الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154883
تحميل: 6940


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154883 / تحميل: 6940
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرّون النّاس وتقولون: شفاعة محمّد، شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر حتّى تربّد وجهه، ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد، ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النار ؟ قال: ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) يوم القيامة، ثمّ قال أبو جعفر: إنّ لرسول الله الشفاعة في اُمّته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال: وإنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإنّ المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ و البرد.

أقول: قولهعليه‌السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ظاهره أنّ هذه الشفاعة العامّة غير الّتي ذكرها بقوله:( ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار) ، وقد مرّ نظير هذا المعني في رواية العيّاشيّ عن عبيد بن زرارة عن الصادقعليه‌السلام . وفي هذا المعنى روايات اُخر روتها العامّة والخاصّة، ويدلّ عليه قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، حيث يفيد أنّ الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي إن شاء الله في قوله تعالى :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة - ١٤٣، أنّ الأنبياء شهداء وأنّ محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد عليهم، فهو (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلّا لمن أذن له. قالعليه‌السلام : لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلّا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمّة من وُلده ثمّ من بعد ذلك للأنبياء.

وفي الخصال: عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): ثلاثة يشفعون إلى الله عزّوجلّ فيشفّعون، الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء.

١٨١

أقول: الظاهر أنّ المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمّة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

وفي الخصال في حديث الأربعمأة: وقالعليه‌السلام : لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة.

أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيّدة النساء فاطمةعليه‌السلام وشفاعة ذرّيّتها غير الأئمّة وشفاعة المؤمنين حتّى السقط منهم.ففي الحديث المعروف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا فإنّي اُباهي بكم الاُمم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطأً على باب الجنّة فيقال له: اُدخل فيقول: لا حتّى يدخل أبواي الحديث.

وفي الخصال: عن أبي عبدالله عن أبيه عن جده عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّيّ وأنصاري ومن تولّاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، وشفّعت في شيعتك، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولّاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّةٍ من بُغضنا أهل البيت.

وفي الكافي: عن حفص المؤذّن عن أبي عبداللهعليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه قالعليه‌السلام : واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

وفي تفسير الفرات: بإسناده عن الصادقعليه‌السلام قال: قال جابر لأبي جعفرعليه‌السلام : جعلت فداك يا بن رسول الله حدّثني بحديث في جدّتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : فو الله لا يبقى في الناس إلّا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى : فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفرعليه‌السلام : هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون.

أقول: تمسّكهعليه‌السلام بقوله تعالى:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يدلّ على إستشعار دلالة

١٨٢

الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسّك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتّضح ممّا قدّمناه في قوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرّد النفي لكان حقّ الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالإتيان في حيّز النفي بصيغة الجمع يدلّ على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقّهم، مضافاً إلى أنّ قوله تعالى:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بعد قوله:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) المسوق للتحسّر تمن واقع في حيّز التحسّر ومن المعلوم أنّ التمني في حيّز التحسّر إنّما يكون بما يتضمّن ما فقده ويشتمل على ما تحسّر عليه فيكون معنى قولهم:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ) ، معناه يا ليتنا نردّ فنكون من المؤمنين حتّى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالّة على وقوع الشفاعة.

وفي التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلّا لمن إرتضى ومن إرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟ فقالعليه‌السلام : ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا سائه ذلك وندم عليه. وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفي بالندم توبة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سرّته حسنة وسائته سيّئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمناً من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلّا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً والمصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأمّا قول الله عزّوجلّ: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه، والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئآت، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

١٨٣

أقول: قولهعليه‌السلام وكان ظالماً، فيه تعريف الظالم يوم القيامة وإشارة إلى ما عرّفه به القرآن حيث يقول:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) الأعراف - ٤٤ و ٤٥، وهو الّذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسّف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوئه إقتحام محارمه إمّا بجحد جميع المعارف الحقّة والتعاليم الدينيّة وإمّا بالاستهانة لأمرها وعدم الاعتناء بالجزاء والدين يوم الجزاء والدين فيكون قوله به إستهزاءً بأمره وتكذيباً له، وقولهعليه‌السلام : فتكون تائباً مستحقّاً للشفاعة، أي راجعاً إلى الله ذا دين مرضيّ مستحقّاً للشفاعة، وأمّا التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، وقولهعليه‌السلام : وقد قال النبيّ لا كبيرة مع الاستغفار، الخ تمسّكهعليه‌السلام به من جهة أن الإصرار وهو عدم الانقباض بالذنب والندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الّذي له إلى شأن آخر وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر لأنّ الذنب إنّما يغفر إمّا بتوبة أو بشفاعة متوقّفة على دين مرضيّ ولا توبة هناك ولا دين مرضيّاً.

ونظير هذا المعنى واقع في رواية العلل عن أبي إسحق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللّهمّ لا، قلت: فيلوط ؟ قال اللّهمّ لا، قلت فيسرق ؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال لا، قلت: فيأتي ؟ بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا، قلت: فيذنب ذنباً ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم لا يلزمه ولا يصرُّ عليه الحديث.

وفي الخصال: بأسانيد من الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّوجلّ لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ثمّ يغفر الله له لا يطلع الله له ملكاً مقرّباً ولا نبيّاّ مرسلاً ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيّئآته كوني حسنات.

وعن صحيح مسلم مرفوعاً إلى أبى ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحّوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: اعطوه مكان كلّ سيّئة حسنة فيقول: إنّ لي ذنوباً ما أراها هيهنا، قال: ولقد رايت رسول الله ضحك حتّى بدت نواجذه.

١٨٤

وفي الأمالي: عن الصادقعليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتّى يطمع إبليس في رحمتة.

أقول: والروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات والأخبار الدالّة على وقوع شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة من طرق أئمّة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنّة والجماعة بالغة حدّ التواتر، وهي من حيث المجموع إنّما تدلّ على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إمّا بالتخليص من دخول النار وإمّا بالإخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيّقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار وقد عرفت أنّ القرآن أيضاً لا يدلّ على أزيد من ذلك.

( بحث فلسفي)

البراهين العقليّة وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتاباً وسنّة في المعاد لعدم نيلها المقدّمات المتوسّطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ إبن سينا لكنّها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقليّة والمثاليّة في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرّد العقليّ والمثاليّ الناهض عليهما البرهان.

فالإنسان في بادئ أمره يحصل له من كلّ فعل يفعله هيئة نفسانيّه وحال من احوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث أنّه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثمّ تصير تلك الاحوال بتكرّرها ملكة راسخة، ثمّ يتحصّل منها صورة سعيدة أو شقيّة للنفس تكون مبدءً لهيآت وصور نفسانيّة، فإن كانت سعيدة فآثارها وجوديّة ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس الّتي هي بمنزلة المادّة القابلة لها، وإن كانت شقيّة فآثارها أمور عدميّة ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشرّ، فالنفس السعيدة تلتّذ بآثارها بما هي إنسان، وتلتذّ بها بما هي إنسان سعيدٌ بالفعل، والنفس الشقيّة وإن كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنّها مبدأ لها لكنّها تتألّم بها بما أنّها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتاً والصالح عملاً والإنسان الشقىّ ذاتاً والطالح عملا. وأمّا الناقصة في سعادتها وشقاوتها

١٨٥

فالإنسان السعيد ذاتاً الشقىّ فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحقّ الثابت غير أنّ في نفسه هيئآت شقيّة ردّية من الذنوب والآثام إكتسبتها حين تعلّقها بالبدن الدنيويّ وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي اُمور قسريّة غير ملائمة لذاتة، وقد اُقيم البرهان على أنّ القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهّر منها في برزخ أو قيامة على حسب قوّة رسوخها في النفس، وكذلك الأمر فيما للنفس الشقيّة من الهيآت العارضة السعيدة فإنّها ستسلب عنها وتزول سريعاً أو بطيئاً، وأمّا النفس الّتي لم تتمّ لها فعليّة السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا حتّى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عزّوجلّ، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الاعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعيّة الاعتباريّة بالآخرة إلى روابط حقيقيّة وجوديّة هذا.

ثمّ إنّ البراهين قائمة على أنّ الكمال الوجوديّ مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدّة والضعف وهو التشكيك خاصّة في النور المجرّد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدأ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائيّ وعودها إلى ما بدأت منها وهي بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعليّة (بمعنى ما به) ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامّة الكاملة كنفوس الأنبياءعليهم‌السلام وخاصّة من هو في أرقي درجات الكمال والفعليّة وساطة في زوال الهيآت الشقيّة الرديّة القسريّة من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب.

( بحث اجتماعي)

الّذي تعطيه اُصول الإجتماع أنّ المجتمع الإنسانيّ لا يقدر على حفظ حياته وادامة وجوده إلّا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، الحكومة في أعمال الأفراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزه الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كلّ على حسب ما يلائم

١٨٦

شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيراً حثيثاً ويتولّد بتألّف أطرافه وتفاعل متفرّقاته العدل الاجتماعيّ وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادّيّة يحتاج إليها إرتقاء الاجتماع المادّيّ، وعلى كمالات معنويّة كالأخلاق الحسنة الفاضلة الّتي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك، وحيث كانت القوانين والأحكام وضعيّة غير حقيقيّة احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقرّرة اُخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدّي الأفراد المتهوّسين وتساهل آخرين، ولذلك كلّما قويت حكومة (أيّ حكومة كانت) على إجراء مقرّرات الجزاء لم يتوقّف المجتمع في سيره ولا ضلّ سائره عن طريقه ومقصده. وكلّما ضعفت إشتدّ الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلّص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشئ من الحيل والدسائس المهلكة، ولذلك نقموا على الديانة المسيحيّة ما وقع فيها أنّ المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتّكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانيّة، مؤخّراً للمدنيّة، راجعاً بالإنسان القهقرى كما قيل. وأنّ الإحصاء يدلّ علي أنّ المتديّنين أكثر كذباً وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلّا أنّهم يتّكلون بحقيّة دينهم، وادّخار الشفاعة في حقّهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنّهم خلّوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتديّنين فحكمت بقبح التخلّف عمّا يخالف حكم الإنسانيّة والمدنيّة الفاضله.

وبذلك عوّل جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنّة.

ولعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الّذي فسّروها به، ولا الشفاعة الّتي تثبتها تؤثّر الأثر الّذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصّل الباحث في المعارف الدينيّة وتطبيق ما شرّعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنيّة الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الاُصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفيّة ذلك التطبيق، ثمّ يحصّل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلّها وموقعها بين المعارف الّتي جاء بها.

١٨٧

فيعلمأوّلاً: أنّ الّذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أنّ المؤمنين لا يخلّدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربّهم بالإيمان المرضيّ والدين الحقّ فهو وعد وعده القرآن مشروطاً ثمّ نطق بأنّ الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولاسيّما الكبائر ولا سيّما الإدمان منها والإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، وبذلك يتحصّل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربّه رغبة ورهبة، ويسير في حياته سيراً معتدلاً غير منحرف لا إلى خمود القنوط، ولا إلى كسل الوثوق.

وثانياً: أنّ الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعيّة من مادّيّاتها ومعنويّاتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفرديّة والاجتماعيّة، ثمّ إعتبر لكلّ مادّة من موادّها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحدّ وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذمّ والتقبيح، ثمّ تحفّظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكلّ على الكلّ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ثمّ أحيى ذلك بنفخ روح الدعوة الدّينيّة المضمّنة بالإنذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيتة بتلقين معارف المبدء والمعاد على هذا الترتيب.

فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وصدّقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتّى اثبت به أيدي الولاة في السلطنة الاُمويّة ومن شايعهم في إستبدادهم ولعبهم بأحكام الدين وإبطالهم الحدود والسياسات الدينيّة حتّى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرّيّة وظهرت المدنيّة الغربيّة ولم يبق من الدين بين المسلمين إلّا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزّلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الأخلاق والآداب الشريفة وإنغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الّذي أجراهم على انتهاك كلّ حرمة وإقتراف كلّ ما يستشنعه حتّى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيّله المعترض من إستناد الفساد إلى بعض المعارف الدينيّة الّتي لا غاية لها وفيها إلّا سعادة الإنسان في آجله وعاجله والله المعين. والإحصاء الّذي ذكروها إنّما وقع على جمعيّة المتديّنين وليس عليهم قيّم ولا حافظ قويّ وعلى جمعيّة غير المنتحلين. والتعليم والتربية الاجتماعيّان قيّمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعيّ فلا يفيد فيما أراده شيئاً.

١٨٨

( سورة البقرة الآيات ٤٩ - ٦١)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ٤٩ ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٠ ) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ( ٥١ ) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٢ ) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ٥٣ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ  إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ٥٤ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٥ ) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٦ ) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٥٧ ) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ  وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٨ ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ٥٩ ) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ  فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ  كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٦٠ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا  قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ  اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ  وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ  ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ( ٦١ )

١٨٩

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ، أي يتركونهنّ أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهنّ كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة ويمكن أن يكون المعنى ويفعلون ما يوجب زوال حيائهنّ من المنكرات، ومعنى( يَسُومُونَكُمْ ) يولّونكم.

قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ) الفرق مقابل الجمع كالفصل والوصل. والفرق في البحر الشقّ والباء للسببيّة أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.

قوله تعالى: ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) وقصّ تعالى القصّة في سورة الأعراف بقوله:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) الأعراف - ١٤٢، فعدّ المواعدة فيها أربعين ليلة إمّا للتغليب أو لأنّه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة اُخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

قوله تعالى: ( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ) البارئ من الأسماء الحسنى كما قال تعالى:( هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) الحشر - ٢٤، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: إثنان منها في هذه الآية ولعلّه خصّ بالذكر هيهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنّه قريب المعنى من الخالق والموجد، من برء يبرء برائاً إذا فصل لأنّه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنّه تعالى يقول: هذه التوبة وقتلكم أنفسكم وإن كان أشقّ ما يكون من الأاوامر لكنّ الله الّذي أمركم بهذا الفناء والزوال بالقتل هو الّذي برئكم فالّذي أحبّ وجودكم وهو خير لكم هو يحبّ الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم وكيف لا يحبّ خيركم وقد برئكم، فاختيار لفظ البارئ باضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، وقوله :( عِندَ بَارِئِكُمْ ) للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبّة.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) ظاهر الآية وما تقدّمها أنّ هذه الخطابات وما وقع فيها من عدّ أنواع تعديّاتهم ومعاصيهم إنّما نسبت إلى الكلّ مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قوميّة واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض،

١٩٠

وينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كلّ بنى اسرائيل عبدوا العجل، ولا كلّهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم وعلى هذا فقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ، إنّما يعني به قتل البعض وهم الّذين عبدوا العجل كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) ، وقوله تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) تتمّة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر. وقوله تعالى:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) يدلّ على نزول التوبة وقبولها. وقد وردت الرواية أنّ التّوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين منهم.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر كان أمراً إمتحانيّاً نظير ما وقع في قصّة رؤيا إبراهيمعليه‌السلام وذبح إسمعيل( يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) لصافات - ١٠٥، فقد ذكر موسىعليه‌السلام فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قولهعليه‌السلام وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ وأنزل التوبة بقوله:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ )

قوله تعالى: ( رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ ) ، الرجز العذاب.

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْثَوْا ) ، العيث والعثى أشدّ الفساد.

قوله تعالى: ( وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا ) ، القثّاء الخيار والفوم الثوم أو الحنطة.

قوله تعالى: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ ) ، أي رجعوا.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ ) ، تعليل لما تقدّمه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا ) ، تعليل للتعليل فعصيأنّهم ومداومتهم للإعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء كما قال تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) الروم - ١٠، وفي التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثمّ بدا منه فزاد عشراً فتمّ ميقات ربّه الأوّل والآخر أربعين ليلة.

١٩١

أقول: والرواية تؤيّد ما مرّ أن الأربعين مجموع المواعدتين.

وفي الدرّ المنثور: عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ) الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً فأخذوا السكّاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالى من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفاً فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى.

وفي تفسير القمّيّ: قالعليه‌السلام : أنّ موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم بأتّخذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل أنفسنا فقال لهم موسى: اُغدوا كلّ واحد منكم إلى بيت المقدّس ومعه سكّين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني اسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فأقتلوا بعضكم بعضاً، فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممّن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدّس فلمّا صلّى بهم موسى وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً حتّى نزل جبرئيل فقال: قل لهم: يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو التوّاب الرحيم

أقول: والرواية كما ترى تدلّ على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولاً لموسى ومقولاً له سبحانه فيكون إمضائاً لكلمة قالها موسى وكشفاً عن كونها تامّة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإنّ الظاهر يعطي أنّ موسى جعل قتل الجميع خيراً لهم عند بارئهم، وقد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه، ما وقع من القتل هو الخير الّذي ذكره موسىعليه‌السلام كما مرّ.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى: وظلّلنا عليكم الغمام الآية أنّ بني اسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظلّ، ولا شجر، ولا ماء. وكانت تجئ بالنهار غمامة تظلّهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المنّ فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشيّ يأتيهم طائر مشويّ يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومرّ وكان مع موسى حجر

١٩٢

يضعه وسط العسكر ثمّ يضربه بعصاه فتنفجر منها إثنتا عشرة عيناً كما حكى الله فيذهب إلى كلّ سبط في رحله وكانوا اثنى عشر سبطاً.

وفي الكافي: في قوله تعالى:( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ، عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال: إنّ الله أعزّ وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم ولكنّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، ثمّ أنزل الله بذلك قرآناً على نبيّه فقال: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي قلت: هذا تنزيل، قال: نعم.

أقول: وروى ما يقرب منه أيضاً عن الباقرعليه‌السلام وقولهعليه‌السلام :( أمنع من أن يظلم) بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: وما ظلمونا. وقوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل:وقوله: ولكنّه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء والاوصياء والأئمّة بنفسه،وقوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أنّ النفي في هذه الموارد وأمثالها إنّما يصحّ فيما يصحّ فيه الإثبات أو يتوهّم صحّته، فلا يقال للجدار: أنّه لا يبصر أو لا يظلم إلّا لنكتة وهو سبحانه أجل من أن يسلّم في كلامه توهّم الظلم عليه، أو جواز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأنّ العظماء يتكلّمون عن خدمهم وأعوانهم.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ) الآية عن الصادقعليه‌السلام أنّه قرأ هذه الآية: ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فقال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلاً واعتداءً ومصيبة.

أقول: وفي الكافي عنهعليه‌السلام مثله وكأنّهعليه‌السلام استفاد ذلك من قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فإنّ القتل وخاصّة قتل الأنبياء والكفر بآيات الله لا يعلّل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدّة والأهّميّة لكنّ العصيان بمعنى عدم الكتمان والتحفّظ ممّا يصحّ التعليل المذكور به.

١٩٣

( سورة البقرة الآية ٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٢)

( بيان)

تكرار الإيمان ثانياً وهو الاتّصاف بحقيقتة كما يعطيه السياق يفيد أنّ المراد بالّذين آمنوا في صدر الآية هم المتّصفون بالإيمان ظاهراً المتسمّون بهذا الاسم فيكون محصّل المعنى أنّ الاسماء والتسمّي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجراً ولا أمناً من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنّة إلّا من كان هوداً أو نصارى، وإنّما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلّا يكون تقريراً للفائدة في التسمّي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا ممّا تكرّرت فيه آيات القرآن أنّ السعادة والكرامة تدور مدار العبوديّة، فلا إسم من هذه الاسماء ينفع لمتسمّيه شيئاً، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلّا مع لزوم العبوديّة، الأنبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكلّ وصف جميل:( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الانعام - ٨٨، وقال تعالى في أصحاب نبيّه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلوّ قدرهم:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) الفتح - ٢٩، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممّن اوتي آيات الله تعالى:( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه ) الأعراف - ١٧٦، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أنّ الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

١٩٤

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: عن سلمان الفارسيّ قال: سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا) الآية.

أقول: وروي أيضاً نزول الآية في أصحاب سلمان بعدّة طرق اُخرى.

وفي المعاني: عن إبن فضّال قال: قلت للرضاعليه‌السلام لم سمّي النصاري نصارى قال: لأنّهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.

أقول: وفي الرواية بحث سنتعرّض له في قصص عيسىعليه‌السلام من سورة آل عمران إنشاء الله.

وفي الرواية أنّ اليهود سمّوا باليهود لأنّهم من ولد يهودا بن يعقوب.

وفي تفسير القمّيّ: قال: قالعليه‌السلام : الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب.

أقول: وهي الوثنيّة، غير أنّ عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الّذي يخصّهم عبادة أصنام الكواكب.

( بحث تاريخي)

ذكر أبوريحان البيرونيّ في الآثار الباقية ما لفظه: وأوّل المذكورين منهم يعني المتنبّئين يوذاسف وقد ظهر عند مضيّ سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتي بالكتابة الفارسيّة، ودعا إلى ملّة الصابئين فأتّبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشداديّة وبعض الكيانيّة ممّن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين والكواكب وكليّات العناصر ويقدّسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا اُؤلئك الصابئين بحرّان ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرّانيّة وقد قيل: إنّها نسبة إلى هادان بن ترخ اخى ابراهيمعليه‌السلام وأنّه كان من بين رؤسائهم اوغلهم في الدين

١٩٥

واشدّهم تمسّكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصرانيّ في كتابه الّذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والأباطيل، أنّهم يقولون إنّ ابراهيمعليه‌السلام إنّما خرج عن جملتهم لأنّه خرج في قلفته برص وأنّ من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الاصنام فسمع صوتاً من صنم يقول له: يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، أخرج ولا تعاود المجئ الينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذاً، وخرج من جملتهم ثمّ إنّه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح إبنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلمّا علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

وحكى عبد المسيح بن إسحق الكنديّ عنهم في جوابه عن كتاب عبدالله بن اسماعيل الهاشميّ، أنّهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهراً ونحن لا نعلم منهم إلّا أنّهم اُناس يوحّدون الله، وينزّهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحدّ، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمّونه بالأسماء الحسنى مجازاً، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الأنوار، ومن آثارهم القبّة الّتي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلّاهم، كان اليونانيّون والروم على دينهم، ثمّ صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثمّ تغلب عليها النصارى، فصيّروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فأتّخذوها مسجداً، وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخيّ في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنّها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمّى سلمسين، وإسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية اُخرى تسمّى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أنّ الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وأنّ اللّات كان باسم زحل، والعزّى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصريّ وأغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جدّ أفلاطون من جهة اُمّه وأمثالهم، ومنهم من حرّم عليه السمك خوفاً

١٩٦

أن يكون رغاوة والفرخ لأنّه أبداً محموم، والثوم لأنّه مصدّع محرق للدّم أو المنيّ الّذي منه قوام العالم، والباقلاء لأنّه يغلظ الذهن ويفسده، وأنّه في أوّل الأمر إنّما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات.

أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.

والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كلّ ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفّلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، واُخرى في التاسعة من النهار.

والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلّون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا وأكثر أحكامهم في المناكح والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي التنجّس عند مسّ الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتوراة، ولهم قرابين متعلّقة بالكواكب واصنامها وهياكلها، وذبائح يتولّاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرّب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمّى هرمس بإدريس الّذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أنّ يوذاسف هو هرمس.

وقد قيل: إنّ هؤلاء الحرّانيّة ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمّون في الكتب بالحنفاء والوثنيّة، فإنّ الصابئة هم الّذين تخلّفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في أيّام كورش وأيّام ارطحشست إلى بيت المقدّس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنّصر، فذهبوا مذهباً ممتزجاً من المجوسيّة واليهوديّة، كالسامرة بالشام، وقد توجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، ومخالفين للحرّانيّة، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلّا في أشياء قليلة، حتّى أنّهم يتوجّهون في الصلاة إلى جهة القطب الشماليّ والحرّانيّة إلى الجنوبيّ، وزعم بعض أهل الكتاب أنّه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمّى صابي. وأنّ الصابئة سمّوا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكّان الجانب الشرقيّ من الأرض وكانوا عبدة أوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين و

١٩٧

التغزغز ويسمّيهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتّصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الأرواح وهوي الفلك في خلاء غير متناه، ولذلك يتحرّك على استدارة فإنّ الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقرّ بحدوث العالم، وزعم أنّ مدّته ألف ألف سنة إنتهى موضع الحاجة.

أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسيّة واليهوديّة مع أشياء من الحرّانيّة هو الأوفق بما في الآية فإنّ ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملّة.

١٩٨

( سورة البقرة الآيات ٦٣ - ٧٤)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٦٣ ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( ٦٤ ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ٦٥ ) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٦٦ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً  قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا  قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٦٧ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ  فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( ٦٨ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( ٦٩ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ( ٧٠ ) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا  قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ  فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( ٧١ ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا  وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( ٧٢ ) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا  كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٧٣ ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً  وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٧٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) ، الطور هو الجبل كما بدّله منه في قوله تعالى:( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) الأعراف - ١٧١، والنتق هوالجذب والإقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أوّلاً والأمر بأخذ ما اُوتوا وذكر ما فيه أخيراً

١٩٩

ووضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدلّ على أنّه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم وإكراههم على العمل بما أوتوه وإلّا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربّما يقال: إنّ رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه:( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) البقرة - ٢٥٦، وقال تعالى:( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس - ٩٩، غير وجيه فإنّ الآية كما مرّ لا تدلّ على أزيد من الإخافة والإرهاب ولو كان مجرّد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراهاً لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأنّ بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتّى أظلّ رأسه عليهم، فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنىّ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مرّ الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتّكي عليه وتقوم به.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لعلّ كلمة ترجّ واللازم في الترجّي صحّتة في الكلام سواء كان قائماً بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلّم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إمّا بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأمّا هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الاُمور، كما نبّه عليه الراغب في مفرداته.

قوله تعالى: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أي صاغرين.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا ) أي عبرة يعتبر بها. والنكال هو ما يفعل من الإذلال والإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) الخ، هذه قصّة بقرة بني إسرائيل، وبها سمّيت السورة سورة البقرة. والأمر في بيان القرآن لهذه القصّة عجيب فإنّ القصّة فصّل بعضها عن بعض حيث قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) إلى آخره ثمّ قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) ثمّ إنّه اُخرج فصل منها من وسطها

٢٠٠