الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 81462
تحميل: 4493


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81462 / تحميل: 4493
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فنسبة الخلق إلى هذا الاسم في قوله:( خلق اسماً ) يكشف عن كون المراد بالخلق غير المعني المتعارف منه، وأنّ المراد به ظهور الذات المتعاليّة ظهوراً ينشأ به اسم من الأسماء وحينئذ ينطبق الخبر على ما تقدّم بينه أنّ الأسماء مترتّبة فيما بينها وبعضها واسطة لثبوت بعض، وتنتهي بالاخرة إلى اسم تعيّنها عين عدم التعيّن. وتقيّد الذات المتعالية به عين عدم تقيّدها بقيد.

وقوله:( فالظاهر هو الله تبارك وتعالى) إشارة إلى الجهات العامّة الّتي تنتهي إليها جميع الجهات الخاصّة من الكمال ويحتاج الخلق إليها من جميع جهات فاقتها وحاجتها، وهي ثلاث: جهة استجماع الذات لكلّ كمال، وهي الّتي يدلّ عليها لفظ الجلالة وجهة ثبوت الكمالات ومنشإيّة الخيرات والبركات، وهي الّتي يدلّ عليه اسم تبارك، وجهة انتفاء النقائص وارتفاع الحاجات وهي الّتي يدلّ عليه لفظ تعالى.

وقوله:( فعلاً منسوباً إليها) أي إلى الأسماء وهو إشارة إلى ما قدّمناه من انتشاء إسم من اسم. وقوله:( حتّى تتمّ ثلاث مأة وستّين اسماً) صريح في عدم انحصار الأسماء الإلهيّة في تسعة وتسعين.

وقوله:( وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب ) الخ فإنّ الاسم المكنون المخزون لمّا كان اسماً فهو تعيّن وظهور من الذات المتعالية، وإذ كان مكنوناً بحسب ذاته غير ظاهر بحسب نفسه فظهوره عين عدم ظهوره وتعيّنه عين عدم تعيّنه، وهو ما يعبّر عنه أحياناً بقولنا: إنّه تعالى ليس بمحدود بحد حتّى بهذا الحدّ العدميّ لا يحيط به وصف ولا نعت حتّى هذا الوصف السلبيّ، وهذا بعينه توصيف منّا والذات المتعالية أعظم منه وأكبر.

ولازمه أن يكون اسم الجلالة الكاشف عن الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال اسماً من أسماء الذات دونها ودون هذا الاسم المكنون المخزون، وكذا( تَبَارَكَ ) و( تَعَالَىٰ ) ثلاثة أسماء معاً سدنة وحجّاباً للاسم المكنون من غير أن يتقدّم بعضها بعضاً وهذه الحجّاب الثلاثة والاسم المكنون المحجوب بها جميعاً دون الذات، وأمّا هي فلا ينتهي إليها أشارة ولا يقع عليها عبارة، إذ كلّما تحكيه عبارة أو تومئ إليه إشارة اسم من الأسماء محدود بهذا النحو، والذات المتعالية أعلى منه وأجلّ.

٣٨١

وقوله: وذلك قوله تعالى:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) وجه الاستفادة أنّ الضمير في قوله( فَلَهُ ) راجع إلى( أَيًّ ) وهو اسم شرط من الكنايات لا تعيّن لمعناه إلّا عدم التعيّن، ومن المعلوم أنّ المراد بالله وبالرحمن في الاية هو مصداق اللفظين لا نفسهما فلم يقل ادعوا بالله أو بالرحمن بل ادعوا الله الآية فمدلول الآية أنّ الأسماء منسوبة قائمة جميعاً بمقام لا خبر عنه ولا إشارة إليه إلّا بعدم الخبر والإشارة فافهم ذلك.

وفي الرواية أخذ( تَبَارَكَ ) وكذا( تَعَالَىٰ ) وكذا( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) من الأسماء وهو مبنيّ على مجرّد الدلالة على الذات المأخوذة بصفة من صفاته من غير رعاية المصطلح الأدبيّ.

والروايه من غرر الروايات تشير إلى مسألة هي أبعد سمكاً من مستوى الأبحاث العامّة والأفهام المتعارفة، ولذلك اقتصرنا في شرح الرواية على مجرّد الإشارات، وأمّا الأيضاًح التامّ فلا يتمّ إلّا ببحث مبسوط خارج عن طوق المقام غير أنّها لا تبتني على أزيد ممّا تقدّم من البحث عن نسب الأسماء والصفات إلينا ونسب ما بينها الموضوع في الفصل الرابع من الكلام في الأسماء فعليك بإبفائها حتّى تنجلي لك المسألة حقّ الانجلاء والله الموفّق.

وفي البصائر بإسناده عن الباقرعليه‌السلام قال: إنّ اسم الله الأعظم على ثلاثه وسبعين حرفاً، وإنّما عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض فيما بينه وبين سرير بلقيس ثمّ تناول السرير بيده ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله أستأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوّه إلّا بالله العليّ العظيم.

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ جعل اسمه الأعظم على ثلاث وسبعون حرفا فأعطى آدم منها خمسة وعشرين حرفاً وأعطى نوحاً منها خمسة وعشرين حرفاً، وأعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف، وأعطى موسى منها أربعة أحرف، وأعطى عيسى منها حرفين وكان يحيى بهما الموتى ويبرئ بهما الأكمه والأبرص، وأعطى

٣٨٢

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثنين وسبعين حرفاً، واحتجب حرفاً لئلّا يعلم ما في نفسه ويعلم ما في نفس غيره ظ.

اقول: وفي مساق الروايتين بعض روايات اُخر، ولا ينبغي أن يرتاب في أنّ كونه مفرّقاً إلى ثلاث وسبعين حرفاً أو مؤلّفاً من حروف لا يستلزم كونه بحقيقة مؤلّفاً من حروف الهجاء كما تقدّمت الإشارة إليه، وفي الروايتين دلالة على ذلك فإنّه يعدّ الاسم وهو واحد ثمّ يفرّق حروفه بين الأنبياء ويستثني واحداً، ولو كان من قبيل الأسماء اللفظيّة الدالّة بمجموع حروفه على معنى واحد لم ينفع أحداً منهمعليهم‌السلام ما اُعطيه شيئاً البتّة.

وفي التوحيد بإسناده عن علىّعليه‌السلام في خطبه له: إنّ ربّي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف؟ عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شئ لا يقال شئ قبله، وبعد كلّ شئ لا يقال له بعد شاء الأشياء لا بهمّة، درّاك لا بخديعة، هو في الأشياء كلّها غير منمازج بها ولا بائن عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، جاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة

اقول: هوعليه‌السلام - كما يشاهد - يثبت في صفاته وأسمائه تعالى أصل المعاني وينفي خصوصيّات المصاديق الممكنة ونواقص المادّة، وهو الّذي قدّمنا بينه سابقا: وهذه المعاني وارادة في أحاديث كثيرة جدّاً مرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وخاصّة ما ورد عن علىّ والحسن والحسين والباقر والصادق والكاظم والرّضاعليهم‌السلام في خطب كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث، والله الهادي.

وفي المعاني بإسناده عن حنّان بن سدير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: فليس له شبه ولا مثل ولا عدل، ولله الأسماء الحسنى الّتى لا يسمّى بها غيره، وهى الّتي وصفها الله في الكتاب فقال:( فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) جهلاً بغير علم وهو لا يعلم ويكفر وهو يظنّ أنّه يحسن؟ فذلك قوله:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) فهم الّذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها.

٣٨٣

اقول: والحديث يؤيّد ما قدّمناه في معنى كون الأسماء حسنى والإلحاد فيها، وقولهعليه‌السلام :( لا يسمّى بها غيره ) أي لا يوصف بالمعاني الّتي جرّدت لها وصحّ تسميته بها غيره تعالى كإطلاق الخالق بحقيقة معناه الّذي له تعالى لغيره، وعلى هذا القياس.

وفي الكافي بإسناده إلى معاوية بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) قال: نحن والله الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل الله من العباد إلّا بمعرفتنا.

اقول: ورواه العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ، وفيه أخذ الاسم بمعنى ما دلّ على الشئ سواء كان لفظاً أو غيره، وعليه فالأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام أسماء دالّة عليه تعالى وسائط بينه وبين خلقه، ولأنّهم في العبوديّة بحيث ليس لهم إلّا الله سبحانه فهم المظهرون لأسمائه وصفاته تعالى.

وفي الكافي بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال هم الأئمّة.

اقول: ورواه العيّاشيّ عن حمران عنهعليه‌السلام قال: وقال محمّد بن عجلان عنهعليه‌السلام ( نحن هم) وقد تقدّم ما يؤيّده في البيان المتقدّم.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن الربّيع في قوله:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ من اُمّتي قوماً على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل.

وفي تفسير البرهان عن موفّق بن أحمد عن السريّ عن ابن المنذر عن الحسين بن سعيد عن أبيه عن أبان بن تغلب عن فضل عن عبدالملك الهمدانيّ عن زادان عن عليّ قال يفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعون فرقة اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنّة، وهم الّذين قال الله عزّوجلّ في حقّهم:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) أنا وشيعتي.

اقول: وروى العيّاشيّ عن زادان عنهعليه‌السلام مثله، وفي آخره:( وهم على الحقّ) مكان قوله:( أنا وشيعتي) . وقد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ

٣٨٤

بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ، رواية العيّاشيّ عن أبي الصهباء عن عليّعليه‌السلام ما في معناه، وكذا رواية السيوطيّ في الدّر المنثور بطرق عنه مثله.

وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عزّوجلّ:( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) بالنعم عند المعاصي.

وفيه بإسناده عن سماعة بن مهران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) قال: هو العبد يذنب الذنب فيجدّد له النعم معه تلهية تلك النعم عن الاستغفار من ذلك الذنب.

اقول: ورواه أيضاً بإسناده عن ابن رئاب عن بعض أصحابنا عنهعليه‌السلام مثله.

وفيه بإسناده عن الحسن الصيقل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عمّا روى الناس:) تفكّر ساعة خير من قيام ليلة ( قلت: كيف يتفكّر؟ قال: يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك؟ أين بانوك؟ مالك لا تتكلّمين؟.

اقول: وهو من قبيل إراءة بعض المصاديق الظاهرة.

وفيه بإسناده عن معمّر بن خلّاد قال سمعت أبا الحسن الرّضاعليه‌السلام يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم. إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّوجلّ.

وفيه بإسناده عن الربعيّ قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به.

وفيه بإسناده عن محمّد بن أبي النصر عن بعض رجاله عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته.

وفي تفسير القمّيّ في تفسير قوله تعالى:( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال: قال نكله إلى نفسه

اقول: ومعنى تركهم يعمهون في طغيانهم عدم إعانتهم على أنفسهم وتركهم وإيّاها بقطع التوفيق فينطبق على الوكول إلى النفس.

٣٨٥

( سورة الأعراف آية ١٨٧ - ١٨٨)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي  لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ  ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً  يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا  قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٧ ) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ  وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ  إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ١٨٨ )

( بيان)

في الآيتين إبانة أنّ علم الساعة من الغيب المختصّ به تعالى لا يعلمه إلّا الله، ولا دليل لتعيين وقتها والحدس لوقوعها أصلاً فلا تأتي إلّا بغتة. وفيه إشارة ما إلى حقيقتها بذكر بعض أوصافها.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا - إلى قوله -إِلَّا هُو ) الساعة ساعة البعث والرجوع إلى الله لفصل القضاء العامّ فاللام للعهد لكنّه صار في عرف القرآن والشرع كالحقيقة في هذا المعنى.

والمرسى اسم زمان ومكان ومصدر ميميّ من أرسيت الشئ إذا أثبتّه، أي متى وقوعها وثبوتها، والتجلية الكشف والإظهار يقال جلّاه فانجلى أي كشف عنه فانكشف.

فقوله:( لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُو ) أي لا يظهرها ولا يكشف عنها في وقتها وعند وقوعها إلّا الله سبحانه، ويدلّ ذلك على أنّ ثبوتها ووجودها والعلم بها واحد أي إنّها محفوظة في مكمن الغيب عند الله تعالى يكشف عنها ويظهرها متى شاء من غير أن يحيط بها غيره سبحانه أو يظهر لشئ من الأشياء وكيف يمكن أنّ يحيط بها شئ من الأشياء أو ينكشف عنده، وتحقّقها وظهورها يلازم فناء الأشياء، ولا شئ منها يسعه أن يحيط

٣٨٦

بفناء نفسه أو يظهر له فناء ذاته، والنظام السببيّ الحاكم في الكون يتبدّل عند وقوعها، وهذا العلم الّذي يصحبها من هذا النظام.

ومن هنا يظهر: أنّ المراد بقوله:( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) - والله أعلم - ثقل علمها في السماوات والأرض وهو بعينه ثقل وجودها فلا ثمرة لاختلافهم في أنّ المراد بثقل الساعة فيها ثقل علمها عليها، أو المراد ثقل صفتها على أهل السماوات والأرض لما فيها من الشدائد والعقاب والحساب والجزاء، أو ثقل وقوعها عليهم لما فيها من انطواء السماء وإنتشار الكواكب واجتماع الشمس والقمر وتسيير الجبال، أو أنّ السماوات والأرض لا تطيق حملها لعظمتها وشدّتها.

وذلك أنّها ثقلية بجميع ما يرجع إليها من ثبوتها والعلم بها وصفاتها على السموات والأرض، ولا تطيق ظهورها لملازمته فناءها والشئ لا يطيق فناء نفسه.

ومن ذلك يظهر أيضاً وجه قوله سبحانه:( لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) فإنّ البغتة والفجأة ظهور الشئ من غير أن يعلم به قبل ظهوره، والساعة لثقلها لا يظهر وصف من أوصافها، ولا جزء من أجزائها قبل ظهورها التامّ، ولذلك كان ظهورها لجميع الأشياء بغتة.

ومن هنا أيضاً يظهر معنى تتمّة الآية:( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ) الآية على ما سيأتي.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الحفيّ العالم بالشئ (انتهى) وكأنّه مأخوذ من حفيت في السؤال إذا ألححت، وقوله:( كَأَنَّكَ حَفِيٌّ ) متخلّل بين يسألونك والظرف المتعلّق به، والأصل: يسألونك عنها كأنّك حفيّ عالم بها، وهو يلوّح إلى أنّهم كرّروا السؤال وألحّوا عليه، ولذلك كرّر السؤال والجواب بوجه في اللفظ.

ففي قوله ثانياً:( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) إشعار أو دلالة على أنّهم حسبوا أنّ جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر ربّه أوّلاً( إنّما علمها عند ربّي ) من قبيل إحالة علم ما لا يعلمه إلى ربّه - على ما هو من أدب الدين - ولذا قال:( عِندَ رَبِّي ) إشعاراً بالعبوديّة و

٣٨٧

وظيفتها، وأنّ قوله:( لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ) وصف لعظمتها من غير أن يرتبط ذلك بالعلم بوقتها، ولذلك كلّه كرّروا السؤال ليقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك شيئاً أو يعترف بجهله لنفسه.

فأمره الله سبحانه أن يعيد الجواب عليهم:( إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ) دالّاً به على أنّ القول جدّ والجواب فصل، فهو من العلم لا من الجهل، والغرض به إفادة العلم بانحصار علمها فيه تعالى دون الجهل بها، وإحالة علمها إلى ربّه عملاً بوظيفة العبوديّة، ولذا بدّل قوله في الجواب الأوّل( عِندَ رَبِّي ) في هذا الجواب الثاني إلى قوله( عِندَ اللَّهِ ) .

ثمّ قال:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يشير به إلى جهلهم بمعنى قوله:( إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ) الآية فإنّهم لاُنسهم بالحسّ والمحسوس يقيسون كلّ شئ سمعوه إلى المحسوس، ويعمّمون حكمه عليه فيظنّون أنّ كلّ ما وصف لهم بوجه يسع لهم أن يعلموه ويحيطوا به علماً، وأنّه لو كان هناك أمرٌ اُخفي عنهم فإنّما يخفى بالكتمان ولو اُظهر لهم أحاطوا به علماً كسائر ما عندهم من الاُمور المحسوسة وقد أخطأ قياسهم واشتبه عليهم فإنّ بعض ما في الغيب ومن جملته الساعة لا يطيق علمه إلّا الله سبحانه.

وقد ظهر من الآية أنّ علم الساعة ممّا لا يطيقه شئ من الأشياء إلّا الله سبحانه وكذا حقيقة ما له من الاوصاف والنعوت فإنّ الجميع ثقيله بثقلها.

قوله تعالى: ( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) ألى آخر الآية لمّا كان في سؤالهم الغيب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيهام أنّ دعواه النبوّة دعوى لعلم الغيب، ولا يعلم الغيب حقيقة غيره تعالى إلّا بوحي وتعليم إلهيّ، أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتبرّء من دعوى العلم بالغيب.

وحقيقة السبب في اختصاص العلم بالغيب به تعالى أنّ غيره تعالى أيّامّا كان محدود الوجود لا سبيل له إلى الخارج منه الغائب عنه من حيث إنّه غائب، ولا شئ غير محدود ولا غير متناه محيط بكلّ شئ إلّا الله سبحانه فله العلم بالغيب.

٣٨٨

لكن لمّا كان اُولئك السائلون لا يسعهم فهم هذا السبب على ما لهم من الأفهام البسيطة العامّيّة أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكلّمهم بما يسعهم فهمه، وهو أنّ العلم بالغيب يهدي الإنسان إلى كلّ خير وشرّ والعدّة تأبى أنّ يعلم أحد الخير والشرّ ويهتدي إلى موقعهما ثمّ لا يستفيد من ذلك لنفسه فالإنسان إذا لم يستكثر من الخير ولم يوق من الشرّ كيف يعلم الغيب؟.

فقوله في صدر الآية:( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ) الآية وصف لنفسه بما ينافي نتيجة العلم بالغيب ثمّ قوله:( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الآية بيان نتيجة العلم بالغيب، لينتج من الفصلين عدم علمه بالغيب، ثمّ قوله:( إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ ) بيان حقيقة حاله فيما يدعّيه من الرسالة من غير أن يكون معها دعوى اُخرى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ: في قوله( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) الآية، قال: قال: إنّ قريشاً بعثوا العاص بن وائل السهميّ، والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى نجران ليتعلّموا من علماء اليهود مسائل يسألونها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان فيما سألوا محمّداً متى تقوم الساعة أنزل الله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن خلف بن حماد عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله يقول في كتابه:( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) يعني الفقر.

أقول: ورواه أيضاً الصدوق في المعاني بإسناده عن خلف بن حمّاد عن رجل عنهعليه‌السلام ، ورواه الحسين بن بسطام في طبّ الأئمّة عن جابر بن يزيد عن أبي جعفرعليه‌السلام .

٣٨٩

( سورة الأعراف آية ١٨٩ - ١٩٨)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا  فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ  فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ١٨٩ ) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا  فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١٩٠ ) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( ١٩١ ) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( ١٩٢ ) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ  سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ١٩٣ ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ  فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٩٤ ) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا  أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا  أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا  أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ( ١٩٥ ) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ  وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( ١٩٦ ) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( ١٩٧ ) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا  وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ( ١٩٨ )

( بيان)

الكلام في الآيات جار على ما جرت عليه سائر آيات السورة من مواثيق النوع الإنسانيّ ونقضها على الأغلب الأكثر.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى آخر الايتين. الكلام في الآيتين جار مجري المثل المضروب لبني آدم في نقضهم موثقهم الّذي واثقوه، وظلمهم بآيات الله.

٣٩٠

والمعنى( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم ) يا معشر بني آدم( مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) هو أبوكم( وَجَعَلَ مِنْهَا ) أي من نوعها( زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ ) الرجل الّذي هو النفس الواحدة( إِلَيْهَا ) أي إلى الزوج الّتي هي امرأته( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) والتغشّي هو الجماع( حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ) والمحمول النطفة وهي خفيفة( فَمَرَّتْ بِهِ ) أي استمرّت الزوج بحملها تذهب وتجئ وتقوم وتقعد حتّى نمت النطفة في رحمها وصارت جنيناً ثقيلاً أثقلت به الزوج( فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا ) وعاهداه وواثقاه( لَئِنْ آتَيْتَنَا ) ورزقتنا ولداً( صَالِحًا ) يصلح للحياة والبقاء بكونه إنساناً سويّاً تامّ الاعضاء غير ذي عاهة وآفة فإنّ ذلك هو المرجوّ للولد حين ولادته وبدء نشوئه دون الصلاح الدينيّ( لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لك بإظهار نعمتك، والإنقطاع إليك في أمره لا نميل إلى سبب دونك، ولا نتعلّق بشئ سواك.

( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا ) كما سألاه وجعله إنساناً سويّاً صالحاً للبقاء وقرّت به أعينهما( جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) من الولد الصالح حيث بعثتهما المحبّة والشفقة عليه أن يتعلّقا بكلّ سبب سواه، ويخضعا لكلّ شئ دونه مع أنّهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته وربوبيّته فنقضا عهدهما وشرطهما.

وهكذا عامّة الإنسان إلّا من رحمه الله مهتمّون بنقض مواثيقهم وخلف وعدهم، وعدم الوفاء بعهدهم مع الله( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

والقصّة - كما ترى - يمكن أن يراد بها بيان حال الأبوين من نوع الإنسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العامّ النوعىّ فإنّ كلّ إنسان فإنّه مولود أبويه فالكثرة الإنسانيّة نتيجة أبوين يولدان ولداً كما في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) الحجرات - ١٣.

والغالب على حال الأبوين وهما يحبّان ولدهما ويشفقان عليه أن ينقطعا طبعاً إلى الله في أمر ولدهما وإن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت وأخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربّه وإن لم يعبد ربّاً قطّ فإنّما هو حال قلبىّ يضطرّ الإنسان إليه.

فللأبوين انقطاع إلى ربّهما في أمر ولدهما لئن آتيتنا صالحاً نرضاه لنكوننّ من

٣٩١

الشاكرين فلمّا استجاب لهما وآتاهما صالحاً جعلا له شركاء وتشبّثا في حفظه وترابيته بكلّ سبب، ولاذا إلى كلّ كهف.

ويؤيّد هذا الوجه قوله في ذيل الآية:( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فإنّ المراد بالنفس وزوجها في صدر الكلام لو كان شخصين من الإنسان بعينهما كآدم وحوّاء مثلاً كان من حقّ الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عمّا أشركا.

على أنّه تعالى يعقّب هذه الآية بآيات اُخر يذمّ فيها الشرك ويوبّخ المشركين بما ظاهرة أنّه الشرك بمعنى عبادة غير الله، وحاشا أن يكون صفيّ الله آدم يعبد غير الله وقد نصّ الله سبحانه على أنّه اجتباه وهداه، ونصّ على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله وأيّ ضلال أضلّ من عبادة غير الله، قال تعالى:( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) طه - ١٢٢، وقال:( وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) أسرى - ٩٧، وقال:( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) الأحقاف - ٥، وبذلك يظهر أنّ الضلال والشرك غير منسوب إلى آدم وإن لم نقل بنبوّته أو قلنا بها ولم نقل بعصمة الأنبياءعليهم‌السلام .

وإن اُريد بالنفس وزوجها في القصّة آدم وزوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنّهما اشتغلا بتربية الولد واهتمّا في أمره بتدبير الأسباب والعوامل، وصرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجّه إلى ربّهما والخلوص في ذلك، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما:( لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) وقد تقدّم في تفسير أوائل هذه السورة في قوله:( وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الآية - ١٧ أنّ الشاكرين في عرف القرآن هم المخلصون - بفتح اللام - الّذين لا سبيل لإبليس عليهم ولا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجّه إليهما في قوله:( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) إنّما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الأسباب الكونيّة بوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى.

لكن يبقى عليه إتيان قوله:( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) بصيغة الجمع، وتعقيبه بما ظاهره أنّه الشرك بمعنى عبادة غير الله.

وربّما دفعه بعضهم بأنّ الآية في التخصيص أوّلاً والتعميم ثانياً عكس قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ )

٣٩٢

يونس - ٢٢، حيث خاطب أوّلاً عامّتهم بالتسيير ثمّ خصّ الكلام براكبي الفلك منهم خاصّة، والآية الّتي نحن فيها تخصّ أوّل القصّة بآدم وزوجته فهما المعنيّان بقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ثمّ انقضى حديث آدم وزوجته، وخصّ بالذكر المشركون من بني آدم الّذين سألوا ما سألوا، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إنّ كلّ إثنين منهم يولدان ولداً هذا حالهما من العهد ثمّ النقض.

وفيه أنّ قوله:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) الآية محفوف بقرينة قطعيّة تدلّ على المراد وتزيل اللبس بخلاف التدرّج من الخصوص إلى العموم في هذه الآية فإنّه موقع في اللبس لا يصار إليه في الكلام البليغ، اللّهمّ إلّا أن يجعل قوله:( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) إلى آخر الآيات قرينة على ذلك.

وكيف كان فهذا الوجه كالمأخوذ من الوجهين الأوّلين بحمل صدر الآية على الوجه الثاني وذيلها على الوجه الأوّل.

وربّما دفع الاعتراض السابق بأنّ في الكلام حذفاً وإيصالاً والتقدير:( فلمّا آتاهما أي آدم وحوّاء صالحاً جعل أولادهما له شركاء) فحذف المضاف وهو الأولاد، وأقيم المضاف إليه وهو ضمير التثنية المدلول عليه في قوله:( جَعَلَا ) مقامه. وفيه أنّه لا دليل عليه.

وربّما التزم بعض المفسّرين الإشكال، وتسلّم أنّ المراد بهما آدم وزوجته، وأنّهما أشركا بالله عملاً بروايات وردت في القصّة عن بعضهم، وهي موضوعة أو مدسوسة مخالفة للكتاب لا سبيل إلى الأخذ بأمثالها.

قوله تعالى: ( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث. صدر الآيات وإن احتمل أن يكون المراد الشرك بالأصنام أو بسائر الأسباب غير الله، الّتي الاعتماد عليها نوع من الشرك لكنّ ذيلها ظاهر في أنّ المراد هو الشرك بالأصنام المتّخذة آلهة وهي جماد لا يستطيع نصر من يعبدها ولا نصر أنفسها، ولا يشعر بشئ من الدعاء وعدمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ - إلى قوله -يَسْمَعُونَ بِهَا ) احتجاج على مضمون الآيات الثلاث السابقة، والمعنى إنّما قلنا إنّهم مخلوقون

٣٩٣

لا يقدرون على شئ لأنّهم عباد أمثالكم فكما أنّكم مخلوقون مدبّرون كذلك هم.

والحجّة عليه أنّهم لا يستجيبون لكم إن دعوتموهم فادعوهم إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ لهم علماً وقدرة - وإنّما نسب إليهم دعوى كونهم ذوي علم وقدرة لما في دعوتهم من الدلالة على ذلك - وكيف يستجيبون لكم؟ وليست ما عبّأتم لهم من الأرجل والأيدي ما شية وباطشة، ولا ما صوّرتم لهم من الأعين والآذان مبصرة وسامعة لأنّهم جمادات.

وفي الآيات إطلاق العباد على الجمادات.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ) إلى آخر الآيات ثمّ أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكرّ عليهم على انتصارهم بأربابهم وآلهتهم بالتحدّي والإعجاز ليستبين سبيله من سبيلهم، ويظهر أنّ ربّه هو الله الّذي له كلّ العلم والقدرة، وأنّ أربابهم لا يملكون علماً ليهتدوا به إلى شئ ولا قدرة لينصروهم في شئ.

فقال: قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ثمّ كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني إنّ ربّي ينصرني ويدفع عنّي كيدكم فإنّه الّذي نزّل الكتاب ليهدي به الناس، وهو يتولّى الصالحين من عباده فينصرهم، وهو القائل: إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة، وأمّا أربابكم الّذين تدعون من دونه فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم.

وفي الآيات أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبرهم أنّه من الصالحين ولم يعهد فيما يخبر به القرآن من صلاح الأنبياء مثل ذلك في غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيها التحدّي على الأصنام وعبدتهم كما تحدّى بذلك غيره من الأنبياءعليهم‌السلام .

( بحث روائي)

في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ عن الرّضاعليه‌السلام في حديث: قال له المأمون: فما معنى قوله تعالى:( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) فقال

٣٩٤

الرّضاعليه‌السلام إنّ حوّاء ولدت لآدم خمس مأة بطن في كلّ بطن ذكراً واُنثى، وإنّ آدم وحوّاء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا: لئن آتيتنا صالحاً لنكوننّ من الشاكرين، فلمّا أتاهما صالحاً من النسل خلقاً سويّاً بريئاً من الزمانة والعاهة كانا يأتيهما صنفان: صنفاً ذُكراناً وصنفاً إناثاً فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّوجلّ قال الله تعالى:( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فقال المأمون أشهد أنّك ابن رسول الله حقّا.

اقول: مرجعه إلى بعض الوجوه السابقة في دفع ما اُورد على الآية، وقد وردت في تفسير الآية عدّة من الروايات مرويّة عن سمرة بن جندب وأبيّ وزيد وابن عبّاس فيها أنّ آدم وحوّاء لم يكن يعيش لهما ولد فأمرهما الشيطان أو أمر حوّاء أن يسميّاه عبد الحارث حتّى يعيش - وكان الحارث اسمه في السماء - وفي بعضها: عبد الشمس، وفي بعضها: أنّه خوّفها أن تلد ناقة أو بقرة أو بهيمة اُخرى، وشرط لها إن سمّته عبد الحارث ولدت إنساناً سويّاً. الأحاديث وهي موضوعة أو مدسوسة من الإسرائيليّات.

وقد روي في المجمع عن تفسير العيّاشيّ عنهمعليهم‌السلام : أنّه كان شركهما شرك طاعة ولم يكن شرك معصية، وظاهره أنّه جرى على ما يجري عليه تلك الاحاديث فحاله حالها وكيف يفرق بين الطاعة والعبادة وخاصّة في مورد إبليس وقد قال تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ) يس - ٦١، ومع ذلك فقد ذكر بعضهم أنّ هذه الروايات لا تدلّ على أزيد من الإشراك في التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية، واختاره الطبريّ هذا.

٣٩٥

( سورة الأعراف آية ١٩٩ - ٢٠٦)

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( ١٩٩ ) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ  إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٠٠ ) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( ٢٠١ ) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ( ٢٠٢ ) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا  قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي  هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٢٠٣ ) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٢٠٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ( ٢٠٥ ) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ  ( ٢٠٦ )

( بيان)

الآيات ختام السورة، وفيها رجوع إلى ذكر معنى الغرض الّذي نزلت فيه السورة ففيها أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسيرة الحسنة الجميلة الّتي تميل إليها القلوب، وتسكن إليها النفوس، وأمره بالتذكّر ثمّ بالذكر خيراً.

قوله تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) الأخذ بالشئ هو لزومه و عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، والإغماض عن حقّ الانتقام الّذي يعطيه العقل الاجتماعيّ لبعضهم على بعض. هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه والتضييع لحقّ شخصه، وأمّا ما اُضيع فيه حقّ الغير بالإساءة إليه فليس ممّا يسوغ العفو فيه لأنّه إغراء بالإثم وتضييع لحقّ الغير بنحو أشدّ، وإبطال

٣٩٦

للنواميس الحافظة للاجتماع، ويمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم والإفساد وإعانة الظّالمين والرّكون إليهم بل جميع الآيات المعطية لاُصول الشرائع والقوانين، وهو ظاهر.

فالمراد بقوله:( خُذِ الْعَفْوَ ) هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى ذلك كان يسير فقد تقدّم في بعض الروايات المتقدّمة في أدبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : أنّه لم ينتقم من أحد لنفسه قطّ.

هذا على ما ذكره القوم أنّ المراد بالعفو ما يسارق المغفرة، وفي بعض الروايات الآتية عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد به الوسط وهو أنسب بالآية وأجمع للمعنى من غير شائبة التكرار الّذي يلزم من قوله:( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) على التفسير الأوّل.

وقوله:( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) والعرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الاجتماعيّ من الأعمال النادرة الشاذّة، ومن المعلوم أنّ لازم الأمر بمتابعة العرف أن يكون نفس الآمر مؤتمراً بما يأمر به من المتابعة، ومن ذلك أن يكون نفس أمره بنحو معروف غير منكر فمقتضى قوله:( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) أن يأمر بكلّ معروف، وأن لا يكون نفس الأمر بالمعروف على وجه منكر.

وقوله:( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) أمر آخر بالمدارة معهم، وهو قرب طريق وأجمله لإبطال نتائج جهلهم وتقليل فساد أعمالهم فإنّ في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراءً له بالجهل والإدامة على الغيّ والضلال.

قوله تعالى: ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: النزغ دخول في أمر لأجل إفساده، قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. انتهى، وقيل: هو الإزعاج والإغراء وأكثر ما يكون حال الغضب، وقيل : هو من الشيطان أدنى الوسوسة، والمعاني متقاربة، وأقربها من الآية هو الأوسط لمناسبته الآية السابقة الآمره بالإعراض عن الجاهلين فإنّ مماسّتهم الإنسان بالجهالة نوع مداخلة من الشيطان لإثارة الغضب، وسوقه إلى جهالة مثله.

____________________

(١) في آخر الجزء السادس من الكتاب.

٣٩٧

فيرجع معنى الآية إلى أنّه لو نزغ الشيطان بأعمالهم المبنيّة على الجهالة وإساءتهم إليك ليسوقك بذلك إلى الغضب والانتقام فاستعذ بالله إنّه سميع عليم، والآية مع ذلك عامّة خوطب بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقصد بها أمّته لعصمته.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) نحو تعليل للأمر في الآية السابقة والطائف من الشيطان هو الّذي يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة أو وسوسته الّتي تطوف حول القلب لتقع فيه وتستقرّ عليه، و( من ) بيانيّة على الأوّل، ونشوئيّة على الثاني، ومآل المعنيين مع ذلك واحد والتذكّر تفكّر من الإنسان في اُمور لتهديه إلى نتيجة مغفول عنها أو مجهولة قبله.

والآية بمنزلة التعليل للأمر بالاستعاذة في الآية السابقة، والمعنى استعذ بالله عند نزغة الشيطان فإنّ هذا طريق المتّقين فهم إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا أنّ الله هو ربّهم الّذي يملكهم ويربّيهم يرجع إليه أمرهم فأرجعوا إليه الأمر فكفاهم مؤنته، ودفع عنهم كيده، ورفع عنهم حجاب الغفلة فأذا هم مبصرون غير مضروب على أبصارهم بحجاب الغفلة.

فالآية - كما عرفت - في معنى قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) النحل - ٩٩.

وقد ظهر أيضاً أنّ الاستعاذة بالله نوع من التذكّر لأنّها مبنيّة على أنّ الله سبحانه وهو ربّه هو الركن الوحيد الّذي يدفع هذا العدوّ المهاجم بماله من قوّة، وأيضاً الاستعاذة نوع من التوكّل كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ) كأنّ الجملة حاليّة، والمراد بإخوانهم إخوان المشركين وهم الشياطين كما وقع قوله:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) الإسراء - - ٢٧ والإقصار الكفّ والانتهاء.

والمعنى: أنّ الّذين اتّقوا على هذا الحال من التذكّر والإبصار والحال أنّ إخوان المشركين من الشياطين يمدّون المشركين في غيّهم ويعينونهم ثمّ لا يكّفون عن مدّهم وإعانتهم، أو لا يكفّ المشركون ولا ينتهون عن غيّهم.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ) إلى آخر الآية. الاجتباء افتعال من الجباية، وقولهم:( لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ) كلام منهم جار مجرى التهكّم والسخريّة والمعنى على ما يعطيه السياق: أنّك إذا آتيتهم بآية كذّبوا بها وإذا لم تأتهم بآية كما لو أبطأت فيها قالوا: لولا اجتبيت ما تسمّيه آية وجمعتها من هنا وهناك فأتيت بها( قُلْ ) ليس لي من الأمر شئ( إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا ) القرآن( بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ) يريد أن يبصّركم بها( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

قوله تعالى:( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الإنصات السكوت مع استماع، وقيل : هو الاستماع مع سكوت يقال: أنصت الحديث وأنصت له أي استمع ساكتاً، وأنصته غيره وأنصت الرجل أي سكت، فالمعنى: استمعوا للقرآن واسكتوا.

والآية بحسب دلالتها عامّة وإن قيل: إنّها نزلت في الصلاة جماعة.

قوله تعالى: ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) إلى آخر الآية. قسّم الذكر إلى ما في النفس ودون الجهر من القول: ثمّ أمر بالقسمين، وأمّا الجهر من القول في الذكر فمضرب عنه لا لأنّه ليس ذكرا بل لمنافاته لأدب العبوديّة ويدلّ على ذلك ما ورد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سار بأصحابه في بعض غزواته فدخلوا وادياً موحشاً والليل داج فكان ينادي بعض أصحابه بالتكبير فنهاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: إنّكم لا تدعون غائباً بعيداً(١) .

والتضرّع من الضراعة وهو التملّق بنوع من الخشوع والخضوع، والخيفة بناء نوع من الخوف، والمراد به نوع من الخوف يناسب ساحة قدسه تعالى ففي التضرّع معنى الميل إلى المتضرّع إليه والرغبة فيه والتقرّب منه، وفي الخيفة معنى اتّقائه والرهبة والتبعّد عنه، فمقتضى توصيف الذكر بكونه عن تضرّع وخيفة أن يكون بحركة باطنيّة إليه ومنه كالّذي يحبّ شيئاً ويهابه فيدنو منه لحبّه ويتبعّد عنه لمهابته، والله سبحانه وإن كان محض الخير لا شرّ فيه، وإنّما الشرّ الّذي يمسّنا هو من قبلنا لكنّه تعالى ذو الجلال والإكرام له أسماء الجمال الّتي تدعوا إليه وتجذب نحوه كلّ شئ

____________________

(١) الرواية منقولة بالمعنى.

٣٩٩

وله أسماء الجلال الّتي تقهر وتدفع عنه كلّ شئ فحقّ ذكره وهو الله له الأسماء الحسنى كلّها أن يكون على ما يقتضيه مجموع أسمائه الجماليّة والجلاليّة، وهو أن يذكر تعالى تضرّعاً وخيفة ورغباً ورهباً.

وقوله:( بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) ، ظاهرة أنّه قيد لقوله:( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) فيكون الذكر القولىّ هو الموزّع إلى الغدوّ والآصال، وينطبق على بعض الفرائض اليوميّة.

وقوله:( وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) تأكيد للأمر بالذكر في أوّل الآية ولم ينه تعالى عن أصل الغفلة، وإنّما نهى عن الدخول في زمرة الغافلين، وهم الموصوفون بالغفلة الّذين استقرّت فيهم هذه الصفة.

ويتبيّن بذلك أنّ الذكر المطلوب المأمور به هو أن يكون الإنسان على ذكر من ربّه حيناً بعد حين، ويبادر إليه لو عرضت له غفلة منسية، ولا يدع الغفلة تستقرّ في نفسه، وفي الآية التالية: دلالة على ذلك على ما سيجئ.

فمحصّل الآية: الأمر بالاستمرار على ذكر الله في النفس تضرّعاً وخيفة حيناً بعد حين، وذكره بالقول دون الجهر بالغدوّ والآصال.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ظاهر السياق أنّه في موضع التعليل للأمر الواقع في الآية السابقة فيكون المعنى: أذكر ربّك كذا وكذا فإنّ الّذين عند ربّك كذلك أي اذكر ربّك كذا لتكون من الّذين عند ربّك ولا تخرج من زمرتهم.

ويتبيّن بذلك أنّ المراد بقوله:( الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ) ليس هم الملائكة فقط - على ما فسّره كثير من المفسّرين - إذ لا معنى لقولنا: اذكر ربّك كذا لأنّ الملائكة يذكرونه كذلك بل مطلق المقرّبين عنده تعالى على ما يفيده لفظ:( عِندَ رَبِّكَ ) من الحضور من غير غيبة.

ويظهر من الآية أنّ القرب من الله إنّما هو بذكره، فبه يرتفع الحجاب بينه وبين

٤٠٠