الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء ٢

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب0%

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 388

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 388
المشاهدات: 85605
تحميل: 5886


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85605 / تحميل: 5886
الحجم الحجم الحجم
الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال: نعم، قد قلت ولا والله ما أردت به(1) إلّا الدنيا ولقد عرفت فضلكم قال: أما إن قلت ذلك إنّ التقيَّة لتحلّ.

وروى الكشي في رجاله ص 135 بإسناده عن درست بن أبي منصور قال: كنت عند أبي الحسن موسى عليه السّلام وعنده الكميت بن زيد فقال للكميت: أنت الذي تقول:

فالآن صرتُ إلى أُميَّـ

ـة والأُمور إلى المصايرْ

قال: قد قلت ذلك فوالله ما رجعت عن إيماني، وإنّي لكم لمُوال، ولعدوِّكم لقالٍ، ولكنّي قلته على التقيَّة. قال: أما لإن قلت ذلك إنَّ التقيّة تجوز في شرب الخمر.

*(لفت نظر)* أحسب أنّ الإمام المذكور في حديث الكشي هو أبو عبد الله الصادق عليه السّلام ولا يتمُّ ما فيه من أبي الحسن موسى عليه السّلام، إذ الكميت توفّي بلا اختلاف أجده سنة 126 قبل ولادة أبي الحسن موسى بسنتين أو ثلاث. كما لا يتمُّ القول باتّحاده مع حديث أبي الفرج المرويِّ عن الإمام أبي جعفر إذ درست بن أبي منصور لا يروي عنه عليه السّلام وليس من تلك الطبقة.

الكميت ودعاء الأئمة له

من الواضح أنَّ أدعية ذوي النفوس القدسيَّة، والألسنة الناطقة بالمشيئة الإلهيَّة المعبِّرة عن الله، من الذين يوحي إليهم ربّهم، ولا يتكلّمون إلّا بإذنه، وما ينطقون عن الهوى، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، ليست مجرَّد شفاعة لأيِّ أحد، و مسألة خير من المولى لكلِّ إنسان كائناً من كان، بل فيها إيعاز بأنَّ المدعوَّ له من رجال الدين، وحلفاء الخير والصلاح، ودعاة الأُمَّة إليهما، وممَّن قيَّضه المولى للدعوة إليه، والأخذ بناصر الهدى، رغماً على أباطيل الحياة وأهوائها الضالَّة، إلى فضايل لا تُحصى على إختلاف المدعوِّين لهم فيها.

وقلَّ ما دُعي لأحد مثل ما دُعي للكميت وقد أكثر النبيُّ الأعظم والأئمَّة من أولاده صلوات الله عليه وعليهم دعائهم له، فاسترحم له النبيُّ صلّى الله عليه وآله مرَّة كما مرّ

____________________

1 - أي أراد بقوله: صرت. مصير الدنيا إليهم لا الخلافة.

٢٠١

في حديث البياضي، واستجزى له بالخير وأثنى عليه أخرى كما في منام نصر بن مزاحم، وقال له ثالثة: بوركت وبورك قومك. كما في حديث السيوطي، ودعا له الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام بقوله: أللهمَّ أحيه سعيداً وأمته شهيداً، وأره الجزاء عاجلاً، وأجزل له جزيل المثوبة آجلاً، ودعا له أبو جعفر الباقر عليه السلام في مواقف شتّى في مثل أيّام التشريق بمنى وغيرها، متوجِّهاً إلى الكعبة بالإسترحام والإستغفار له غير مرَّة، وبقوله: لا تزال مؤيَّداً بروح القدس تارةً أُخرى، ومن دعائه عليه السّلام له في أيّام البيض ما رواه الشيخ الأقدم أبو القاسم الخزّاز القمّي في [ كفاية الأثر في النصوص على الأئمَّة الأثنى عشر ] بإسناده عن الكميت أنَّه قال: دخلت علي سيِّدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر فقلت: يا بن رسول الله؟ إنّي قد قلت فيكم أبياتاً أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال: أيّام البيض. قلت: فهو فيكم خاصّة. قال: هات فأنشأت أقول:

أضحكني الدَّهرُ وأبكاني

والدَّهرُ ذو صرفٍ وألوانِ

لتسعةٍ بالطفِّ قد غودروا

صاروا جميعاً رهن أكفانِ

فبكى عليه السَّلام وبكى أبو عبد الله عليه السلام وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء فلمّا بلغت إلى قولي:

وستَّةٌ لا يتجارى بهم

بنو عقيل خير فرسانِ

ثمَّ عليُّ الخير مولاهمُ

ذكرهم هُيَّج أحزاني

فبكى ثمَّ قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذُكرنا عنده يخرج من عينيه ماءٌ ولو مثل جناح البعوضة إلّا بنى الله له بيتاً في الجنَّة، وجعل ذلك الدمع حجاباً بينه وبين النّار. فلمّا بلغت إلى قولي:

مَن كان مسروراً بما مسَّكم

أو شامتاً يوماً من الآنِ

فقد ذللتم بعد عزّ فما

أدفع ضيماً حين يغشاني

أخذ بيدي ثمَّ قال: أللهمَّ؟ اغفر للكميت ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. فلمّا بلغت إلى قولي:

متى يقوم الحقّ فيكم متى

يقوم مهديّكم الثاني؟؟!!

قال: سريعاً إن شاء الله سريعاً. ثمَّ قال: يا أبا المستهلّ؟ إنَّ قائمنا هو التاسع من

٢٠٢

ولد الحسين لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله إثنى عشر، الثاني عشر هو القائم. قلت: يا سيِّدي؟ فمَن هؤلاء الإثنى عشر؟ قال: أوَّلهم عليُّ بن أبي طالب وبعده الحسن والحسين و بعد الحسين عليّ بن الحسين وبعده أنا ثمَّ بعدي هذا ووضع يده على كتف جعفر قلت: فمَن بعد هذا؟ قال: إبنه موسى وبعد موسى إبنه عليّ وبعد عليّ إبنه محمد وبعد محمد إبنه عليّ وبعد عليّ إبنه الحسن وهو أبو القاسم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما مُلأت ظلماً وجوراً ويشفي صدور شيعتنا. قلت: فمتى يخرج؟ يا بن رسول الله قال: لقد سُئل رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ذلك فقال: إنَّما مَثله كمثل السّاعة لا تأتيكم إلّا بغتة.

وناهيك به فضلاً دعاء الإمام الصادق عليه السّلام له في مواقفه المشهودة في أشرف الأيّام رافعاً يديه قائلاً: أللهمَّ؟ اغفر للكميت ما قدَّم وأخَّر، وما أسرَّ و أعلن، واعطه حتى يرضى. وينمُّ عن إجابة تلك الأدعية الصالحة الصادرة من النفوس الطاهرة بالألسنة الصادقة أمر النبيِّ صلّى الله عليه وآله أبا إبراهيم سعد الأسدي في منامه بقراءة سلامه عليه، وأنبأه بأنَّ الله قد غفر له. وكذلك نهيه صلّى الله عليه وآله دعبل الخزاعي في الطيف عن معارضة الكميت وقوله له: إن الله قد غفر له. وكان بنو أسد (قبيلة الكميت) يحسّون بركة دعاء النبيِّ له ولهم بقوله: بوركت و بورك قومك. ويُشاهدون آثار الإجابة فيهم، يجدون في أنفسهم نفحاتها، وكانوا يقولون: إنّ فينا فضيلةٌ ليست في العالم، ليس منّا إلّا وفيه بركة وراثة الكميت(1)

ومن تلك الأدعية المستجابة التي شوهدت آثارها، وأبقت للكميت فضيلة مع الأبد ما رواه شيخنا قطب الدين الراوندي في [ الخرايج والجرايح ] أنّ محمد بن علي الباقر عليه السَّلام دعا للكميت لَمّا أراد أعداء آل محمد أخذه وهلاكه وكان متوارياً فخرج في ظلمة الليل هارباً وقد أقعدوا على كلِّ طريق جماعة ليأخذوه إذا ما خرج في خفية، فلمّا وصل الكميت إلى الفضاء وأراد أن يسلك طريقاً فجاء أسدٌ يمنعه من أن يسري منها فسلك جانباً آخر فمنعه منه أيضاً، كأنَّه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه ومضى الأسد في جانب الكميت إلى أن أمن وتخلّص من الأعداء.

____________________

1 - مرّ الحديث ص 190.

٢٠٣

وفي «معاهد التنصيص» 2 ص 28 قال المستهلّ: أقام الكميت مدَّة متوارياً حتّى إذا أيقن أنَّ الطلب خفَّ عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل وفيمن معه «صاعد» غلامه وأخذ الطريق على «القطقطانة» وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها فلمّا صار سحيراً صاح بنا هوِّموا(1) يا فتيان فهوَّ منا وقام فصلّى، قال المستهلّ: فرأينا شخصاً فتضعضعت له فقال: مالك؟ قلت: أرى شخصاً مُقبلاً فنظر إليه فقال: هذا ذئبٌ قد جاء يستطعمكم فجاء الذئب فربض ناحيةً فأطعمناه يد جزور فتعرَّقها ثمَّ أهوينا له بإناء فيه ماءٌ فشرب منه فارتحلنا وجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ماله ويله ألم نطعمه ونسقه؟؟ وما أعرفني بما يريد هو يدلّنا إنّا لسنا على الطريق تيامنوا يا فتيان؟ فتيامنّا فسكن عواءه فلم نزل نسير حتّى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم.

وهذا جانبٌ عظيمٌ من نواحي مكرمات الكميت وفضايله لو أُضيف إلى ما يظهر من كلماته المُعربة عن نفسيّاته، ومواقفه الكاشفة عن خلايقه الكريمة، وما قيل فيه وفي مآثره الجمّة يُمثّله بين يدي القارئ بمظاهر روحيّاته، ونصب عينيه مجالي نفسيّاته، وأمثلة مكارم أخلاقه وما كان يحمله بين جنبيه من العلم، والفقه، والأدب، والإباء، والشمم، والحماسة، والهمّة، واللباقة، والفصاحة، والبلاغة، والخلق الكامل، وقوَّة القلب، والدين الخالص، والتشيّع الصحيح، والصلاح المحض، والرشد والسداد، إلى فضايل تكسبه فوز النشأتين لا تُحصى.

الكميت وهشام بن عبد الملك

كان خالد بن عبد الله القسري قد أنشد قصيدة الكميت التي يهجو فيها اليمن و هي التي أوَّلها:

ألا حيّيت عنّا يا مدينا

وهل ناسٌ تقول مسلّمينا

فقال: والله لأقتلنَّه ثمَّ اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن وتخيّرهنّ نهايةً في الحسن والكمال والأدب فرواهنّ (الهاشميّات) ودسَّهنّ مع «نخاس» إلى هشام بن

____________________

1 - هموم تهويماً: نام قليلاً.

٢٠٤

عبد الملك فاشتراهنَّ جميعاً فلمّا أنس به واستنطقهنَّ رأى منهنَّ فصاحةً وأدباً فاستقرأهنّ القرآن فقرأن واستنشدهنَّ الشعر فأنشدن قصائد الكميت (الهاشميّات) فقال هشام: ويلكنَّ مَن قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت بن زيد الأسدي. قال: في أيِّ بلد هو؟ قلن بالعراق ثمَّ بالكوفة فكتب إلى خالد عامله في العراق إبعث إليَّ برأس الكميت بن زيد. فلم يشعر الكميت إلّا والخيل محدقةٌ بداره فأُخذ وحبس في الحبس وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال: له أنت حرٌّ إن لحقته والبغل لك. وكتب له: أمّا بعد. فقد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلّا أن يدفع الله عزَّ وجلَّ، وأرى لك أن تبعث إليّ حِبّي - يعني زوجة الكميت وكانت ممَّن تتشيَّع أيضاً - فإذا دخلت عليك تنقَّبت نقابها ولبثت ثيابها وخرجتَ فإنّي أرجو الأوبة لك. قال: فركب الغلام البغل وسار بقيَّة يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبَّحها فدخل الحبس متنكّراً وأخبر الكميت بالقصَّة فبعث إلى امرأته وقصَّ عليها القصَّة وقال لها: أي إبنة عمّ؟ إنّ الوالي لا يقدم عليكِ ولا يسلمكِ قومكِ ولو خفت عليكِ ما عرضتك له. فألبسته ثيابها وإزارها وخمَّرته وقالت له: أقبل وأدبر ففعل فقالت: ما أُنكر منك شيئاً إلّا يبساً في كتفيك، فاخرج على اسم الله تعالى. و أخرجت معه جاريتين لها فخرج وعلى باب السجن أبو الوضاح حبيب بن بُدير ومعه فتيان من أسد فلم يُؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكّة شبيب بناحية الكناس فمرَّ بمجلس من مجالس بني تميم فقال بعضهم: رجلٌ وربِّ الكعبة وأمر غلامه فأتبعه فصاح به أبو الوضاح يا كذا وكذا؟ أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومى إليه بنعله فولّى العبد مدبراً وأدخله أبو الوضاح منزله، ولما طال على السجّان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك لا أُمَّ لك. فشقَّ ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد فأخبر الخبر فأحضر المرأة فقال لها: يا عدوَّة الله؟ إحتلتِ على أمير المؤمنين وأخرجتِ عدوَّ أمير المؤمنين لأنكلنَّ بكِ ولأصنعنَّ ولأفعلنَّ. فاجتمعت بنو أسد عليه وقالوا له: ما سبيلك على امرأة منّا خُدعت. فخافهم فخلّى سبيلها وسقط غرابٌ على الحايط ونعب فقال الكميت لأبي الوضاح: إنّي لمأخوذٌ وإنَّ حائطك لساقطٌ. فقال: سبحان الله هذا ما لا يكون إنشاء الله تعالى، وكان الكميت خبيراً بالزجر

٢٠٥

(الكهانة) فقال له: لا بدَّ أن تحوِّلني. فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيَّعون فأقام فيهم، ولم يصبح حتّى سقط الحايط الذي سقط عليه الغراب.

قال المستهلّ: وأقام الكميت مدَّةً متوارياً حتّى إذا أيقن أنَّ الطلب خفَّ عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد وبني تميم وأرسل إلى أشرف قريش وكان سيِّدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمةٌ أتاك بها الله تعالى، هذا: الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين قد كتب في قتله فنجا حتّى تخلّص إليك وإلينا. قال: فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء. فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال: يا أبا شاكر؟ مكرمةٌ أتيتك بها تبلغ الثريّا إن اعتقدتها فإن علمت أنَّك تفي بها وإلّا كتمتها. قال: وما هي؟ فأخبره الخبر وقال: إنّه قد مدحكم عامّة وإيّاك خاصّة بما لم يُسمع بمثله. فقال: عليَّ خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أُمّه في غير وقت دخول فقال له هشام: أجئت لحاجة؟ قال: نعم. قال: هي مقضيةٌ إلّا أن تكون الكميت. فقال: ما أُحبُّ أن تستثني عليَّ في حاجتي وما أنا والكميت. فقالت أُمّه: والله لتقضينَّ حاجته كائنةً ما كانت قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها. قال: يا أمير المؤمنين؟ وهو آمنٌ بأمان الله عزَّ وجلَّ أماني وهو شاعر مضر وقد قال فينا قولاً لم يُقل مثله. قال: قد أمّنته وأجزت أمانك له، فأجلس له مجلساً ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد مجلساً وعنده الأبرش الكلبي فتكلّم بخطبة إرتجلها ما سُمع بمثلها قطُّ، وامتدحه بقصيدته الرائيَّة ويقال: إنّه قالها إرتجالاً وهي قوله:

قف بالديار وقوف زائرْ

................................

فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:

ماذا عليك من الوقو

ف بها إنَّك غير صاغرْ؟

درجت عليك الغاديا

ت الرابحات من الأعاصرْ

ويقول فيها:

فالآن صرت إلى أُميّـ

ـة والأُمور إلى المصائرْ

٢٠٦

فجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: إسمع إسمع. ثمَّ استأذنه في مرثية إبنه معاوية فأذن له فيها فأنشده قوله:

سأبكيك لِلدنيا ولِلدين إنَّني

رأيت يد المعروف بعدك شلّتِ

أدامت عليكم بالسَّلام تحيَّة

ملائكة الله الكرام وصلّتِ

فبكى هشام بكاءً شديداً فوثب الحاجب فسكّته، ثمَّ جاء الكميت إلى منزله آمناً فحشدت له المضريَّة بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته وإنَّه لا سلطان له عليهم. قال: وجمعت له بنو أُميَّة فيما بينها مالاً كثيراً، ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلّا ما حفظه الناس منها فأُلِّف وسُئل عنها فقال: ما أحفظ منها شيئاً إنّما هو كلام إرتجلته.

وفي رواية: إنّه لَمّا أجاره مسلمة بن هشام وبلغ بذلك هشاماً دعا به وقال له: أتُجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلّا ولكنّي إنتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة فإنّه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهلّ؟ إنّ أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك. قال أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلّا ولكنّي أحتال لك. ثمَّ قال له: إنّ معاوية بن هشام مات قريباً وقد جزع عليه جزعاً شديداً فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدَّمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولون: هذا إستجار بقبر أبينا ونحن أحقُّ بإجارته. فأصبح هشام على عادته متطلّعاً من قصره إلى القبر فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعلّه مستجيرٌ بالقبر. فقال: يُجار مَن كان إلّا الكميت فإنّه لا جوار له. فقيل: فإنَّه الكميت. فقال: يُحضر أعنف إحضار. فلمّا دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلمّا نظر هشام إليهم إغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين إستجار بقبر أبينا وقد مات وما حظّه من الدنيا فاجعله هبةً له ولنا ولا تفضحنا في مَن إستجار به. فبكى هشام حتى إنتحب ثمَّ أقبل على الكميت فقال له: يا كميت؟ أنت القائل:

وإلّا فقولوا غيرها تتعرِّفوا

نواصيها تُروى بنا وهي شزَّب(1)

____________________

1 - تروى: أي ترمى. تشازب القوم على الأمر. أي كان لكل واحد منهم حظ ينتظره يقال: هم متشازبون.

٢٠٧

فقال: لا والله أتان من أُتن الحجاز وحشيَّة. فقال الكميت: الحمد لله. قال هشام: نعم الحمد لله. ما هذا؟ قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، الذي خصَّ بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنَّته، أحمد حمد مَن علم يقيناً، وأبصر مُستبيناً، وأشهد له بما شهد به لنفسه، قائماً بالقسط وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده العربيُّ، ورسوله الأُمِّيُّ، أرسله و الناس في هفوات حيرة، ومُدلهمّات ظلمة، عند إستمرار أُبّهة الضلال، فبلّغ عن الله ما أُمر به، ونصح لأُمَّته، وجاهد في سبيله، وعبد ربَّه حتّى أتاه اليقين، صلّى الله عليه وسلم. ثمّ تكلّم واعتذر عن هجاؤه بني أُميَّة وأنشد أبياتاً من رائيَّته في مدحهم فقال له هشام: ويلك يا كميت مَن زيَّن لك الغواية ودّلاك في العماية؟ قال: الّذّي أخرج أبانا من الجنّة وأنساه العهد فلم يجد له عزماً. فقال له: إيه يا كميت؟ ألست القائل؟:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءها

ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

فقال: بل أنا القائل:

إلى آل بيت أبي مالك

مناخٌ هو الأرحب الأسهلُ

نمتُّ بأرحامنا الداخلا

ت من حيث لا يُنكر المدخلُ

بمرَّة والنضر والمالكين

رهطٌ هم الأنبل الأنبلُ

وجدنا قريشاً قريش البطاح

على ما بنى الأوَّل الأوَّلُ

الأوَّل بهم صلح اللهُ بعد الفساد

وحيص من الفتق ما رعبلوا(1)

قال له: وأنت القائل:

لا كعبد المليك أو كوليد

أو سليمان بعدُ أو كهشامِ

مَن يمت لا يمت فقيداً ومن يحـ

ـيَ فلا ذو إلّ ولا ذو ذمامِ

ويلك يا كميت جعلتنا ممَّن لا يرقب في مؤمن إلّاً ولا ذمّةً. فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:

فالآن صرت إلى أميّـ

ـة والأمور إلى المصائرْ

والآن صرت بها إلى المصيـ

ـب كمهتدٍ بالأمس حائرْ

____________________

1 - حاص حيصا: عدل وحاد. رعبلوا: مزقوا.

٢٠٨

فقل لبني أُميَّة حيث حلّوا

وإن خفتَ المهنَّد والقطيعا

أجاع الله مَن أشبعتموه

وأشبع مَن بجوركمُ أُجيعا

بمرضيِّ السياسة هاشميّ

يكون حياً لأُمّته ربيعا

فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين؟ إن رأيت أن تمحو عنّي قولي الكاذب. قال: بما ذا قال بقولي الصادق:

أورثته الحصان أُمّ هشام

حسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا

وتعاطى به إبن عايشة البد

ر فأمسى له رقيباً نظيرا

وكساه أبو الخلايف مروا

ن سناء المكارم المأثورا

لم تجهَّم(1) له البطاح ولكن

وجدتها له مَعاناً(2) ودورا

وكان هشام متّكئاً فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر. يقولها لسالم إبن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه ثمَّ قال: قد رضيت عنك يا كميت؟ فقبّل يده و قال: يا أمير المؤمنين؟ إن رأيت أن تزيد في تشريفي فلا تجعل لخالد عليَّ إمارة. قال: قد فعلت. وكتب بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً هشاميَّة وكتب إلى خالد: أن يُخلّي سبيل امرأته ويُعطيها عشرين ألف درهم وثلاثين ثوباً. ففعل ذلك.

الأغاني 15 ص 115 - 119، العقد الفريد 1 ص 189.

كان هشام بن عبد الملك مشغوفاً بجارية له يقال: لها (صدوف) مدنيّة اشتريت له بمال جزيل عتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها وحلف أن لا يبدأها بكلام، فدخل عليه الكميت وهو مغمومٌ بذلك فقال: مالي أراك مغموماً يا أمير المؤمنين؟ لا غمّك الله. فأخبره هشام بالقصّة فأطرق الكميت ساعةً ثمَّ أنشأ يقول:

أعتبتَ أم عتبتْ عليك (صدوف)

وعتابُ مثلك مثلها تشريفُ

لا تعقدنّ تلوم نفسك دائباً

فيها وأنت بحبِّها مشغوفُ

إنّ الصريمة لا يقوم بثقلها

إلّا القويّ بها وأنت ضعيفُ

فقال هشام: صدقت والله ونهض من مجلسه فدخل إليها ونهضت إليه فاعتنقته،

____________________

1 - تجهم له: استقبله بوجه عبوس كريه.

2 - المعان بفتح الميم: المنزل. يقال: هم منك بمعان. أي: بحيث تراهم بعينك.

٢٠٩

وانصرف الكميت فبعث إليه هشام بألف دينار وبعثت إليه بمثلها.

[ الأغاني 15 ص 122 ]

الكميت ويزيد بن عبد الملك

حدّث حُبيش بن الكميت قال: وفد الكميت على يزيد بن عبد الملك فدخل عليه يوماً وقد اُشتريت له سلامة القس فأُدخلت إليه والكميت حاضرٌ فقال له: يا أبا المستهلّ؟ هذه جاريةٌ تُباع أفترى أن نبتاعها؟ أي والله يا أمير المؤمنين؟ وما أرى أنَّ لها مثيلاً فلا تفوتنّك. قال فصفها لي في شعر حتّى أقبل رأيك. فقال الكميت:

هي شمس النهار في الحسن إلّا

أنَّها فُضِّلت بفتك الطرافِ

غَضَّةٌ بضَّةٌ رخيمٌ لعوبٌ

وعثة المتن ثخنة الأطرافِ(1)

زانها دلّها وثغرٌ نقيٌّ

وحديثٌ مرتّلٌ غير جافِ

خُلقت فوق مُنية المتمنّي

فاقبل النصح يا بن عبد منافِ

قال: فضحك يزيد وقال: قد قبلنا نصحك يا أبا المستهلّ. فأمر له بجائزة سنيّة.

[ الأغاني 15 ص 122 ]

* (وللكميت مع خالد) * بن عبد الله القسري أخبارٌ عند قدومه الكوفة منها: إنَّه مرَّ يوماً وقد تحدَّث الناس بعزله عن العراق فلمّا جاز تمثّل الكميت وقال:

أراها وإن كانت تحبُّ كأنَّها

سحابة صيف عن قليل تُقشّع

فسمعه خالد فرجع وقال: أما والله لا تنقشع حتّى يغشاك منها شؤبوب برد، ثمَّ أمر به فجرِّد وضُرب مائةُ سوط، ثمَّ خلّى عنه ومضى (رواه إبن حبيب)

[ الأغاني 15 ص 119 ].

*(ومن ملح الكميت)*: إنّ الفرزدق مرَّ به وهو ينشد والكميت يومئذ صبيُّ فقال له الفرزدق أيسرُّك إنّي أبوك فقال: لا، ولكن يسرُّني أن تكون أُمّي فحصر الفرزدق فأقبل على جلسائه وقال. ما مرَّ بي مثل هذا قطٌّ.

[ الأغاني 15 ص 123 ]

____________________

م (1) الغض: الطري الناعم. يقال: شباب غض. أي: ناضر. البضة: رقيق الجلد ناعمة في اليمن. الرخيم من رخمت الجارية: صارت سهلة المنطق فهي رخيمة ورخيم. الوعث: الهزال. ثخن: غلظ.

٢١٠

ولادته وشهادته

وُلد الكميت في سنة الستِّين عام شهادة الإمام السبط الشهيد صلوات الله عليه وعاش عيشة مرضيَّة سعيداً في دنياه، باذلاً كلّه في سبيل ما اختاره له ربّه، داعياً إلى سَنن الهدى حتّى أُتيحت له الشهادة ببركة دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام له بها، وبعين الله ما هُريق من دمه الطاهر وذلك بالكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة 126.

وكان سبب موته ما حكاه حجر بن عبد الجبّار قال: خرجت الجعفريّة(1) على خالد القسري وهو يخطب على المنبر ولا يعلم بهم فخرجوا في التبابين ينادون: لبّيك جعفر، لبّيك جعفر، وعرف خالد خبرهم وهو يخطب فدهش بهم فلم يعلم ما يقول فزعاً فقال: أطعموني ماءً ثمَّ خرج الناس إليهم فأُخذوا فجعل يجيئ بهم إلى المسجد و يُؤخذ طنُّ قصب فيُطلى بالنفط ويُقال للرجل منهم: إحتضنه. ويُضرب حتّى يفعل ثمَّ يحرق فحرقهم جميعاً، فلمّا عُزل خالدٌ عن العراق ووليه يوسف بن عمر دخل عليه الكميت وقد مدحه بعد قتله زيد بن عليّ فأنشده قوله فيه:

خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن

كمن حصنه فيه الرتاج المضبَّبُ

وما خالدٌ يستطعم الماء فاغراً

بعدلك والداعي إلى الموت ينعبُ

قال والجند قيامٌ على رأس يوسف بن عمر وهم ثمانية فتعصّبوا لخالد فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكميت فوجؤوه بها وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره؟ فلم يزل ينزف الدم حتى مات.

[ الأغاني 15 ص 121.]

وحدّث المستهلّ(2) بن الكميت قال حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه وأُغمي عليه ثمَّ أفاق ففتح عينيه ثمَّ قال: أللهمَّ آل محمد، أللهمَّ آل محمد، أللهمّ آل محمد. ثلاثاً ثمّ قال: يا بُنيَّ وددت أنّي لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت وهو:

____________________

1 - هم المغيرة بن سعيد وبيان وأصحابهما الست وكانوا يسمون: الوصفاء.

2 - كان المستهل من الشعراء المعروفين وله ديوان كما في فهرست إبن النديم ص 233.

٢١١

مع العضروط والعسفاء ألقوا

برادعهنّ غير محصّنينا

فعممتهنَّ قذفاً بالفجور، والله ما خرجت ليلاً قطُّ إلّا خشيت أن أُرمى بنجوم السماء بذلك. ثمّ قال: يا بُنيَّ إنّه بلغني في الروايات: إنّه يُحفر بظهر الكوفة خندقٌ، ويُخرج فيه الموتى من قبورهم، ويُنبشون منها فيُحوَّلون إلى قبور غير قبورهم. فلا تدفنّي في الظهر ولكن إذا متُّ فامض بي إلى موضع يقال له: «مكران» فادفنّي فيه. فدفن في ذلك الموضع وكان أوَّل من دُفن فيه وهو مقبرةُ بني أسد إلى الساعة.

«الأغاني» 15 ص 130، «المعاهد» 2 ص 131.

٢١٢

7 - السيِّد الحميري

المتوفى 173

1

يا بايع الدين بدنياه

ليس بهذا أمر الله

من أين أبغضتَ عليَّ الوصيَّ

؟ وأحمد قد كان يرضاه

مَن الّذي أحمدُ في بينهم

يوم «غديرالخمِّ» ناداه؟

أقامه من بين أصحابه

وهم حواليه فسمّاه

: هذا عليُّ بن أبي طالب

مولى لمن قد كنت مولاه

فوال مَن والاهُ يا ذا العلا

وعاد مَن قد كان عاداه

2

هلّا وقفت على المكان المُعشبِ

بين الطويلع فاللوى من كبكبِ

ويقول فيها:

وبخمّ إذ قال الإله بعزمه:

قم يا محمد في البريّة فاخطب

وانصب أبا حسن لقومك إنّه

هادٍ وما بلّغت إن لم تنصب

فدعاهُ ثمَّ دعاهُمُ فأقامه

لهُمُ فبين مصدِّق ومكذِّب

جعل الولاية بعده لمهذَّب

ما كان يجعلها لغير مهذَّب

وله مناقبُ لا تُرام متى يُرد

ساعٍ تناول بعضها بتذبذب

إنّا ندين بحبِّ آل محمد

ديناً ومَن يُحبّهمُ يستوجب

منّا المودَّة والولاء ومن يُرد

بدلاً بآل محمد لا يُحبب

ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد

حوض الرسول وإن يُرده يُضرب

ضرب المحاذر أن تعر ركابه

بالسوط سالفة البعير الأجرب

وكأنَّ قلبي حين يذكر أحمداً

ووصيَّ أحمد نيط من ذي مخلب

٢١٣

بذرى القوادم من جناح مصعَّد

في الجوِّ أو بذرى جناح مصوب

حتّى يكاد من النزاع إليهما

يفري الحجاب عن الضلوع القلّب

هبة وما يهب الإله لعبده

يزدد ومهما لا يهب لا يوهب

يمحو ويُثبت ما يشاء وعنده

علم الكتاب وعلم ما لم يكتب

هذه القصيدة ذات 112 بيتاً تسمّى بالمذهَّبة شرحها سيِّد الطائفة الشريف المرتضى علم الهدى وطبع بمصر 1313 وقال في شرح قوله:

وانصب أبا حسن لقومك إنَّه

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

هذا اللفظ يعني (النصب) لا يليق إلّا بالإمامة والخلافة دون المحبّة والنصرة، وقوله: جعل الولاية بعده لمهذَّب. صريحٌ في الإمامة لأنَّ الإمامة هي التي جعلت له بعده والمحبّة والنصرة حاصلتان في الحال وغير مختصَّين بعد الوفاة.

وشرحها أيضاً الحافظ النسّابة الأشرف بن الأغر المعروف بتاج العُلى الحسيني المتوفّى 610.

3

خف يا محمد فالق الإصباح

وأزل فساد الدين بالإصلاحِ

أتسبُّ صنو محمد ووصيّه؟

ترجو بذاك الفوز بالإنجاحِ

هيهات قد بعدا عليك وقرَّبا

منك العذاب وقابض الأرواحِ

أوصى النبيُّ له بخير وصيّة

يوم «الغدير» بأبين الإفصاحِ

: مَن كنت مولاهُ فهذا واعلموا

مولاهُ قول إشاعة وصراحِ

قاضي الديون ومرشدٌ لكُمُ كما

قد كنت أرشد من هدى وفلاحِ

أغويتَ أُمّي وهي جِدّ ضعيفة

فجرت بقاع الغيِّ جري جماحِ

بالشتم للعَلم الإمام ومن له

إرث النبيِّ بأوكد الإيضاحِ

إنّي أخاف عليكما سخط الّذي

أرسى الجبال بسبسب صحصاحِ

أبويَّ فاتّقيا الإله وأذعنا

للحقِّ (1)

____________________

1 - هكذا وجدناه بياضا في الأصل.

٢١٤

هذه الأبيات رواها المرزباني، كتبها السيِّد إلى والديه يدعوها إلى التشيّع وولاء أمير المؤمنين وينهاهما عن سبّه وكانا أباضيَّين.

4

إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد

ولا عهده يوم «الغدير» مؤكّدا

فإنّي كمن يشري الضلالة بالهدى

تنصّر من بعد الهدى أو تهوَّدا

وما لي وتيماً أو عديّاً وإنّما

أولو نعمتي في الله من آل أحمدا

تتمُّ صلاتي بالصَّلاة عليهمُ

وليست صلاتي بعد أن أتشهّدا

بكاملة إن لم أُصلِّ عليهمُ

وأدعو لهم ربّاً كريماً ممجَّدا

بذلت لهم ودّي ونُصحي ونُصرتي

مدى الدهر ما سُمِّيت ياصاحِ سيِّدا

وإنَّ امرأ يُلحى على صدق ودِّهم

أحقُّ وأولى فيهمُ أن يُفنَّدا

فإن شئتَ فاختر عاجل الغمِّ ظلّة

وإلا فامسك كي تُصان وتُحمدا

هذه القصيدة توجد منها 25 بيتاً. روى أبو الفرج في «الأغاني» 7 ص 262: إنّ أبا الخلّال العتكي دخل على عقبة بن سلم والسيِّد عنده وقد أمر له بجائزة وكان أبو الخلّال شيخ العشيرة وكبيرها فقال له: أيّها الأمير؟ أتعطي هذه العطايا رجلاً ما يفتر عن سبِّ أبي بكر وعمر؟ فقال له عقبة: ما علمت ذاك ولا أعطيته إلّا على العشرة والمودَّة القديمة وما يوجبه حقّه وجواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقّهم ورعايتهم. فقال له أبو الخلّان: فمره إن كان صادقاً أن يمدح أبا بكر وعمر حتّى نعرف براءته ممّا يُنسب إليه من الرفض. فقال: قد سمعك فإن شاء فعل. فقال السيِّد:

إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد

إلى آخر الأبيات ثمّ نهض مغضباً. فقام أبو الخلّال إلى عقبة فقال: أعذني من شرّه أعاذك الله من السوء أيّها الأمير؟ قال: قد فعلت على أن لا تعرض له بعدها.

5

قد أطلتم في العذل والتنقيدِ

بهوى السيِّد الإمام السديدِ

يقول فيها:

٢١٥

يوم قام النبيُّ في ظلِّ دَوح

والورى في وديقة صيخودِ(1)

رافعاً كفَّه بيمني يديه

بايحاً باسمه بصوت مديدِ

: أيَّها المسلمون هذا خليلي

ووزيري ووارثي وعقيدي

وابن عمّي ألا فمن كنت مولاه

فهذا مولاه فارعوا عهودي

وعليٌّ منّي بمنزلة هارون

بن عمران من أخيه الودودِ

6

أجدّ بآل فاطمة البكورُ

فدمع العين منهلٌّ غزيرُ

يقول فيها:

لقد سمعوا مقالته بخمٍّ

غداة يضمّهم وهو الغديرُ

: فمن أولى بكم منكم فقالوا

مقالة واحدٍ وهم الكثيرُ

جميعاً: أنت مولانا وأولى

بنا منّا وأنت لنا نذيرُ

: فإنَّ وليّكم بعدي عليٌّ

ومولاكم هو الهادي الوزيرُ

وزيري في الحياة وعند موتي

ومن بعدي الخليفة والأميرُ

فوال الله من والاه منكم

وقابله لدى الموت السرورُ

وعاد الله من عاده منكم

وحلَّ به لدى الموت النشورُ

7

ألاَ الْحمد لله حمداً كثيرا

وليِّ المحامد ربّاً غفورا

هداني إليه فوحَّدته

وأخلصت توحيده المستنيرا

ويقول فيها:

لذلك ما اختاره ربّه

لخير الأنام وصيّاً ظهيرا

فقام بخمّ بحيث «الغدير»

وحطَّ الرحال وعافَ المسيرا

وقمَّ له الدوح ثمَّ ارتقى

على منبر كان رحلاً وكورا

ونادى ضحىً باجتماع الحجيج

فجاؤا إليه صغيراً كبيرا

____________________

1 - الوديقة: شدة الحر. والصيخود: شديد الحر. يقال: يوم صيخود وصخدان.

٢١٦

فقال وفي كفِّه حيدرٌ

يُليح إليه مُبيناً مُشيرا

: ألا إنّ من أنا مولى له

فمولاه هذا قضاً لن يجورا

فهل أنا بلّغت؟ قالوا: نعم

فقال: اشهدوا غُيَّباً أو حضورا

يبلّغ حاضركم غائباً

وأُشهد ربِّي السميع البصيرا

فقوموا بأمر مليك السما

يبايعه كلٌّ عليه أميرا

فقاموا: لبيعته صافقين

أكفّاً فأوجس منهم نكيرا

فقال: إلهي وال الوليّ

وعاد العدوّ له والكفورا

وكن خاذلاً للأولى يخذلون

وكن للأولى ينصرون نصيرا

فكيف ترى دعوة المصطفى

مُجاباً بها أُو هباءاً نثيرا؟؟!!

أُحبّك يا ثاني المصطفى

ومن أشهد الناس فيه الغديرا

وأشهد أنَّ النبيَّ الأمين

بلّغ فيك نداءاً جهيرا

وإنَّ الّذين تعادوا عليك

يُصلون ناراً وساءت مصيرا

8

قف بالديار وحيِّهنَّ ديارا

واسق الرسوم المدمع المدرارا

كانت تحلُّ بها النوار وزينب

فرعى إلهي زينباً ونوارا

قل للذي عادى وصيَّ محمد

وأبان لي عن لفظه إنكارا

يقول فيها:

مَن خاصفٌ نعل النبيِّ محمد

يُرضي بذاك الواحد الغفّارا

فيقول فيه معلناً خير الوري

جهراً وما ناجى به إسرارا

: هذا وصيّي فيكمُ وخليفتي

لا تجهلوه فترجعوا كفّارا

وله بيوم «الَّدوح» أعظم خطبة

أدّى بها وحي الإله جهارا

9

بلغ سوّار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة قول شاعرنا السيِّد الحميري في حديث الطائر المشويِّ المتَّفق عليه:

٢١٧

لَمّا أتى بالخبر الأنبل

في طائر أُهدي إلى المرسلِ

في خبر جاء أبانٌ به

عن أنس في الزمن الأوَّلِ

هذا وقيس الحَبر يرويه عن

سفينة ذي القلّب الخوَّلِ

سفينةٌ يمكن من رشده

وأنسٌ خان ولم يعدلِ

في ردِّه سيِّد كلِّ الورى

مولاهمُ في المحكم المنزلِ

فصدّه ذو العرش عن رشده

وشأنه بالبرص الأنكلِ

فقال سوّار: ما يدع هذا أحداً من الصحابة إلّا رماه بشعر يُظهر عواره. وأمر بحبسه فاجتمع بنو هاشم والشيعة وقالوا له: والله لئن لم تُخرجه وإلّا كسرنا الحبس وأخرجناه أيمتدحك شاعرٌ فتثيبه، ويمتدح أهل البيت شاعرٌ فتحبسه؟؟!! فأطلقه على مضض فقال يهجوه:

قولا لسوّار أبي شملة

: يا واحداً في النوك والعار

ما قلت في الطير خلاف الذي

رويته أنت بآثار

وخبر المسجد إذ خصَّه

محلّلاً من عرصة الدار

إن جنباً كان وإن طاهراً

في كلِّ إعلان وإسرار

وأخرج الباقين منه معاً

بالوحي من إنزال جبّار

حبا عليّاً وحسيناً معاً

والحسن الطهر لأطهار

وفاطماً أهل الكساء الأولى

خصّوا بإكرام وإيثار

فمبغض الله يرى بغضهم

يصير للخزي وللنّار

عليه من ذي العرش في فعله

وسمٌ يراه العائب الزاري

وأنت يا سُوّار رأسٌ لهم

في كلِّ خزي طالب الثار

تعيب من آخاه خير الورى

من بين أطهار وأخيار

وقال في «خمّ» له معلناً

ما لم يُلقّوه بإنكار

: من كنت مولاه فهذا له

مولى فكونوا غير كفّار

فعوِّلوا بعدي عليه ولا

تبغوا سراب المهمة الجاري

وقال يهجو سوّار القاضي بعد موته:

٢١٨

يا من غدا حاملاً جثمان سوّارِ

من داره ظاعناً منها إلى النارِ

لا قدّس الله روحاً كان هيكلها

لقد مضت بعظيم الخزي والعارِ

حتّى هوت قعر بيروت معذَّبة

وجسمه في كنيف بين أقذارِ

لقد رأيت من الرَّحمن معجبة

فيه وأحكامه تجري بمقدارِ

فاذهب عليك من الرَّحمن بَهلته

يا شرَّحيّ يراه الواحد الباري

يا مبغضاً لأمير المؤمنين وقد

قال النبيُّ له من دون إنكارِ

يوم الغدير وكلُّ الناس قد حضروا

: من كنت مولاه في سرّ وإجهارِ

هذا أخي ووصيّي في الأًمور ومَن

يقوم فيكم مقامي عند تذكاري

يا ربّ عاد الذي عاداه من بشر

وأصله في جحيم ذات إسعارِ

وأنت لا شكَّ عاديت الإله به

فيا جحيمُ ألا هبّي لِسوّارِ

10

لأُمِّ عمرو بالِلّوى مربعُ

طامسةٌ أعلامها بلقعُ

تروع عنها الطير وحشيَّةً

والوحش من خيفته تفزعُ

رقشٌ يخاف الموت من نقشها

والسمُّ في أنيابها منقعُ

برسم دار ما بها مؤنسُ

إلّا صلالٌ في الثرى وُقَّعُ

لَمّا وقفتُ العيس في رسمها

والعين من عرفانه تدمعُ

ذكرتُ مَن قد كنت ألهو به

فبتُّ والقلب شجٌ موجعُ

كأنَّ بالنار لَمّا شفَّني

من حبِّ أروى كبدي لُدَّعُ

عجبت من قوم أتوا أحمداً

بخطَّة ليس لها موضعُ

قالوا له: لو شئتَ أعلمتنا

إلى مَن الغايةُ والمفزعُ

إذا توفَّيت وفارقتنا

وفيهمُ في الملك مَن يطمعُ

فقال: لو أعلمتكم مفزعاً

كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا

صنيع أهل العجل إذ فارقوا

هارون فالترك له أوسعُ

وفي الّذي قال بيانٌ لمن

كان إذا يعقل أو يسمعُ

ثمَّ أتته بعد ذا عزمةٌ

من ربِّه ليس لها مدفعُ

٢١٩

بلّغ وإلّا لم تكن مبلغاً

والله منهم عاصمٌ يمنعُ

فعندها قام النبيُّ الّذي

كان بما يُأمر به يصدعُ

يخطب مأموراً وفي كفِّه

كفُّ عليٍّ ظاهرٌ تلمعُ

رافعها أكرم بكفِّ الّذي

يرفع والكفُّ الّذي ترفعُ

يقول والأملاك من حوله

والله فيهم شاهدٌ يسمعُ

: مَن كنت مولاه فهذا له

مولىً فلم يرضوا ولم يقنعوا

فاتَّهموه وحنت فيهمُ

على خلاف الصّادق الأضلعُ

وضلَّ قومٌ غاضهم فعله

كأنَّما آنافهم تُجدعُ

حتّى إذا واروه في لحده

وانصرفوا عن دفنه ضيَّعوا

ما قال بالأمس وأوصي به

واشتروا الضرَّ بما ينفعُ

القصيدة 54 بيتاً

*(ما يتبع الشعر)*

عن فضيل الرسّان قال: دخلت على جعفر بن محمد عليه السّلام أُعزّيه عن عمِّه زيد ثمَّ قلت: ألا أُنشدك شعر السيِّد؟ فقال: أنشد. فأنشدته قصيدة يقول فيها:

فالناس يوم البعث راياتهم

خمسٌ فمنها هالكٌ أربعُ

قائدها العجل وفرعونهم

وسامريُّ الأُمَّة المفظعُ

ومارقٌ من دينه مخرجٌ

أسود عبد لكّع أوكعُ

ورايةٌ قائدها وجهه

كأنَّه الشمس إذا تطلعُ

فسمعت نحيباً من وراء الستور فقال: مَن قائل هذا الشعر؟ فقلت: السيِّد. فقال: رحمه الله. فقلت: جعلت فداك إنّي رأيته يشرب الخمر. فقال: رحمه الله فما ذنب على الله أن يغفره لآل عليّ، إنَّ محبَّ عليٍّ لا تزلُّ له قدمٌ إلّا ثبتت له أُخرى. الأغاني 7 ص 251.

ورواه أيضاً في الأغاني 7 ص 241 وفيه: فسألني لمن هي؟ فأخبرته أنَّها للسيِّد وسألني عنه فعرَّفته وفاته(1) فقال: رحمه الله. قلت: إنّي رأيته يشرب النبيذ في

____________________

1 - هذه الكلمة دخيلة لا تتم إذ الحميري توفي بعد وفاة الصادق عليه السلام بسنتين؟. ولا توجد هي في رواية المرزباني والكشي.

٢٢٠