الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 81458
تحميل: 4493


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81458 / تحميل: 4493
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من أوضح ما تستلزمه الاُلوهيّة من الصفات عند من يتّخذ شيئاً إلهاً إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه ويسلك إليه من طريق يوصل إليه، ولا يعلم ذلك إلّا من قبل الاله بوجه فهو الّذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم والتفهيم، وقد رأوا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا.

على أنّهم عهدوا من موسى أنّ الله سبحانه يكلّمه ويهديه، ويكلّمهم ويهديهم بواسطته، وقد قالوا حين أخرج السامريّ لهم العجل:( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ ) طه: ٨٨، فلو كان العجل هو الّذي أو مأ إليه السامريّ لكلّمهم وهداهم سبيلا.

وبالجملة فقد كان من الواضح البيّن عند عقولهم لو عقلوا أنّه ليس هو، ولذلك أردفه بقوله:( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ) كأنّه قيل: فلم اتّخذوه وأمرُه بذاك الوضوح؟ فقيل:( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: معنى( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده ممّا كان خفي عليه، ويقال: سقط في يده، واُسقط في يده وبغير ألف أفصح، وقيل معناه صار الّذي يضرّ به ملقى في يده (انتهى).

وقد ذكر في مطوّلات التفاسير وجوه كثيرة توجّه بها هذه الجملة، جلّها أو كلّها لا تخلو من تعسّف، وأقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع منقولاً عن بعضهم فإنّ ظاهر سياق الآية أنّ المراد بقوله:( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ) أنّهم لمّا التفتوا إلى ما فعلوه وأجالوا النظر فيه دقيقاً ثانياً ورأوا عند ذلك أنّهم قد ضلّوا قالوا: كذا وكذا فالجملة تفيد معنى التنبّه لما ذهلوا عنه والتبصّر بما أغفلوه كأنّهم عملوا شيئاً فقدّموه إلى ما عملوا له فردّه إليهم ورمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنّهم ضلّوا فيما زعموا، وأهملوا فيه أمراً ما كان لهم أن يهملوه، وفات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، وعلى أيّ حال تجري الجملة مجرى المثل السائر.

والآية أعني قوله( وَلَمَّا سُقِطَ ) بحسب المعنى مترتّب على الآيات التالية فإنّهم إنّما تبيّنوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصّل ذلك سورة طه لكنّه سبحانه

٢٦١

كأنّه قدّم الآية لأنّها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا وتحسّرهم ممّا فات منهم، وقد أظهروا ذلك بقولهم:( لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) والأحرى بالندامة والحسرة أن يذكرا مع ما تعلّقنا به من غير فصل طويل، ولذا لمّا ذكر اتّخاذهم العجل في الآية الاُولى وصله بندامتهم وحسرتهم في الآية الثانية.

ولأنّ ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه وأخيه ففصّل بينه وبين هذا الّذي هو صورة دعاء.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) إلى آخر الآية الأسف بكسر السين صفة مشبّهة من الأسف وهو شدّة الغضب والحزن والخلافة القيام بالأمر بعد غيره، والعجلة طلب الشئ وتحريّه قبل أوأنّه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمراً كذا أي طلبته قبل أوانه الّذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: ولمّا رجع موسى إلى قومه وهو في حال غضب وأسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأنّ قومه ضلّوا بعبادة العجل بعده فوبّخهم وذمّهم بما صنعوا وقال: بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم وطلبتموه قبل بلوغ أجله، وهو أمر من بيده خيركم وصلاحكم ولا يجري أمراً إلّا على ما يقتضيه حكمته البالغة، ولا يؤثّر فيه عجلة غيره ولا طلبة ولا رضاه إلّا بما شاء، والظاهر أنّ المراد بأمر ربّهم أمره الّذي لأجله واعد موسى لميقاته، وهو نزول التوراة.

وربّما قيل: إنّ معنى( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربّكم؟ وقيل: المعنى استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته فلمّا لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ وقيل: المعنى أعجلتم عمّا أمركم به ربّكم وهو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أنّ الميقات قد بلغ آخره ولم يرجع إليكم فغيّرتم هذا، وما قدّمناه من الوجه أنسب بالسياق.

وبالجملة اشتدّ غضب موسىعليه‌السلام لمّا شاهد قومه ووبّخهم وذمّهم بقوله:( بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) وهو استفهام إنكاريّ -( وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ) وهي ألواح التوراة( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ) قابضاً على شعره( يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) وقد قال له - فيما

٢٦٢

حكى الله في سورة طه:( يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (١) ؟.

( قال ) هارون يا( ابن اُمّ ) وإنّما خاطبه بذكر اُمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق وتهييج الرحمة( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) لما خالفتهم في أمر العجل ومنعتهم عن عبادته( فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) بحسباني كأحدهم في مخالفتك، وكان ممّا قال له - على ما حكاه الله في سورة طه - إنّي خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي(٢) .

وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصّة أنّ موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنّه غضب عليه حسباناً منه أنّه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أنّ الصلاح في ذلك مع أنّه وصّاه عند المفارقة وصيّة مطلقة بقوله:( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشيّة بين نبيّين معصومين لا دليل على منعه، وإنّما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها.

وكذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجرّه إليه كأنّه مقدّمة لضربه حسباناً منه أنّه استقلّ بالرأي زاعماً المصلحة في ذلك وترك أمر موسى فما وقع منه إنّما هو تأديب في أمر إرشاديّ لا عقاب في أمر مولويّ وإن كان الحقّ في ذلك مع هارون، ولذلك لمّا قصّ عليه القصص عذّره في ذلك، ودعا لنفسه ولأخيه بقوله ربّ اغفرلي ولأخي الخ.

وقد وجّه قوله:( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) بوجوه اُخر:

الأوّل: أنّ موسى إنّما فعل ذلك مستعظماً لفعلهم مفكّراً فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد وشدّة الغضب فيقبض على لحيته ويعضّ على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب والأسف.

الثاني: أنّه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا

____________________

(١) سورة طه: ٩٢.

(٢) طه: ٩٤.

٢٦٣

وإليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.

الثالث: أنّه إنّما جرّه إلى نفسه ليناجيه ويستفسر حال القوم منه، ولذلك لمّا ذكر هارون ما ذكر، قبله منه ودعا له.

الرابع: أنّه لمّا رأى أنّ بهارون مثل ما به من الغضب والأصف أخذ برأسه متوجّعاً له مسكّناً لما به من القلق فكره هارون أن يظنّ الجهال أنّه استخفاف وإهانة فأظهر براءة نفسه ودعا له أخوه وجلّ هذه الوجوه أو كلّها لا تلائم سياق الآيات.

وقوله في صدر الآية( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) يدلّ على أنّه كان عالماً بأمر ارتداد قومه من قبل، وهو كذلك فإنّ الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له وهو في الميقات: فإنّا قد فتّنا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ(١) .

وإنّما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتدّ عليهم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه كلّ ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربّه، وإخبار الله سبحانه أصدق من الحسّ لأنّ الحسّ يصدق ويكذب، والله سبحانه لا يقول إلّا الحقّ.

وذلك لأنّ للعلم حكماً وللمشاهدة حكماً آخر، والغضب هيجان القوّة الدافعة للدفع أو الانتقام، ولا يتحقّق مورد للدفع والانتقام بمجرّد تحقّق العلم لكنّ الحسّ والمشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتّى منه الدفع والانتقام بالقول والفعل، ولا يؤثّر العلم قبل المشاهدة إلّا حزناً وغمّاً ونظير ذلك بالمقابلة أنّك لو بشّرت بقدوم من تحبّه وتتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقّق البشرى حال وهو الفرح، وعند لقاء الحبيب حال آخر وحكم جديد، وكذا إذا شاهدت أمراً عجيبا وأنت وحدك كان حكمه التعجّب، وإذا شاهدته ومعك غيرك تعجّبت وضحكت، وله نظائر اُخر.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ) الآية دعاء منهعليه‌السلام وقد تقدّم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أنّ المغفرة أعمّ مورداً من المعصية.

____________________

(١) طه: ٨٥.

٢٦٤

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) الآية تنكير الغضب وكذا الذلّة للإشعار بعظمتهما وقد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه وذلّة الحياة فلم يبيّن ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود ونسفه في اليمّ نسفاً وطرد السامريّ وقتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلّة والمسكنة والقتل والإبادة والإسارة، ويمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة وذلّة الدّنيا.

وكيف كان فذيل الآية:( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) بظاهره يدلّ على أنّ ذلك أعني نيل غضب الرّب سبحانه وذلّة الحياة الدنيا سنّة جارية إلهيّة في المفترين على الله وهذا الّذي يدلّ عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقليّة أيضاً كما مرّ مراراً.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ضمير( مِن بَعْدِهَا ) الأوّل راجع إلى السيّئات، والثاني إلى التوبة، ومعنى الآية ظاهر.

والآية وإن كانت في نفسها عامّة لكنّها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الّذين اتّخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحقّقت بحقيقة معناها في أيّ سيّئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ) الآية :النساء: ١٧.

وهذه الآية والّتي قبلها معترضتان في القصّة، ووجه الخطاب فيهما إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدليل على ذلك قوله في الآية الاُولى:( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) وفي الآية الثانية:( إِنَّ رَبَّكَ ) الآية وظاهر السياق أنّ الكلام فيهما جارٍ على حكاية الحال الماضية بدليل قوله:( سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ ) .

قوله تعالى: ( وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ) الآية الرهبة هي خوف مع تحرّز: والباقي ظاهر .

٢٦٥

( بحث روائي)

في الدّر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر و ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط، وكان الكفّار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) إنّكم تركبون سنن الّذين قبلكم.

أقول: ورواها أيضاً بطرق اُخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جدّه أنّ رجلاً قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك، وفيها: أنّها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسمّيت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله.

وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ) الآية عن محمّد بن شهر آشوب: أنّ رأس الجالوت قال لعليعليه‌السلام : لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف ! فقال عليّعليه‌السلام : وأنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم:( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )

وفي تفسير العيّاشيّ عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ موسى لمّا خرج وافداً إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوماً فلمّا زاد الله على الثلاثين عشراً قال قومه: أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا.

وفي الدّر المنثور: أخرج البزّاز وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقيّ في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا كلّم الله موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الّذي كلّمه يوم ناداه فقال له موسى: يا ربّ أهذا كلامك الّذي كلّمتني به؟ قال: يا موسى إنّما كلّمتك بقوّة عشرة آلاف لسان ولي قوّة الألسن كلّها وأقوى من ذلك.

٢٦٦

فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمان فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق الّذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه؟ فذاك قريب منه وليس به.

أقول: أمّا ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب وليس به بأس، وأمّا صدره ففيه خفاء ولعلّ المراد بقوّة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوّة التفهيم لو تأيّد بعضها ببعض فإنّ ألسن الناس مختلفة في قوّة التفهيم فالمراد أنّ ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم والكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض.

وعلى هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله:( كلّمه بغير الكلام الّذي كلّمه يوم ناداه) التفاوت من حيث كيفيّة التفهيم.

وفي المعاني بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المرويّ: أنّ رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه؟ على أيّ صورة رآه؟ وفي الخبر الّذي رواه أنّ المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة؟ على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّم ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة وثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمة ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته. ثمّ قال: يا معاوية إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهده العيان، وإنّ الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كذب وكفر بالله وآياته لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شبّه الله بخلقه فقد كفر.

ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن عليّعليه‌السلام قال: سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربّك؟ فقال: لم أعبد ربّاً لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان.

وإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإنّ كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق من خالق فقد جعلته إذاً محدثاً مخلوقا، ومن شبّهه بخلقه فقد اتّخذ مع الله شريكاً.

٢٦٧

ويلهم ألم يسمعوا لقول الله تعالى:( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) وقوله لموسى:( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) وإنّما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض، وصعقت الجبال، وخرّ موسى صعقاً أي ميّتاً( فَلَمَّا أَفَاقَ ) وردّ عليه روحه( قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) من قول من زعم أنّك ترى ورجعت إلى معرفتي بك: أنّ الأبصار لا تدركك( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) بأنّك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى (الحديث).

وفي التوحيد بإسناده عن عليّعليه‌السلام في حديث: وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزّوجلّ:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً، وسأل أمراً جسيما فعوتب فقال الله عزّوجلّ( لَن تَرَانِي ) في الدنيا حتّى تموت وتراني في الآخرة، ولكن إن أردت أن تراني( انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) فأبدا الله بعض آياته وتجلّى ربّنا للجبل فتقطّع الجبل فصار رميما( وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) ثمّ أحياه الله وبعثه فقال:( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني أوّل من آمن بك منهم بأنّه لا يراك.

أقول: الروايتان - كما ترى - تؤيّدان ما تقدّم في البيان السابق، ويتحصّل منهما:

* أوّلاً: أنّ السؤال إنّما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأيّ وجه تصوّر، وحاشا مقام الكلّيمعليه‌السلام أن يجهل من ساحة ربّه المنزّهه ما هو من البداهة على مكان وهو يسمّي القوم الّذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربّه:( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) الأعراف: ١٥٥، فكيف يقدّم هو نفسه على ما سمّاه سفها؟.

وقد كان النزاع والمشاجرة في الصدر الأوّل وخاصّة في زمان الصادقين إلى زمان الرضاعليهم‌السلام في المسألة بالغاً أوج شدّته ينكرها المعتزلة مطلقا ويثبتها الأشاعرة في الآخرة وهناك طائفة اُخرى تثبتها في الدنيا والآخرة جميعاً، والفريقان جميعاً يستدلّان بالآية ولم

٢٦٨

تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهراً إلّا بسيوف آل أيّوب الّتي أبادت المعتزلة وألحقت طالعهم بغاربهم.

و جملة احتجاج المعتزلة، أنّهم كانوا يستدلّون بقوله في الآية:( لَن تَرَانِي ) و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل والنقل، ويؤولون ما يدلّ على جوازها من الآيات والروايات، وجملة احتجاج الاشاعرة أنّهم كانوا يستدلّون بالتنظير الواقع في الآية بقوله:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) الآية وبما في غيرها من الآيات وبعض الروايات من جوازها في الآخرة، ويؤولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الابحاث الكلاميّة عندهم وربّما استدلّ لذلك بأنّه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصريّة في الجسمانيّات فمن الجائز أن يتعلّق بغير الاُمور المادّيّة. وبأنّ الإبصار يتعلّق بالجوهر والعرض، ولا جامع بينهما إلّا الموجود المطلق فكلّ موجود يمكن أن يتعلّق به الإبصار وإن لم يكن جسماً أو جسمانيّا.

وقد اتّضح بطلان هاتين الحجّتين وما يسانخهما من الحجج والأقاويل في هذه الأزمنة اتّضاحاً كاد يلحقّ بالبديهيّات.

وعلى أيّ حال لا يهمّنا إيراد ما أوردوه من الجنبين من نقض وإبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلاميّة ومطوّلات تفاسير الفريقين.

والّذي تحصّل من سابق بحثنا - أوّلا - أنّ الرؤية البصريّة سواء كانت على هذه الصفة الّتي هي عليها اليوم أو تحوّلت إلى أيّ صفة اُخرى هي معها مادّيّة طبيعيّة متعلّقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادّيّة طبيعيّة فإنّها مستحيلة التعلّق بالله سبحانه في الدنيا والآخرة، وعليه يدلّ البرهان وما ورد من الآيات والروايات في نفي الرؤية. نعم هناك علم ضروريّ خاصّ يتعلّق به تعالى غير العلم الضروريّ الحاصل بالاستدلال تسمّى رؤية، و إيّاه تعني الآيات والرّوايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، وموطن هذه المعرفة الآخرة.

و - ثانياً - أنّ قوله تعالى:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) الآية اجنبيّة أصلاً عن الرؤية البصريّة الحسّيّة إثباتاً ونفياً وسؤالاً وجواباً، وإنّما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى

٢٦٩

الآخر الّذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات.

وقد روى الصدوق في العيون فيما سأله المأمون عن الرضاعليه‌السلام أنّه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أنّ موسى إنّما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنّهم لمّا قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثمّ أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فردّ عليهم بالإستحالة فأصرّوا عليه فقال:( رَبِّ أَرِنِي ) أي على ما يقترحه عليّ قومي.

والرواية كما أشرنا إليه في أخبار جنّة آدم ضعيفة السند على أنّها لا توافق الاصول المسلّمة في أخبار أئمّة إهل البيتعليهم‌السلام فإنّ أخبارهم وخاصّة خطب عليّ والرضاعليهما‌السلام مملوءة من حديث التجلّي والرؤية القلبيّة فلا موجب لهعليه‌السلام أن يلتزم كون الرؤية المذكورة في الآية سؤالاً وجواباً هي الرؤية البصريّة ثمّ الجواب بطريق جدليّ لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتّة، وخلاف ظاهر حال موسى فإنّهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما ردّ عليهم بقوله:( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) حين قالوا:( يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

* وثانياً: يتحصّل من الروايتين أنّ موسىعليه‌السلام ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، وإنّما اُجيب إليها في الآخرة، والظاهر أنّه يستفاد ذلك من قوله تعالى:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) فإنّ الاستدارك في قوله:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) أنّ الّذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور والإرائة كما أنّ ذاك لا يطيقه، وقد وقع التجلّي للجبل فدكّ به وصعق ولو وقع لموسى أيضاً لدكّ به وصعق فالتجلّي في نفسه ممكن لكنّه بالنسبة إلى المتجلّي له يوجب أندكاكه وصعقته، وهذا يشعر أنّ التجلّي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة والموت، وقد استفاضت الروايات من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الله سبحانه وتعالى يتجلّى لأهل الجنّة، وأنّ لهم في كلّ جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: ٢٣.

* وثالثاً تحصّل من الروايتين: أنّ صعقة موسىعليه‌السلام كانت موتاً ثمّ ردّ الله إليه روحه لا غشية.

٢٧٠

* ورابعا: أنّ ما ذكرهعليه‌السلام أنّه تجلّى له من نوره مقدار ما يخرج من سمّ الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالاُمور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسّيّ، ولا أنّه يتقدّر بأمر حسّيّ كسمّ الخياط، ولذلك مثّل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الإبهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، والغرض على أيّ تقدير بيان صغره وحقّارته.

وعلى أيّ حال فالتجلّي إنّما هو بما يكفي لدكّه وصعقته، وأمّا كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أيّ أمر متناه مفروض فلا نسبه بين المتناهي وغير المتناهي.

وفي الدّر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذيّ وصحّحه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عديّ في الكامل وأبوالشيخ والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) قال : هكذا وأشار بإصبعيه، ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ: على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل وخرّ موسى صعقا - وفي لفظ: فساخ الجبل في الأرض - فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة.

أقول: ووقع في أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الجبل دكّ فصار رميماً، وفي بعضها أنّه ساخ في البحر فهو يهوي حتّى الساعة، وفي بعضها: إلى هذه الساعة، والمحصّل من تفسير بعضها ببعض أنّه صار رميماً نزل البحر فلا يرى منه أثر أبداً وينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الأرض أو في البحر فهو يسيخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة.

وفيه أخرج أبوالشيخ وابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) قال: أظهر مقدار هذا ووضع الإبهام على خنصر الإصبع الصغرى. فقال حميد - راوي الحديث - يا أبا محمّد - الراوي عن أنس - ما تريد إلى هذا؟ فضرب في صدره وقال: من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدّثني أنس ابن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول أنت: ما تريد إلى هذا؟.

وفيه: أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن

٢٧١

عبّاس قال: تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) قال: قال الله عزّوجلّ يا موسى إنّه لا يراني حيّ إلّا مات، ولا يابس إلّا تدهده ولا رطب إلّا تفرّق، وإنّما يراني أهل الجنّة الّذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم.

أقول: والرواية نظيرة ما تقدّم من رواية التوحيد عن عليّعليه‌السلام وتقدّم توضيح معناها.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام قال: لمّا سأل موسى ربّه تبارك وتعالى، قال:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) قال:( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) قال: فلمّا صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء، وأقبلت الملائكة أفواجاً في أيديهم العمد، وفي رأسها النور يمرّون به فوجاً بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفاً حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله فجعل الجبل دكّا وخرّ موسى صعقا فلمّا أن ردّ الله عليه روحه أفاق( قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وفيه أيضاً عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ موسى بن عمران لمّا سأل ربّه النظر إليه وعدّ الله أن يقعد في موضع ثمّ أمر الملائكة تمرّ عليه موكباً موكباً بالرعد والبرق والريح والصواعق فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيّكم ربّي؟ فيجاب هو آت وقد سألت عظيماً يا ابن عمران.

إقول: والرواية موضوعة، وما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شئ من مسلّمات الاصول المتّخذة من الكتاب والسنّة.

وفي البصائر بإسناده عن أبي محمّد عبدالله بن أبي عبدالله الفارسيّ وغيره فرفعوه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّ الكروبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثمّ قال: إنّ موسىعليه‌السلام لمّا سأل ربّه ما سأل أمر واحداً من الكروبيّين تجلّى للجبل فجعله دكّا.

أقول: محصّل الرواية أنّ تجلّيه سبحانه يقبل الوسائط كما أنّ سائر الاُمور المنسوبة إليه تعالى كالتوفّي والاحياء والرزق والوحي وغيرها يقبل الوسائط فهو تعالى

٢٧٢

يتجلّى بالوسائط كما يتوفّى بملك الموت، ويحيي بصاحب الصور، ويرزق بميكائيل، ويوحي بجبرئيل الروح الامين، وسيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له إن شاء الله.

وللكروبيّين ذكر في التوراة.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن مردويه والحاكم وصحّحه عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرء( دَكًّا ) منونّة ولم يمدّه.

وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرء( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) مثقّلة ممدودة.

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا تجلّى ربّه للجبل طارت لعظمته ستّة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد وورقان ورضوى. ووقع بمكّة ثور وثبير وحراء.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج الطبرانيّ في الاوسط عن ابن عبّاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمّا تجلّى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال ففي الحجاز منها خمسة، وفي اليمن اثنان: في الحجاز اُحد وثبير وحراء وثور وورقان، وفي اليمن حصور وصير.

أقول: وروي في تقطّع الجبل غير ذلك، وهذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دكّ الجبل لم ينطبق على الآية، وإن اُريد غير ذلك فهو وإن كان ممكن الوقوع غير أنّه لا يكفى لإثباته أمثال هذه الآحاد.

وكذا ما ورد من طرق الشيعة وأهل السنّة أنّ ألواح التوراة كانت من زبرجد، وفي بعضها من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الألواح الّتي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنّة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً، وفي بعضها: كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح، وفي بعض أخبارنا أنّ هذه الألواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الأخبار غير المؤيّده بقرائن قطعيّة.على أنّ البحث التفسيريّ لا يتوقّف على الغور

٢٧٣

في البحث عنها.

وفي روح المعاني قال: وعن عليّ كرّم الله وجهه: أنّه قرأ( جَوَارِ ) بجيم مضمومة وهمزة. قال وهو الصوت الشديد.

وفي الدّر المنثور: في قوله تعالى:( وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ) الآية: أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزّاز وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبرانيّ وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربّه تبارك وتعالى أنّ قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلمّا رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسّر منها ما تكسّر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أخبر موسى أنّ قومه اتّخذوا عجلاً {جسداً ظ} له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلمّا رآهم اشتدّ غضبه فألقى الألواح من يده، قد قال أبوعبداللهعليه‌السلام : وللرؤية فضل على الخبر.

وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينه عن السدّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً أو قال: ما أجلّ عبد ذكر الله أربعين يوماً إلّا زهّده الله في الدنيا، وبصّره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق به لسانه.

ثمّ تلا:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلا، ومفترياً على الله عزّوجلّ وعلى رسوله وعلى أهل بيته إلّا ذليلا.

( بحث روائي آخر)

* نورد فيها بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في معنى رؤية القلب *

في التوحيد والأمالي بإسناده عن الرّضاعليه‌السلام في خطبة له قال: أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة.

٢٧٤

أقول: وحديث تجلّيه تعالى الدائم لخلقه متكرّر في كلام عليّ والأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام ، وقد نقلنا شذرات من كلامهعليه‌السلام في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى:( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) المائدة: ٧٣.

وفي التوحيد بإسناده عن الصادقعليه‌السلام في كلام له في التوحيد: واحد صمد أزليّ صمديّ، لا ظلّ له يمسكه، وهو يمسك الأشياء بأظلّتها، عارف بالمجهول، معروف عند كلّ جاهل، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه.

أقول: قولهعليه‌السلام ( معروف عند كلّ جاهل ) ظاهر في أنّ له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، ولا يغشاها جهل، ولو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله:( معروف عند كلّ جاهل) أنّ الإنسان يجهل كلّ شئ ولا يجهل ربّه، وأمّا لو كان المراد أنّ الله سبحانه معروف عند كلّ جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر.

وقولهعليه‌السلام :( لا ظلّ له يمسكه وهو يمسك الأشياء بأظلّتها) الأظلّة والظلال اصطلاح منهمعليهم‌السلام والمراد بظلّ الشئ حدّه، ولذلك كان منفيّاً عن الله سبحانه ثابتاً في غيره، وقد فسّره أبوجعفرالباقرعليه‌السلام في بعض(١) أحاديث الذرّ والطينة حيث ذكر: أنّ الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنّة، وطائفة اُخرى من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال فقيل: وأيّ شئ الظلال؟ فقالعليه‌السلام : أ لم تر إلى ظلّك في الشمس شئ وليس بشئ؟ فالحدود الوجوديّة بالنظر إلى وجود الأشياء غيره وليست غيره، وبها تتعيّن الأشياء ولولاها لبطلت، ولعلّ الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال.

وفي الإرشاد وغيره عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: إنّ الله أجلّ من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ.

وعنهعليه‌السلام : ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله.

وعنه: لم أعبد ربّاً لم أره.

____________________

(١) رواها في الكافي باسناده عن عبدالله بن محمّد الحنفي وعقبة جميعاً عنه عليه‌السلام ، وسنوردها إن شاء الله في ذيل قوله تعالى: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) يونس: ٧٤.

٢٧٥

وفي النهج عنه لم تره العيون بمشاهدة الإبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن الله عزّوجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة. قلت: متى؟ قال: حين قال لهم:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. ألست تراه في وقتك هذا.

قلت: فاُحدّث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عمّا يصفه المشبهون والملحدون.

اقول: وظاهر من الرواية أنّ هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد والإيمان القلبيّ المكتسب بالدليل كما أنّها غير الرؤية البصريّة الحسّيّة، وأنّ المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى وإذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الأفهام العامّيّة إلى الرؤية الحسّيّة المنفيّة عن ساحة قدسه، وإلّا فحقيقة الرؤية ثابتة وهي نيل الشئ بالمشاهدة العلميّة من غير طريق الاستدلال الفكريّ بل هناك عدّة من الأخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوماً معروفاً من طريق الفكر وسيأتي بعضها.

وفي التوحيد بإسناده عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في كلام له في التوحيد: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلّا هو الكبير المتعال.

اقول: وهذا المعنى مرويّ عن الرّضاعليه‌السلام أيضاً على ما في العلل وجوامع التوحيد.

والرواية الشريفة تفسّر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، ولا يطرأ عليها زوال ولا تغيير ولا خطأ البتّة فهي توضح أنّه سبحانه غير محتجب عن شئ إلّا بنفس ذلك الشئ فالالتفات إلى الأشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى. ثمّ حكمعليه‌السلام أنّ هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب وستر غير ساتر.

٢٧٦

وينتج مجموع الكلامين أنّه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أنّ اشتغالهم بأنفسهم والتفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبّه على أنّهم يشهدونه دائماً فالعلم موجود أبداً، والعلم بالعلم مفقود في بعض الاحيان، وقد بنى الصادقعليه‌السلام على هذا الاساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات فقالعليه‌السلام له: هل ركبت السفينة فانكسرت وغرقت وبقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الامواج فانقطعت عن كلّ سبب ينجيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلّق قلبك إذ ذاك بشئ؟ قال: نعم. قال: ذلك الشئ هو الله(١) .

وفي جوامع التوحيد عن الرّضاعليه‌السلام قال: خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم.

وفي العلل بإسناده عن الثماليّ قال: قلت لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : لأيّ علّة حجب الله عزّوجلّ الخلق عن نفسه؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى بناهم بنيه على الجهل.

أقول: يظهر من رواية التوحيد السابقة أنّ بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم.

وفي المحاسن بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أنّ الله عزّوجلّ كان ولا شئ غيره نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل فيه، وحيّاً لا موت فيه وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً (الحديث).

وفي التوحيد بإسناده عن الرّضاعليه‌السلام في حديث: - كان يعني رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إذا نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتّى يستبين له ما في الحجب.

وفيه أيضاً بإسناده عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أباالحسنعليه‌السلام هل رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عزّوجلّ؟ فقال: نعم بقلبه رآه أما سمعت الله عزّوجلّ يقول:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد.

وفيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام في حديث: ومن زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره

____________________

(١) الحديث منقول بالمعنى.

٢٧٧

وإنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره؟ إنّما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شئ، والله خالق الأشياء لا من شئ.

تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه، والأسماء غيره، والموصوف غير الواصف، فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله، ولا تدرك معرفة الله إلا بالله، والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه.

أقول : الرواية تثبت معرفة الله لكلّ مخلوق يدرك شيئاً مّا من الأشياء، وتثبت أنّ هذه المعرفة غير المعرفة الفكريّة الّتي تحصل من طريق الأدّلة والآيات وأنّ القصر على المعرفة الاستدلاليّة لا يخلو عن جهل بالله، وشرك خفيّ.

بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدّمات أنّ المعرفة المتعلّقة بشئ إنّما هي إدراكه فما وقع في ظرف الإدراك فهو الّذي تتعلّق به المعرفة حقيقة لاغيره، فلو فرضنا أنّا عرفنا شيئاً من الأشياء بشئ آخر هو واسطة في معرفته فالّذي تعلّق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الّذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمة أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتّى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه وليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجيّ الّذي نتصوّره في ذهننا هو زيد بعينه ولو كان غيره لم نكن تصوّرناه بل تصوّرنا غيره، وعاد عند ذلك علومنا جهالات.

وإذ كان لا واسطة بين الخالق والمخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشئ آخر غير نفسه فلو عرف بشئ كان ذلك الشئ هو نفسه بعينه، وإن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشئ آخر أبداً فدعوى أنّه تعالى معروف بشئ من الأشياء كتصوّر أو تصديق أو آية خارجيّة شرك خفي لأنّه إثبات واسطة بين الخالق والمخلوق يكون غيرهما جميعاً وما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله وشريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، ولولم يعرف بذاته لم يعرف بشئ آخر البتّة لكنّه سبحانه معروف، فهو

٢٧٨

معروف بذاته أي أنّ ذاته المتعالية والمعروفيّة شئ واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولاً لأنّ ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيّته.

وأمّا بيان كونه تعالى معروفا فلان شيئاً من الأشياء المخلوقة لا يستقلّ عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج ولا في ذهن، فوجوده كالنسبة والرابط الّذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلّق علم مخلوق بشئ من الأشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقّق هناك إلّا ومعه خالقه متّكئاً بوجوده عليه وإلّا لاستقلّ دونه فلا يجد عالم معلومه إلّا وقد وجد الله سبحانه قبله، والعالم نفسه حيث كان مخلوقاً لم يستقلّ بالعلم إلّا بالله سبحانه الّذي قوّم وجود هذا العالم، ولو استقلّ به دونه كان مستقلاً دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالماً كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوماً أي أنّ العلم يتعلّق باستقلال ذات المعلوم أي أنّ الله سبحانه هو المعلوم أوّلاً ويعلم به المعلوم ثانياً كما أنّه تعالى هو العالم أوّلاً وبه يكون الشئ عالماً ثانياً فافهم ذلك وتدبّر في قوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة: ٢٥٥، وفي قولهعليه‌السلام :( ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله) .

فقد تبيّن أنّه تعالى معروف لأنّ ثبوت علم مّا بمعلوم مّا في الخارج لا يتمّ إلّا بكونه تعالى هو المعروف أوّلا، وثبوت ذلك ضروريّ.

فقولهعليه‌السلام :( من زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك) كأنّ المراد بالحجاب هو الشئ الّذي يفرض فاصلاً بينه تعالى وبين العارف، وبالصورة الصورة الذهنيّة المقارنة للأوصاف المحسوسة من الأضواء والألوان والأقدار وبالمثال ما هو من المعاني العقليّة غير المحسوسة، أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، وبالمثال الصورة المتخيّلة، أو المراد بالصورة التصوّر وبالمثال التصديق، وكيف كان فالعلوم الفكريّة داخلة في ذلك، والأخبار في نفي كون العلم الفكريّ إحاطة علميّة بالله كثيرة جدّا.

وكون هذه المعرفة شركاً لإثباتها أمراً ليس بخالق ولا مخلوق كما عرفت آنفاً، ولزوم كونه مشاركاً معه بوجه مبائناً له بوجه، ولذلك عقّبعليه‌السلام الكلام بقوله:( وإنّما هو واحد موحّد) أي أنّه لا يشاركه في ذاته شئ بوجه من الوجوه حتّى يوجب ذلك

٢٧٩

تركّبه وانتفاء وحدته كما أنّ الصورة العلميّة تشارك المعلوم الخارجيّ في معناه وماهيّته وتفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركّباً من ماهيّة ووجود.

( فكيف يوحّد من زعم أنّه يعرفه بغيره) مع إثباته شريكاً له في وجوده وتركّباً له في ذاته( إنّما عرف الله من عرفه بالله ) أي بنفس ذاته من غير واسطة( ومن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره) كلّ ذلك( لأنّه ليس بين الخالق والمخلوق شئ) أي أمر يربطهما هو غيرهما( والله خالق الأشياء لا من شئ) يكون رابطاً بينهما موصلاً للخالق إلى المخلوق وبالعكس كما أنّ الإنسان الصانع يرابطه إلى مصنوعه مثاله الّذي في ذهن الصانع، والمادّة الخارجيّة الّتي بيده.

وقولهعليه‌السلام :( تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه ) في موضع دفع اعتراض مقدّر، وهو أن يقال: إنّا إنّما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله وجلاله، فدفعه بأنّ نفس التسمّي بالأسماء يقضي بأنّ الأسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشئ آخر ثمّ أكّده بأنّ الأسماء واصفة، والذات موصوفة( والموصوف غير الواصف) .

فإن رجع المعترض وقال: إنّا نؤمن بما نجهله، ولا يمكننا معرفته بنفسه إلّا بما تسمّى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و( زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة) لا يدري ما ذا يقول فإنّه يدرك شيئاً لا محالة لا مجال له لإنكار ذلك( ولا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله) فهو يعرف الله وإلّا لم يمكنه أن يعرف به، ولا تنال( ولا تدرك معرفة الله إلّا بالله) ولا رابطة مشتركة بين الخالق والمخلوق( والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) .

فقد تحصّل من الرواية أنّ معرفة الله سبحانه ضروريّ لكلّ مدرك ذي شعور من خلقه إلّا أنّ الكثير منهم ضالّ عن المعرفة مختلط عليه، والعارف بالله يعرفه به، ويعلم أنّه يعرفه ويعرف كلّ شئ به ، وفي بعض هذه المعاني روايات اُخر.

٢٨٠