة منه؟ فافهم ذلك.

فهذه حقيقة برهانيّة والقرآن الكريم يصدّقها وينصّ عليها فالله سبحانه هو الّذي خلق كلّ شئ فقدّره تقديرا، وهداه إلى ما يسعده، ولم يخلق العالم سدى، ولا شيئاً من أجزائه ومنها الإنسان لعباً، بل إنّما خلق ما خلق ليتقرّب منه ويرجع إليه، وهيّأ له منزلة سعادة يندفع إليها بحسب فطرته بإذن الله سبحانه، وجعل له سبيلاً ينتهي إلى

٢٠٧

سعادته فإذا سلك سبيله الفطريّ فهو، وإلّا فإن انحرف عنه إنحرافاً لا مطمع في رجوعه إلى سويّ الصراط فقد بطلت فيه الغاية، وحقّت عليه كلمة العذاب.

قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ ) إلى آخر الآية. قيل: البأساء في المال كالفقر، والضرّاء في النفس كالمرض، وقيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدّة في أنفسهم وبالضرّاء ما نالهم في أموالهم، وقيل: غير ذلك. وقيل: إنّ البأس والبأساء يكثر استعمالهما في الشدّة الّتي هي بالنكاية والتنكيل كما في قوله تعالى:( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ) .

ولعل قوله بعد:( الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) حيث أريد بهما ما يسوء الإنسان وما يسرّه يكون قرينة على إراده مطلق ما يسوء الإنسان من الشدائد من الضرّاء، ويكون قوله:( بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) من ذكر العام بعد الخاصّ.

يذكر سبحانه أنّ السنّة الإلهيّة جرت على أنّه كلّما أرسل نبيّاً من الأنبياء إلى قرية من القرى - وما يرسلهم إليهم إلّا ليهديهم سبيل الرشاد - ابتلاهم بشئ من الشدائد في النفوس والاموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرّع إليه سبحانه ليتمّ بذلك أمر دعوتهم إلى الإيمان بالله والعمل الصالح.

فالابتلاءات والمحن نعم العون لدعوة الأنبياء فإنّ الإنسان ما دام على النعمة شغله ذلك عن التوجّه إلى من أنعمها عليه واستغنى بها، وإذا سلب النعمة أحسّ بالحاجة، ونزلت عليه الذلّة والمسكنة، وعلاه الجزع، وهدّده الفناء فيبعثه ذلك بحسب الفطرة إلى الالتجاء والتضرّع إلى من بيده سدّ خلّته ودفع ذلّته، وهو الله سبحانه وإن كان لايشعر به وإذا نبّه عليه كان من المرجوّ اهتداؤه إلى الحقّ، قال تعالى:( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) حم السجدة: ٥١.

قوله تعالى:( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا ) إلى آخر الآية. تبديل الشئ شيئاً وضع الشئ الثاني مكان الشئ الأوّل والسيّئة والحسنة معناهما ظاهر، والمراد بهما ما هما كالشدّة والرخاء، والخوف والامن، والضرّاء والسرّاء كما يدلّ عليه قوله بعد:( قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) .

٢٠٨

وقوله:( حَتَّىٰ عَفَوا ) من العفو وفسّر بالكثرة أي حتّى كثروا أموالا ونفوساً بعد ما كان الله قلّلهم بالابتلاءات والمحن، وليس ببعيد - وإن لم يذكروه - أن يكون من العفو بمعنى إمحاء الأثر كقوله:

ربع عفاه الدهر طولاً فانمحى

قد كاد من طول البلى أن يمسحا

فيكون المراد أنّهم محوا بالحسنة الّتي أوتوها آثار السيّئة السابقة وقالوا:( قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) أي أنّ الإنسان وهو في عالم الطبيعة المتحوّلة المتغيّرة من حكم موقفه أن يمسّه الضرّاء والسرّاء، وتتعاقب عليه الحدثان ممّا يسوؤه أو يسرّه من غير أن يكون لذلك انتساب إلى امتحان إلهيّ ونقمة ربّانيّة.

ومن الممكن بالنظر إلى هذا المعنى الثاني أن يكون قوله:( وَّقَالُوا ) الخ، عطف تفسير لقوله:( عَفَوا ) والمراد أنّهم محوا رسم الامتحان الإلهيّ بقولهم: إنّ الضرّاء والسرّاء إنّما هما من عادات الدهر المتبادلة المتداولة يداولنا بذلك كما كان يداول آباءنا كما قال تعالى:( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) حم السجدة: ٥٠.

و( حَتَّىٰ ) في قوله:( حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا ) الآية، للغاية، والمعنى: ثمّ آتيناهم النعم مكان النقم فاستغرقوا فيها إلى أن نسوا ما كانوا عليه في حال الشدّة وقالوا: إنّ هذه الحسنات وتلك السيّئات من عادة الدهر فانتهى بهم إرسال الشدّة ثمّ الرخاء إلى هذه الغاية، وكان ينبغي لهم أن يتذكّروا عند ذلك ويهتدوا إلى مزيد الشكر بعد التضرّع لكنّهم غيروا الأمر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك الغاية الّتي رضيها لهم ربّهم فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحقّ.

ولعلّ قوله:( الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) قدم فيه الضرّاء على السرّاء ليحاذي ما في قوله تعالى:( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) من الترتيب.

وفي قوله:( فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) تلويح إلى جهل الإنسان بجريان الأمر الإلهيّ، ولذا كان الاخذ بغتة وفجأة من غير أن يشعروا به، وهم يظنّون أنّهم عالمون بمجاري الاُمور، وخصوصيّات الأسباب، لهم أن يتّقوا ما يهدّدهم من أسباب الهلاك

٢٠٩

بوسائل دافعة يهديهم إليها العلم، قال تعالى:( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) المؤمن: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ ) إلى آخر الآية. البركات أنواع الخير الكثير ربّما يبتلى الإنسان بفقده كلامن والرخاء والصحّة والمال والأولاد وغير ذلك.

وقوله:( لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) فيه استعارة بالكناية فقد شبّهت البركات بمجاري تجري منها عليهم كلّ ما يتنعّمون به من نعم الله لكنّها سدّت دونهم فلا يجري عليهم منها شئ لكنّهم لو آمنوا واتّقوا لفتحها الله سبحانه فجرى عليهم منها بركات السماء من الأمطار والثلوج والحرّ والبرد وغير ذلك كلّ في موقعه وبالمقدار النافع منه، وبركات الأرض من النبات والفواكه والأمن وغيرها ففي الكلام استعارة المجاري للبركات ثمّ ذكر بعض لوازمه وآثاره وهو الفتح للمستعار له.

وفي قوله:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) الآية دلالة على أنّ افتتاح ابواب البركات مسبّب لإيمان أهل القرى جميعاً وتقواهم أي أنّ ذلك من آثار إيمان النوع الإنسانيّ وتقواه لا إيمان البعض وتقواه فإنّ إيمان البعض وتقواه لا ينفكّ عن كفر البعض الآخر وفسقه، ومع ذلك لا يرتفع سبب الفساد وهو ظاهر.

وفي قوله:( وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) دلالة على أنّ الاخذ بعنوان المجازاة وقد تقدّم في البيان المذكور آنفاً ما يتبيّن به كيفيّة ذلك، وأنّه في الحقيقة أعمال الإنسان تردّ إليه.

قوله تعالى: ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ) البيات والتبييت قصد العدوّ ليلاً، وهو من المكر لأنّ اللّيل سكن يسكن فيه الإنسان ويميل بالطبع إلى أن يستريح وينقطع عن غيره بالنوم والسكون.

وقد فرّع مضمون الآية على ما قبله إي إذا كان هذا حال أهل القرى أنّهم يغترّون بما تحت حسّهم عمّا وراءه فيفجؤون ويأخذهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون فهل أمنوا أن يأتيهم عذاب الله ليلا وهم في حال النوم وقد عمتهم الغفلة.؟

٢١٠

قوله تعالى: ( أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) الضحى صدر النهار حين تنبسط الشمس، والمراد باللّعب الأعمال الّتي يشتغلون بها لرفع حوائج الحياة الدنيا والتمتّع من مزايا الشهوات، وهي إذا لم تكن في سبيل السعادة الحقيقيّة، وطلب الحقّ كانت لعباً، فقوله:( وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) كناية عن العمل للدنيا وربّما قيل: إنّه استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنّهم يلعبون، وليس ببعيد أن يكون قوله في الآية السابقة( وَهُمْ نَائِمُونَ ) كناية عن الغفلة. ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) مكر به مكراً أي مسّه بالضرر أو بما ينتهي إلى الضرر وهو لا يشعر وهو إنّما يصحّ منه تعالى إذا كان على نحو المجازاة كأن يأتي الإنسان بالمعصية فيؤاخذه الله بالعذاب من حيث لا يشعر أو يفعل به ما يسوقه إلى العذاب وهو لا يشعر، وأمّا المكر الابتدائي من غير تحقّق معصية سابقة فممّا يمتنع عليه تعالى وقد مرّت الإشارة إليه كراراً.

وما ألطف قوله تعالى:( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ ) و( أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ ) ثمّ قوله( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ) ، والثالث - وهو الّذي في هذه الآية - جمع وتلخيص للإنكارين السابقين في الآيتين، وقد أظهر في الآيتين جميعاً من غير أن يقول في الثانية: أو أمنوا (الخ) ليعود الضمير في الآية الثالثة إلى من في الآيتين جميعاً كأنّه أخذ أهل القرى وهم نائمون غير أهل القرى وهم يلعبون.

وقوله:( فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) وذلك لأنّه تعالى بيّن في الآيتين الاُوليين أنّ الأمن من مكر الله نفسه مكر إلهيّ يتعقّبه العذاب الإلهيّ فالآمنون من مكر الله خاسرون لأنّهم ممكور بهم بهذا الأمن بعينه.

قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا ) إلى آخر الآية. الظاهر أنّ فاعل قوله:( يَهْدِ ) ضمير راجع إلى ما أجمله من قصص أهل القرى، وقوله( لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ) مفعوله عديّ إليه باللّام لتضمينه معنى التبيين، والمعنى: أو لم يبيّن ما تلوناه من قصص أهل القرى للّذين يرثون الأرض من بعد أهلها هادياً لهم، وقوله:( أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم ) الآية مفعول( يَهْد ) والمراد بالّذين يرثون الأرض من بعد أهلها الأخلاف

٢١١

الّذين ورثوا الأرض من أسلافهم.

ومحصّل المعنى: أو لم يتبيّن أخلاف هؤلاء الّذين ذكرنا أنّا آخذناهم بمعاصيهم بعد ما امتحنّاهم ثمّ طبعنا على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يسمعوا مواعظ أنبيائهم أنّا لو نشاء لاصبناهم بذنوبهم من غير أن يمنعنا منهم مانع أو يتّقوا بأسنا بشئ.

وربّما قيل: إنّ قوله( يَهْد ) منزّل منزلة اللازم والمعنى: أو لم يفعل بهم الهداية أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونظيره قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) الم السجدة: ٢٦.

وأمّا قوله:( وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) فمعطوف على قوله( أَصَبْنَاهُم ) لأنّ الماضي ههنا في معنى المستقبل، والمعنى أولم يهد لهم أن لو نشاء نطبع (الخ)، وقيل : جملة معترضة تذييليّة، وفي الآية وجوه وأقوال أخر خالية عن الجدوى.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ) إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقاً بعد التلخيص الّذي مرّ في قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ ) إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث.

والفرق بين التلخيصين أنّ الأوّل تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء والضرّاء ثمّ تبديل السيّئة حسنة ثمّ الاخذ بغتة وهم لا يشعرون، والثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الإلهيّة، وهو أنّهم وإن جاءتهم رسلهم بالبيّنات لكنّهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل، وهذا من طبع الله على قلوبهم.

وقوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) ظاهر الآية أنّ قوله( بِمَا ) متعلّق بقوله( لِيُؤْمِنُوا ) ولازم ذلك أن تكون ما موصولة ويؤيّده قوله تعالى في موضع آخر( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) يونس: ٧٤ فإنّه أظهر في كون( ما ) موصولة لمكان ضمير( بِه ) ويؤول المعنى إلى أنّهم كذّبوا بما دعوا إليه أوّلاً ثمّ لم يؤمنوا به عند الدعوة النبويّة ثانياً.

ويؤيّده ظاهر قوله( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ) فإنّ هذا التركيب يدلّ على نفي التهيّؤ القبليّ يقال: ما كنت لآتي فلاناً، وما كنت لاُكرم فلاناً وقد فعل كذا أي لم يكن من

٢١٢

شأني كذا ولم أكن بمتهيّئ لكذا، وفي التنزيل:( مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) آل عمران: ١٧٩، أي كان في إرادته التمييز من قبل.

وقال تعالى:( لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) النساء: ١٣٧.

ويؤيّده أيضاً قوله في الآية التالية:( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) فإنّ ظاهر السياق أنّ هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) فيتبيّن بها أنّهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه وكذّبوا به حين عهد إليهم ثمّ إذا جاءتهم الرسل بالبيّنات كذّبوهم ولم يؤمنوابهم، وما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل.

والآية أعني قوله:( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) مذيّلة بقوله:( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) فدلّ ذلك على أنّ ما وصفه من مجئ الرسل بالبيّنات وعدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور، وحقيقته أنّ الله ثبّت التكذيب في قلوبهم ومكنه من نفوسهم حتّى إذا جاءتهم الرسل بالبيّنات لم يكن محلّ لقبول دعوتهم لكون المحلّ مشغولاً بضدّه.

فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الاُوليين أعني قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا ) إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنّة الله أنّه يرسل آيات دالّة على حقيّة أصول الدعوة من التوحيد وغيره بأخذهم بالبأساء والضرّاء ثمّ تبديل السيّئة حسنة ثمّ يطبع على قلوبهم جزاءً لجرمهم.

وعلى هذا فالمعنى في الآية: لقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات لكنّهم لمّا لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرّع إلى الله والشكر لإحسانه بل شكّوا فيها بل حملوها على عادة الدهر وتصريف الأيّام وتقليبها الإنسان من حال إلى حال فكذّبوا بهذه الآيات، واستقرّ التكذيب في قلوبهم فلمّا دعاهم الأنبياء إلى الدين الحقّ لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحقّ وبما كانوا يذكّرونهم بها من الآيات لأنّهم كذّبوا بها من

٢١٣

قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل فإنّ الله عزّوجلّ طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.

فعدم إيمانهم أثر الطبع الإلهيّ والطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء والضرّاء ثمّ تبديل السيّئة حسنة ثانياً، ومن الدليل عليه قوله:( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) يونس: ١٣، وقوله:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ - يعنى نوحاً- رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) يونس: ٧٤، وعلى هذا فقوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) تفريع على قوله( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) ، والمراد بما كذّبوا به الآيات البيّنات الّتي ذكرتهم بها الأنبياء من آيات الآفاق والأنفس وما جاؤوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته والمراد بتكذيبهم بها من قبل، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنّهم مربوبون لله لا ربّ سواه، وبعدم إيمانهم ثانياً عدم إيمانهم بها حين يذكّرهم بها الأنبياء.

فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكّرهم به و يأتي به الأنبياء من الآيات الّتي كذّبوا بها حين ذكّرتهم بها عقولهم، وأرسلها الله إليهم ليذكّروا ويتضرّعوا إليه ويشكروا له.

وعلى هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية:( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) هو العهد الّذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات: أن لا يعبدوا إلّا إيّاه، والمراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به.

ولهذا العهد تحقّق سابق على هذا التحقّق وهو أنّ الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم وسوّاهم بخلق أبيهم آدم وتسويته ثمّ جعله مثالا للإنسانيّة العامّة فاسجد له الملائكة وأدخله الجنّة ثمّ عهد إليه حين أمر بهبوطه الأرض أن يعبده هو وذرّيّته ولا يشركوا به شيئاً.

وقد قدّر الله سبحانه هنالك ما قدّر فهدى بحسب تقديره قوماً ولم يهد آخرين ثمّ إذا وردوا الدنيا وأخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الأوّلون، وفسق عن عهده

٢١٤

الآخرون حتّى طبع الله على قلوبهم وحقّت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيّئة كما تقدّم بيانه في تفسير قوله:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) الآية: ٣٠ من السورة.

فمعنى الآية على هذا فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء بما كذّبوا به ولم يقبلوه عند أخذ العهد الأوّل، وما وجدنا لاكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الّذي عهدناه هناك وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد.

فهذا معنى لكنّه غير مناف للمعنى السابق فإنّ أحد المعنيين في طول الآخر وليسا بمتعارضين فإنّ تعيّن طريق الإنسان وغايته من سعادة وشقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته وشقاوته في الدنيا، واناطه تحقّق كلّ منهما باختياره ذلك وانتخابه وللقوم في تفسير الآية أقوال أخر: ١ -: أنّ المراد بتكذيبهم من قبل، تكذيبهم من حين مجئ الرسل إلى حين الاصرار ولعناد وبقوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ) الخ، كفرهم حين الاصرار، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا حين لعناد بما كذّبوا به من أوّل الدعوة إلى ذلك الحين، وهذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتّة.

٢ -: أنّ المراد بتكذيبهم قبلاً، تكذيبهم باصول الشرائع الإلهيّة الّتي لا يختلف في شئ منها كالتوحيد والمعاد، ومسألة حسن العدل وقبح الظلم مثلاً ممّا يستقلّ به العقل، وبتكذيبهم بعداً تكذيبهم بتفاصيل الشرائع، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصّلة وهي الّتي كذّبوا بها قبلاً إجمالاً قبل الدعوة التفصيليّة، وفيه أنّه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله وبسائر ما ثبوته فطريّ عند العقل أنّه تكذيب. على أنّ ما تقدّم من القرائن على خلافه يكذّبه.

٣ -: أنّ الآية على حدّ قوله تعالى:( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) فالمعنى: ما كانوا لو أهلكناهم ثمّ أحييناهم ليؤمنوا بما كذّبوا به قبل إهلاكهم، هذا.وهو أسخف ما قيل في تفسير الآية.

٤ -: أنّ ضمير( كَذَّبُوا ) راجع إلى أسلافهم كما أنّ ضمير( لِيُؤْمِنُوا )

٢١٥

للأخلاف والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذّب به أسلافهم، وفيه: أنّه قول من غير دليل وظاهر سياق قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا ) أنّ مرجع الثلاثة جميعاً واحد، ومن الممكن أنّ يقرّر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي.

٥ -: أنّ الكلام مبنيّ على أخذ عامّة أهل القرى من أسلافهم وأخلافهم واحداً بعث إليه الرّسل، وهم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الاسلاف لأنبيائهم تكذيباً من الاخلاف لهم، وعدم إيمان الاخلاف أيضاً عدم إيمان من الاسلاف وهذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب وخاصّة اليهود ثمّ يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدى أسلافهم، وتنسب إلى لحقيّهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى: هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان يؤمن آخرهم بما كذّب به أوّلهم هذا.

وفيه: أنّه وإن كان في نفسه معنى صحيحاً لكنّ السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الاُمم الغابرة كما يدلّ عليه قوله:( تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ) ولو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدّة بامتداد أعصارهم حتّى يكون لها أول وآخر وصدر وذيل تكفر بآخرها وذيلها بما كذّبت به بأوّلها وصدرها كان من حقّ الكلام أن يدلّ على مثل هذا الاستمرار في قوله:( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) فيقال: كانت تأتيهم رسلهم بالبيّنات أو ما يؤدّى هذا المعنى لا بمثل قوله:( جَاءَتْهُمْ ) الظاهر في اعتبار الدفعة والمرّة فافهم ذلك.

وذلك كما في قوله تعالى:( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) المائدة: ٧٠، فمن المعلوم أنّه ربّما كان المكذّبون غير القاتلين، وقد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دلّ على استمرار مجئ الرسول، ونظيره قوله:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ) التغابن: ٦، وكذا قوله في قصص الأنبياء بعد نوح:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) يونس: ١٤، فإنّ مفاد قوله:( بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ ) بعثنا كلّ رسول إلى قومه.

٢١٦

٦ -: أنّ الباء في قوله:( بِمَا كَذَّبُوا ) سببية وما مصدريّة، والمراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كلّ حقّ واجههم، والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الّذي تقدّم منهم للرسل أو لكلّ حقّ، بربّهم.

وفيه: أنّه محجوج بنظير الآية وهو قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) فإنّ وجود ضمير( بِهِ ) فيه دليل على أنّ ما موصولة. على أنّ ظاهر الآية أنّ الباء للتعدية، و( بِمَا ) متعلّقة بقوله:( لِيُؤْمِنُوا ) على أنّه بوجه راجع إلى الوجه الأوّل.

٧ -: أنّ المراد بما أشير إليه آخراً تكذيبهم الّذي أسرّوه يوم الميثاق والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء في الدنيا بما كذّبوا به قبله يوم الميثاق.

وفيه أنّه معنى صحيح في نفسه غير أنّه من البطن دون الظهر الّذي عليه يدور التفسير، والدليل عليه قوله بعده:( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) فإنّه يصرّح بأنّ عدم إيمانهم كذلك إنّما كان بالطبع على قلوبهم، وإنّ الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة، والطبع لا يكون ابتدائيّا في الدنيا بل لجرم سابق فيها، وهذا أحسن شاهد على أنّ هذا التكذيب الّذي اُورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثمّ الطبع أوجب لهم أنّ لا يؤمنوا بما كذّبوا به من قبل.

وفي هذا المعنى آيات أخر تدلّ على أنّ الطبع والختم الإلهيّ إنّما هو عن جرم سابق دنيويّ، وليس مجرّد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنّه ممّا لا يليق به سبحانه البتّة، وقد قال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦.

قوله تعالى: ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ) إلى آخر الآية، قال في المجمع : من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال: فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد، وليس بحافظ للعهد (انتهى). ومن الجائز أن يراد بالعهد عهد الله الّذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الّذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ومن ناحية حاجة أنفسهم ودلالة عقولهم، قد ظهر معنى الاية ممّا تقدّم

٢١٧

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح اُخبره أنّي شاكّ وقد قال إبراهيم:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) فإنّي أحبّ أن تريني شيئاً من ذلك. فكتب إليه: أنّ إبراهيم كان مؤمناً وأحبّ أنّ يزداد إيماناً ، وأنت شاكّ والشاكّ لا خير فيه. وكتب: إنّما الشكّ ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشكّ.

وكتب: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) قال: نزلت في الشاكّ.

أقول: وانطباقه على ما مرّ في البيان السابق ظاهر، وقد روى ذيل الحديث العيّاشيّ عن الحسين بن الحكم الواسطيّ وفيه: نزلت في الشكّاك.

٢١٨

( سورة الأعراف آية ١٠٣ - ١٢٦)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ١٠٣ ) وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٠٤ ) حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ  قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٠٥ ) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٠٦ ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ١٠٧ ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( ١٠٨ ) قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ١٠٩ ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ  فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( ١١٠ ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ١١١ ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( ١١٢ ) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( ١١٣ ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ١١٤ ) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( ١١٥ ) قَالَ أَلْقُوا  فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( ١١٦ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ  فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ١١٧ ) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١١٨ ) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( ١١٩ ) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( ١٢٠ ) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٢١ ) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ١٢٢ ) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ١٢٣ ) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٢٤ ) قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ( ١٢٥ ) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا  رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( ١٢٦ )

٢١٩

( بيان)

شروع في قصص موسىعليه‌السلام ، وقد خصّ بالذكر منها مجيئه إلى فرعون ودعواه الرسالة إليه لنجاة بنى إسرائيل وإتيانه بالآيتين اللّتين آتاه الله إيّاهما ليلة الطور، وهذه القصّة هي الّتي تشتمل عليها هذه الآيات ثمّ إجمال قصّته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لإنجائهم، وما نزل على قوم فرعون من آيات الشدّة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثمّ تذكر قصّة نزول التوراة وعبادة بني إسرائيل العجل، ثمّ قصصاً متفرّقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) إلى آخر الآية. في تغيير السياق في أوّل القصّة دلالة على تجدّد الاهتمام بأمر موسىعليه‌السلام فإنّه من اُولي العزم صاحب كتاب وشريعة، وقد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللّتين قعطهما ببعثة نوح وإبراهيم (عليمها السلام) وفي لفظ الآيات شئ من الإشارة إلى تبدّل المراحل فقد قال تعالى أوّلاً :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) فجرى على سياق واحد لأنّ هوداً وصالحاً كانا على شريعة نوح، ثمّ غيّر السياق فقال:( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ) لأنّ لوطاً من أهل المرحلة الثانية في الدين وهي مرحلة شريعة إبراهيم، وكان لوط على شريعته ثمّ عاد إلى السياق السابق في بدء قصّة شعيب، ثمّ غيّر السياق في بدء قصّة موسى بقوله:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) لأنّه ثالث اُولي العزم صاحب كتاب جديد وشريعة جديدة، ودين الله وشرائعه وإن كان واحداً لا تناقض فيه ولا تنافي غير أنّه مختلف بالإجمال والتفصيل والكمال وزيادته بحسب تقدّم البشر تدريجاً من النقص إلى الكمال، واشتداد استعداده لقبول المعارف الإلهيّة عصراً بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علميّ هي أعلى المواقف

٢٢٠