الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154902
تحميل: 6942


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154902 / تحميل: 6942
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أو ينسخه عموماً أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموماً أو خصوصاً فلا يعاقب لذلك رأساً، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولويّة وعبوديّة، ولا في حكم ولا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلّم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنّما يتمسّك : إمّا بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسودده، وكرمه، وسخائه، وشرافة محتده، وإمّا بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلّته ومسكنته وحقارته وسوء حاله، وإمّا بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلوّ منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويّتك وعبوديّته، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأنّ لك سودداً ورأفة وكرماً لا تنتفع بعقابه ولا يضرّك الصفح عن ذنبه أو بأنّه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتمّ بأمره أو بأنّ لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه.

ومن هنا يظهر للمتأمّل أن الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثّرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الّذي هو سبب وجود الحكم وترتّب العقاب على مخالفته، ونعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه مورداً بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأوّل لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادّة كإبطال الأسباب المتضادّة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير. فحقيقة الشفاعة التوسّط في إيصال نفع أو دفع شرّ بنحو الحكومة دون المضادّة.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ الشفاعة من مصاديق السببيّة فهي توسيط السبب المتوسّط القريب بين السبب الأوّل البعيد ومسبّبه. هذا ما يتحصّل من تحليل معنى الشفاعة الّتي عندنا.

ثمّ إنّ الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببيّة من جهتين:

إحداهما: أنّه يبتدي منه التأثير، وينتهي إليه السببيّة، فهو المالك للخلق والايجاد على الإطلاق، وجميع العلل والأسباب أمور متخلّلة متوسّطة بينه وبين غيره لنشر رحمته الّتي لا تنفد ونعمته الّتي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.

١٦١

والثانية: أنّه تعالى تفضّل علينا بالدنوّ في حين علوّه فشرع الدين ووضع فيه أحكاماً من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلاً مبشّرين ومنذرين فبلّغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجّة وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته.

أمّا من الجهة الاُولى وهي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب والعلل الوجوديّة المتوسّطة واضح لا يخفى، فإنّها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كلّ مفتقر محتاج من خلقه، وكلامه تعالى أيضاً يحتمل ذلك، كقوله تعالى:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥، وقوله( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، فإنّ الشفاعة في مورد التكوين ليست إلّا توسّط العلل والأسباب بينه وبين مسبّباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينيّة.

وأمّا من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالّذي ينبغي أن يقال: أنّ مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصحّ صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) طه - ١٠٩، وقوله:( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) السبأ - ٢٣، وقوله( لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) النجم - ٢٦، وقوله:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨، وقوله:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، فإنّ الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعيّة لعدّة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، فهو تمليك ولله الملك وله الأمر فلهم أن يتمسّكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، وشملته بليّة العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقاً للحكم الشامل، والجرم العامل على ما عرفت أنّ تأثير الشفاعة

١٦٢

بنحو الحكومة دون التضادّ وهو القائل عزّ من قائل:( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠، فله تعالى أن يبدّل عملاً من عمل كما أنّ له أن يجعل الموجود من العمل معدوماً. قال تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، وقال تعالى:( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) النساء - ٤٨، والآية في غير مورد الإيمان والتوبة قطعاً فإنّ الإيمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضاً كسائر الذّنوب وله تكثير القليل من العمل. قال تعالى:( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ) القصص - ٥٤، وقال:( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الانعام - ١٦٠، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً ، قال تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، وهذا هو اللحوق والإلحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

نعم إنّما يفعل لمصلحة مقتضية، وعلّة متوسّطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقرّبين من عباده من غير جزاف ولا ظلم.

ومن هنا ظهر أنّ معنى الشفاعة بمعنى الشافعيّة، صادق بحسب الحقيقة في حقّه تعالى فإنّ كلّاً من صفاته متوسّطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق. قال تعالى:( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) الزمر - ٤٤، وقال تعالى:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) السجدة - ٤، وقال تعالى:( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) الانعام - ٥١. وغيره تعالى لو كان شفيعاً فإنّما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مرّ صحّة تحقّق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذوراً لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

١٦٣

( ٢ - إشكالات الشفاعة)

قد عرفت: أنّ الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، وستعرف أنّ الكتاب وكذلك السنّة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمّل في معناها وحده يقضي بذلك، فإنّ الشفاعة كما مرّ يرجع بحسب المعنى إلى التوسّط في السببيّة والتأثير، ولا معنى للإطلاق في السببيّة والتأثير فلا السّبب يكون سبباً لكلّ مسبّب من غير شرط ولا مسبّب واحد يكون مسبّباً لكلّ سبب على الإطلاق فإنّ ذلك يؤدّي إلى بطلان السببيّة وهو باطل بالضرورة. ومن هنا اشتبه الأمر على النافين للشفاعة حيث توهّموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بأمور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنيّة من غير تدبّر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطراً منها:

الإشكال الأوّل: أنّ رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إمّا أن يكون عدلاً أو ظلماً. فإن كان عدلاً كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلماً لا يليق بساحته تعالى وتقدّس، وإن كان ظلماً كان شفاعة الأنبياء مثلاً سؤالاً للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.

والجواب عنه أوّلا: بالنقض فإنّه منقوض بالأوامر الامتحانيّة فرفع الحكم الامتحانيّ ثانياً وإثباته أوّلاً كلاهما من العدل: والحكمة فيها اختبار سريرة المكلّف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوّته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضاً يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثمّ يوضع الأحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم. وأمّا المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كأحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أوّلاً عدلاً ورفع عقابه ثانياً عدلاً.

وثانياً: بالحلّ، فإنّ رفع العقاب أوّلاً بواسطة الشفاعة إنّما يغاير الحكم الأوّل فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضاً للحكم الأوّل أو نقضاً

١٦٤

للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنّه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا بالمضادّة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقاً لشمول العقاب بجعله مصداقاً لشمول الرحمة من صفات اُخرى له تعالى من رحمةٍ وعفو ومغفرة، ومنها إفضاله للشافع بالإكرام والإعظام.

الإشكال الثاني: أنّ سنّة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلّف والإختلاف، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، وعلى هذا جرت سنّة الأسباب. قال تعالى:( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر - ٤٣، وقال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الانعام - ١٥٣، وقال تعالى:( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) الفاطر - ٤٣، وتحقّق الشفاعة موجب للإختلاف في الفعل فإنّ رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، ولعب ينافي الحكمة قطعاً، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغيّر وتبدّل في سنّته الجارية وطريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أنّ كلّ واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أنّ كلّا منها ذنب وخروج عن زيّ العبوديّة فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والإغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، وإنّما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنّة هذه الحياة من إبتناء الأعمال والأفعال على الأهواء والأوهام الّتي ربّما تقضي في الحقّ والباطل على السواء، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق وأحد.

والجواب أنّه لا ريب في أنّ صراطه تعالى مستقيم وسنّته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلاً حتّى لا يتخلّف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محلّه قطّ بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علّت صفاته. توضيح ذلك: أنّ الله سبحانه هو الواهب المفيض لكلّ ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت، فإنّ فيه بطلان

١٦٥

الارتباط والسببيّة، فهو تعالى لا يشفي مريضاً من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لأنّه الله المميت المنتقم شديد البطش بل لأنّه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلاً ولا يهلك جبّاراً مستكبراً من غير سبب، لأنّه رؤوف رحيم به، بل لأنّه الله المنتقم الشديد البطش القهّار مثلاً وهكذا. والقرآن بذلك ناطق فكلّ حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبّب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك. وإن شئت قلت: كلّ أمر من الاُمور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمّنه من المصالح والخيرات. إذا عرفت هذا علمت: أنّ استقامة صراطه وعدم تبدّل سنّته وعدم إختلاف فعله إنّما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة واحدة وإن شئت قلت: بالنّسبة إلى ما يتحصّل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة. فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغيّر ولم يختلف في برّ ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر. لكنّ الأسباب كثيرة ربّما استدعى توافق عدّة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب - وذلك أثر عدّة من الأسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه والفصل في القضاء - لا يوجب إختلافاً في السنّة الجارية وضلالاً في الصراط المستقيم.

الإشكال الثالث: أنّ الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقّق الشفاعة إلّا بترك الإرادة ونسخها لأجل الشفيع فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأمّا الحاكم المستبدّ الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقرّبين عنده في الشئ وهو عالم بأنّه ظلم وأنّ العدل في خلافه ولكنّه يفضّل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرّب عنده على العدالة، وكلّ من النوعين محال على الله تعالى لأنّ إرادته على حسب علمه وعلمه أزليّ لا يتغيّر.

١٦٦

والجواب أنّ ذلك منه تعالى ليس من تغيّر الإرادة والعلم في شئ وإنّما التغيّر في المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أنّ الإنسان الفلانيّ سيتحوّل عليه الحالات فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصّة فيريد فيه بإرادة، ثمّ يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأوّل لاقتران أسباب وشرائط أخر فيريد فيه بإرادة اُخرى وكلّ يوم هو في شأن، وقد قال تعالى:( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد - ٣٩، وقال( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) المائدة - ٦٤، مثال ذلك: أنّا نعلم أنّ الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثمّ تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلّق إرادتنا عند إقبال اللّيل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه بإطفائه والعلم والإرادة غير متغيّرتان وإنّما تغيّر المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطبقاً عليه للعلم والإرادة، وليس كلّ علم ينطبق على كلّ معلوم، ولا كلّ إرادة تتعلّق بكلّ مراد، نعم تغيّر العلم والإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على المعلوم والإرادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحاً فتحكم بكونه إنساناً ثمّ يتبيّن أنّه فرس فيتبدّل العلم، أو تريد أمراً لمصلحة ما ثمً يظهر لك أنّ المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، وهذان غير جائزين في مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

الإشكال الرابع: أنّ وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياءعليهم‌السلام مستلزم لتجرّي الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبوديّة والطلاعة فلا بدّ من تأويل ما يدلّ عليه من الكتاب والسنّة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهيّ.

والجواب عنه،أوّلاً: بالنقض بالآيات الدّالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) النساء - ٤٨، والآية - كما مرّ - في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

وثانياً: بالحلّ: فإنّ وعد الشفاعة أو تبليغها إنّما يستلزم تجرّي الناس على المعصية وإغرائهم على التمرّد والمخالفة بشرطين:

١٦٧

أحدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الّذي تقع فيه الشفاعة تعييناً لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.

وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعاً.

فلو قيل: إنّ الطائفة الفلانيّة من الناس أو كلّ الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبداً، أو قيل إنّ الذنب الفلانيّ لا عذاب عليه قطّ كان ذلك باطلاً من القول ولعباً بالأحكام والتكاليف المتوجّهة إلى المكلّفين، وأمّا إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعيّن أنّ الشفاعة في أيّ الذنوب وفي حقّ أي المذنبين أو أنّ العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الأوقات والأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرّى على هتك محارم الله تعالى، غير أنّ ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطاً من رحمة الله، ويأساً من روح الله، مضافاً إلى قوله تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، فإنّ الآية تدلّ على رفع عقاب السيّئآت والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن إتّقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفّظتم على إيمانكم حتّى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنّما الشأن كلّ الشأن في حفظ الإيمان والمعاصي تضعّف الإيمان وتقسي القلب وتجلب الشرك، وقد قال تعالى:( فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) الأعراف - ٩٩، وقال:( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) المطفّفين - ١٤، وقال:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ) الروم - ١٠، وربّما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي، وركوبه علي صراط التقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغنائه عن الشفاعة بهذا المعنى، وهذا من أعظم الفوائد، وكذا إذا عيّن المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرّح بشمولها على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجرّي المجرمين قطعاً.

والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلّا بالبعض كما سيجئ فلا إشكال أصلاً.

١٦٨

الإشكال الخامس: أنّ العقل لو دلّ فإنّما يدلّ على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعليّة وقوعها على أنّ أصل دلالته ممنوع، وأمّا النقل فما يتضمّنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإنّ فيها آيات دالّة على نفي الشفاعة مطلقاً كقوله:( لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) البقرة - ٢٥٤، واُخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثر - ٤٨، واُخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى:( إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥ وقوله:( إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقوله تعالى:( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن والمشيّة معهود في اُسلوب القرآن في مقام النفي القطعيّ للإشعار بأنّ ذلك بإذنه ومشيّته سبحانه كقوله تعالى:( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ) الاعلى - ٧، وقوله تعالى:( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) هود - ١٠٧، فليس في القرآن نصّ قطعيّ على وقوع الشفاعة وأمّا السنّة فما دلّت عليه الروايات من الخصوصيّات لا تعويل عليه: وأما المتيقّن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.

والجواب: أمّا عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنّها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله وارتضائه، وأمّا عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنّها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فإنّ الآيات واقعة في سورة المدّثر وإنّما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصّة من المجرمين لا عن جميعهم، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجرّدة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإنّ المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة. نصّ عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدلّ على أنّ شفاعة ما ستقع غير أنّ هؤلاء لا ينتفعون بها على أنّ الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدلّ على ذلك أيضاً كقوله:( كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) وقوله:( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) وقوله:( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) وقوله:( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) وأمثال ذلك، ولو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغواً زائداً في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.

١٦٩

وأمّا عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن والارتضاء فدلالة قوله:( إِلَّا بِإِذْنِهِ ) وقوله:( إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) على الوقوع وهو مصدر مضاف ممّا لا ينبغي أن ينكره عارف بأساليب الكلام وكذا القول: بكون قوله:( إِلَّا بِإِذْنِهِ ) وقوله:( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) بمعنى واحد وهو المشيّة ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه. على أنّ الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله:( إِلَّا بِإِذْنِهِ ) و( إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) وقوله:( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ، وقوله:( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) إلى غير ذلك. فهب: أنّ الإذن والإرتضاء واحد وهو المشيّة فهل يمكن التفوّه بذلك في قوله:( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) . فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشيّة أيضاً ؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان ممّا لا يصحّ نسبته إلى كلام سوقيّ فكيف بالكلام البليغ ! وكيف بأبلغ الكلام ! وأمّا السنّة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.

الإشكال السادس: أنّ الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الأنبياء بمعنى توسّطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربّهم بأخذ الأحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الأقدار والأوصاف والأحوال فهمعليهم‌السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعاؤهم في الآخرة.

والجواب: أنّه لا كلام في أنّ ذلك من مصاديق الشفاعة إلّا أنّ الشفاعة غير مقصورة فيه كما مرّ بيانه، ومن الدليل عليه قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) النساء - ٤٨، وقد مرّ بيان أنّ الآية في غير مورد الإيمان والتوبة، والشفاعة الّتي قرّرها المستشكل في الأنبياء إنّما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان والتوبة.

الإشكال السابع: أنّ طريق العقل لا يوصل إلى تحقّق الشفاعة. وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها اُخرى، وربّما قيّدتها وربّما أطلقتها، والأدب الدينيّ الإيمان بها، وإرجاع علمها إلى الله تعالى.

والجواب عنه: أنّ المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات

١٧٠

مثلها، وهو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجئ بيانه عند قوله تعالى:( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) آل عمران - ٧.

( ٣ - فيمن تجري الشفاعة ؟)

قد عرفت أنّ تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينيّة كلّ الملائمة إلّا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن. قال تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثر - ٤٨، بيّن سبحانه فيها أنّ كلّ نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب ، مأخوذه بما أسلفت من الخطايا إلّا أصحاب اليمين فقد فكّوا من الرهن واُطلقوا واستقرّوا في الجنان، ثمّ ذكر أنّهم غير محجوبين عن المجرمين الّذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالإشارة إلى عدّة صفات ساقتهم إلى النار، فرّع على هذه الصفات بأنّه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متّصفين بهذه الصفات الّتي يدلّ الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متّصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فكّ الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفكّ والإخراج إنّما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفّعون بالشفاعة. وفي الآيات تعريف أصحاب اليمين بإنتفاء الأوصاف المذكورة عنهم. بيان ذلك: أنّ الآيات واقعة في سورة المدّثر وهي من السور النازلة بمكّة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذٍ الصلاة والزكوة بالكيفيّة الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلّين التوجّه إلى الله تعالى بالخضوع العبوديّ، وبإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة والزكاة المعهودتين في الشريعة

١٧١

الإسلاميّة والخوض هو الغور في ملاهي الحياة وزخارف الدّنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة وذكر الحساب يوم الدين، أو التعمّق في الطعن في آيات الله المذكّرة ليوم الحساب المبشّرة المنذرة، وبالتلبّس بهذه الصفات الأربعة، وهي ترك الصلاة لله وترك الانفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبّس بها تقوم قاعدته على ساق فإنّ الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والاقبال إلى يوم لقاء الله وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدّين ولازم هذان عملاً التوجّه إلى الله بالعبوديّة، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والانفاق في سبيل الله، فالدين يتقوّم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الأربع، وتستلزم بقيّة الأركان كالتوحيد والنبوّة إستلزاماً هذا. فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيّون ديناً وإعتقاداً سواء كانت أعمالهم مرضيّة غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنّيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من اصحاب اليمين، وقد قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفّراً عنه، فقد بان أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث.

ومن جهة اُخرى إنّما سمىّ هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربّما سمّوا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشئمة، وهو من الألفاظ الّتي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله. قال تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) أسرى - ٧٢، وسنبيّن في الآيه إن شاء الله تعالى أنّ المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتّباع الامام الحقّ، ومن إيتائه بالشمال إتّباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود - ٩٨. وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضاً إلى إرتضاء الدين

١٧٢

كما أنّ إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.

ثمّ إنّه تعالى قال في موضع آخر من كلامه:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨، فأثبت الشفاعة على من إرتضي، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعلّة في قوله:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) طه - ١٠٩، ففهمنا أنّ المراد به إرتضاء أنفسهم أي إرتضاء دينهم لا إرتضاء عملهم، فهذه الآية أيضاً ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثمّ إنّه تعالى قال :( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) فهو يملك الشفاعة ( أي المصدر المبنيّ للمفعول ) وليس كلّ مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى:( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ) طه - ٧٥، فمن لم يكن مؤمناً قد عمل صالحاً فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحاً، فمن المجرمين من كان على دين الحقّ لكنّه لم يعمل صالحاً وهو الّذي قد اتّخذ عند الله عهداً لقوله تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس - ٦١ فقوله تعالى:( وَأَنِ اعْبُدُونِي ) عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى:( هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) ، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثمّ ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوّح قوله تعالى:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا ) البقرة - ٨٠، فهذه الآيات أيضاً ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة. والجميع تدلّ على أنّ مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحقّ من أصحاب الكبائر، وهم الّذين إرتضى الله دينهم.

١٧٣

( ٤ - من تقع منه الشفاعة ؟)

قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينيّة، ومنها تشريعيّة، فأمّا الشفاعة التكوينيّة فجملة الأسباب الكونيّة شفعاء عندالله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء. وأمّا الشفاعة التشريعيّة، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات:فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قرباً وزلفى، فهو شفيع متوسّط بينه وبين عبده. ومنه التوبة كما قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، ويعمّ شموله لجميع المعاصي حتّى الشرك. ومنه الإيمان قال تعالى:( آمِنُوا بِرَسُولِهِ - إلى قوله -وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) حديد - ٢٨. ومنه كلّ عمل صالح. قال تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) المائدة - ٩، وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة - ٣٥، والآيات فيه كثيرة. ومنه القرآن لقوله تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦.

ومنه كلّ ما له إرتباط بعمل صالح، والمساجد والأمكنة المتبرّكة والأيّام الشريفة، ومنه الأنبياء والرسل بإستغفارهم لأممهم. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) النساء - ٦٤. ومنه الملائكة في إستغفارهم للمؤمنين، قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن - ٧، وقال تعالى:( وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الشوري - ٥، ومنه المؤمنون بإستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين. قال تعالى حكاية عنهم( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا ) البقرة - ٢٨٦

ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الّذي عرفت فمنهم الأنبياء. قال تعالى:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إلى أن قال:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ )

١٧٤

الأنبياء - ٢٨، فإنّ منهم عيسى بن مريم وهو نبيّ، وقال تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، والآيتان تدلّان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضاً لأنّهم قالوا إنّهم بنات الله سبحانه. ومنهم الملائكة. قال تعالى:( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) النجم - ٢٦، وقال تعالى:( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) طه - ١١٠، ومنهم الشهداء لدلالة قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، على تملّكهم للشفاعة لشهادتهم بالحقّ، فكلّ شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أنّ هذه الشهادة كما مرّ في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة - ١٤٣، شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال. ومن هنا يظهر أنّ المؤمنين أيضاً من الشفعاء فإنّ الله عزّوجلّ أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة قال تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ ) الحديد - ١٩، كما سيجئ بيانه.

( ٥ - بماذا تتعلّق الشفاعة ؟)

قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينيّة تتعلّق بكلّ سبب تكوينيّ في عالم الأسباب ومنها شفاعة تشريعيّة متعلّقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلّق بعقاب كلّ ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والإيمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلّق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهى شفاعة الأنبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممّن إستحقّه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أنّ متعلّقها أهل المعاصي الكبيرة ممّن يدين دين الحقّ وقد ارتضى الله دينه.

( ٦ - متى تنفع الشفاعة ؟)

ونعني بها أيضاً الشفاعة الرافعة للعقاب. والّذي يدلّ عليه قوله سبحانه:( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ

١٧٥

فِي سَقَرَ ) المدّثر - ٤٢، فالآيات كما مرّ دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنّها تدلّ على أنّ الشفاعة إنّما تنفع في الفكّ عن هذه الرهانة والإقامة والخلود في سجن النار، وأمّا ما يتقدّم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدلّ الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.

واعلم أنّه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد إستقرار أهل الجنّة في الجنّة واهل النار في النار وتعلّق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار. وذلك لمكان قوله:( فِي جَنَّاتِ ) ، الدالّ على الإستقرار وقوله:( مَا سَلَكَكُمْ ) فإنّ السلوك هو الإدخال لكن لا كلّ إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الإستقرار وكذا قوله:( فَمَا تَنفَعُهُمْ ) ، فإنّ ما لنفي الحال، فافهم ذلك.

وأمّا نشأة البرزخ وما يدلّ على حضور النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) والائمّةعليهم‌السلام عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانتهم إيّاه علي الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى:( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) النساء - ١٥٩، فليس من الشفاعة عند الله في شئ وإنّما هو من سبيل التصرّفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه. قال تعالى:( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) إلى أن قال:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) الأعراف - ٤٦، ٤٨، ٤٩، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ) أسرى - ٧١، فوساطة الامام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فإفهم.

فتحصّل أنّ المتحصّل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة بإستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلاً فيها، بإتّساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

١٧٦

( بحث روائي)

في أمالي الصدوق: عن الحسين بن خالد عن الرّضا عن آبائه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثمّ قال (صلّي الله عليه و آله و سلّم): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرّضاعليه‌السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزّوجلّ:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) قالعليه‌السلام : لا يشفعون إلّا لمن إرتضى الله دينه.

أقول: قوله (صلّي الله عليه و آله و سلّم):( إنّما شفاعتي) ، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعدّدة عنه (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وقد مرّ إستفادة معناه من الآيات.

وفي تفسير العيّاشيّ: عن سماعة بن مهران عن أبي ابراهيم عليه السلام): في قول الله: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً ويؤمر الشمس، فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلّهم على نوح، ويدلّهم نوح على إبراهيم، ويدلّهم إبراهيم على موسى، ويدلّهم موسى على عيسى، ويدلّهم عيسى فيقول: عليكم بمحمّد خاتم البشر فيقول محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم): أنا لها فينطلق حتّى يأتي باب الجنّة فيدقّ فيقال له: من هذا ؟ والله أعلم فيقول : محمّد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربّه فخرّ ساجداً فلا رفع رأسه حتّى يقال له: تكلّم وسل تعط وإشفع تشفّع فيرفع رأسه ويستقبل ربّه فيخرّ ساجداً فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتّى أنّه ليشفع من قد اُحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الاُمم أوجه من محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وهو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماُ محموداُ.

أقول: وهذا المعنى مستفيض مرويّ بالاختصار والتفصيل بطرق متعدّدة من العامّة والخاصّة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا

١٧٧

ينافي ذلك كون غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء، وغيرهم جائز الشفاعة لإمكان كون شفاعتهم فرعاً لشفاعته فافتتاحها بيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً: عن أحدهماعليه‌السلام : في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً، قال: هي الشفاعة.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) يومئذ ؟ قال: نعم إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً وما من أحد إلّا يحتاج إلى شفاعة محمّد يومئذ. قال: وسأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيّد ولد آدم ولا فخر. قال: نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنّة فيفتحها فيخرّ ساجداً فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تشفّع أطلب تُعط فيرفع رأسه ثمّ يخرّ ساجداً فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تّشفّع واطلب تُعط ثمّ يرفع رأسه فيشفع فيشفّع ويطلب فيعطى.

وفي تفسير الفرات: عن محمّد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن بشر بن شريح البصريّ قال: قلت لمحمّد بن عليّعليه‌السلام ، أيّة آية في كتاب الله أرجى ؟ قال: فما يقول فيها قومك ؟ قلت: يقولون:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ) ، قال: لكنّا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأيّ شئ تقولون فيها ؟ قال: نقول: ولسوف يعطيك ربّك فترضى، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة.

أقول: أما كون قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) ، الآية مقام الشفاعة فربّما ساعد عليه لفظ الآية أيضاً مضافاً إلى ما استفاض عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه مقام الشفاعة فإنّ قوله تعالى:( أَن يَبْعَثَكَ ) ، يدلّ على أنّه مقام سيناله يوم القيامة. وقوله :( مَّحْمُودًا ) مطلق فهو حمد غير مقيّد يدلّ على وقوعه من جميع الناس من الأوّلين والآخرين، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياريّ ففيه دلالة على وقوع فعل منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتفع به ويستفيد منه الكلّ فيحمده عليه، ولذلك قالعليه‌السلام : في رواية عبيد بن زرارة السابقة وما من أحد إلّا يحتاج إلى شفاعة محمّد يومئذ الحديث. وسيجئ بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.

١٧٨

وأمّا كون قوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) ، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإنّ النهي عن القنوط وإن تكرّر ذكره في القرآن الشريف إلّا أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكاية عن ابراهيمعليه‌السلام : قال:( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) الحجر - ٥٦، وقوله تعالى حكاية عن يعقوبعليه‌السلام :( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) يوسف - ٨٧، ناظرتان إلى اليأس والقنوط من الرحمة التكوينيّة بشهادة المورد.

وأمّا قوله تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، إلى آخر الآيات فهو وإن كان نهياً عن القنوط من الرحمة التشريعيّة بقرينة قوله تعالى :( أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطاً من جهة المعصية، وقد عمّم سبحانه المغفرة للذنوب جميعاً من غير استثناء، ولكنّه تعالى ذيّله بالأمر بالتوبة والإسلام والعمل بالاتّباع فدلّت الآية على أنّ العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله مادام يمكنه إختبار التوبة والإسلام والعمل الصالح.

وبالجملة فهذه رحمة مقيّدة أمر الله تعالى عباده بالتعلّق بها، وليس رجاء الرحمة المقيّدة كرجاء الرحمة العامّة والإعطاء، والإرضاء المطلقين الّذين وعدهما الله لرسوله الّذي جعله رحمة للعالمين ذلك الوعد يطيّب نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) الآية.

توضيح ذلك: أنّ الآية في مقام الامتنان وفيها وعد يختصّ به رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) لم يعد الله سبحانه بمثله أحداً من خلقة قطّ، ولم يقيّد الاعطاء بشئ فهو إعطاء مطلق وقد وعد الله ما يشابه ذلك فريقاً من عباده في الجنّة فقال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ) الشوري - ٢٢، وقال تعالى:( هُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥، فأفاد أنّ لهم هناك ما هو فوق مشيّتهم، والمشيّة تتعلّق بكلّ ما يخطر ببال الإنسان من السعادة والخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى:( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) السجدة - ١٧، فإذا كان هذا قدر ما إعطاه الله على عباده

١٧٩

الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام الامتنان أوسع من ذلك وأعظم فافهم.

فهذا شأن إعطائه تعالى، وأمّا شأن رضى رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) فمن المعلوم أنّ هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الّذي هو زميل لأمر الله. فإنّ الله هو المالك الغنيّ على الإطلاق وليس للعبد إلّا الفقر والحاجة فينبغي أن يرضي بقليل ما يعطيه ربّه وكثيره وينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقّه، سرّه ذلك أو سائه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أعلم وأعمل، لا يريد إلّا ما يريده الله في حقّه، لكنّ هذا الرضا حيث وضع في مقابل الاعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، و إرضاء الجائع بإشباعه فهو الإرضاء بالاعطاء من غير تحديد، وهذا أيضاً ممّا وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده. قال عزّ من قائل:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) البيّنة - ٨، وهذا أيضاً لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمراً فوق ما للمؤمنين وأوسع من ذلك، وقد قال تعالى: في حقّ رسوله:( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٢٨، فصدّق رأفته وكيف يرضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطيب نفسه أن يتنعّم بنعيم الجنّة ويرتاض في رياضه وفريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار وهم معترفون لله بالربوبيّة، ولرسوله بالرسالة، ولما جاء به بالصدق، وإنّما غلبت عليهم الجهالة، ولعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد وإستكبار. والواحد منّا إذا راجع ما أسلفه من عمره ونظر إلى ما قصّر به في الاستكمال والارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه وطلبه ثمّ يلتفت إلى جهالة الشباب ونقص التجارب فربّما خمدت نار غضبه وانكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنّك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلّا جهالة إنسان ضعيف وكرامة النبيّ الرؤوف الرحيم ورحمة أرحم الراحمين. وقد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنيّة إلى آخر مواقف يوم القيامة ؟.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) الآية، عن

١٨٠