في الزندقة والشعوبية

 في الزندقة والشعوبية0%

 في الزندقة والشعوبية مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

 في الزندقة والشعوبية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد فرج الله
تصنيف: الصفحات: 111
المشاهدات: 35159
تحميل: 7290

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35159 / تحميل: 7290
الحجم الحجم الحجم
 في الزندقة والشعوبية

في الزندقة والشعوبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هل لأنّه وضع أربعة آلاف حديث ونسبها إلى النبي كما يقولون؟

ما أظن فابن أبي العوجاء لم يعترف بوضع تلك الأحاديث إلاّ حين أُخذ لتُضرب عنقه وأحسّ بالقتل، كما تؤكّد النصوص التي سمعناه، وليس قبل ذلك.

ما هي التهمة إذن؟ الزندقة؟ ولماذا لم تقتل هذه التهمة غيره من أصحابه الذين شهروا بها كأبي نواس وواليه ومطيع وحماد ويونس، وكانوا خلطاء لا يفترقون حتى في الزندقة.

لقد قتل من هؤلاء عبد الله بن المقفّع.

وقتل صالح بن عبد القدوس.

وها هو عبد الكريم بن أبي العوجاء يلحق بهم.

فماذا بين هؤلاء الثلاثة من جامع يفردهم عن أصحابهم ويجعلهم المقتولين دونهم.

أظنـه: الفكر

لقد كان ابن المقفّع مفكّراً، وكان صالح بن عبد القدوس مفكّراً، وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء مفكّراً.

وليس من شيء يخيف السلطة أكثر من الفكر حين يبحث وينقد ويرفض.

قصر الآخرون من الزنادقة، كما يدّعون، نشاطهم على اللهو والخمر والمجون فنجوا وتركتهم السلطة في لهوهم وخمرهم ومجونهم أو شجعتهم وأذاعت ما ينظمون ويصورون في لهوهم وخمرهم ومجونهم.

وتجاوز ابن المقفّع وابن عبد القدوس وابن أبي العوجاء ما هو مسموح به من السلطة أو ما كانت تشجع عليه فكان القتل مصيرهم وسيلحق بهم بشّار.

أما الأربعة آلاف حديث التي يحاول الرواة أن يجعلوا منها السبب في مقتل ابن أبي العوجاء فليس فيها ما يقنع فنحن حتى اليوم لا نعرف منها واحداً نص عليه رجال الحديث بأنه من وضع عبد الكريم.

أين ما حلّله ابن أبي العوجاء ممّا حرّمه الإسلام؟ هل حلّل القتل أو الزنا أو السرقة أو شهادة الزور؟

لقد كانت هذه محرّمة قبل ابن أبي العوجاء وفي عصره وبعد عصره حتى اليوم؛ لم يشك في حرمتها أحد ولم يذهب إلى استحلالها أحد منذ حرّمها الإسلام.

وأين ما حرّمه ممّا حلّله أو أوجبه الله على عباده؟ ولأترك الصلاة والصوم والحج وغيرها من أركان الإسلام التي لا يجرؤ عبد الكريم ولا مَن هو أكبر منه على المس بها لا تحريمها، إلاّ إذا خرج جهاراً من الإسلام مبشّراً بدين جديد، وهو ما لم يفعله عبد الكريم. ولو فعله لوجد ألف سيف، قبل سيف السلطة تتوزّع لحمه.

ماذا حرّم ابن أبي العوجاء إذن في الأربعة آلاف حديث التي دسّها؟! هل حرّم صلة الرحم أو عيادة المريض أو مساعدة المحتاجين ممّا يدعو إليه الإسلام ويحث عليه؟!

٦١

ما الذي حلّل وما الذي حرّم في أربعة آلاف حديث، وكل الكبائر في الإسلام لا تتجاوز السبعمائة عند المكثر، ولا الثلاث أو الأربع عند المقل؟! لقد فتّشت كتب الحديث ومظانها، سنّيّة وشيعيّة؛ فلم أجد واحداً من المؤلّفين ذكر أنّ هذا الحديث أو ذاك قد رواه أو نقله ابن أبي العوجاء.

بل إنّ أربعة آلاف حديث تكفي وحدها لأن تؤلّف صحيحاً أو مسنداً يتناقله الناس ولو سرّاً، كما يتناقلون كتب الكفر وشعر الإباحة علناً، لو صحّ بما اتهم به عبد الكريم بن أبي العوجاء. ثم كيف استطاع ابن أبي العوجاء أن يسرِّب أربعة آلاف حديثاً بمتونها وأسانيدها، فلم يشعر به أحد ولم يكشف أحاديثه أو بعضها أحد، رغم شدّة احتراس الناس بالنسبة للأحاديث النبويّة وتدقيقهم فيها، خصوصاً وأنّ حركة تدوين الحديث كانت قد بدأت في ذلك العهد، وبدأ تمييز الأحاديث ونقدها وبيان صحيحها من موضوعها. هذا فضلاً عن أنّ القرآن والسنّة النبويّة الصحيحة التي توارثها المسلمون حتى عهد ابن أبي العوجاء، كانا كفيلين ببقاء الحلال حلالاً والحرام حراماً، وتحصينهما ضد محاولات عبد الكريم وغير عبد الكريم. وإذا كان حماد الراوية - وما أظنّه كان بعيداً عن الرواة وهم يتحدثون عن عبد الكريم ووضعه الأحاديث - قد أفسد الشعر بما يدس على الشعراء من قول لم يقولوه فيجوز لشدّة معرفته بلغات العرب ومذاهبهم في الشعر. فليس الأمر كذلك بالنسبة لحديث النبي، فحماد كان يضع البيت والبيتين وإذا زاد وضع القصيدة ونحلها شاعراً من شعراء العرب، وعددهم غير محدود ولم يعيشوا في زمان واحد. والوضع عليهم سهل لبعدهم عن العصر الذي عاش فيه حماد وعدم تدوين الشعر. أمّا حديث النبي فيختلف عن الشعر، يختلف عنه في أنّه كله لشخص واحد هو النبي محمد (ص). وسنّته قد سار عليها المسلمون من عهده رغم بعض الاختلاف، فلم يكن يسيراً على واحد - ولو كان في مثل معرفة حماد - أن يغيّر فيما جاءت به السنّة تحريماً أو تحليلاً، وقد عرفه المسلمون وساروا عليه وخضعوا له في حياتهم اليومية جيلاً بعد جيل قبل عبد الكريم بن أبي العوجاء. ومع ذاك فإنّ الأحاديث النبوية جاءت في قسم كبير منها لتفصيل ما في القرآن - وهو ما لا يمكن نسبة الوضع إليه - من حلال أو حرام لا لتحليل ما حرّم أو تحريم ما حلّل. فرواية الأربعة آلاف حديث، ما أحسبها إلاّ قد وضعت بعد قتل بن أبي العوجاء تبريراً لقتله واعتذاراً عن قاتله. وأنّ أخذه لم يكن بسبب هذه الأحاديث كما قدمت إذ إنّه لم يعترف بها، ولم يعلن عن وضعها بقول الرواة أنفسهم، إلاّ بعد ما جيء به وقُدّم لضرب عنقه بتهمة لا أشك أنّها غير ذات صلة بما يبرّر المؤلّفون قتله، فلم تكن قضيته، قضية حديث ومحدّثين، ولم يكن بين ممثّلي الادعاء فيه، ابن حنبل والبخاري.

٦٢

الفصـل الثا لثعشـر:

بشّار بن بُـرْد

أظن عدوى الخوف من بشّار قد وصلتني عبر التأريخ، حتى وأنا أحاول الانتصاف له وتبرئته ممّا اتُهم به.

فما إن أمسكت بالقلم مبتدئاً حديثي عنه حتى تمثّل لي أبو معاذ - كما يصوّره المؤرّخون - بجسمه الضخم ووجهه العابس المتجهّم وخلقه الصعب، وهو يملأ فمه بهجاء الناس وثلب أعراضهم حقّاً وباطلاً بما فيهم وبما ليس فيهم. وخشيت أن ينالني منه ما لا قبل لي به، وقد خافه أهل عصره فاشتروا أعراضهم منه. ولست بشاعرٍ فيخشى لساني ولا صاحب مال فيطمع في مالي ولا سلطان فيرهب سلطاني. ثم مالي وللرجل أهيجه وقد كفّ نفسه عنّي فلم يعرض لي بما يسوء.

وتذكّرت أنّني الآن في القرن الخامس عشر الهجري وبيني وبينه قرون وقرون تحول بينه وبين أن ينالني بسوء، فما عليّ إذا أنا خضت في حديثه بما يرضيه أو لا يرضيه، ولن أحتاج أن أتملّقه كما فعل سلم الخاسر معه، ولن أحتاج إلى استئذانه فيما أقول عنه. فلأمض إلى ما أريد ولأهجه ما استطعت فلن يقدر على شيء منّي.

ولكن ما للقارئ ولهذه المقدمة فربّما لا يشاركني خوفي من بشّار ولا إشفاقي من هجائه، حتى لو رجع إلى عصر بشّار أو عبر بشّار القرون إلى عصرنا هذا.

عليّ إذن أن أعود لما أردت من الحديث عن بشّار، هل كان زنديقاً وهل قتل بسبب الزندقة؟

وقبل هذا السؤال وللإجابة عليه، أرى من الضروري أن أسأل متى قُتل بشّار وكم كان عمره عند ذاك.

يقول صاحب الأغاني إنّه قتل عام 168 وقد بلغ نيّفاً وسبعين سنة (1) .

أمّا الخطيب البغدادي (2) وابن خلكان (3) وعبد القادر البغدادي (4) فيذهبون إلى أنّه كان قد تجاوز التسعين عند قتله عام 167 أو 168.

____________________

(1) الأغاني طبعة دار الكتب ج3 ص249 ترجمة بشّار.

(2) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج7 ص118 ترجمة بشّار.

(3) وفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ج1 ص273.

(4) خزانة الأدب لعبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق عبد السلام محمد هارون، نشر مكتبة الخانجي ج3 ص230 وهو ما يذهب إليه صاحب نكت الهميان في نكت العميان عند ترجمته لبشّار ص126

٦٣

ويتفق الذين يترجمون له أنّه قال الشعر وهو ابن عشر سنين. وحين بلغ الحلم كان مخشي معرة اللسان كما يعبّر أبو الفرج.

فبشّار بقي يقول الشعر أكثر من ستين سنة على رواية المقل، وأكثر من ثمانين سنة على رواية المكثر. لم يترك باباً من أبواب الشعر إلاّ طرقه ونظم فيه. مدح وهجا وتغزّل وشبّب وفضل النار على الأرض وأفسد النساء فلم تتعرّض له السلطة ولم تسجنه، بل على العكس، كان المهدي - الذي قتله فيما بعد - يدنيه ويقرّبه ويطلب معاونته في قول الشعر، إذا تهيّأت مناسبة واحتاج إليه، أو حاوله في مناسبة ولم ينجح فيه.

يروي صاحب الأغاني: دخل بشّار على المهدي وقد عرضت عليه جارية مغنّية فسمع غناءها فأطربه، وقال لبشّار قل في صفتها شعراً، فقال:

وَرائِحَةٍ لِلعَينِ مِنها مَخيلَةٌ

إِذا بَرَقَت لَم تَسقِ بَطنَ صَعيدِ (1)

… الخ

ويروى: بعث المهدي إلى بشّار فقال له قل في الحب شعراً ولا تطل واجعل الحب قاضياً بين المحبين ولا تسمِ أحداً فقال:

أَجعَلُ الحُبَّ بَينَ حِبيّ وَبَيني

قاضِياً إِنَّني بِهِ اليَومَ راضِ (2)

… الخ

ويروي أنّه: دخل المهدي إلى بعض حجر الحرم فنظر إلى جارية منهنّ تغتسل، فلما رأته حصرت ووضعت يدها على … فأنشأ - يعني المهدي - يقول:

نظرت عيني لحيني

ثم ارتج عليه، فقال مَن بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشّار فأذن له فدخل فقال أجز: نظرت عيني لحيني.

فقال بشّار:

نظرت عيني لحيني

نظراً وافق شيني (3)

____________________

(1) الأغاني ج3 ص188.

(2) الأغاني ترجمة بشّار ج3 ص222.

(3) الأغاني ترجمة بشّار ج3 ص230 وطبقات الشعراء لابن المعتز ص23.

٦٤

ويمكنك أن تتصوّر البيتين التاليين له ممّا لم يذكره أبو الفرج وهو يكمل الحديث

(فقال له المهدي: قبّحك الله ويحك! أكنت ثالثنا! ثم ماذا؟)

فقال:

فتمنّيت وقلبي

للهوى في زفرتين

……

وأظنّك تستطيع بسهولة أن تكمل هذا البيت، أو تتوقّعه بما يتم معه منظر الجارية العارية، وهي تغتسل غافلة، والخليفة يرى ويراقب.

وها أنت ترى أنّ المهدي يطلب من بشّار أن ينظم أو يجيز ما نظم إذا ارتج على المهدي فلم يستطع أن يكمل ما بدأ به من نظم، في مناسبات فيها الجنس المكشوف، يستسلم له (أمير المؤمنين) ويدعو مَن يشاركه فيه.

والمهدي نفسه لم يكن بعيداً عمّا يتهم به بشّار من المجون والخلاعة واللهو.

فالطبري يصف المهدي فيقول: (وكان يعقوب بن داود قد عرف من المهدي خلعاً واستهتاراً بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بن داود يصف من نفسه في ذلك شيئاً كثيراً وكذلك كان المهدي …) (1) .

وهذا ما يؤكّده ابن الأثير بقوله: (وكان المهدي مستهتراً بالنساء فيخوض يعقوب معه في ذلك …) (2) .

ويتحدث الطبري والجهشياري وابن الأثير عن مجالس الخمر في قصر المهدي قائلين: (… وكان أصحابه - أصحاب المهدي - عمر بن بزيع والمعلّى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، فكان يعقوب ينهاه عن ذلك ويعظه) (3) .

ولا أدري أي حديث يمكن أن يدور بين قوم اجتمعوا على مائدة الخمر.

أتراهم كانوا يتكلّمون في هموم المسلمين، أو في الصوم والصلاة، أو في تحريم الخمر التي يتعاطون كؤوسها؟

____________________

(1) تأريخ الطبري ج8 حوادث سنة 166 ص157.

(2) ابن الأثير ج5 حوادث سنة 166 ص251.

(3) الطبري ج8 حوادث سنة 166 ص160، والوزراء والكتّاب ص 159، 160، وابن الأثير ج5 حوادث سنة 166 ص253.

٦٥

وماذا كان يفعل بشّار وأصحابه (الزنادقة) غير ما يفعله هؤلاء وهم مجتمعون على مائدة شربهم في حضرة (أمير المؤمنين). غير أنّهم لا يملكون موهبة بشّار وأصحابه. ولو ملكوها لنقل لنا المؤرّخون من شعرهم ما لا يختلف عن شعر بشّار ورفاقه.

إذن ما الذي دعا إلى قتل بشّار وهو يخالط المجّان الداعرين من الشعراء ويشاركهم مجونهم ودعارتهم (1) ويقول الشعر الفاحش الداعر مدة ثمانين عاماً فلا يمنع من ذلك إلاّ ما يروى عن نهي المهدي له، وهو كل ما يروى في هذا الشأن، مع أنّ المهدي قد يشاركه فيه أحياناً كما رأينا.

هل تذكّر المهدي زندقة بشّار بعد ثمانين عاماً فقتله بها؟!

ما أحسبني أقبل هذا إلاّ إذا تعرّضت للسياط التي ذهبت بحياة بشّار.

فلألتمس السبب في غير الزندقة، بعد أن رفضتها سبباً ما يزال البعض يتعلّق به لتبرير مقتل بشّار.

____________________

(1) لم أجد في الأغاني على طول ترجمة بشّار ما يشير إلى علاقته بالشعراء المجّان: كوالبة ومطيع وحماد الراوية ويحيى بن زياد، وغيرهم ممّن يذكرهم الشريف المرتضى نقلاً عن الجاحظ. وحين رجعت إلى الجاحظ في حديثه عن الزنادقة في (الحيوان) لم أجد ذكراً لبشّار، بل فيه (وكان بشّار ينكر عليهم) ولا أدري من أي كتب الجاحظ نقل المرتضى ما نقل عن علاقة بشّار بهؤلاء.

٦٦

ولم يعرض أبو الفرج لعلاقة بشّار بحماد عجرد إلاّ في موضعين: هجا حماد بشّاراً في الأول منهما معيّراً إيّاه بأبيه (الطيان ذي التبان) وذكر في الثاني أنّ بشّاراً هجا حماداً دون إيراد الأبيات التي هجاه به. ولم يكن في هجاء حماد لبشّار عبث ولا مجون، لكنّ أبا الفرج على العكس ينص على عمق بشّار واتجاهه الفكري الجاد حين يقول: (كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشّار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد - قال أبو أحمد يعني جرير بن حزم - فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده …).

كان بشّار شاعراً ككل شعراء ذلك العصر، يبحث عن الجوائز والمال، ومع الجوائز والمال، الجاه الذي يسبغه عليه قربه من أُولي الأمر وتقديمهم له على أقرانه. وهو ما يطمع به الشعراء ويحرصون عليه، جاهلية وإسلام. وكان سبيل ذلك كله الخلفاء في الدرجة الأُولى، وطريقهم إليه وزراؤهم وأصحاب النفوذ في قصورهم. وفي بداية الـ 160 للهجرة استطاع يعقوب بن داود أن يتمكّن من المهدي وينفرد بتدبير الأمور. ويبدو أنّ يعقوب قصر في حق بشّار ولم يرع منزلته ولم يثبه على مدحه للخليفة وله أيضاً؛ وهذا ما غاظ بشّاراً وأحفظه من يعقوب.

وكان المهدي قد عزل محمد بن سليمان بن علي العباسي عن البصرة وولّى مكانه صالح بن داود أخا يعقوب، فقال بشّار يهجو صالحاً، ومن بعيد، المهدي نفسه.

هم حملوا فوق المنابر صالحاً

أخاك فضجّت من أخيك المنابرُ

ولم يكن في هذا البيت هجاء مباشر واضح للمهدي، وإنّما هجاء لصالح بن داود ولم يستطع يعقوب أخوه أن يدفع المهدي إلى الانتقام من بشّار لبيتٍ قاله في أخيه أو حاول ولم ينجح.

لكن بشّار لم يقف عند هجاء صالح أو يعقوب أخيه، ولم يكتف بهم، بل حمله الغيظ على هجاء المهدي نفسه هذه المرة، فقال فيه:

بني أُميـّة هبّـوا طال نومكـم

إنّ الخليفة يعقوب بن داودِ

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزقِّ والعودِ

وهو في هذين البيتين لا يهجو المهدي فقط بتخلّيه عن أمور المسلمين وانصرافه إلى لهوه ولذّاته بين الزق والعود كما يقول، وإنّما يحرّض المهدي على يعقوب الذي جعل منه الخليفة ويغريه به.

وما أحسب بشّاراً إلاّ قد أراد الاثنين في بيتيه: أن يهجو المهدي، وأن يفسد بينه وبين يعقوب فيكون قد اشتفى منهما معاً.

٦٧

لكنّه على كل حال قد أثار المهدي في هجائه له، ثم لم يلبث أن قال في المهدي ما لا يحتمله خليفة ولا غير خليفة.

اسمع إليه وهو يتهم المهدي بما لو اتهم به أحداً من سوقة الناس لما تأخّر في قتله إلاّ ريثما يقع عليه عيناه.

خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ

يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان

أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ

وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران

وأظنّك لا تجهل ما ينتظر بشّاراً بعد هذين البيتين: لقد أخذته السياط حتى قضى تحتها وأُلقيت جثّته في البطيحة.

وإن كنت أشك أن يكون البيتان الأخيران لبشّار وإنّما وضعا على لسانه بتدبير يعقوب. وقد يؤيّد ذلك أنّ الرواية المتداولة تذهب إلى أنّ يعقوب قد أرسل إلى بشّار مَن قتله في الطريق قبل أن يصل إلى المهدي الذي بعث في طلبه، خشية أن يعفو عنه إذا تبيّن براءته من البيتين. بل خشية ما هو أكثر من العفو عن بشّار إذا تبين، مع براءة بشّار منهم، أنّهما قبلا بتحريض ودفع من يعقوب الذي ستتجه إليه السياط بدلاً من بشّار.

هكذا انتهى بشّار، لم تقتله الزندقة ولكن قتله هجاء الخليفة وعمّاته وبنو أُميّة ويعقوب ابن داود.

أتراني بعد في حاجة وقد عرضت السبب في مقتل بشّار وانعدام الصلة بينه وبين ما اتهم به من الزندقة، إلى الرواية التي اعتاد المؤرّخون له أن يختموا بها حديثهم عنه والتي قد يكون من المناسب أن آتي بنصّها عن صاحب الأغاني.

تقول الرواية: (لمّا ضرب المهدي بشّاراً بعث إلى بيته مَن يفتّشه، وكان يتهم بالزندقة فوجد في منزله طومار فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّي أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله (ص) فأمسكت عنهم إجلالاً له (ص) على أنّي قد قلت فيهم:

دينارُ آلِ سُلَيمانٍ وَدِرهَمُهُم

كَالبابِلِيَّينِ حُفّا بِالعَفاريتِ

لا يبصران وَلا يُرجى لِقاؤُهُما

كَما سَمِعتَ بِهاروتٍ وَماروتِ

فلمّا قرأه المهدي بكى وندم على قتله وقال: لا جزى الله يعقوب بن داود خيراً فإنّه لمّا هجاه لفّق عندي شهوداً على أنّه زنديق فقتلته، ثم ندمت حين لا يغني الندم.

أتراني استطعت أن أنصفك من بعض ما اتهموك به يا أبا معاذ؟

لقد حاولت ولكن بعد أربعة عشر قرن.

٦٨

وبعد فهؤلاء هم، أُسراً وأفراداً، أشهر الذين قتلوا في الزندقة. ولقد رأينا أن ليس بينهم واحد فقط قُتل فيه، وأنّ الذي قتلهم لم يكن غير السياسة والصراع السياسي، وما يتصل به وما هو قريب منه.

قد يكون بينهم مَن كان زنديقاً حقاً. فأنا لا أتحدث عن زندقتهم أو عدمها، وإن لم تثبت حتى الآن على أحد منهم، ولكنّي أتحدث عن أسباب قتلهم التي لم تكن لها صلة بالزندقة.

لقد كانت الزندقة - كما قلت قبلاً - سلاحاً بيد السلطة، تجرّده حين تشاء على مَن تشاء من خصومها للقضاء عليهم والتخلّص منهم، لا غيرة على الدين ولا احتراماً له. والخلفاء أوّل مَن ازدراه وسخر منه وعبث بأحكامه. ولو كان الأمر بيد سواهم لكان هؤلاء الخلفاء أول مَن يقدّم بتهمة الزندقة وأول المضروبة أعناقهم فيه.

مَن الذي فتح باب الزندقة وجرأ الناس عليها ودفعهم دفعاً إليها، غيرهم وغير الحياة الداعرة الفاسقة البعيدة عن أي دين والتي كانوا يحيونها، حتى أصبحت هي الحياة.

مَن الذي كان يملك المال والجواري والغلمان، ويفتح قصوره للمجّان الداعرين من الشعراء الذين أطلق عليهم اسم الزنادقة، غير الخلفاء؟ ومَن الذي كان يطلب من هؤلاء الشعراء أن يصفوا مجالسهم ومجونهم ودعارتهم، غير الخلفاء؟ فتشيع وتذيع بين الناس، يتناقلون أخبارها ويتنافسون في محاكاتها بقدر ما تتّسع ظروفهم لها.

وماذا تنتظر غير هذا، وقد ملأ الخليفة قصره بالغلمان والجواري من كل الألوان والأجناس والأوصاف، ثم جمع إليهم الشعراء العابثين الماجنين الأذكياء، مع خفّة الروح وسحر الحديث والغزل الفاضح الفاحش في مجالس خمر لا يكون الرقص إلاّ أهون ما يحصل فيها.

وما دام الخلفاء قد سمحوا لأنفسهم بكل ذلك غير متحرجين ولا متكتمين. فلماذا لا يسمح الآخرون من الأمراء والوزراء وأصحاب المال والنفوذ لأنفسهم ما استحله (أمراء المؤمنين) وفعلوه؟ لماذا يمتنعون مما لم يمتنع الخلفاء الذين قامت خلافتهم باسم الدين، وبدعوى القرابة من رسول الله: القاعدة التي يستمدون منها شرعيتهم وبقاءهم واستمرارهم.

أرأيت إلى المهدي الذي يصفه المؤرّخون بأنّه كان غيوراً شديد الغيرة. يدخل فيشاهد إحدى جواريه تغتسل، عارية طبعاً، فيريد أن يصف منظرها ذاك فلا يواتيه إلاّ نصف بيت ثم يحصر، فيطلب من بشّار أن يدخل ويتصوّر منظر جاريته العارية - وربّما هو الذي تولّى وصفه له - ليجيز نصف البيت الذي وقف عنده المهدي.

فإذا كانت هذه حال المهدي الغيور الشديد الغيرة، والدولة العباسية لم يمض على قيامها أكثر من ثلاثين عاماً، فكيف ستكون حال الذين أتوا بعده، وممّن لم يكونوا في مثل غيرته؟!

٦٩

لقد كان الشعراء (الزنادقة) ندماء الخلفاء، لا تعمر مجالسهم إلاّ بهم ولا يكتمل سرورهم إلاّ بحضورهم. فالحديث عن قتلهم بسبب الزندقة - حتى مع افتراض صحّة التهمة - حديث مَن يريد أن يضلّل قارئه أو يضلّل نفسه أو الاثنين معاً. وحسبك من تأريخ لا يكتبه ولا يقرؤه إلاّ هذا وذاك.

أكان واحد من الشعراء (الزنادقة) يستطيع دخول قصر الخليفة أو يجرؤ على الدنو منه، وألف حاجب وحارس متقلدي سيوفهم يحيطون به ويذودون الناس عنه.

هذا ما يخص الزندقة في وجهها القائم على اللهو والعبث والمجون. أمّا زندقة الفكر البعيدة عن اللهو والعبث والمجون، فهي ليست مقطوعة الصلة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً آنذاك، والذي ساعد على انتشار زندقة اللهو ويسّر سبيلها وسهّل ممارستها.

فهذا الوضع إن كان يدفع أحياناً بفعل معاكس إلى النسك والزهد والعودة إلى الدين والتمسّك به والالتزام بتعاليمه إلى حد الجمود، فأن هناك مَن يشطح به الفكر أحياناً، وبفعل معاكس ناتج عن ذلك الوضع نفسه، إلى الكفر بالدين والخروج عليه وتحميله تبعة ما يعاني منه الناس.

مَن يستطيع أن ينكر أثر العامل الاقتصادي وما يمكن أن يؤدّي إليه من جموح فكري لدى البعض، وهو يرى هذا البذخ الأسطوري فيما لا غناء فيه ولا نفع، ويرى ما يقابله من فقر وبؤس، كان من الممكن أن يخفّف منه ومن الإحساس به، إنفاق جزء ممّا ينفق هناك على العبث والمجون وموائد الخمر، وما لا يريد الإنسان ذكره.

لقد استأثر أمير المؤمنين وأُسرته وبطانته من أُمراء ووزراء ومن جوار ومحظيات بكل مصادر الثروة - على كثرتها - حتى ضاقت على الناس معيشتهم، فهم قد يجدون وقد لا يجدون ما يديمون به حياتهم.

هذا الفضل بن الربيع يبني قصره في بغداد فيهب له الرشيد خمسة وثلاثين ألف ألف درهم (معونة) على بناء القصر الذي لا بد أنّه كلّف أكثر من ذلك المبلغ بكثير.

وتستطيع أن تقدّر المبلغ قدره إذا علمت أنّ كل ما يحمل إلى بيت المال من مال ومتاع من جميع كور دجلة وحلوان وكرمان وسجستان لا يتجاوز أربعة وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف درهم، وأنّ أرزاق الكتاب منذ عهد المنصور وحتى أيام المأمون لم تزد على 300 ثلاثمائة درهم للرؤساء منهم.

والمأمون: الخليفة العاقل الحكيم كما يوصف دائماً، يتزوّج من بوران بنت الحسن بن سهل، وهي واحدة من كثيرات، فيكلّف هذا الزواج مائة واثني عشر ألف ألف درهم (مائة واثني عشر مليون درهم) غير ما وزع من الذهب والدر والجواهر، وغير ما منح بالمناسبة السعيدة من الضياع والجواري على الحاضرين من الأُمراء والقادة، وغيرهم من الفقراء والمحرومين!! وغير حصير الذهب الذي فرش لبوران تمشي عليه ليلة زفافها.

ومثل ذاك أو أكثر منه كلّف ختان المعتز بن المتوكل.

٧٠

فإذا وصلنا إلى المستعين وأمّه، نكون قد وصلنا إلى الجنون الذي لا جنون بعده.

وسأدع الأبشيهي يحدثنا عن ذلك في المستطرف (1) :

(وقال أحمد بن حمدون النديم: عملت أم المستعين - الخليفة العباسي - بساطاً على كل حيوان من جميع الأجناس وصورة كل طائر من ذهب، وأعينهم يواقيت وجواهر، أنفقت عليه مائة ألف ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وسألته أن يقف عليه وينظر إليه، فكسل ذلك اليوم عن رؤيته. قال أحمد بن حمدون: فقال لي ولاترجة الهاشمي: اذهبا فانظرا إليه، وكان معنا الحاجب، فمضينا ورأيناه، فو الله ما رأينا في الدنيا شيئاً أحسن منه، ولا شيئاً حسناً إلاّ قد عمل فيه، فمددت أنا يدي إلى غزال من ذهب عيناه ياقوتتان، فوضعته في كمّي، ثم جئناه فوصفنا له حسن ما رأيناه، فقال أترجة: يا أمير المؤمنين: إنّه قد سرق منه شيئاً، وغمزه على كمّي، فأريته الغزال، فقال: بحياتي عليكما أرجعا، فخذا ما أحببتما فمضينا، فملأنا أكمامنا وأقبيتنا وأقبلنا نمشي كالحبالى، فلما رآنا ضحك، فقال بقية الجلساء: ونحن فما ذنبنا يا أمير المؤمنين؟ فقال: قوموا، فخذوا ما شئتم، ثم قام فوقف على الطريق ينظر كيف يحملون ويضحك. ونظر يزيد المهلبي سطلاً من ذهب مملوءً مسكاً فأخذه بيده وخرج، فقال له المستعين: إلى أين؟ فقال: إلى الحمام يا أمير المؤمنين، فضحك من قوله. وأمر الفرّاشين والخدم أن ينتهبوا الباقي، فانتهبوه، فوجهت إليه أُمّه تقول: سرّ الله أمير المؤمنين لقد كنت أحب أن يراه قبل أن يفرّقه فإنّني أنفقت عليه مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار، فقال: يحمل إليها مثل ذلك حتى تعيد مثله، ففعلت، ومضى حتى رآه، وفعل به كفعله بالأول).

____________________

(1) المستطرف في كل فنٍّ مستظرف لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي، نشر دار الكتب العلمية بيروت ط1993 شرح الدكتور مفيد محمد قميحة ص176.

٧١

وسأكمل لك ما لم يقله الأبشيهي:

فإذا علمنا أنّ الدينار يساوي اثني عشر درهماً يكون مجموع ما أنفق على هاتين السجادتين 000 400.720 2 (مليارين وأربعمائة مليون وسبعمائة وعشرين ألف درهم)

أرأيت إلى هذا المبلغ الزهيد!! ما قيمته إذا استطاع أن يدخل السرور، ولو لدقائق معدودات، إلى قلب أمير المؤمنين الذي ما أظنه إلاّ كان مسروراً دائماً، وهو وأُمّه يعبثان بهذه المليارات التي جمعت من جهد مَن اضطروا أن يأكلوا القطط، وينتظروا لحوم الموتى من أهلهم ومن غير أهلهم، ليديموا حياتهم؟!!

ما قيمة مليارين وأربعمائة مليون وسبعمائة وعشرين ألف درهم في سجّادتين يداس عليهما بالأرجل، ثم ينتهبهما الحاشية والغلمان إذا كان في ذلك ما يسعد أمير المؤمنين؟! وهل هناك أهم عند المسلمين وأعظم خطراً من سعادته وسعادة والدته؟!!

ولقد سبق أن أخبرتك أنّ أرزاق الكتّاب والعمّال كانت إلى زمن المأمون ثلاثمائة درهم للرؤساء منهم (1) فهذا يعني أنّ ثمانية ملايين وألفين وأربعمائة من رؤساء الكتّاب والعمّال وما يعيلون من أُسر يتضاعف معها العدد، لا يتجاوز ما يدفع لمعيشتهم ثمن سجّادتين، في زمن الخلافة الرشيدة التقيّة المؤمنة التي ما تزال تجد حتى اليوم في أوساط المسلمين، مَن يدافع عنها بل مَن يدعو للعودة إليها.

____________________

(1) الوزراء والكتّاب للجهشياري، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي، ط أُولى مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة 1938 ص126.

٧٢

هكذا كان واقع الحياة الإسلامية التي يريد المزوّرون أن يصوّروها جنّة يحار المسلم بم يبدأ يومه من طيباتها.

لقد كان هناك تفاوت كبير، بل غير معقول بين طبقة صغيرة، على رأسها أمير المؤمنين، تملك كل شيء، وطبقات كبيرة حرمت كل شيء.

وقد انعكس هذا التفاوت في شطح فكري بلغ حد الكفر، يمثّله بعض ما وصل إلينا من شعر ذلك العهد.

ولأنقل لك بعض ما حضرني منه، وأنا أتحدث عن العامل الاقتصادي وعلاقته بزندقة الفقر:

فهذا شاعر يرى مملكة آل طاهر بن الحسين من العبيد وكثرة عددهم وهو لا يملك إلاّ واحداً، فيموت هذا الواحد الذي كان يعينه في أمور حياته فلا يتماسك أن يقول مخاطباً الله:

تركت عبيد بني طاهرٍ

وقد ملؤوا الأرض عرضاً وطولا

وأقبلت تسعى إلى واحدي

ضراراً كأنّي قتلـت الرسـولا

فسوف أدين بترك الصلاة

وأصطبح الخمر صرفاً شمـولا

وهذا الخبّاز البلدي يقول كما يذكر الثعالبي في اليتيمة:

يـا قاسم الرزق لم خانتني القسمُ

ما أنت متّهم قل لي مَـن اتهـمُ

إن كان نجمي نحساً أنت خالقـه

فأنت في الحالتين الخصم والحكمُ

وهو يمثّل إلحاداً أو خروجاً على الدين في الأقل بسبب الفقر.

وهذا آخر اسمه أحمد بن محمد المتيّم: يقول هو الآخر وقد لامته زوجته على تركه الصلاة، فأجابها يشرح لها أسباب ذلك. وأظنّها كانت تلح عليه وتبرمه بإلحاحها ليعود إلى صلاته. ولذا نراه لا يكتفي بما شرح، ولكنّه مع الشرح، يطلقها ليستريح من إلحاحها ومضايقتها له. استمع إليه وهـو يقول:

تلوم على ترك الصلاة حليلتي

فقلت اعزبي عن ناظري أنتِ طالقُ

فـو الله لا صلّيـت لله مفلسـاً

يصلّي له الشيخ الجليـل وفائقُ

لماذا أُصلّي أين مالي ومنزلي

وأين خيولي والحلى والمناطقُ

أُصلّي ولا فتر من الأرض يحتوي

عليه يمينـي إنّنـي لمنافقُ

بلى إن عليّ الله وسّـع لم أزل

أُصلّي له ما لاح في الجو بارقُ

وأنا أرفض طبعاً مذهب الشاعر في ربط إيمانه بالله وعبادته له بالمال والخيل والحلي. وإنّما أردت فقط أن أنبّه إلى هذا التفاوت الذي تجاوز الحد المعقول وغير المعقول في الغنى والفقر، وما قد يؤدّي إليه لدى البعض من شطحات تصل حد الزندقة، إذا لم يكن الفكر محصناً بما يحفظ إيمانه.

ولا يقل العامل السياسي أثراً في الشعور بالأزمة المستحكمة التي كان يعاني منها الفرد والتي تمهّد الطريق إلى نوع من الزندقة، ليست منها في شيء زندقة اللهو والعبث والمجون.

لقد كان النظام السياسي من الفساد بما لا يوصف في دولة الفرد الذي هو أمير المؤمنين.

ولكن ما أريد أن أقف عنده وأشير إليه هنا، هو هذا النظام المتخلف الذي اسمه (ولاية العهد) وهو أُسلوب في الحكم يتّجه أول ما يتّجه إلى مصادرة حرية المسلمين، فيفرض عليهم حاكماً أو حكّاماً أطفالاً أو بلداء، لا يحسنون الحكم ولا يحلمون به، ولم يعانوا ولم يدفعوا ثمناً للوصول إليه لولا أن يفرضهم مَن كان بيده الحكم على الناس، سالكاً في ذلك مختلف الوسائل.

٧٣

ولقد خلق هذا العهد وولايته وخرقه ونقضه من المشاكل، وكلّف المسلمين من الدماء والدمار ما هو معروف للجميع، ولكنّه خلق ولا شك لدى المسلمين أو بعضهم على الأقل شعوراً بالمرارة والحقد والاستياء أن يساسوا بهذا الشكل المزري، وكأنّهم أنعام تساق من مالك إلى مالك يبيعهم أو يتنازل عنهم السابق للاحق.

وهكذا زرع الخلفاء العباسيون وقبلهم الأمويون بذور الزندقة، ثم رعوها ونموها وغذوها ولم يقطعوا منها إلاّ ما آذاهم من شوكها.

إنّها السياسة كما قلت. ولو لم تكن السياسة وراء القتل، ولو لم تكن السلطة هي التي تفرضه، فلمَ ترد توبة الزنديق - على اتساع هذا المفهوم - ويستتاب المرتد وتقبل توبته. وما أظن الزندقة في كل وجوهها تبلغ أو تتجاوز حد الارتداد.

ولو لم تكن السياسة وراء القتل، فلمَ تقبل توبة البعض من هؤلاء الزنادقة وترفض توبة الآخرين وتُضرب أعناقهم؟!

أكانت الزندقة تختلف من شخص لآخر، ومن جماعة لأُخرى؟!

أمّا أنا فأجيب بنعم، ذلك أنّ الزندقة التي تحاربها السلطة، هي زندقة الفكر والسياسة، حين تخرج وتتحرك، أو حين تدخل الصراع السياسي. هذه الزندقة هي التي تمثّل الخطر الحقيقي على السلطة ورؤوسها، من خلفاء فما دونهم أو فوقهم أحياناً. وهي أخطر من الردة التي لا تتجاوز علاقة صاحبها بالله، وهم غير معنيّين به إلاّ كسيادة وحكم وسلطان؛ ولذا جاءت عقوبة الزندقة هنا أقسى من عقوبة الردّة.

أمّا الزندقة التي تشغل الناس عن السلطة وتلهيهم وتصرفهم عن التفكير في واقعها وواقعهم، فليست من الزندقة التي تحاربها السلطة، إن لم تشجّع عليها ما دامت قائمة بمهمّتها في إلهاء الناس، وإبعادهم عن التفكير في هذه المأساة التي يحيونها وفي أسبابها (1) .

____________________

(1) وكم أثار استغرابي قول الجاحظ في كتابه (الرد على النصارى): (ألا ترى أنّ أكثر مَن قتل في الزندقة ممّن كان ينتحل الإسلام ويظهره، هم الذين آباؤهم وأُمّهاتهم نصارى..).

وعدت إلى كل الذين ذكرتهم ممّن قتلوا في الزندقة، فلم أجد واحداً فقط كان نصرانياً من جهة أبيه أو أُمّه.

والمشكلة مع الجاحظ، أنّك لا تستطيع أن تعتمد عليه في قضايا التأريخ الإسلامي؛ فهو يكتب الشيء ونقيضه، ربّما ليدلل بذاك، على سعة اطلاعه وقدرته على الإقناع، وقوّته في المناظرة والجدل ورد الخصوم. رسائل الجاحظ - تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون - نشر مكتبة الخانجي - المجلد الثالث ص315.

٧٤

القسـم الثانـي:

الشعوبيّة

أوّل ما يواجهك في موضوع الشعوبية هي هذه النسبة المخالفة لما سار عليه النحاة، وهم يتعرّضون لبحث النسب في كتب النحو. لماذا الشعوبية وليس الشعبية بالمفرد، والنسبة لا تكون للجمع (الشعوب) إلاّ في حالات ينص عليها النحاة على وجه الحصر، وليس من بينها هذه الحالة.

هل كانت هذه النسبة مقصودة للدلالة على معنى، لا يمكن أن تدل عليه النسبة إلى المفرد، فتراجع النحو لحساب السياسة وخضع لأحكامها.

هذا ما أظن، إذ إنّ المقارنة والمفاضلة لم تكن في الأصل بين العرب وبين شعب بذاته، وإنّما كانت بين العرب وبين غيرهم من أُمم وشعوب كثيرة دانت لهم؛ وهذا ما لا يمكن التعبير عنه بلفظ المفرد (شعب) والنسبة إليه (شعبي) وإلاّ أخطأنا المراد.

ثم إنّ اصطلاح الشعوبية بما يتضمّنه من جمع للشعوب الأخرى، وتسوية لها في صف واحد مقابل العرب، سيعزّز ارتباط هذه الشعوب ببعضها ويوحّدها في مواجهة مَن يعتبرونه عدوّاً لهم جميعاً، ويشعرهم بالقوّة إزاءه ويدعم دعواهم في المطالبة بالتسوية معه، أو فيما يتجاوز التسوية إلى تفضيلهم على العرب. ولن يقف إلى صف العرب عند ذاك شعب من هذه الشعوب، في موضوع قريب من السياسة بعيد عن الدين الذي يجعل من المسلمين عرباً وغير عرب أُمّة واحدة.

هذا من جانب (الشعوب) الأُخرى، أمّا من جانب العرب فالأمر على العكس، إذ ربما أراد المتعصّبون منهم ألاّ يقصدوا المفاضلة بين العرب وبين شعب من هذه الشعوب فقط وتفضيل العرب عليهم. وإنّما أرادوا المقارنة والمفاضلة بين العرب وبين كل تلك الشعوب وتفضيل العرب عليها، فهي تتساوى كلها بالنسبة للعرب وإن اختلفت فيما بينها علوّاً وانحطاطاً.

يضاف إلى كل ذلك أنّ النسبة للمفرد (شعبي) لا تخلو من غموض وإبهام. فهل يقصد باللفظ ما يقابل الرسمي أو الحكومي؟ هل يقصد به شعب معيّن ومَن هو، وأي شعب يمكن أن يكون مصداقاً له؟ الفارسي أو الرومي أو الهندي … الخ.

وهكذا سارت هذه التسمية التي يبدو أنّ المؤلّفين العرب ارتضوها وفضّلوها، كل من رؤية خاصة به، للتعبير عن حركة سياسية ثقافية عرقية، ساهمت إلى حد كبير في إضعاف الروابط بين أبناء الأُمّة الإسلامية الواحدة وأوشكت أن تمزّقها.

٧٥

ولنترك النحو وأقيسته ورجاله إلى التأريخ؛ لنرى كيف ظهرت هذه الحركة وماذا كانت تعني عند ظهورها، ثم كيف تطوّرت بعد ذاك؟ وما هي العوامل التي ساعدت على ظهورها، ثم على تطوّرها حتى هددت في وقتٍ ما وحدة المسلمين، وكادت أن تقضي عليها بما أشعلت من حروب وأزهقت من أرواح وأسالت من دماء وأورثت من كره وحقد وعداء استمر طويلاً.

حين بعث الله محمّداً بالإسلام بعثه للناس جميعاً وكان العرب (مهاجرون وأنصار) طبعاً أول مَن استجاب للدعوة التي بدأت بهم وقامت بينهم. وهم الذين حملوا الإسلام وتحمّلوا وجاهدوا وقاتلوا لإعلاء كلمته ضد العرب من أعدائه أوّلاً، ثم ضد غير العرب من الأُمم الأُخرى بعد دخول العرب أو غالبيتهم فيه.

ولم يكن في أيام الرسالة الأُولى مسلمون من غير العرب إلاّ أفراداً لا نكاد نعرف منهم أكثر من ثلاثة هم: سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي الذي لم يكن رغم لقبه رومياً، بل عربياً من النمر بن قاسط من ربيعة أصابه سباء في الجاهلية، وقيل نشأ في الروم فغلب عليه اسمهم لطول مكثه فيهم، وهو أحد السابقين إلى الإسلام والذين أُوذوا وعذبوا فيه.

بقي من الثلاثة اثنان هما سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وقد كانا من السابقين إلى الإسلام، أبليا فيه وجاهدا في سبيله.

أمّا سلمان فكان هو صاحب فكرة الخندق يوم الأحزاب، وبرأيه وحسن تدبيره تجنّب المسلمون ما كان ممكناً أن يحصل لهم لولا الخندق الذي حماهم من كيد المشركين وكسر شوكتهم، وردّهم دون أن يظفروا بشيء غير قتل فارسهم عمرو بن عبد ود.

وأمّا بلال مؤذّن الرسول فقد تحمّل ما لا يتحمّله إلاّ القلّة من الذين رزقهم الله القوّة والصبر على تحمّل الأذى والاستهانة به.

وما أظن الذين لم أذكرهم من المسلمين غير العرب إذا كان هناك آخرون لم أذكرهم يتجاوزون في ذلك العهد عدد مَن ذكرتهم منهم.

وما أظن هؤلاء بمجموعهم، وهم لا يرجعون لجنس واحد، يستطيعون أن يستفزّوا العرب أو يثيروا لديهم شعوراً بالغيرة أو العداء، وهم كما قلت قد دخلوا الإسلام عن عقيدة راسخة وإيمان عميق، استهانوا معهما بكل ألوان التضحية وضروب العذاب التي تعرّضوا لها أيام ضعف الإسلام، وعدم قدرة المسلمين على حمايتهم من جبابرة العرب في ذلك العهد.

٧٦

وتوفّي النبي محمد (ص) وتبعه بعد سنتين أبو بكر ولم يجد شيء ذو بال بالنسبة لهؤلاء، ولم يزدد عددهم كثيراً عمّا كان عليه.

وجاء عهد عمر وجاءت معه الفتوح، ومع الفتوح المال والغنائم والأسرى والسبي.

وكثر عدد هؤلاء الأجانب الذين كانوا يعتبرون من جملة الغنائم. وكثر من جهة أُخرى عدد الداخلين في الإسلام من غير هؤلاء بعد الذي رأوا أو سمعوا عن سماحته وعدالته ومساواته بين المسلمين، وعليهم جميعاً أطلق اسم: (الموالي).

وكان المسلمون الأوائل الذين ذاقوا مرارة الذل والقهر، والذين يعيشون قيم الإسلام كما عرفوها في زمن صاحب الرسالة، يحسنون التعامل مع هؤلاء الموالي الذين لم يشعروا بوطأة الهزيمة قدر شعورهم بسعادة الدخول في الدين الجديد.

لكن هذا لا يعني أنّ العرب المسلمين جميعاً كانوا يسيرون على نفس الأسلوب في تعاملهم مع الموالي، وتنفيذ ما يأمر به الإسلام من الرفق بهم والعطف عليهم وإعطائهم حقوقهم.

فإلى جانب أولئك العرب المسلمين، كان هناك نمط ثان من الذين دخلوا الإسلام متأخّرين كرهاً أو طمعاً، ولم يستطيعوا أن يتمثّلوه ولا أن يستبدلوه بما نشؤوا عليه من عادات وتقاليد في جاهليتهم، وهي ليست بعيدة.

فهؤلاء لم يسيروا مع مواليهم سيرة المسلمين الآخرين، ولم يلتزموا بما فرضه الإسلام لهم من حقوق، ولم تخل نظرتهم إليهم وتعاملهم معهم من استعلاء وترفّع يمثلان الحالة السائدة بين منتصر ومهزوم، أو بالأحرى بين مالك ومملوك.

ولا بد أن يكون بين الموالي مع مرور الوقت، مَن صدمته هذه المعاملة ومَن كان يرفضها ويتمرّد في داخله عليها، وهو يستعيد ذكرياته عن ماضيه قبل أن يصبح رقّاً ينقله سيّده معه حيث سار، ويبيعه أو يتنازل عنه كلما شاء لمَن شاء.

لكن ذلك لم يكن القاعدة، وكان الأمل مبسوطاً أمام الموالي في انتهاء حالة قد تكون شاذّة، خصوصاً وأنّ الإسلام كان حتى ذلك العهد قوياً بأصحابه الذين حملوه فتياً، ووجودهم يخفّف من شعور الموالي بالضيق ويمنحهم الأمل بإن يتبدّل وضعهم نحو الأفضل.

٧٧

ومضى عمر حميداً مشكوراً لم يملك ولم يخزن، ولم يضعف فيما تحمّل من أُمور الإسلام والمسلمين عرباً وموالي.

وجاء عثمان وجاء معه بنو أُميّة. ولم يكن هؤلاء بحق موضع ثقة المسلمين سيّما الأوائل الذين عاصروا الإسلام أيام ضعفه. وهم لا ينسون أنّ بني أمية كانوا من أشد المحاربين له المؤلّبين عليه. لم ينسوا أبا سفيان، ولم ينسوا الحكم بن أبي العاص، ولم ينسوا عقبة بن أبي معيط، ولا أخوتهم من بني عبد شمس: عتبة وشيبة والوليد. ولم يسلم الأمويون باستثناء بضعة نفر إلاّ بعد أن أسلم الناس وقوي الإسلام وأخفقت كل وسائلهم في محاربته وصدّه وصد الناس عنه، وبعدما رأوا أنّ بقاءهم على الامتناع عن الدخول فيه سيضعفهم ويحول بينهم وبين ما يطمحون إليه من سلطان، سيسبقهم إليه مَن سبقهم إلى الإسلام , وازدادت الفتوح وازداد العرب ثراءً وازداد عدد الرقيق من البلاد المفتوحة.

ولم يكن الأمويون الذين غلبوا على عثمان واستأثروا بالسلطة، مع نزعة قبلية متعالية، يحسنون التعامل مع العرب المسلمين أنفسهم، ويشعرون بالتفوّق والفضل عليهم، فما بالك بغير العرب من هؤلاء الموالي الذين جلبتهم الفتوح قهراً، أو أسلموا قبل أن تجلبهم الفتوح قهراً.

وهكذا بدأت تسوء أحوال هؤلاء الموالي، ومع ذاك فلم يبد منهم حتى ذلك الوقت ما يشير أو يعبّر عن موقف خاص بهم. فما يزال هناك صحابة أجلاّء يهربون بهمومهم إليهم، وإسلام يلوذون به ويتفيّؤون ظلاله، وأمل يتسع لهم كلما ضاق بهم واقعهم أو ضاقوا به. ولم ينقل عن واحد منهم قول أو فعل طعن فيه بالعرب أو ذمّ حاضراً أو حنّ إلى ماضٍ، أو حاول استبدال دين بدين ممّن سمّوا فيما بعد بالشعوبيين.

وقامت الثورة على عثمان ولكنّها لم تنته بمقتله. قام بها عرب من قبائل عربية:

الذين حرّضوا على عثمان وأيّدوا الثورة عرب.

والذين ساروا من أمصارهم قاصدين المدينة عرب.

والذين قادوا الثورة عرب.

والذين حاصروا عثمان وقتلوه عرب.

٧٨

ماذا كان: طلحة، والزبير، وأُم المؤمنين عائشة، وعبد الرحمان بن عوف؟

ماذا كان: الأشتر، وحكيم بن جبيلة، وعبد الرحمان بن عديس؟

ماذا كان: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمار بن ياسر؟

والجماهير التي خرجت من الكوفة والبصرة ومصر إلى المدينة تحمل غضبها ومطالبها، هل كانت جماهير الشعوبيين يريدون الكيد للإسلام والثأر من العرب وإعادة مجد فارس؟

هل كان بين كل الذين ساهموا في الثورة على عثمان، ومن خلاله، الثورة على تسلّط الأمويين وتحكّمهم، ابتداءً وانتهاءً، جماهير وقادة، مَن لم يكن مسلماً عربياً من قبيلة عربية معروفة؟

ويبقى هذا اليهودي القادم من صنعاء، على رغم كل ما ذكرناه عن الثورة وشخصياتها، دعاة وقادة ومساهمين ومنفّذين، وعلى رغمه هو، قائداً ومحرّكاً لها ومدبّراً لأمرها، والعقل المفكّر والمخطّط والمنفّذ فيها؛ لأنّ عدداً من الذين يقرؤون التأريخ معكوساً وبعين واحدة، يريدون ذلك ولا يرضيهم إلاّ ذلك، ولو جمعت لهم كل الذين ساهموا في الثورة على عثمان وأقسموا أنّهم لا يعرفون ابن سبأ، أو ابن السوداء هذا ولم يسمعوا به؛ لأنّه غير موجود أصلاً، لكذّبوهم وسخروا منهم واتهموهم بالكيد للعرب والإسلام، ولأصرّوا على أنّ ابن سبأ هذا أو ابن السوداء هو القائد لهم، وأنّهم كلهم لم يكونوا إلاّ منفّذين لخطة خبيثة جهلوها ولم يعرفوا عنها شيئاً، وأنّهم كلهم كانوا ضحية خبثه وجهلهم.

أيمكن أن ألغي عقول كل هؤلاء العرب المسلمين، وفيهم أصحاب الدين والسابقة والفضل والشرف، وألغي عقلي قبلهم، فأقبل أن أجعل منهم مجرّد أتباع مسحورين مخدّرين لا عقل لهم ولا فكر، يسوقهم واحد من اليهود لم يسلم ولم يترك صنعاء إلاّ قريباً؟

أتراهم سيقبلون مني هذا؟! أُقسم أن لو تقدّم بي العمر أو تأخّر بهم أو ببعضهم لجرّوني أمام القضاء بأكثر من تهمة، ربّما أهونها اتهامهم في عقولهم.

كيف استطاع هذا اليهودي الذي لم يسلم، كما يقولون إلاّ قريباً قبل سنتين أو ثلاث، أن يكسب كل هذا التأثير والنفوذ وكل هذه العلاقات والثقة بين ملايين المسلمين من المدينة والكوفة والبصرة ومصر. فيكفي أن يأمرها فتطيع ويوجّهها فتمضي ويطلب منها أن تثور وتقتل فتثور وتقتل. لا تسأل ولا تنتظر ولا تراجع. ولو طلب الله منهم ذلك لما نفّذوه بنفس الهمّة والنشاط الذي نفّذوا به أوامر اليهودي ابن السوداء.

لقد صور هؤلاء (المؤرّخون) العرب المسلمين، مجموعة من الأغبياء أو حتى دون هذا الوصف. لا عقل لهم يرجعون إليه ولا فكر يميّزون به ما هو خطأ ممّا هو صواب. ينقادون لكل أحد، يعرفونه أو لا يعرفونه، مسلم أو غير مسلم، عربي أو مولى. وما أظن الشعوبية تستطيع أن تنزل بالعرب وتحط من قدرهم وتنال منهم، أكثر ممّا نزل وحط ونال الذين يدّعون محاربة الشعوبية: قدماء ومحدثين.

وكانت هذه الثورة - إذا تركنا حروب ما يسمّى بالردّة - أوّل ثورة عربية إسلامية دفع إليها تسلّط الأمويين وتعسّفهم واستئثارهم، وانتهت بمقتل الخليفة الذي لم يرد أو لم يستطع أن يكف أُسرته ويضرب على أيديهم، ويرضي المسلمين ويشعرهم بالعدل والمساواة كما عرفوها من قبل.

٧٩

ولم أرد أن أطيل الحديث عن هذه الثورة ولا الدخول في تفاصيلها، وإنّما أردت فقط بيان هويتها العربية الإسلامية، وبعدها عن الشعوبية التي يحلو للبعض أن يصفوها بها أو يجعلوها من صنعها.

وجاء المسلمون بعليٍّ خليفة، ودامت خلافته خمس سنوات، مرّت كلها في حروب متصلة أشعلها عرب مسلمون، لا موال ولا شعوبيون حتى انتهت باغتياله عام 40.

وباستشهاد علي انتهى عهد الراشدين وعهد الأُسر المختلفة من قريش؛ ليقوم حكم الأُسرة الواحدة الذي يختلف في قيمه وأساليبه وطريقة تعامله مع الناس عمّا سبقه.

ذلك هو الحكم الأموي الذي بدأ بمعاوية وانتهى بمروان بن محمد عام 132.

ولا أريد الحديث عن بني أُميّة في الجاهلية، فهو أمر معروف وليس من شأننا هنا، ولا الحديث عنهم في الإسلام، فهو أمر معروف أيضاً وقد تعرّضت له عند الحديث عن الثورة على عثمان وعلاقتهم بها.

ولكنّي أريد الحديث عن سياسة الأمويين - وقد صاروا حكّاماً - بقدر ما تتصل هذه السياسة بموضوعنا عن الشعوبية.

عن هذه الصلة بين الحكم الأموي وبين الشعوبية إذن سأتحدث.

وهذا يقتضيني أن أتناول سياستهم مع المسلمين عرباً وموالي لأخلص من بعد، إلى موضوع الشعوبية في العصر الأموي.

لقد قامت سياسة الأمويين على البطش والشدّة في التعامل مع المسلمين والقسوة عليهم وعدم الرفق بهم.

فهذا زياد بن أبيه يقوم في البصرة خطيباً فيعلن أنّه سيأخذ الحاضر بالغائب والبريء بالمذنب.

وهذا مسلم بن عقبة المري يبلغ من قتلهم يوم الحَرّة من أهل المدينة في المعركة، أو بعد انتصاره ودخوله المدينة، سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من غيرهم. ثم لا يكتفي حتى يبيح المدينة لجيشه ثلاثة أيام يفعل فيها ما يشاء.

وهذا الحجّاج بن يوسف يخطب في الكوفة فيهدّد بأنّه يرى رؤوساً قد حان قطافها وأنّه لصاحبها.

وهذا عبد الملك بن مروان يقول مخاطباً أهل مكّة: (.. فمَن قال برأسه كذا قلنا له بسيفنا كذا).

٨٠