الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 81451
تحميل: 4493


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81451 / تحميل: 4493
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فيختتم عند ذلك الرسالة والنبوّة، ويستقرّ الكتاب والشريعة استقراراً لا مطمع بعده في كتاب جديد أو شريعة جديدة ولا يبقى للبشر بعد ذلك إلّا التدرّج في الكمال من حيث إنتشار الدين وانبساطه على المجتمع البشريّ واستيعابه لهم، وإلّا التقدّم من جهة التحقّق بحقائق المعارف، والترقّي في مراقي العلم والعمل الّتي يدعو إليها الكتاب، ويحرّض عليها الشريعة والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.

فقوله تعالى:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا ) إلى آخر الآية. إجمال لقصّة موسىعليه‌السلام ثمّ يؤخذ في التفصيل من قوله:( وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ ) الآية، وإنّا وإن كنّا نسمّي هذه القصص بقصّة موسى وقصّة نوح وقصّة هود وهكذا فإنّها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الاُمم والاقوام الّذين اُرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الإنكار والردّ، وما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الإلهيّ الّذي أفنى جمعهم، وقطع دابرهم ولذلك ترى أنّ عامّة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب وهلاك القوم.

ولا تنس ما قدّمناه في مفتتح الكلام أنّ الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الإلهيّ المأخوذ منهم جميعاً ليكون إنذاراً للناس عامّة وذكرى للمؤمنين خاصّة، وأنّه الغرض الجامع بين ما في سورة( الم ) وما في سورة( ص ) من الغرض وهو الإنذارُ والذكرى.

فقوله:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم ) أي من بعد من ذكروا من الأنبياء وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيبعليهم‌السلام ( مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) إي إلى ملك مصر والاشراف الّذين حوله، و( فِرْعَوْنَ ) لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقّب بقيصر وكسرى وفغفور ملوك الروم وإيران والصين، ولم يصرّح القرآن، الكريم باسم هذا الفرعون الّذي اُرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.

وقوله:( بِآيَاتِنَا ) الظاهر أنّ المراد بها ما أتى به في أوّل الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، وإخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، والآيات الّتي أرسلها الله إليهم

٢٢١

بعد ذلك من الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصّلات، ولم ينقل القرآن الكريم لنبيّ من الأنبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسىعليه‌السلام .

وقوله:( فَظَلَمُوا بِهَا ) أي بالآيات الّتي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصّة، وظلم كلّ شئ بحسبه، وظلم الآيات إنّما هو التكذيب بها والإنكار لها.

وقوله:( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) ذكر عاقبة الإفساد في الاعتبار بأمرهم لأنّهم كانوا يفسدون في الأرض ويستضعفون بني إسرائيل، وقد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون:( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وفي سورة طه:( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ) طه: ٤٧.

قوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) شروع في تفصيل قصّة الدعوة كما تقدّمت الإشارة إليه، وقد عرّف نفسه بالرساله ليكون تمهيداً لذكر ما أرسل لأجله، وذكره تعالى باسمه ربّ العالمين أنسب ما يتصوّر في مقابلة الوثنيّين الّذين لا يرون إلّا أنّ لكلّ قوم إو لكلّ شأن من شؤون العالم وطرف من أطرافه ربّاً على حدة.

قوله تعالى: ( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ) إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حريّ بأن أقول قول الحقّ ولا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه وقوله:( قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدّم أو بالنسبة إلى قوله:( إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) لأنّه هو الأصل الّذي يتفرّع عليه غيره.

ولعلّ تعدية( حَقِيقٌ ) بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، والمعروف في اللغة تعدية حقيق بمعنى حريّ بالباء يقال: فلان حقيق بالإكرام أي حريّ به لائق.

وقرئ:( حَقِيقٌ عَلَىٰ ) بتشديد الياء والحقيق على هذا مأخوذ من حقّ عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب عليّ أن لا أقول على الله إلّا الحقّ فالحقيق خبر ومبتداه قوله:

٢٢٢

أن لا أقول، الآية والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الشرط في صدر الآية أعني قوله:( إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ ) يتضمّن صدقهعليه‌السلام فإنّه إذا كان جائياً بآية واقعاً فقد صدق في أخباره بأنّه قد جاء بآية لكنّ الشرط في ذيل الآية تعريض يومئ به إلى أنّه ما يعتقد بصدقه في أخباره بوجود آية معه فكأنّه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها وما أظنّك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط.

قوله تعالى: ( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) الفاء جوابيّة كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، وهذه هي فاء التفريع والجواب مستفاد من خصوصيّة المورد. والثعبان الحية العظيمة ولا تنافي بين وصفه ههنا بالثعبان المبين وبين ما في موضع آخر من قوله تعالى:( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ) القصص: ٣١، والجانّ هي الحيّة الصغيرة لاختلاف القصّتين كما قيل فإنّ ذكر الجانّ إنّما جاء في قصّة ليلة الطور وقد قال تعالى فيها في موضع آخر:( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ) طه: ٢٠، وأمّا ذكر الثعبان فقد جاء في قصّة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك.

قوله تعالى: ( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) إي نزع يده من جيبه على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) طه: ٢٢، وقوله:( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) القصص: ٣٢.

والأخبار وإن وردت فيها أنّ يدهعليه‌السلام كانت تضئ كالشمس الطالعة عند ارادة الاعجاز بها لكنّ الآيات لا تقصّ أزيد من أنّها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلّا أنّ كونها آية معجزة تدلّ على أنّها كانت تبيضّ ابيضاضاً لا يشكّ الناظرون في أنّها حالة خارقة للعادة.

قوله تعالى: ( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، وإنّما الّذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا كأنّهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضاً ويشير بعضهم إلى ما يراه ويصوّبه آخرون فيقدّمون ما صوّبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لمّا تشاوروا في أمر موسى وما شاهدوه من آياته المعجزة

٢٢٣

قالوا:( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) وإذا كان ساحراً غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنّما يتوسّل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل واستقلالهم في أمرهم ليتأيّد بهم ثمّ يخرجكم من أرضكم ويذهب بطريقتكم المثلى فماذا تأمرون به في إبطال كيده، وإخماد ناره الّتي أوقدها؟ أمن الواجب مثلاً أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟.

فاستصوبوا آخر الآراء، وقدموه إلى فرعون أن أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكلّ ساحر عليم.

ومن ذلك يظهر أنّ قوله تعالى:( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض وقوله:( قَالُوا أَرْجِهْ ) الخ، حكاية ما قدّموه من رأي الجميع إلى فرعون وقد اتّفقوا عليه، وقد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه قال تعالى:( قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ) الشعراء: ٣٧.

ويظهر ممّا في الموضعين أنّهم إنّما شاوروا حول ما قاله فرعون ثمّ صوّبوه ورأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره، وقد حكى الله أيضاً هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتّى بالّذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال:( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ ) طه: ٥٨، ولعلّّ ذلك محصّل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدّم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه.

وللملإ جلسة مشاورة اُخرى أيضاً بعد قدوم السحرة إلى فرعون ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات قال تعالى:( فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ ) طه: ٦٣.

فتبيّن أنّ أصل الكلام لفرعون ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه ويروا رأيهم فيما يفعل

٢٢٤

به فرعون فتشاوروا وصدّقوا قوله وأشاروا بالإرجاء وجمع السحرة للمعارضة فقبله ثمّ ذكره لموسى ثمّ اجتمعوا للمشاورة والمناجاة ثانياً بعد مجئ السحرة واتّفقوا أن يجتمعوا عليه ويعارضوه بكلّ ما يقدرون عليه من السحر صفّاً واحدا.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) أي يريد أن يتأيّد ببني إسرائيل فيتملّك مصر، ويبطل استقلالكم ويخرجكم من أرضكم، وكثيراً ما كان يتّفق في الاعصار السابقة أن يهجم قوم على قوم فيتغلّبوا عليهم فيشغلوا أرضهم ويتملّكوا ديارهم فيخرجوهم منها ويشرّدوهم في الأرض.

قوله تعالى: ( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) إلى آخر الآية التالية. أرجه بسكون الهاء أمر من الإرجاء بمعنى التأخير والهاء للسكت إي أخّره وأخاه ولا تعجل لهما بشرّ كالقتل ونحوه حتّى ترمى بظلم أو قسوة ونحوهما بل ابعث في المدائن من جنودك حاشرين يجمعون السّحرة فيأتوك بهم ثمّ عارض سحر موسى بسحر السحرة.

وقرئ: أرجه بكسر الجيم والهاء وأصله أرجئه قلبت الهمزة ياءً ثمّ حذفت، والهاء ضمير راجع إلى موسى، وأخوه هو هارونعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ) إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم وجاء السحرة كلّ ذلك محذوف للإيجاز.

وقولهم:( إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ) سؤال للأجر جئ به في صورة الخبر للتأكيد، وإفادةُ الطلب الإنشائيّ في صورة الإخبار شائع، ويمكن أن يكون استفهاماً بحذف أداته، ويؤيّده قراءه ابن عامر:( إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ) وقوله:( قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) إجابة لمسؤلهم مع زيادة وعدهم بالتقريب.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) خيّروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه وبين أن يكونوا هم الملقين لما أعدّوه من الحبال والعصيّ وهذا التخيير في مقام استعدّوا لمقابلته، ولا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالإلقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أوّلاً وإن شئت ألقينا حبالنا وعصّينا أوّلاً.

٢٢٥

وفيه نوع من التجلّد لدلالته على أنّهم لا يبالون بأمره سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أيّ حال لوثوقهم بأنّهم هم الغالبون ولا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدّب.

قوله تعالى: ( قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إلى آخر الآية، السحر ههنا نوع تصرّف في حاسّة الإنسان بإدراك أشياء لا حقيقة لها في الخارج وقد تقدّم الكلام فيه في تفسير قوله:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) البقرة: ١٠٢ في الجزء الأوّل من الكتاب، والاسترهاب الإخافة، ومعنى الآية ظاهر، وقد عدّ الله فيها سحرهم عظيما.

قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ ) إلى آخر الآيتين، أن تفسيريّة واللقف واللقفان تناول الشئ بسرعة، و الإفك هو صرف الشئ عن وجهه ولذا يطلق على الكذب، وفي الآية وجوه من الإيجاز ظاهرة، والتقدير: وأوحينا إلى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حيّة وإذا هي تلقف ما يأفكون.

وقوله:( فَوَقَعَ الْحَقُّ ) فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحقّ بشئ كأنّه معلّق لا يعلم عاقبة حاله أيستقرّ في الأرض بالوقوع عليها والتمكّن فيها أم لا؟ فوقع واستقرّ( وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من السحر.

قوله تعالى: ( فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ ) أي غلب فرعون وأصحابه( هُنَالِكَ ) أي في ذلك المجمع العظيم الّذي تهاجم عليهم فيه الناس من كلّ جانب ففي لفظ( هُنَالِكَ ) اشارة إلى ذلك وهو للبعيد،( وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ ) أي عادوا وصاروا أذلّاء مهانين.

قوله تعالى: ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ) أبهم فاعل الإلقاء في قوله:( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ) وهو معلوم فإنّ السحرة هم الّذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، وذلك للإشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم وإدهاشها إيّاهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية وظهورها عليهم إلّا وهم ملقون ساجدون فلم يدروا من الّذي أوقع بهم ذلك.

٢٢٦

فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، والإيمان بربّ العالمين الّذي اتّخذه موسى وهارون، وفي ذكر موسى وهارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان بربّ العالمين.

وربّما قيل: إنّ بينهم ربّ العالمين بربّ موسى وهارون لدفع توهّم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنّه كان يدعى أنّه ربّ العالمين فلمّا بيّنوه بقولهم( رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ) ولم يأخذا فرعون ربّاً اندفع ذلك التوهّم، ولا يخلو عن خفاء فإنّ الوثنيّة ما كانت تقول بربّ العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين ويدبّر أمر جميع أجزائها بالاستقامة بل قسموا أجزاء العالم وشؤونها بين أرباب شتّى، وإنّما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة وربّ الأرباب لا ربّ الأرباب ومربوبيها.

والّذي ادّعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات: ٢٤، إنّما هو العلوّ من جهة القيام بحاجة الناس - وهم أهل مصر خاصّة - عن قرب واتّصال لا من جهة القيام بربوبيّة جميع العالمين، ومع ذلك كلّه قد أحاطت الخرافات على الوثنيّة بحيث لا يستبعد أن يتفوّهوا بكون فرعون ربّ العالمين وإن خالف اُصول مذاهبهم قطعاً.

قوله تعالى: ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله:( آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) تأنّفاً واستكباراً، وهو إخبار يفيد بحسب المقام والإنكار والتوبيخ، ومن الجائز أن يكون استفهاماً إنكاريّاً أو توبيخيّاً محذوف الأداة.

وقوله :( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ) الآية يتّهمهم بالمواطاة والمواضعة في المدينة يريد أنّهم لمّا اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتّى فجاءوا بهم إليه ولقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون وأصحابه فيتسلّطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها، وذلك لأنّهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطؤا على شئ فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته.

أنكر عليهم إيمانهم بقوله:( آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ثمّ اتّهمهم بأنّهم

٢٢٧

تواطؤا جميعاً على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله:( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ ) الخ ليثبت لهم جرم الإفساد في الأرض المبيح له سياستهم وتنكيلهم بأشدّ العقوبات.

ثمّ هدّدهم بقوله:( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ثمّ بيّنه وفصله بقوله:( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) فهدّدهم تهديداً أكيداً أوّلاً بقطع الأيدي والأرجل من خلاف وهو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى وبالجملة قطع كلّ من اليد والرجل من خلاف الجهة الّتي قطعت منها الاُخرى.

وثانياً بالصلب وهو شدّ المجرم بعد تعذيبه على خشبة ورفع الخشبة باثبات جانبه على الأرض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة، وقد تقدّم تفصيل بينه في قصص المسيحعليه‌السلام في تفسير سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ) إلى آخر الآيات. جواب السحرة وهم القائلون هذا المقال وقد قابلوه بما يبطل به كيده، وتنقطع به حجّته، وهو أنّك تهدّدنا بالعذاب قبال ما تنقم منّا من الإيمان بربّنا ظنّاً منك أنّ ذلك شرّ لنا من جهة انقطاع حياتنا به وما نقاسيه من ألم العذاب، وليس ذلك شرّاً فإنّا نرجع إلى ربّنا، ونحيا عنده بحياة القرب السعيدة، ولم نجترم إلّا ما تعدّه أنت لنا جرماً وهو إيماننا بربّنا فما دوننا إلّا الخير.

وهذا معنى قوله:( قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ) وهو إيمان منهم بالمعاد( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ) وعدّوا أمر العصا - على الظاهر - آيات كثيرة لاشتماله على جهات كلّ منها آية كصيرورتها ثعباناً، ولقفها حبالهم وعصيّهم واحداً بعد واحد، ورجوعها إلى حالتها الاُولى.

والنقم هو الكراهة والبغض يقال : نقم منه كذا ينقم من باب ضرب وعلم: إذا كره وأبغض.

ثمّ أخذتهم الجذبة الإلهيّة من غير أن يذعروا ممّا هدّدهم به، واستغاثوا بربّهم على ما عزم به من تعذيبهم وقتلهم فسألوه تعالى قائلين:( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا - على ما

٢٢٨

يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد- وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) إن قتلنا.

وفي إطلاق الإفراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبّهوا نفوسهم بالآنية والصبر بالماء، وإعطاءه بإفراغ الإناء بالماء وهو صبّه فيه حتّى يغمره، وإنّما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب وألم ينزل بهم.

وقد جاؤا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون وهو الجبّار العنيد الّذي ينادي( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) ويعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته وسطوته فعربوا عن حجّتهم بقلوب مطمئنة، ونفوس كريمة، وعزم راسخ، وإيمان ثابت، وعلم عزيز، وقول بليغ، وإن تدبّرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم ومحاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة وفي سورتي طه والشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمّة، وحالات روحيّة شريفة، وأخلاق كريمة، ولولا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لأوردنا شذرة منها في هذا المقام فلينتظر إلى حين.

( بحث روائي)

ما قصّه الله في كتابه من قصّة مجئ موسى بما آتاه الله من الرساله، وأيّده به من آيتي العصا واليد البيضاء، ومعه أخوه هارون إلى فرعون وإتيانه بالآيتين ثمّ جمع فرعون للسحرة ومعارضته بسحرهم، وإظهار الله آية موسى على سحرهم، وإيمان السحرة لا يجاوز ما ذكر في هذه الآيات إجمالا.

وقد اشتملت الروايات الوارادة من طرق الشيعة أو طرق أهل السنّة على هذه المعاني غير أنّها تشتمل مع ذلك من تفاصيل القصّة على اُمور عجيبة لم يتعرّض لها كتاب الله كما ورد: أنّ عصا موسى كان من آس الجنّة، وأنّها كانت عصا آدم وصلت إلى شعيب ثمّ أعطاها موسى، وفي بعض الروايات أنّها كانت عصا آدم أعطاها ملك لموسى حين توجّه إلى مدين فكانت تضئ له باللّيل، ويضرب بها الأرض في النهار فيخرج له رزقه وفي بعضها: أنّها كانت تنطق إذا استنطقت، وكانت إذا صارت ثعباناً عند فرعون بعد ما بين لحييه اثنا عشر

٢٢٩

ذراعاً، وروي أربعون ذراعاً وفي بعضها ثمانون ذراعاً وأنّها ارتفعت في السماء ميلاً، وفي بعضها أنّها وضعت أحد مشفريها على الأرض والآخر على سور قصر فرعون، وفي بعضها : أنّها أخذت قبّة فرعون بين أنيابها، وحملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، وفي بعضها: أنّها كانت ثمانون ذراعاً، وفي بعضها: أنّها كانت في العظم كالمدينة، وفي الرواية: أنّ فرعون أحدث في ثيابه من هول ما رأى، وفي بعضها أنّه أحدث في ذلك اليوم أربع مأة مرّة، وفي بعضها: أنّه استمرّ معه داء البطن حتّى غرق، وفي الروايات أنّهعليه‌السلام كان إذا أخرج يده من جيبه كان يغلب نورها نور الشمس.

وفي الرواية: أنّ السحرة كانوا سبعين رجلا، وفي بعضها: ستّمأة إلى تسعمأة وفي بعضها: اثني عشر ألفا، وفي بعضها خمسة عشر ألفاً، وفي بعضها سبعة عشر ألفاً، وفي بعضها تسعة عشر ألفاً، وفي بعضها بضعة وثلاثين ألفاً، وفي بعضها سبعين ألفاً، وفي بعضها ثمانين ألفا.

وفي الرواية: أنّهم كانوا أخذوا السحر من رجلين مجوسيّين من أهل( نينوى) وفيها: أنّه كان اسم رئيسهم شمعون، وفي بعضها: يوحنّا، وفي بعضها أنّه كان لهم رؤساء أربعة أسماؤهم: سابور، وعازور، وحطحط، ومصفى.

وكذا ورد في نفس فرعون: أنّ اسمه الوليد بن المصعب بن الريّان، وأنّه كان من أهل اصطخر فارس، وفي بعضها: أنّه من أبناء مصر، وفي بعضها: أنّ فرعون هذا هو فرعون يوسف عاش أربعماة سنة ولم يشب ولا ابيضّ منه شعر.

وفي بعضها: أنّه بنى مدائن يتحصّن فيها من موسى، وجعل فيما بينها آجام وغياض، وجعل فيها الاُسد ليتحصّن بها من موسى فلمّا بعث الله موسى إلى فرعون دخل المدينة فلمّا رآه الاُسد تبصبصت وولّت مدبرة، ثمّ لم يأت مدينة إلّا انفتح له بابها حتّى انتهى إلى قصر فرعون الّذي هو فيه.

قال: فقعد على بابه، وعليه مدرعة من صوف ومعه عصاه فلمّا خرج الآذن قال : استأذن لي على فرعون فلم يلتفت إليه قال: فقال له موسى: أنا رسول ربّ العالمين فلم يلتفت إليه قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلمّا أكثر عليه قال: أما

٢٣٠

وجد ربّ العالمين من يرسله غيرك؟.

قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه وبين فرعون باب إلّا انفتح حتّى نظر إليه فرعون وهو في مجلسه فقال: أدخلوه قال: فدخل عليه وهو في قبّة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعاً فقال: أنا رسول ربّ العالمين إليك. قال: فقال: فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال: فألقى عصاه وكان له شعبتان. قال: فأذا هي حيّة قد وقع إحدى الشعبتين على الأرض والشعبة الاُخرى في أعلى القبّة. قال: فنظر فرعون جوفها وهي تلهب نيرأنا. قال: وأهوى إليه فأحدث وصاح يا موسى خذها.

إلى غير ذلك ممّا يشتمل عليه الروايات من العجائب في هذه القصّة وأغلبها اُمور سكت عنها القرآن لا سبيل إلى ردّ أغلبها إلّا الاستبعاد، ولا إلى قبولها إلّا حسن الظنّ بكلّ رواية مرويّة، وهي ليست بمتواتره ولا محفوفة بقرائن قطعيّة بل جلّها مراسيل أو موقوفة أو ضعيفة من سائر جهات الضعف على ما بينها من التعارض فالغضّ عنها أولى.

٢٣١

( سورة الأعراف آية ١٢٧ - ١٣٧)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ  قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( ١٢٧ ) قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا  إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ١٢٨ ) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا  قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( ١٢٩ ) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣٠ ) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ  وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ  أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣١ ) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( ١٣٢ ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( ١٣٣ ) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ  لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٣٤ ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( ١٣٥ ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( ١٣٦ ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا  وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا  وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( ١٣٧ )

٢٣٢

( بيان)

الآيات تشتمل على إجمال ما جرى بينهعليه‌السلام وبين فرعون وقومه أيّام إقامة موسى بينهم بعد القيام بالدعوة يدعوهم إلى الله وإلى إطلاق بني إسرائيل ويأتيهم بالآية بعد الآية حتّى أنجاه الله تعالى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده، واُورث بني إسرائيل الأرض المباركة مشارقها ومغاربها.

قوله تعالى: ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ ) إلى آخر الآية. هذا إغراء منهم لفرعون وتحريض له أن يقتل موسى وقومه، ولذلك ردّ فرعون قولهم بأنّه لا يهمّنا قتلهم فإنّا فوقهم قاهرون على أيّ حال بل سنعيد عليهم سابق عذابنا فنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم، ولو كان ما سألوا مطلق تعذيبهم غير القتل لم يقع قوله:( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) موقعه ذلك الوقوع.

وقولهم:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) تأكيد لتحريضهم إيّاه على قتلهم، والمعنى أنّ موسى يتركك وآلهتك فلا يعبدكم مع ما يفسد هو وقومه في الأرض وفيه دلالة على أنّ فرعون كما كان يدّعى الاُلوهيّة، ويستعبد الناس لنفسه كان يعبد آلهة أخرى، وهو كذلك والتاريخ يثبت نظائر لذلك في الاُمم السالفة، وقد نقل: أنّ عظماء البيوت وسادات القوم في الروم وممالك اُخرى غيرها كان يعبدهم مرؤسوهم من بيتهم وعشائرهم وهم أنفسهم كانوا يعبدون آباءهم الأوّلين وأصناماً اُخرى غيرهم كما يعبدهم ضعفاؤهم، وأيضاً بين الأرباب الّتي تعبدها الوثنيّة ما هو ربّ لغيره من الأرباب أو ربّ لربّ آخر كربوبيّة الأب والاُمّ للابن وغير ذلك.

إلّا أنّ قوله لقومه فيما حكاه الله سبحانه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات: ٢٤، وقوله:( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) القصص: ٣٨، ظاهر في أنّه كان لا يتّخذ لنفسه

٢٣٣

ربّاً، وكان يأمر قومه أن لا يعبدوا إلّا إيّاه، ولذلك قال بعضهم: إنّه كان دهريّاً لا يعترف بصانع ويأمر قومه بترك عبادة الآلهة مطلقاً، وقصر العبادة فيه، ولذلك قرأ بعضهم - على ما قيل -( وَآلِهَتَكَ ) بكسر الهمزة وفتح اللام وإثبات الألف بعدها كالعبادة وزناً ومعنى.

لكنّ الأوجه أنّه كان يريد بقوله:( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) نفى إله يخصّ قومه القبطيّين يملكهم ويدبّر اُمورهم غير نفسه كما هو المعهود من عقائد الوثنيّين أنّ لكلّ صنف من أصناف الخلائق كالسماء والأرض والبرّ والبحر وقوم كذا، أو من أصناف الحوادث والاُمور كالسلم والحرب والحبّ والجمال ربّاً على حدة، وإنّما كانوا يعبدون من بينها ما يهمّهم عبادته كعبادة سكّان سواحل البحار ربّ البحر والطوفان.

فمعنى كلامه أنّي أنا ربّكم معاشر القبطيّين لا ما اتّخذه موسى وهو يدّعي أنّه ربّكم أرسله إليكم، ويؤيّد ما ذكرناه ما احتفّ به من القرينة بقوله:( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) فإنّه تعالى يقول:( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) القصص: ٣٨، فظاهرها أنّه كان يشكّ في كونه إلهاً لموسى، وأنّ معنى قوله:( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) نفي العلم بوجود إله غيره لا العلم بعدم وجود إله غيره، وبالجملة فكلامه لا ينفي إلهاً غيره.

وأمّا احتمال كون فرعون دهريّاً غير قائل بوجود الصانع فالظاهر أنّه الّذي يوجد في كلام الرازيّ قال في التفسير الكبير ما لفظه:

الّذي يخطر ببالي أنّ فرعون إن قلنا: إنّه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات والأرض، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأنّ فساده معلوم بضرورة العقل.

بل الأقرب أن يقال: إنّه كان دهريّاً ينكر وجود الصانع، وكان يقول: مدبّر هذا العالم السفليّ هو الكواكب، وأمّا المجدي في هذا العالم للخلق ولتلك الطائفة والمربّي

٢٣٤

لهم فهو نفسه فقوله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) أي مربّيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم، وقوله:( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلّا أنا.

و إذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنّه كان قد اتّخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها ويتقرّب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب انتهى.

وقد أخطأ في ذلك فليس معنى الاُلوهيّة والربوبيّة عند الوثنيّين وعبدة الكواكب خالقيّة السماوات والأرض بل تدبير شئ من اُمور العالم كما احتمله خيراً، ولا في الدهريّين من يعبد الكواكب، ولا في الصابئين وعبدة الكواكب من ينكر وجود الصانع.

بل الحقّ أنّ فرعون - كما تقدّم - كان يرى نفسه ربّاً لمصر وأهله، وكان إنّما ينكر كونهم مربوبي إله آخر على قاعدتهم لا أنّهم أو غيرهم من العالم ليسوا مخلوقين لله سبحانه.

وقوله تعالى( قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) وعد منه للملإ من قومه أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق وهو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم واستبقاؤهنّ للخدمة، وعقبه بقوله:( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) وهو تطييب قلوبهم وإسكان ما في نفوسهم من الاضطراب والطيش.

قوله تعالى: ( قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ) إلى آخر الاية. وهذا من موسىعليه‌السلام بعثٌ لبني إسرائيل واستنهاض لهم على الاستعانة بالله على مقصدهم وهو التخلّص من إسارة آل فرعون واستعبادهم ثمّ بعث على الصبر على شدائد يهدّدهم بها فرعون من ألوان العذاب، والصبر هو رائد الخير وفرط كلّ فرج، ثمّ علل ذلك بقوله:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ ) .

ومحصّله أنّ فرعون لا يملك الأرض حتّى يمنحها من يشاء، ويمنع من التمتّع بها من يشاء بل هي لله يورثها من يشاء وقد جرت السنّة الإلهيّة أن يخصّ بحسن

٢٣٥

العاقبة من يتّقيه من عباده فإنّ استعنتم بالله وصبرتم في ذات الله على ما يهدّدكم من الشدائد - وهو التقوى - اُورثكم الأرض الّتي ترونها في أيدي آل فرعون.

ولذلك عقّب قوله:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ) الآية بقوله:( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) العاقبة ما يعقّب الشئ كالبادئة لما يبدء بالشئ، وكون العاقبة مطلقاً للمتّقين من جهة أنّ السنّة الإلهيّة تقضي بذلك وذلك أنّه تعالى نظم الكون نظماً يؤدّى كلّ نوع إلى غاية وجوده وسعادته الّتي خلق لأجلها فإن جرى على صراطه الّذي ركب عليه، ولم يخرج عن خط مسيره الّذي خط له بلغ غاية سعادته لا محالة، والإنسان الّذي هو أحد هذه الأنواع أيضاً حالة هذا الحال أنّ جرى على صراطه الّذي رسمته له الفطرة واتّقى الخروج عنه والتعدّي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته والإفساد في أرضه هداه الله إلى عاقبته الحسنة، وأحياه الحياة الطيّبة، وأرشده إلى كلّ خير يبتغيه.

قوله تعالى:( قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) الإتيان والمجئ في الآية بمعنى واحد، والاختلاف في التعبير للتفنّن، وما قيل إنّ المعنى من قبل أن تأتينا بالآيات ومن بعد ما جئتنا لا دليل على ما فيه من التقدير. على أنّ غرضهم إظهار أنّ مجئ موسى وقد وُعدوا أنّ الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة وهاوية المذلّة لم يؤثّر أثره فإنّ الأذى الّذي كانوا يحمّلونه ويؤذون به على حاله، ولا تعلّق لغرضهم بأنّه أتاهم بالآيات البتّة. وهذا الكلام شكوى منهم يبثّونها إلى موسىعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) وهذا جواب من موسى عن قولهم:( أُوذِينَا ) الخ، يسلّيهم به ويعزّيهم بالرجاء وهو في الحقيقة تكرار لقوله السابق:( استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله ) الآية. كأنّه يقول: ما أمرتكم به أن اتّقوا الله في سبيل مقصدكم كلمة حيّة ثابتة فإن عملتم بها كان من المرجوّ أن يهلك الله عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إيّاها ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاءً جزافاً، ولا يكرمكم إكراماً مطلقاً من غير شرط ولا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف فينظر كيف تعملون، قال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ )

٢٣٦

آل عمران: ١٤٠.

وهذا ممّا يخطّئ به القرآن ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلاً، ولا تحتمل شرطاً ولا قيداً، والتوراة تعدّ شعب إسرائيل شعب الله الّذي لهم الأرض المقدّسة كأنّهم ملكوها من الله سبحانه ملكاً لا يقبل نقلاً ولا إقالة.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ ) السنون جمع سنة وهي القحط والجدب، وكأنّ أصله سنة القحط ثمّ قيل: السنة إشارة إليها ثمّ كثر الاستعمال حتّى تعيّنت السنة لمعنى القحط والجدب.

والله سبحانه يذكر في الآية - ويقسم - أنّه أخذ آل فرعون وهم قومه المختصّون به من القبطيّين بالقحوط المتعدّدة ونقص من الثمرات لعلّهم يذّكّرون.

وهما نوعان من الآيات الّتي أرسلها الله إلى آل فرعون، وظاهر السياق أنّه أرسل ما أرسل منهما فصلاً فصلاً، ولذا جمع السنين ولا يصدق الجمع إلّا مع الفصل بين سنة وسنة. على أنّه يقول:( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ) الآية وظاهره الحسنة الّتي بعد السيّئة ثمّ السيّئة الّتي بعد هذه الحسنة.

قوله تعالى: ( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ) إلى آخر الآية. كانوا إذا جاءهم الخصب ووغفور النعمة وسعة الرزق بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات قالوا:( لَنَا هَذِهِ ) يريدون به الاختصاص وإنّما قلنا: إنّهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات لأنّ الإنسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة، ولا يتنبّه لقدرها إلّا بعد مشاهدة النقمة الّتي هي خلافها، ولا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة وتخصيصها بأنفسهم لولا أنّهم رأوا خلافها وعدّوه أمرا بدعاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطّيّروا بموسى ومن معه ثمّ إذا بدّلت السيّئة حسنة عدوّها لأنفسهم فالتطيّر عند السيّئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة: لنا هذه وإن كان الأمر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنّهم لولم يزعموا ولم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية ووفور النعمة والخصب أنّهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيّروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإنّ من لم تروّحه الراحة والعافية لا يتحرّج عن خلافهما.

٢٣٧

ولعلّ هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيّرهم عند النقمة ثمّ ذكر الحسنة بكلمة( إِذَا ) والسيّئة بلفظة( إِن ) حيث قال:( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ) فقد جعل مجئ الحسنة كالأصل الثابت فذكره بإذا والتعريف بلام الجنس، ثمّ ذكر إصابه السيّئة بطريق الشرط، ونكر السيّئة ليدلّ على ندرتها وكونها اتّفاقيّة.

والتطيّر مشتقّ من الطيّر باعتبار اشتماله على نسبة من النسب، وهي نسبة التشؤّم فإنّهم كانوا يتشأمّون ببعض الطيور كالغراب فاشتقّ منه ما يفيد معنى التشؤّم وهو التطيّر ومعناه التشؤّم بالطير حتّى سمّي مطلق النصيب أو النصيب من الشرّ والشأمة طائراً.

فقوله تعالى:( أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) معناه أن نصيبهم من الشرّ والشؤم الّذي يحقّ به أن يسمّى نصيب الشرّ وهو العذاب، هو عند الله، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون لظنّهم أنّ ما تجنيه أيديهم يفوت ويزول ولا يحفظ عليهم.

وربّما يذكر للطائر في الآية معان اُخر ككتاب الأعمال الّذي سمّاه الله طائراً وغير ذلك لكنّ الأنسب بالسياق هو الّذي تقدّم.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) مهما من أسماء الشرط معناه أيّ شئ، وقولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به وإن أتى بأيّ آية وفي قولهم:( مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا ) استهزاء به حيث سمّوها آية وجعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي إنّك تأتينا بالسحر وتسمّيها آية.

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ ) الآية. الطوفان على ما قاله الراغب - كلّ حادثة تحيط بالإنسان، وصار متعارفاً في الماء المتناهي في الكثرة، وفي المجمع: أنّه السيل الّذي يعمّ بتغريقه الأرض وهو مأخوذ من الطوف فيها (انتهى).

والقمّل بالضمّ والتشديد قيل: كبار القردان، وقيل: صغار الذباب وبالفتح فالسكون معروف، والجراد والضفادع والدم معروفة.

والتفصيل تفريق الشئ إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض، ولازم ذلك

٢٣٨

تميّز كلّ بعض وظهوره في نفسه فقوله:( آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ ) يدلّ على أنّها أرسلت إليهم لا مجتمعة ودفعة بل متفرّقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهره في أنّها آيات إلهيه مقصودة غير اتّفاقيّة ولا جزافيّة.

ومن الدليل على كون المفصّلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية:( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا ) الآية. الظاهر أنّ الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى وإنذار ثمّ إذا نزلت بهم ودهمتهم التجؤوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم، وأعطوه عهداً إن كشفت عنهم آمنوا به وأرسلوا معه بني إسرائيل فلمّا كشفت نكثوا ونقضوا وعلى هذا القياس.

قوله تعالى:( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ) إلى آخر الآية. الرجز هو العذاب ويعني به العذاب الّذي كانت تشتمل عليه كلّ واحدة من الآيات المفصّلات فإنّها آيات عذاب ونكال وقوله:( بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ) على ما يؤيّده المقام أي بما التزم عندك أن لا يردّ دعاءك فيما تسأله، واللام عندئذ للقسم، والمعنى ادع لنا ربّك بالعهد الّذي له عندك.

وقوله:( لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) هو ما عاهدوا به موسى لكشف الرجز عنهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) النكث نقض العهد، وقوله:( إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ ) متعلّق بقوله:( كَشَفْنَا ) وهو يدلّ على أنّه كان يضمّ إلى معاهدة أجل مضروب كان يقول موسىعليه‌السلام إنّ الله سيرفع العذاب عنكم بشرط أن تؤمنوا وترسلوا معى بني إسرائيل إلى أجل كذا، أو يقول آل فرعون ما يشابه هذا المعنى فلمّا كشف العذاب عنهم وحلّ الأجل المضروب نكثوا ونقضوا عهدهم الّذي عاهدوا الله وعاهدوا موسى عليه والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) اليمّ البحر والباقي ظاهر.

قوله تعالى : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ) إلى

٢٣٩

آخر الآية. الظاهر أنّ المراد بالأرض أرض الشام وفلسطين يؤيّده أو يدلّ عليه قوله بعد:( الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) فإنّ الله سبحانه لم يذكر بالبركة غير الأرض المقدّسة الّتي هي نواحي فلسطين إلّا ما وصف به الكعبة المباركة، والمعنى: اُورثنا بني إسرائيل وهم المستضعفون الأرض المقدّسة بمشارقها ومغاربها، وإنّما ذكرهم بوصفهم فقال: القوم الّذين كانوا يستضعفون ليدلّ على عجيب صنعه تعالى في رفع الوضيع، وتقوية المستضعف، وتمليكه من الأرض ما لا يقدر على مثله عدّة الّا كلّ قويّ ذو أعضاد وأنصار.

وقوله:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ ) الآية يريد به ما قضاه في حقّهم أنّه سيورثهم الأرض ويهلك عدوّهم، وإليه اشارة موسىعليه‌السلام في قوله لهم وهو يسلّيهم ويؤكّد رجاءهم:( عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) ويشير سبحانه إليه في قوله:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) القصص: ٥، وتمام الكلمة خروجها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة، وعلّل ذلك بصبرهم.

وقوله:( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ) الآية. أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه وما كانوا يسقّفونه من القصور والأبنية وما كانوا يعرشونه من الكرم وغيره.

( بحث روائي)

في المجمع: قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمّد بن إسحاق بن بشّار، ورواه عليّ بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليه‌السلام - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: لمّا آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً وأبى هو وقومه إلّا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون: إنّ الناس قد آمنوا بموسى فأنظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كلّ من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات، وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات.

ثمّ بعث عليهم الطوفان فخرّب دورهم ومساكنهم حتّى خرجوا إلى البريّة وضربوا

٢٤٠