في الزندقة والشعوبية

 في الزندقة والشعوبية0%

 في الزندقة والشعوبية مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

 في الزندقة والشعوبية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد فرج الله
تصنيف: الصفحات: 111
المشاهدات: 35155
تحميل: 7290

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35155 / تحميل: 7290
الحجم الحجم الحجم
 في الزندقة والشعوبية

في الزندقة والشعوبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والى جانب هذه الشدّة في معاملة عموم العرب والمسلمين، كان هناك جانب آخر لا يقل خطورة عنه، لجأ إليه الأمويون ومارسوه طوال أيام حكمهم لتثبيت أركانه، وتفتيت حركات المعارضة ضده. هذا الجانب يتمثل فيما اتجه إليه الأمويون من إحياء العصبية القبلية بعد أن ضعف دورها وكاد أن يتلاشى في الحياة الإسلامية.

فمع بداية الحكم الأموي بدأت تبرز وتقوى ظاهرة طالما حاربها الإسلام، وحاول أن يحد من تأثيرها في حياة المسلمين إذ لم يكن ممكناً القضاء عليها تماماً. تلك هي العصبية القبلية التي كانت تمثّل خطراً داخلياً في الحياة الإسلامية، وفيما بين المسلمين الذين كانوا من قبائل مختلفة، لم تخلُ جاهليتها من معارك وحروب وفخر وهجاء.

وقد نجح الإسلام إلى حد كبير أن يحاصر هذه الظاهرة ويخفّف من آثارها ويستبدل بها أُخوّة الإسلام الذي لا تفاضل فيه إلاّ بالتقوى.

لكن ذلك لم يكن ليريح الأمويين الذين يعرفون أنّ المسلمين، خصوصاً أصحاب الفضل والسابقة منهم، لا يرونهم رضا لهم ولا أهلاً لحكمهم. ما كان الأمويون ليجهلوا شعور المسلمين نحوهم وهو خطر دائم عليهم؛ ولذلك فما إن استتب لهم الأمر حتى فكّروا فيما يدفعون به الخطر عنهم، ولم يكن أمامهم أمضى من العصبية القبلية يشعلونها بين المسلمين، وهم بعد قريبو عهد بالجاهلية، فيشغلونهم بأنفسهم ويبعدونهم عن التفكير بهم وبالحكم.

وبدأت جاهلية جديدة: يمن وربيعة ومضر لا تقدّم هذه إلا لتؤخّر تلك. وبدأت المنافسة وبدأت الحروب، فبين كلب وقيس حرب، وبين قيس وتغلب حرب، وبين تميم والأزد حرب، كل قبيلة مشغولة بحربها مع الأخرى.

ومع الحرب بين القبائل وبسببه، بدأت الحرب بين الشعراء، الذين كان كل منهم ينتمي لقبيلة، فيمدح ويفخر ويهجو ما اقتضت مصلحة قبيلته ذلك، ولكنّهم كلهم - مع بعض الاستثناءات التي لا تلغي القاعدة - يمدحون الأمويين الذين يجزلون لهم العطاء بقدر ما يبلغ الشاعر من رضاهم.

وتراجع أصحاب الفقه أمام أصحاب الشعر، وأصحاب الدين أمام أصحاب اللهو، ولم يعد الفقراء وأصحاب الحاجات من المسلمين يجدون مَن يسأل عنهم ويحفل بأمرهم.

وأموال المسلمين تنفق في غير مصارفها الشرعية يشترى بها الرجال واللهو. وحلّت دمشق محل مكّة والمدينة والكوفة والبصرة، واستأثرت بالرعاية دونها.

وولاية العهد التي قد تسند إلى أربعة متتابعين بعد الخليفة، سدّت أمام المسلمين أيّ منفذ أو أمل بانفراج قريب للمحنة التي يعيشونها.

ثم هناك علي بن أبي طالب الذي لا يستطيع خيار المسلمين، لا الشيعة وحدهم، أن يسمعوا على المنابر لعنه وسبّه ممّن لا يمكن أن يقاس به ديناً وسابقة فضل.

هذا هو الوضع كما تؤكّده الوقائع، قد يختلف مع هذا الخليفة عنه مع ذاك، ولكنّنا نتحدث عن الحكم الأموي الذي امتد أكثر من تسعين عاماً، لا عن هذا الخليفة أو ذاك من خلفاء الأمويين.

٨١

وأظننا لا نستغرب في مثل هذا الوضع أن تقوم ثورات وثوّار، أصحاب دين انتصاراً لدينهم وغضباً له، أو أصحاب دنيا طلباً للحكم والسلطة باسم الدين وتحت رايته.

ثار هؤلاء وتبعهم الناس وثاروا معهم وقاتلوا وقتلوا في صفوفهم. لم يُجبروا على ذاك ولم يكرهوا، ولم يدفع لهم ثمن للانضمام إليهم والقتال معهم، إلاّ كرههم للحكم الأموي وبرمهم به، وعدم صبرهم على ظلمه ويأسهم من صلاحه.

ثار هؤلاء وكلهم عرب من قبائل عربية شهيرة وأُسر عربية أشهر.

ثاروا طوائف وفرق، وثاروا أفراداً انضم إليهم والتحق بهم هؤلاء المظلومون من العرب المسلمين.

هل كانوا يثورون لو لم يظلم الحكم ويتعسّف ويجور؟

وهل كان سيثور معهم أحد وينضم إليهم أحد، لو لم يكن الحكم فاسداً قد ملّه الناس وملّوا ظلمه وتعسّفه وجوره؟

ثار الخوارج ابتداءً من فروة بن نوفل الأشجعي وحوثرة بن وداع، حتى نافع وقطري وشبيب.

وثار الشيعة ابتداءً من سليمان بن صرد الخزاعي في عين الوردة، والمختار بن أبي عبيد، حتى زيد بن علي.

وثار عبد الله بن الزبير وعبد الرحمان بن الأشعث ويزيد بن المهلب.

فهل رأيت بين هؤلاء مَن لم يكن عربياً ومن أُسرة عربية معروفة؟!

هل فيهم مَن هو مولى يريد الكيد للعروبة والإسلام وإعادة مجد فارس ودين ماني ومزدك؟!

أكانت الثورة لهواً ومجلس شراب، فثاروا وتبعهم الناس يتدافعون وراء كأس خمر وسماع مغنٍّ والتمتّع برقص جارية.

ليس السؤال لم ثاروا، لكن السؤال - لو لم يثوروا - لمَ لمْ يثوروا؟

ثاروا لأنّه كان لا بد أن يثوروا، وإلاّ جرّدناهم من أفضل صفات الإنسان وأكرمها، حين يظلم فيخضع ويستكين ولا يرفض ولا يتمرّد ولا يثور. وما أظن هذا ممّا يشرّف العرب ويرضي كبرياءهم وإن كان يرضي - كما يبدو - هؤلاء العروبيين الذين يقفون دائماً مع السلطة وينتصرون لها ويدافعون عن جرائمها، وينسون دائماً هذه الجماهير المضطهدة المظلومة ويلومونها ويتهمونها إن توجّعت أو صرخت أو تحرّكت، مع أنّها لا تختلف في عروبتها عن عروبة حكّامهم الظالمين لهم.

ولقد تساءلت: إن كان عروبيو هذا العهد من الكتّاب والمؤلّفين المدافعين عن بني أُميّة أصرح عروبة، وأشد اعتزازاً بها ودفاعاً عنها من ابن الزبير وابن الأشعث وابن المهلب، لولا هذا الجهل والحمق والغباء الذي يجعل كل ثائر في نظرهم ضد سلطة عربية، شعوبياً أو مخدوعاً بها أو مسخراً منه.

٨٢

هناك كان الفساد، ومن هناك سرى إلينا، ومعه اتهام لكل مَن يحاول إصلاحاً أو يدعو - عند اليأس - إلى ثورة، بأنّه خارج عن الدين أو شعوبي، أو عميل بلغة العصر، يريد هدم الإسلام والعروبة و (قيم) و (تقاليد) الإسلام والعروبة. ويا بؤسها من قيم وتقاليد متخلفة، يراد لها أن تقودنا اليوم، وقد فشلت قبل خمسة عشر قرن. ولم تكن - وما زالت - إلاّ سلاحاً بيد السلطة للقتل والقمع والإرهاب، كلما أحسّت سخطاً، أو خافت تمرّداً أو ثورة للإطاحة بها والتخلّص من ظلمها.

وأنتقل الآن إلى موقف الموالي في ذلك العصر، وهم أصل الشعوبية موضوع حديثنا.

ولقد رأينا العرب يثورون بعدما تعرّضوا للظلم وذاقوا مرارته. لم يمنعهم من الثورة أنّ الحكّام عرب مثلهم، وهذا حق مشروع لهم ولغيرهم.

ولكنّي أحسب أنّ ظلم الأمويين لم يصل العرب إلاّ بعد أن مرّ بالموالي ولم ينل منهم قدر ما نال من الموالي وبالغ في إهانتهم والإساءة إليهم.

بل إنّ معاوية بن أبي سفيان عزم في وقت ما على أن يقتل شطر الموالي، ويدع الشطر الثاني لإقامة السوق وعمارة الطريق. ولم يثنه عن عزمه على قتلهم إلاّ الأحنف بن قيس سيّد تميم البصرة الذي نهاه عنه ونصحه بعدم إمضائه (1) .

وليشكر الموالي الحاجة إليهم في إقامة السوق وعمارة الطريق التي صرفت القتل عن شطرهم، وليشكروا هذا السيد النبيل الذي صرف القتل عنهم كلهم. فلولاهما لكان لمعاوية معهم شأن قد لا يقف عند الشطر.

أترى من ذنب لهؤلاء المسلمين يستحقون به القتل بهذا الشكل؟ لا مَن ارتكب جرماً منهم، بل مَن ارتكب ومَن لم يرتكب، قتلاً على الهوية.

وبعد معاوية، هل سننسى الحجّاج وغير الحجّاج من جبابرة الأمويين الذين لم يحترموا العرب ولم يكفّوا عنهم، فكيف بهؤلاء الموالي الذين لا عصبية تحميهم ولا قبيلة تمنعهم وتدفع عنهم، وقد قتل أصحاب العصبيات والقبائل.

ماذا سيكون موقف هؤلاء حين تقوم ثورة ضد الحكم الأموي، وينضم إليها العرب وترفع شعار الدين والعدل والمساواة، حقاً أو رياءً لجمع الناس وحشدهم.

هل سيقفون مع الأمويين وفي صفّهم، يقاتلون مَن ثار على الظلم الذي هم أول ضحاياه؟

ما أظنني سأحتاج إلى التفكير والترجيح بين موقفين: أيّهما أدع وأيّهما آخذ.

وهكذا كان الموالي ينضمّون إلى الثوّار والثورات العربية عند قيامها في مواجهة السلطة. ينضمّون إليها وقد سبقهم للانضمام إليها والالتحاق بها العرب أنفسهم وإلاّ لما قامت. فما كان الموالي بقادرين على أن يقوموا هم بثورة في العصر والظروف التي نتحدث عنها.

ثار الخوارج وانضمّ إليهم الموالي، وثار المختار وانضمّ إليه الموالي، وثار ابن الأشعث وانضمّ إليه الموالي.

____________________

(1) العقد الفريد لابن عبد ربّه , تحقيق محمد سعيد العريان، نشر دار الفكر ج3 ص326 - 327.

٨٣

فهل تحوّلت هذه الثورات إلى ثورات شعوبية أو لخدمة أغراضها أو لتنفيذ مآربها، لمجرّد انضمام عدد من الموالي إليها؟

لماذا لا تسمّى باسمها الذي تستحق؟ أنّها ثورات عربية قامت بقيادات عربية وجماهير عربية في بيئة عربية. لكنّها ليست بعيدة عن الإسلام والمبادئ السامية التي جاء بها، وما كانت تستطيع أن تكون بعيدة عنها وهي لم تقم إلاّ من أجله. ولو فعلت لتخلّى عنها العرب قبل غيرهم. فما كان هؤلاء يجهلون أنّ حكّامهم الذين يحاربونهم عرب مثلهم. لكنّهم يحاربونهم؛ لأنّهم ظلموا وجاروا واستأثروا، خلافاً لقيم الإسلام ومثله ومبادئه، وفي ذلك ما يبرّر الثورة ضدّهم. فالحديث عن الموالي ومحاولة جعل ثورات العرب من صنعهم، هو إهانة للعرب وازدراء بهم وحط من شأنهم، ورفع من شأن الموالي وإعطاؤهم ما لا فضل لهم فيه.

وهل كان العرب في ثوراتهم تلك بدعاً من الأُمم والشعوب؟ ألم تثر الأمم قبلهم وبعدهم على حكّامهم حين يتنكّبون طريق الصواب؟ وهل استمر حكم منذ قام وحتى اليوم لم يشهد ثورة أو ثورات قد تنجح وقد تفشل، ولكنّها تبقى رمزاً لحيوية الشعوب واحترامها لذاتها واستعدادها للقيام في وجه كل مَن يحاول المساس أو العبث بحقوقها.

أراني أطلت المسافة قبل أن أصل إلى مفهوم الشعوبية والأسباب التي دفعت إليه.

وقد آن لي أن أتناول الشعوبية في جوانبها التي ظهرت من خلالها في الحياة العربية الإسلامية.

وسأحاول الاختصار جهدي، فقد أطال المتقدمون وأطال المتأخّرون. حتى لو تكلّمت عن الشعوبية دون تحديد لمفهومها لما وجد القارئ صعوبة فيما أقصد إليه.

كان العرب في الجاهلية وبعدها في الإسلام، وحتى اليوم الذي نعيش في القرن الحادي والعشرين - عدا الفترة التي صاحبت بدايات الإسلام ولم تدم طويلاً - يفخرون بأنسابهم ومآثر أهلهم، بل كانت هذه الأنساب مدار فخرهم، منها يبدؤون وإليها ينتهون. ولو خيّر العربي بين أن يذم ويمدح أهله وبين أن يمدح ويذم أهله، لما تردّد في اختيار الأول.

فالعربي يفخر على ابن عمّه من نفس قبيلته بمآثر له ولآبائه لا يملكها الثاني ولا يجدها في آبائه.

وما أظننا نسينا فخر الفرزدق وتعاليه واستطالته على جرير. ولم يكن جرير من قبيلة أُخرى إنّما كان مثل الفرزدق من تميم ولا من فخذ آخر من تميم إنّما من حنظلة فخذ الفرزدق، لكن لم يكن بين آباء جرير مَن يسامي آباء الفرزدق، فليس له غالب ولا صعصعة ولا دارم.

٨٤

وما أظنّنا نسينا شبيب بن البرصاء وأرطاة بن سهية وعقيل بن علفة وكلهم من مرة من ذبيان.

وإذا خرجنا من نطاق القبيلة الواحدة وما يدور بين أفرادها من فخر ومدح وهجاء إلى علاقات القبيلة بغيرها من القبائل. وجدنا الفخر والمديح - ولا فرق بينهما عندي إلاّ بالنسبة لمَن قيل فيه - أمضى وأبعد وأشد إيلاماً. لا يحده ما يحد الشاعر حين يهجو أحد أفراد قبيلته فلا يتجاوز - بلغة العصر - خطوطاً حمراء قد ينفذ منها خصومه من شعراء القبائل الأخرى في هجاء قبيلته، إذا ادعت ظروف إلى ذلك.

وقد تجاوزت هذه الظاهرة في العصر الأموي حدود القبائل فيما بينها، واتسعت حتى شملت ما يسمّيه النسّابون بالشعب. فهجا الكميت اليمن كلها بجميع قبائلها من مذحج وكندة وطي و و. وردّ دعبل بهجاء نزار كلها بجميع قبائلها من ربيعة ومضر وما تضم ربيعة ومضر.

وقبل هذا رأينا الأخطل التغلبي يهجو قبائل قيس فيتناولها قبيلة قبيلة.

وجاءت الفتوح كما ذكرنا بالموالي، ودخل هؤلاء الحياة العربية وعرفوا لغتهم وألفوا عاداتهم، ونظموا شعرهم، وانتسبوا إليهم حتى صار الواحد منهم يقال له التميمي أو العامري فلا يميّز عن ابن القبيلة إلاّ بعد إضافة بالولاء أو مولى لهم.

وبين هؤلاء الموالي مَن دخل الإسلام عن عقيدة وإيمان؛ فكان يرى للعرب حقّاً عليه بما ناله على يدهم من خير وهداية بالإسلام ومحمد الذي هو منهم، وفي ذلك ما يعصمه من كره العرب والحقد عليهم.

وبينهم مَن لم يدخل الإسلام إلاّ خوفاً أو طمعاً ورجاءً.

وكانت معاملة العرب المسلمين في بدايات الإسلام رقيقة مع الموالي، ليس فيها ما يثيرهم ويحفظهم، وقد شاركوهم الإسلام وأصبحوا بالولاء جزءاً منهم.

أمّا مَن أسلم خوفاً أو رجاءً دون أن يكون للإسلام تأثير في فكره وسلوكه، فقد كان سلطان الإسلام ما يزال قوياً حينذاك يمنعه من إظهار ما يخفي من كره وحقد للعرب أو الإسلام.

وانتهى عهد الراشدين، وبدأ الحكم الأموي واختلفت سيرة الحكّام وضعف تأثير الدين في النفوس.

٨٥

وكان العرب وهم يفخرون على بعضهم، مع وحدة اللغة ووحدة الدار، ومع العروبة التي تجمعهم، لا يرون طبعاً لهؤلاء الأجانب ما يرون أو بعض ما يرون لأنفسهم. فهؤلاء رقيق لا يملكون من أمرهم شيئاً، أخذوا قسراً بحد السيف، إن أحسنوا إليهم فذلك فضل منهم، وإن أساؤوا معاملتهم فهم ملك لهم.

وبدأ العرب أو المتعصّبون منهم يظهرون احتقارهم للموالي وازدراءهم بهم، ويشعرونهم بتعاليهم عليهم، حتى كانوا لا يكنّون الموالي ولا يمشون في الصف معهم، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، بل إنّهم ساووا بينهم وبين الكلاب والحمير حين قالوا لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى.

وكان لا بد لهذا التغيّر في موقف العرب - وهو أمر معتاد لدى الشعوب الغالبة بالنسبة للشعوب المغلوبة - أن يوجد تغيراً مقابلاً لدى الموالي الذين كان أكثرهم من الفرس، لأسباب ربّما عرضنا لها فيما بعد.

ولن يصعب عليك أن تتصوّر ما يمكن أن يتخذه الموالي من موقف نتيجة إحساسهم بالمهانة، وقد برز بينهم الشاعر والأديب والمفكّر.

وضعف لدى الجيل الجديد منهم وازع الدين الذي كان يدفع آباءهم إلى حب العرب والاعتراف بفضلهم عليهم.

ومع ضعف الوازع الديني، وبعد أن هدأت سورة الخوف وذل الهزيمة؛ عاد هذا الجيل من الموالي إلى ماضيهم يستذكرونه ويعودون إليه، أو يعيدهم إليه ما هم فيه من حال جديدة وما يعيشونه من ذل المولى إزاء سيّده، ثم يقارنون بين ماضيهم وبين الحال التي صاروا إليها. ولم يكن ماضيهم بعيداً عنهم في الزمان ولا في المكان، وكانت لهم دولة وسيادة وسلطان.

وبدأت أصوات هنا وهناك تطالب بالمساواة بين العرب وبين باقي شعوب الأُمّة الإسلامية، فلا فضل لأُمّة على أُمّة، ولا لقوم على قوم إلاّ بالإسلام الذي ساوى بينهم، وهذا القرآن كتاب الله يقول:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

وأكّد هذا، النبي محمد حين قال في خطبته في حجّة الوداع:

(أيّها الناس أن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلاّ بالتقوى كُلّكم لآدم وآدم من تراب) وغير هذا ممّا يحمل معنى المساواة بين المسلمين، وأنّه إن كان هناك من امتياز أو تفاضل فلن يكون بالآباء والأحساب، ولكن بالأخلاق وشرف النفس وكرم الفعال. ولم يكن الموالي يجرؤون في ذلك الوقت، على أكثر من طلب المساواة، وهو ليس قليلاً في عصر العصبية القومية والعصبية القبلية.

٨٦

والى هنا والأمر يبدو في حدود المقبول، فليس فيه شطط ولا تجريح بالعرب، ولا حط منهم ولا إنكار لمآثرهم. وربّما كان يشاطرهم فيه بعض أتقياء المسلمين وذوي الدين منهم.

وهذه الشعوبية التي تذهب إلى العدل والتسوية بين الناس الذين هم كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد هو آدم، والتي يبحثها ابن عبد ربّه في العقد تحت عنوان: (قول الشعوبية وهم أهل التسوية) هي إحدى صورتين للشعوبية من حيث المضمون. وهي أولى صورتين من حيث التأريخ. إذ إنّنا سنرى بعد ذاك صورة أُخرى للشعوبية تختلف عن سابقتها كثيراً فلا تقف عند التسوية ولا تكتفي بها.

لكن ابن عبد ربّه يخلط خلطاً غريباً فيجمع الصورتين - على ما بينهما من فرق كبير - في حديث واحد فلا ندري عن أي منهما يتكلّم، فهو ينتقل من آدم أبي الجميع ومن ( ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) كشعار لأهل التسوية والقائلين به، إلى الصورة الثانية للشعوبية القائمة على ذم العرب، والحط منهم وذكر مثالبهم حين يتحدث بلا فاصل بين الاثنين، وتحت نفس العنوان المذكور (قول الشعوبية وهم أهل التسوية) عمّا وصل إليه الشعوبيون في المرحلة الثانية من الطعن على العرب والزراية بهم والتحقير لهم، وهي الصورة الثانية التي ظهرت فيها الشعوبية بعد ذاك.

ثم يعود إلى رد ابن قتيبة على الشعوبية ورد هؤلاء على ابن قتيبة. ولكنّه يختصر ابن قتيبة اختصاراً شديداً.

ويبدو أنّ المؤرّخين العرب لم يعيروا اهتماماً للمرحلة التي حصل فيها هذا الانتقال، وكيف بدأت الصورة الثانية بالظهور، وتدرّجت حتى بلغت أشد قسوتها وعنفها وحقدها الذي لا يواريه شيء؛ إذ كان اهتمام المؤرّخين منصبّاً في الأغلب على الذبّ عن العرب وتفنيد الطعون الموجّهة إليهم، وإبراز مآثرهم وتأكيد تفوّقهم على غيرهم من الشعوب الأُخرى.

على أنّنا نستطيع أن نقدّر أنّ هذه المرحلة برزت كحركة في زمن العباسيين، الذين اعتمدوا في إقامة دولتهم على عناصر فارسية، أو في الأقل على مشاركتهم. ففي هذه المرحلة استطاعت العناصر غير العربية والفارسية على وجه الخصوص، أن تتكلّم وتهاجم وتطعن بحرية لم تكن تجرؤ عليها في المرحلة السابقة خلال حكم بني أُميّة (1) .

ولكن ما هي أبرز النقاط التي دارت حولها المعركة، والتي تمسّك بها الشعوبيون في ردّهم وهجومهم على العرب ومحاولة سلب مآثرهم أو تحويلها إلى عيوب.

كان العرب يفخرون بالجاهلية ويفخرون بالإسلام.

____________________

(1) على أنّنا لا نعدم بعض مظاهر ه ذ ه الشعوبية عند عدد من الشعراء الفرس في العصر الأموي، فإسماعيل بن يسار يستنشده هشام بن عبد الملك، وهو خليفة، شعراً - وكان يظن أنّه سينشده مديحاً فيه - فينشده إسماعيل قصيدته الميمية التي منها أبيات تضمّنت مديحاً قوياً للفرس و غمزاً من العرب فيغضب هشام عليه.

وابنا إسماعيل ه ذ ا: إبراهيم ودعبل - غير دعبل الخزاعي - لكل منهما شعر في مديح الفرس. وك ذ لك يزيد بن ضبّة مولى ثقيف.

لكن ه ذ ه النزعة الشعوبية بقيت فردية ضعيفة خافتة، لم تستطع أن تتجاوز حدودها تلك، في عصر العصبية العربية وقوّة النفوذ والسلطان العربي.

٨٧

وفي الجاهلية كانوا أحراراً لم يخضعوا لسلطة ولم يستذلّهم حكم ولم يملكهم حاكم، تميّزوا بالكرم والشجاعة والوفاء والغيرة وهي صفات قلّما نجدها عند غيرهم، كما تميّزوا بحدّة العاطفة وصفاء القريحة التي أنتجت شعراً لم يعرف لأُمّة من الأُمم.

والى جانب ذلك فإنّهم يفخرون بوضوح أنسابهم حتى كان الواحد منهم لا يقف عند تعداد آبائه قبل أن ينتهي إلى الجد الأعلى الذي تحمل القبيلة اسمه، ثم يستمر حتى يتصل بعدنان أو بقحطان.

ولست أريد أن أناقش هذه القضية من الناحية العلمية، ومقدار ما فيها من صواب وهل يقرّها العلم أم لا، فذلك أمر آخر، لكنّها كانت عند العرب واقعاً لا مجال لمناقشته والشك فيه، وعلى أساسه كانت تقسيماتهم القبلية وقربهم أو بعدهم من بعض وتعصّب بعضهم لبعض.

أمّا فخرهم بالإسلام فلا يحتاج إلى دليل، فالقرآن نزل بلغتهم العربية، والنبي الذي نزل عليه كان عربياً منهم، والذين تحمّلوا أعباء الإسلام ونهضوا به وهو ضعيف، وجاهدوا وقاتلوا وقتلوا وعُذّبوا وتركوا أوطانهم وهاجروا هم العرب. والذين حملوه إلى الأُمم الأُخرى وقاتلوا وقتلوا عليه حتى أسلمت وتركت ما كانت فيه من دين هم العرب أيضاً.

وفي كل ذلك ما يمنحهم امتيازاً على الشعوب الأُخرى أن تقر وتعترف به وتخضع له، وقد أصبحوا موالي لهم. أخذوهم أسرى ولو أرادوا قتلهم لقتلوهم. فليس لهم أن يضيقوا بحالهم أو يقيسوا أنفسهم بالغالبين المنتصرين بدينهم وحربهم.

والحق أنّ العرب لم يكونوا مغالين ولا متزيدين فيما يقولون، ولم يكن فيهم ما يغيظ الآخرين ويحفظهم أو يثير حقدهم، لو بقي ذلك في حدوده ولم يخرج من الاعتزاز إلى التحدّي، ومحاولة سلب الشعوب الأُخرى مزاياهم وإنكارها عليهم، وتذكيرهم دائماً بأنهم دونهم. فهذه الشعوب لها هي أيضاً مزايا وصفات تعتز وتفخر بها كما يفخر العرب، وتدافع عنها وتحرص عليها وعلى التذكير بها كلما دعتهم الحاجة واضطروا إلى التذكير بها.

٨٨

وكان العصر الأموي عصر العصبية، بين العرب أنفسهم: نزار واليمن، وربيعة ومضر، وبكر وتميم. وبين العرب وبين الأجناس الأُخرى خصوصاً الفرس. وهذه الأجناس على اتصال يومي بالعرب، يرونهم ويعاملونهم في الصباح والمساء، في المدينة وفي الشارع وفي السوق.

وكان الحكم نفسه يدفع إلى هذه العصبية ويشجّع عليها ويذكي نارها، كما ذكرنا.

وأحسب أنّ وضعاً كهذا لا بد أن ينفجر يوماً ما بشكل ما إذا تهيأت الفرصة.

وبدأت فكرة المساواة التي تحدثنا عنها، وهي أُولى صور الشعوبية وقال الفرس: إنّهم أصبحوا شركاء للعرب في الإسلام الذي لا يفرّق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، وأنّه قد يفضل العجمي العربي إذا كان الأوّل أتقى لله وأقرب إلى مرضاته.

وإذا كانت هذه النزعة القائمة على المساواة ترضي ذوي الدين من الطرفين: العرب والموالي، فإنّها لم تكن كذلك بالنسبة لهذا الجيل من شباب العرب ومتعصّبيهم وأصحاب الموالي منهم. يقابلهم على الطرف الآخر جيل جديد من الموالي الذين ابتعدوا عن الدين، وعادوا إلى تراثهم القومي يستلهمونه ويبعثونه حياً، يتسلّحون به لمواجهة ما يفخر به العرب. فيقابلون فخراً بفخر، ومآثر عربية بمآثر فارسية.

ثم زادوا فلم يكتفوا بهذا ولم يقفوا عنده فتجاوزوه إلى ما كان من فضائل للعرب وبدؤوا بها ينقضونها ويغضّون منها ويحطّون من شأنها، الواحدة بعد الأُخرى ويقارنون بينها وبين ما كان لهم من فضائل لا تقاس بها في نظرهم.

وكانوا يأخذون أحياناً الحالة الفريدة إذا كانت في غير صالح العرب فيعمّمونها ويجعلونها القاعدة أو الحالة العامّة، على عكس ما إذا كانت في صالح العرب فإنّهم يحاولون أن يقلّلوا من شأنها ويجعلوا منها حالة خاصة. كل ذلك لتأكيد تفوّق الموالي على العرب.

وهنا تكون الصورة الثانية للشعوبية قد اكتملت، وهي التي ينصرف إليها الذهن الآن عند ذكر الشعوبية.

وأظن من المناسب أن نذكر بعض ما أورده ابن قتيبة في العقد على لسان العجم وهم يردّون دعوى العرب بتقدّمهم على غيرهم، ويقابلون ذلك بما للعجم من مفاخر لا يمكن إنكارها.

وأظن من المناسب أيضاً أن نقسّم الحديث هنا إلى قسمين: يتناول الأوّل: الجاهلية وإنكار الشعوبية على العرب فضاءلهم، ومحاولة نقضها والإفاضة في بيان عيوبهم.

ويتناول الثاني: دعاوى الشعوبية في الإسلام وما يتعلّقون به من ذلك.

٨٩

ولنبدأ كما قلت بالجاهلية: فماذا يقول الشعوبيون فيها ممّا جاء في العقد (... أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تقدرون الفخر كله أن يكون ملكاً أو نبوّة فإن زعمتم أنّه ملك، قالت لكم وإنّ لنا ملوك الأرض كلها من: الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة … وإن زعمتم أنّه لا يكون الفخر إلاّ بنبوّة فإنّ منّا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هوداً وصالحاً وإسماعيل ومحمد … ولم تزل الأُمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض، لها ملوك تجمعها، ومدائن تضمّها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج ولعب الشطرنج … ومثل فلسفة الروم... والإسطرلاب...

ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ويقمع ظالمها وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلاّ ما كان من الشعر وقد شاركتها فيها العجم).

ثم ينتقل بعد أن يعدّد مآثر العجم إلى الهجوم المباشر على العرب فيصفهم بأنّهم كـ (الذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضاً ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع فخر بذلك شاعر فقال:

وأوثق عند المردفات عشيّة

فقيل له ويحك وأي فخر لك أن تلحق بالعشي وقد نكحن وامتهن.

وقال جرير يعيّر بني دارم يوم رحرحان:

وبرحرحان غداة كبّل معبد

نكحت نساؤكم بغير مهورِ

وقال عنترة لامرأته:

إنّ الرجال لهم إليكِ وسيلة

أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي

وسبى ابن هبولة الغسّاني امرأة الحارث بن عمرو الكندي فلحقه الحارث فقتله وارتجع المرأة وقد كان نال منها…

وسبت بنو سليم ريحانة أخت عمرو بن معدي كرب.

وأغار الحوفران بن شريك على بني سعد بن زيد مناة، فاحتمل الزرقاء من بني ربيع ابن الحارث فأعجبته وأعجبها فوقع بها.

ويعود ابن قتيبة إلى نفس الموضوع تحت عنوان (قول الشعوبية في مناكح العرب):

(قالت الشعوبية إنّما كانت العرب في الجاهلية ينكح بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد نكاح، ولا استبراء من طمث، فكيف يدري أحدهم مَن أبوه؟!

٩٠

وقد فخر الفرزدق ببني ضبّة حين يبتزّون العيال في حروبهم في سبيّة سبوها من بني عامر بن صعصعة، فقال:

فظلّت وظلّوا يركبون هبيرها

وليس لهم الا عواليهم ستر

والهبير المطمئن من الأرض وإنّما أراد هنا …

وهكذا ننتهي من حديث ابن قتيبة عمّا توجّهه الشعوبية من طعون إلى العرب في الجاهلية. ولي عليه بعض الملاحظات التي يمكن اختصارها فيما يلي:

فأوّلاً: إنّ الحديث هنا لا يختص بالعرب والفرس وحدهم ولا يقابل بينهم، وإنّما يتحدث عن جميع الأُمم والشعوب الأُخرى من غير العرب: الفراعنة والأكاسرة والقياصرة و و، ويقابل بينها مجتمعة وبين العرب. فهو في هذا يضيف علماً إلى علم، وفنّاً إلى فن، وفلسفة إلى فلسفة. من كل أُمّة ما اتصفت به وبرعت فيه، ثم يجمع كل ما تحصّل لديه من ذلك ليقابل به العرب ويفاخرهم، وكأنّه يجعل العرب في جانب والعالم كلّه يومذاك في جانب. وليس في هذا أدنى حدود العدل.

وألاحظ ثانياً: أنّه كان للعرب في الجاهلية دول ذات حضارة، قد لا تكون في مستوى الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، ولكنّها دول على كل حال، وأظن آثارها أو بعضها ما تزال شاخصة في اليمن حتى اليوم.

على أنّ من مفاخر العرب: أنّهم لم تملكهم دولة ولم يخضعوا لسلطان، وأنّهم استطاعوا بالرغم من ذلك ومن دون هذه الدولة والسلطان، أن يهزموا أقوى إمبراطوريتين على وجه الأرض في ذلك العهد. وهذا ما يحسب للعرب لا عليهم.

أمّا عن قمع الظالم ونهي السفيه، فلقد كان في النظام القبلي الذي فرض مع الزمن حكمه، وأصبح له ما للقانون أو أكثر ممّا للقانون من حرمة ورعاية، ما يكفل قمع الظالم ونهي السفيه ويردّهما طوعاً أو جبراً عن الظلم والسفه إن أراداهما.

هذا فضلاً عمّا يحدثنا التاريخ عن بعض الاتفاقات التي تمّت بين عدد من القبائل، وأخذت ما يشبه شكل القانون الجماعي، كحلف الفضول الذي تمّ بين عدد من بطون قريش، وقام على مبادئ أخلاقية عالية: كنصرة الضعيف، وردع القوي، وإنصاف المظلوم وأخذ الحق له ممّن ظلمه، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي تجسّدها القوانين غير المكتوبة وتستند إليها.

٩١

ثالثاً: كما ألاحظ أنّ حديث الأنبياء خصوصاً ما يتعلّق بآدم لا يمكن قبوله في حال من الأحوال من أي طرف ادعاه، فهو أبو البشر، يتساوى فيه العجم وغير العجم من أي جنس ومن أيّة أُمّة أو شعب. فافتخار العجم فيه كافتخار العرب، لا يختلف عنه ولا يزيد عليه إلاّ إذا كان هناك آدم آخر لا ينتمي إليه العرب.

أمّا حديث النساء والسبي والنكاح وما شابه ذلك من طعون قد حصلت في مناسبة ما أو لسبب ما، فليس العرب ملائكة لا يخضعون لما تخضع له الأمم الأخرى من سنن، وغالب ومغلوب، وحب وكره وثأر، وما تجده شاذاً غريباً عندهم يوجب الذم تجد أكثر منه، وما لا يقارن به عند الأُمم والشعوب الأخرى، ويكفي أنّ الشعوبيين، مع كل بحثهم واجتهادهم في التفتيش عن مثل هذه المطاعن وتطلبها، لم يجدوا أمامهم إلاّ حالات معدودة هي التي ذكروها وتمسّكوا بها في هجومهم على العرب.

لكن مَن الذي ساعد الشعوبيين في معرفة هذه المطاعن الأخلاقية، على افتراض صحّتها، وأنّها ليست مجرّد هجاء في شعر يكذب فيه الشاعر أو يبالغ على الأقل؟ ومَن الذي دلّهم على هذه الفضائح ومهّد الطريق لإطلاعهم عليها، وشنّ هجومهم على العرب بسببها.

إنّ الذي ساعد الشعوبيين على ذلك عاملان وجدهما هؤلاء أمامهم؛ فاستغلاهما وأفادا منهما في النيل من العرب، وهدم ما قام عليه فخرهم من الشجاعة وحفظ النسب والغيرة على المرأة وعدم التعرّض لها والاستماتة في الدفاع عنها.

وأوّل هذين العاملين الشعر العربي نفسه.

فالشعر في الجاهلية كان مرآتها يعكس حياة العرب فيها من خير وشر، وحرب وسلم وغنى وفقر، وحكمة وعبث وحب وكره، لا يترك صغيرة ولا كبيرة ممّا يسر أو يسوء إلاّ سجّلها وأشار إليها.

وكانت حياة القبائل - وهذا ليس سراً - حياة لا تخلو من قسوة وشدّة في صحراء تقل فيها المياه ويقل معها الزرع والنبات.

٩٢

ولم تكن القبائل كلها كما يتصوّر البعض رحلاً لا منزل لهم، يجوبون الصحراء ليلاً ونهاراً شتاءاً وصيفاً. لا يحلون في أرض إلاّ ليتركوها إلى أخرى. لقد كان لكل قبيلة أرضها ومساكنها ومياهها. ولو راجعت الشعر العربي وكتب المعاجم لرأيتها تقول: وهو واد لبني فلان، أو منزل لبني فلان، أو عين لبني فلان، أو جبل في أرض بني فلان. وإن كان هذا لا يمنع من الانتجاع إلى منازل أخرى، خصوصاً حين الجدب وانحباس المطر. فكانت بعض القبائل تتحوّل من منازلها إلى منازل قبائل أخرى، وهو ما يسبب أحياناً قتالاً بين تلك القبائل.

لكن هذا ليس السبب الوحيد للقتال بين القبائل، فحياة البداوة تفرض قيماً معيّنة لا تجدها في الحاضرة وليست دون ما سبق إثارة للقتال وإغراءً به.

ثم هل بسبب البداوة ثارت الحروب بين الدول المتجاورة وغير المتجاورة في مختلف عصور الإنسانية؟ وهل كان القتال حكراً على العرب دون الأمم والأجناس الأخرى؟

وإذا كانت القبيلة تحتاج إلى الفارس في معاركها يحمل سيفه ورمحه يقاتل أعداءها ويرد عدوانهم عنها، فإنّها تحتاج وبنفس الدرجة من القوّة، إلى الشاعر يحرّض ويذمر يمدح ويذم ويفخر ويهجو، لا القبائل الأخرى فقط، وإن كان هذا يأتي بالمكان الأوّل، بل حتى مَن ينتمي إلى نفس قبيلة إذا قصّر في واجبه نحوها عند حاجتها إليه.

والشاعر، وهو يمدح ويذم ويفخر ويهجو، ليس رجل دين يفكّر في آخرته، بل رجل لسان وسلاح قبيلة يقول ما تفرضه عليه المناسبة، وينفث به صدره ويأتي على لسانه في لحظة القول، وقد يصدق فيما يقول وقد لا يتقيّد بحدود الصدق فيزيد أو يبالغ أو يتهم، وقد يرد إلى ذهنه المعنى فلا يتركه أو يختلق واقعة لا أصل لها لكسب المعركة مع شاعر آخر، أو قبيلة أخرى ممّا يراه أوجع لها وأبلغ في أذاها.

ولهذا فإذا كان (الشعر العربي هو ديوان العرب) صحيحاً من حيث إنّه يصوّر جميع نوازعهم في حبّهم وبغضهم وما يخالج نفوسهم، وهم يعيشون الحرب والسلم والجدب والرخاء والنصر والهزيمة. لكن هذا الديوان يحتاج في رأيي إلى مراجعة، وهي مهمّة صعبة على مَن لا يعرف عميقاً حياة العرب آنذاك.

ولا أريد بالمراجعة أن نعمد إلى حذف كل ما نعدّه عيوباً ومطاعن ونلغيها تنزيهاً للعرب وتعصّباً لهم، فذلك كذب وتشويه وتزوير لحياتهم وللتأريخ، ليس أكثر منه محاولة تجريدهم من حسناتهم وسلبهم إيّاها.

وإنّما أريد أن أقول ببساطة: إنّ بعض الشعراء لم يلتزموا الصدق، لا سيّما في الهجاء، فأطلقوا العنان لخيالهم ولسانهم دون وازع من خلق أو دين.

هنا لا بد من الرجوع إلى الوقائع الأخرى الثابتة لمعرفة صدق الشاعر في القول وتصحيح ما كذب فيه.

٩٣

ولأضرب لذلك مثلاً بجرير وهو يهجو الفرزدق ويعيّره بأُخته جعثن، وهي في نفسها من فضليات النساء، وهي في أُسرتها من جهة الأب والأم، لا يمكن أن يقاس بها من قريب أو من بعيد ابن الخطفى وأُسرته، وقد تعرّض لها جرير واتهمها في شعره.

هذا الشعر بصدقه حيناً وكذبه حيناً أو أحياناً قدّم للشعوبية سلاحاً ماضياً يقاتلون العرب به، ويردّون دعاواهم وينقضونها عليهم دون أن يتعرّضوا للاتهام بالكذب.

وجد الشعوبية شعراً عربياً قاله شعراء عرب يهجون عرباً مثلهم، ويتهمونهم بنسائهم وأخواتهم وآبائهم تارة، وبالجبن والبخل واللؤم تارة، فما الذي يمنعهم من اللجوء إلى هذا السلاح يهاجمون به مَن يهاجمهم، ويستصغرهم ويسخر منهم ويحط من قدرهم، ولا يجد لهم في الفخر موطئ قدم؟

وأظن الشعراء العرب لو علموا بما سيكون من شأن لشعرهم ذاك، وبالحرج الذي سيتعرّض له العرب كلهم؛ إذن لحذفوا الكثير ممّا قالوه أو لم يقولوه أصلاً.

لكن هذا الشعر في تعرّضه لتلك الوقائع، كان يقتصر في الأغلب على الإشارة إليها ويكتفي بذكرها، فهو بطبيعته لا يستطيع أن يتجاوز إلى التفاصيل ويبعد فيها، فذلك شأن الكتب لا الشعر، والكتّاب لا الشعراء الذين قد يذهب بجمال شعرهم وسحره وروعته دخوله في تفاصيل الحوادث التي يتعرّض لها.

وهنا وجد الشعوبيون سلاحاً آخر أمضى وأفتك وأقدر على طعن الخصم وتمزيقه، قدّمه لهم العرب أيضاً كما قدموا لهم من قبل سلاح الشعر. هذا السلاح الآخر يتمثّل في كتب المثالب التي بدأها العربي زياد بن أبيه، أو زياد بن أبي سفيان كما أراد معاوية، وهو أوّل مَن ألّف في مثالب العرب كما يتفق المؤلّفون، وفصّل فيها ولم يترك شيئاً ممّا يسئ إليهم أحياءً أو أمواتاً إلاّ ذكره وأتى عليه وأفاض فيه، يساعده في ذلك قربه من الجاهلية وتوفّر المال لديه، يوزعه على مَن يأتيه بخبر أو حادثة فيها طعن على العرب أو مس بشرفهم وكرامتهم.

٩٤

يقول أبو الفرج في الأغاني: (... إنّ أصل المثالب زياد لعنه الله فإنّه لمّا ادعى إلى أبي سفيان وعلم أنّ العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم؛ عمل كتاب المثالب فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار وحق وباطل...) (1) .

ويقول أبو عبيد البكري في سمط اللآلي: (وكتاب المثالب أصله لزياد بن أبيه فإنّه لمّا ادعى أبا سفيان أباً علم أنّ العرب لا تقر له بذلك، مع علمها بنسبه فعمل كتاب المثالب وألصق بالعرب كل عيب وعار وباطل وأفك وبهت) (2) .

ويقول ابن قتيبة: (وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعلى معاوية في استلحاقه؛ عمل كتاباً في المثالب لولده، وقال: مَن عيّركم فقرعوه بمنقصته، ومَن ندّد عليكم فأبدهوه بمثلبته فإنّ الشر بالشر يتّقى والحديد بالحديد يفلح) (3) .

ويقول ابن النديم: (أوّل مَن ألّف في المثالب كتاباً زياد بن أبيه، فإنّه لمّا ظفر عليه وعلى نسبه عمل ذلك ودفعه إلى ولده وقال استظهروا به على العرب فإنّهم يكفّون عنكم) (4) .

فزياد بن (أبي سفيان) إذن هو أوّل مَن ألّف في مثالب العرب، وكشف فضائحهم، وأظهر عيوبهم فأكّد دعاوى الشعوبية فيما بعد ضد العرب، وأعطاهم السلاح الذي سيقاتلونهم به.

وإذا كان زياد يريد أن يثأر لنفسه ويشفي غيظه ممّا يرمي به من سمية وعبيد، بالطعن في أنساب العرب وإبراز كل ما يشينهم ويسئ إليهم، فما بال هشام بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي العربي، يأمر النضر بن أبي شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي أن يضعا كتاباً في مثالب العرب.

فإذا كان الأمير أخو الخليفة يكتب في مثالب العرب في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري (5) .

____________________

(1) الأغاني ج20 نسب ابن أبي عيينة وأخباره ص77.

(2) سمط الآلي في شرح الآمالي لأبي عبيد البكري، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر 1936 ص807 - 808.

(3) رسائل البلغاء لمحمد كرد علي - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ط ثالثة ص346.

(4) الفهرست - الفن الأوّل من المقالة الثالثة. طبعة دار المعرفة - بيروت - لبنان ص131.

(5) توفّي زياد عام 53.

٩٥

وإذا كان الخليفة نفسه يأمر بوضع كتاب في مثالب العرب في أوائل النصف الأول من القرن الثاني (1) .

فهل سيقبل (الأمويون) بأن نتهم الخليفة و(أخا) الخليفة بأنّهما كانا أول الشعوبيين، وأول مَن مهّد الطريق للشعوبية ورفع لواءها؟

ولِمَ سنلوم الآخرين، عرباً أو غير عرب، إذا ما كتبوا هم في مثالب العرب، حتى لو زادوا وبالغوا وأضافوا، وقد سبقهم إلى ذلك أمير وخليفة عربيان مسلمان.

وهكذا فقد تبعهما يونس بن محمد بن أبي فروة، ووضع كتاباً في مثالب العرب وعيوب الإسلام بزعمه وصار به إلى ملك الروم فأخذ منه مالاً (2) وأظنّك تعرف أنّ يونس هذا هو والد الربيع بن يونس - عند مَن يصحّح أبوّته له - وجد الفضل بن الربيع اللذين وزرا وحجبا وتوليا أعلى المناصب في زمن المنصور والمهدي والرشيد.

ثم كتب هشام بن محمد بن السائب الكلبي كتابه في المثالب، وهشام عربي صليبة من كلب غير مغموز في نسب ولا متهم بشعوبية.

كما كتب كذلك الهيثم بن عدي وهو من طي.

فأي خطر وأي جديد فيما سيكتبه بعد ذاك أبو عبيدة أو علان الشعوبي، أو غيرهما من غلاة الشعوبية والمتعصّبين منهم ضد العرب، وهم لن يزيدوا ولن يتجاوزوا العرب فيما كتبوه عن العرب قبلهم بأكثر من قرن.

____________________

(1) توفّي هشام بن عبد الملك عام 125.

(2) آمالي المرتضى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ج1 ص132.

٩٦

لقد ساعد العرب في شعرهم وفي كتبهم عن مثالبهم الشعوبية بما لم يكن سهلاً عليهم معرفته والاطلاع عليه. ولو عرفوه واطلعوا عليه عن غير طريق العرب أنفسهم لربّما ردّ عليهم بأنّه من صنعهم ووضعهم، أو لاتهموا على الأقل بالإضافة والتزيد فيه، فقام العرب نيابة عنهم بهذه المهمّة التي لن يتهموا فيها ولن يكذبوا.

كان الشعر، وأنا هنا أتحدث عن شعر الهجاء بصورة خاصة، أول سلاحين أهداهما العرب للشعوبيين.

ثم جاءت كتب المثالب فأكملت ما بدأه الشعر من صورة قاتمة للعرب، وأخلاق العرب وقيم العرب، وكل ما قام عليه فخرهم واستند إليه.

فهل لنا أن نلوم الشعوبيين على استعمال سلاح قدّمناه لهم دون أن يطلبوه ويبحثوا عنه؟! أم الملوم مَن وضع السلاح في أيديهم ثم وقف من بعد ليلعن ويسب ويتهم هؤلاء الذين استعملوا السلاح وقاتلوا به، وهم يخوضون معركة معه.

وملاحظة أخيرة أود أن أشير إليها قبل أن أختم حديثي عن الشعوبية، هي أنّ هؤلاء الشعوبيين، الزنادقة منهم وغير الزنادقة، قد أصبحوا جزءاً من النظام القائم آنذاك، وارتبطت مصالحهم به واتسع نفوذهم في ظلّه، فلم يثوروا عليه ولم يشاركوا في ثورة ضدّه، مكتفين من شعوبيتهم بالتذكير بماضيهم العريق ومجدهم القديم في مقابل حاضر ومجد لا عراقة ولا قدم لهم. لقد قامت أكثر من ثورة كثورة بابك، وبعدها ثورة المازيار، فلم ينضم إليهما ولا إلى غيرهم، أي من هؤلاء: أسراً أو أفراد. لقد كانت شعوبيتهم شعوبية فكر أو، إن شئت، شعوبية ذكريات تجاوزها المحاربون ولم يكونوا في حاجة إليه.

وأحسبني انتهيت الآن من هذا الفصل لانتقل إلى بحث العلاقة بين الزندقة والشعوبية، وهو ما يؤلّف الفصل الثاني وهو أيضاً آخر فصول الكتاب.

٩٧

القسم الثالـث:

العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية

هل هناك علاقة بين الزندقة وبين الشعوبية وما هو مدى هذه العلاقة إن وجدت؟ فقد تحدّث المؤرّخون كثيراً وربطوا كثيراً بين الاثنين، حتى كأنّك وأنت تتحدث عن إحداهما تتحدث عن الأُخرى.

أمّا من الناحية النظرية فليس هناك من علاقة بين الزندقة وبين الشعوبية، ولا يجوز الخلط بينهما، فهو خلط بين حركتين منفصلتين في منطلقاتهما الفكرية بل متباعدتين أو متعاديتين. وما أظن أحداً يجهل فرق ما بين الاثنين.

ما الذي يجمع يحيى بن زياد، أو عبد الكريم بن أبي العوجاء، أو أبا العلاء المعري إلى سهل بن هارون، أو حميد بن البختكان، أو علان الشعوبي؟!

الزندقة نزعة فكرية فردية تتجه إلى أعلى. تنكر الله أو تشك فيه أو تنكر نبوّة محمد والنبوّات. وهي في إنكارها أو شكّها لا تنكر أو تشك بإله العرب لتعترف بإله الفرس، ولا بنبوّة محمد، لتقر بنبوّة ماني أو مزدك؛ فهي فوق الشعوب والأجناس ومستقلّة عن الشعوب والأجناس.

إنّها حين تنكر الصانع أو تؤمن بالدهر وترفض الجنّة والنار، تنطلق من فكر عام صحيح أو مريض لا يهم، ولكنّه فكر لا يميّز بين صانع ينكره وصانع يؤمن به، ولا بين جنّة يرفضها وجنّة يطلبها.

وقبل زنادقة الإسلام والخلط بينهم وبين الشعوبية، كان هناك في الجاهلية زنادقة تحدث المؤرّخون عنهم، وأشرنا إليهم في بداية الكتاب.

وقبل زنادقة الإسلام وقبل الشعوبية بما يقارب القرنين من الزمان، قال ابن الزبعرى العربي القرشي الجاهلي:

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خرافـة يـا أم عمـرو

وقال الآخر وهو أبو بكر بن الأسود من كنانة:

يخبرنا ابن كبشة أن سنحيـا

وكيف حياة أصداءٍ وهامِ

وأيّ إلحاد أو زندقة، حتى في عصر الإلحاد والزندقة فيما بعد، أصرح وأوضح من هذا الإلحاد، يصرخ به غير مجمجم ولا خائف شاعران عربيان عاشا في الجاهلية، قبل أن تعرف الشعوبية والشعوبيون والمعركة مع الأمم والشعوب الأخرى؟!

فالزندقة لم تنشأ في الإسلام ولم يسبق إليها الزنادقة (المسلمون)، وربّما كان الإغريق أولى أن يعتبروا قادة الفكر (الزندقي) في العالم.

٩٨

لقد عرفها الفكر الإنساني إذن قبل الإسلام بقرون طويلة، فهي ليست مقرونة بزمان معيّن، ولا بشعب معيّن بقدر ارتباطها بالفكر في مرحلة من مراحل نموّه وتطوّره ما دام هناك فكر ينمو ويتطوّر.

أمّا الشعوبية فهي حركة قومية سياسية ثقافية، أفرزها ظرف معيّن نشأ عن صراع حضاري بين شعب غالب منتصر وشعوب مغلوبة مهزومة، ثم انحصر أو هكذا عرف، في الصراع بين حضارتين متجاورتين، كانت إحداهما في الجاهلية هي صاحبة القوّة والنفوذ والسلطان، فذهبت مع ظهور الإسلام القوّة والنفوذ والسلطان الذي انتقل من الفرس إلى العرب. وكان هذا بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي عرضنا لها ممّا أشعل الصراع ودفع به إلى أبعد غاياته وخلق هذه الحركة التي اصطلح على تسميتها بالشعوبية.

لكن هاتين الحركتين المستقلتين في الأصل، يفقدان شيئاً من استقلالهما ويقتربان من بعضهما هنا بفعل عدد من العوامل، فإذا بنا أمام هذا الخلط الذي يجعل من الزندقة والشعوبية شيئاً واحداً أو يكاد.

وأظن قد آن لنا ونحن في نهاية بحثنا أن نشير إلى بعض الملاحظات التي نرجو أن تسهم في توضيح هذه الناحية، ويكفيها على أيّة حال أن تكون خطوة في هذا الطريق.

فمن هذه الملاحظات:

أنّ هذه الشعوبية نشأت كحركة ثقافية سياسية تمثّل رد فعل حضاري - إذا جاز التعبير - في وسط الموالي خصوصاً الفرس منهم، وهو أمر طبيعي؛ ذلك أنّ حركة كهذه تطالب في أضعف وجوهها بمساواة العرب بالشعوب الأخرى، وفي أشد وجوهها بتحقير العرب وتفضيل الآخرين عليهم، لا يمكن أن تنبت في بيئة عربية وبين العرب أنفسهم الشعب الغالب صاحب الحكم والسلطان وحامل القرآن والإسلام.

لكن هذا القول لا يصدق في عمومه. فإذا كانت الشعوبية قد نشأت وهو أمر طبيعي كما ذكرنا، في صفوف الفرس فإنّ الكثير من هؤلاء خصوصاً مَن نشأ منهم على الإسلام، قد بلغ في ورعه وتقواه وتمثّله الإسلام ديناً وسلوكاً حداً بعيداً.

لقد شارك هؤلاء المسلمون الجدد من الموالي والفرس، العرب المسلمين في قتالهم لرفع راية الإسلام وبسط رقعته، ثم دافعوا عنه وأيّدوه وردّوا على خصومه حتى تجاوزوا في ذلك العرب أنفسهم. مَن منّا يستطيع أن ينسى الحسن البصري وواصل بن عطاء وأبا حنيفة وغيرهم وغيرهم.

ثم ساروا شوطاً أبعد فكتبوا في العربية وعلومها وأدبها وشعرها وشعرائها، وكأنّهم من أبنائها ومن أبر أبنائها، قاطعين كل صلة لهم بماضيهم بعد ما ذابوا في الدين الجديد واللغة الجديدة والبيئة الجديدة، التي منحتهم بديلاً عن ماضٍ لم يعد له في نفوسهم شيء، إلاّ ما ينقله المترجمون لهم.

وأمامك أسماء المؤلّفين أمامك أسماء المؤلّفين في مختلف ميادين الفكر في مختلف ميادين الفكر الإسلامي العربي، وقد سمعت الكثير منه، وأظنّك ستدهش إذا علمت أنّ غير العرب منها أكثر من العرب. وأظنّك ستدهش أكثر إذا علمت أنّ الذين تولّوا الدفاع عن العرب ورد مطاعن الشعوبية، هم من هذه الشعوب التي اشتق منها اسم الشعوبية. ويكفيك منهم الجاحظ وابن قتيبة وابن عبد ربّه.

وأريد أن أقف قليلاً عند أوّلهم الجاحظ الذي ترك كل ما يوجّه إلى العرب من مطاعن، وأمسك بالعصا يقلبها ويقلب معها أسماءها وصفاتها كما يريد، فلا يترك صفة لها ولا شيئاً يتصل بها، أو يصنع منها أو له بالعصا علاقة من قريب أو بعيد إلاّ وأتى عليه تفصيلاً، وخاض فيه وفيما يجده في الطريق إليه مخصّصاً من كتابه البيان والتبيين أكثر من مائة صفحة كاملة للعصا. ولم تكن العصا إلاّ واحداً من المطاعن التي تأتي في آخر السلم ممّا يأخذه الشعوبيون على العرب.

٩٩

وما أحسب الجاحظ كان يريد أن يرد على الشعوبية في إظهار فوائد العصا، ولا أن يبيّن الوجه في اعتماد العرب عليها بقدر ما أراد أن يظهر براعته اللغوية واتساعه في معرفة كل ما يتصل بالعصا لغةً وأدباً شعراً ونثراً جاهليةً وإسلاماً. فهو يريد إظهار فضله لا فضل العصا التي كان يكفيه منها صفحة أو دون (1) .

ومن هذه الملاحظات أنّ عدداً كبيراً من الزنادقة، بأي معنى فهمت الزندقة وعلى أي وجه أخذته، كانوا عرباً خلّصاً لا شك في أنسابهم ولا في عروبتهم بل من أرفع وأعلى أسرهم. وقد سبقوا إلى الزندقة ابتداءً من أوّل ما عرف هذا الاصطلاح في التأريخ العربي، واستعمل للدلالة على انحراف عن الدين وفروضه بشكل من الأشكال.

____________________

(1) البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ج3 ص 5 - 124 والغريب أنّ الجاحظ المدافع عن العرب والراد على الشعوبية، كان هو ومعه اثنان من العرب الخلص: ضرار بن عمرو وثمامة بن أشرس، يفضلون النبط على العرب كما ي ذ كر المسعودي في مروج ال ذ هب ج2 ص26. وما أظن المسعودي متهماً فيما ينسبه لهؤلاء الثلاثة من رؤوس المعتزلة، وهو نفسه من المعتزلة.

١٠٠