الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154881
تحميل: 6940


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154881 / تحميل: 6940
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقدّم أوّلاً ووضع صدر القصّة وذيلها ثانياً، ثمّ إنّ الكلام كان مع بني إسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) ثمّ التفت إلى الخطاب ثانياً بقوله:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) .

أمّا الالتفات في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) ، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، وتوجيهه إلى النبيّ في شطر من القصّة وهو أمر ذبح البقرة وتوصيفها ليكون كالمقدّمة الموضحة للخطاب الّذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ إلى قوله:وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) ، كالمعترضة في الكلام تبيّن معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء أدبهم وإيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول ولغو الكلام، مع ما فيه من تعنّتهم وتشديدهم وإصرارهم في الاستيضاح والاستفهام المستلزم لنسبة الإبهام إلى الأوامر الإلهيّة وبيانات الأنبياء مع ما في، كلامهم من شوب الإهانة والاستخفاف الظاهر بمقام الربوبيّة فانظر إلى قول موسىعليه‌السلام لهم:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً  ) وقولهم:( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) ، وقولهم ثانياً:( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ) ، وقولهم ثالثاً:( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) ، فأتوا في الجميع بلفظ ربّك من غير أن يقولوا ربّنا، ثم كرّروا قولهم:( مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) فادّعوا التشابه بعد البيان، ولم يقولوا: إنّ البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إنّ البقر تشابه علينا كأنّهم يدّعون أنّ جنس البقر متشابه ولا يؤثّر هذا الأثر إلّا بعض أفراد هذا النوع وهذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب وتشخيصه، مع أنّ التأثير لله عزّ إسمه لا للبقرة، وقد أمرهم أن يذبحوا بقرة فأطلق القول ولم يقيّده بقيد، وكان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثمّ انظر إلى قولهم لنبيّهم:( أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ) ، المتضمّن لرميهعليه‌السلام بالجهالة واللّغو حتّى نفاه عن نفسه بقوله:( أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ، وقولهم أخيراً بعد تمام البيان الإلهيّ:( الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) ، الدالّ على نفي الحقّ عن البيانات

٢٠١

السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الإلهىّ والتبليغ النبوي.

وبالجملة فتقديم هذا الشطر من القصّة لإبانة الأمر في الخطاب التالي كما ذكر مضافاً إلى نكتة اُخرى، وهي أنّ قصّة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحريّ أن لا يخاطبوا بهذه القصّة أصلاً أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم أوّلاً بتوجيه الخطاب إلى النبيّ ثمّ بعد تثبيت الأصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصّة وهاك عبارة التوراة:

قال في الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنيه الاشتراع: إذا وجد قتيل في الأرض الّتي يعطيك الربّ إلهك لتمتلكها واقعاً في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن الّتي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثمّ يتقدّم الكهنة بني لاوي لأنّه إيّاهم اختار الربّ إلهك ليخدموه ويباركوا بإسم الربّ وحسب قولهم تكون كلّ خصومة وكلّ ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرخون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر إغفر لشعبك إسرائيل الّذي فديت يا ربّ ولا تجعل دم برئ في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم إنتهى.

إذا عرفت هذا على طوله، علمت أنّ بيان هذه القصّة على هذا النحو ليس من قبيل فصل لقصّة، بل القصّة مبينّة على نحو الإجمال في الخطاب الّذي في قوله:( وإذ قتلتم نفساً ) الخ وشطر من القصّة مأتيّة بها ببيان تفصيليّ في صورة قصّة اُخرى لنكتة دعت إليه.

فقوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه خطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كلام في صورة قصّة وإنّما هي مقدّمة توضيحيّة للخطاب التالي لم يذكرمعها السبب الباعث على هذا الأمر والغاية المقصودة منها بل اُطلقت إطلاقاً ليتنبّه بذلك نفس السامع وتقف موقف التجسّس، وتنتشط إذا سمعت أصل القصّة، ونالت الارتباط بين الكلامين، ولذلك

٢٠٢

لمّا سمعت بنو إسرائيل قوله: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجّبوا من ذلك ولم يحملوه إلّا على أنّ نبيّ الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة وما يسألونه من فصل الخصومة والحصول على القاتل قالوا أتتّخذنا هزواً وسخريّة.

وإنّما قالوا ذلك لفقدهم روح الإطاعة والسمع وإستقرار ملكة الاستكبار والعتوّ فيهم، وقولهم: إنّا لا نحوم حول التقليد المذموم، وإنّما نؤمن بما نشاهده ونراه كما قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة وإنّما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم والقضاء فيما لهم ذلك، وفيما ليس لهم ذلك، فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الربّ بالحسّ الباصر وقالوا:( يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) الأعراف - ١٣٨، وزعموا أنّ نبيّهم موسى مثلهم يتهوّس كتهوّسهم، ويلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء والسفه والجهالة حتّى ردّ عليهم، وقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وإنّما استعاذ بالله ولم يخبر عن نفسه بأنّه ليس يجاهل لأنّ ذلك منهعليه‌السلام أخذ بالعصمة الإلهيّة الّتي لا تتخلّف لا الحكمة الخلقيّة الّتي ربّما تتخلّف.

وزعموا أن ليس للإنسان أن يقبل قولاً إلّا عن دليل، وهذا حقّ لكنّهم غلطوا في زعمهم أنّ كلّ حكم يجب العثور على دليله تفصيلاً ولا يكفي في ذلك الاجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أنّ نوع البقر ليس فيه خاصّة الاحياء، فإن كان ولا بدّ فهو في فرد خاصّ منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدّد الله عليهم، وقال موسى : إنّه يقول إنّها بقرة لا فارض، أي ليست بمسّنة انقطعت ولادتها ولا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السنّ أي واقعة في السنّ بين ما ذكر من الفارض والبكر، ثمّ ترحم عليهم ربّهم فوعظهم أن لا يلحّوا في السؤال، ولا يشدّدوا على أنفسهم ويقنعوا بما بيّن لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنّهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا أدع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها، قال إنّه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسرّ الناظرين وتمّ بذلك

٢٠٣

وصف البقرة بياناً، واتّضح أنّها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به، وأعادوا كلامهم الأوّل، من غير تحجّب وانقباض وقالواأدع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إنشاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانياً بتوضيح في ماهيّتها ولونها وقال إنّه يقول إنّها بقرة لا ذلول أي غير مذلّلة بالحرث والسقي تثير الأرض بالشيار ولا تسقي الحرث فلمّا تمّ عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحقّ قول من يعترف بالحقيقة بالالزام والحجّة من غير أن يجد إلى الردّ سبيلاً، فيعترف بالحقّ إضطراراً، ويعتذر عن المبادرة إلى الانكار بأنّ القول لم يكن مبيّناً من قبل، ولا بيّناً تامّاً. والدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها وما كادوا يفعلون.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) ، شروع في أصل القصّة والتدارء هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا نفساً - وكلّ طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - وأراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.

قوله تعالى: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) ، أوّل الضميرين راجع إلى النفس بإعتبار أنّه قتيل، وثانيهما إلى البقرة وقد قيل: إنّ المراد بالقصّة بيان أصل تشريع الحكم حتّى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الّذي نقلناه، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) البقرة - ١٧٩، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإعجاز هذا، وأنت خبير بأنّ سياق الكلام وخاصّة قوله تعالى:( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ ) يأبى ذلك.

قوله تعالى: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل، والمراد بكونها بمعنى بل إنطباق معناه على موردها، وقد بيّن شدّة قسوة قلوبهم بقوله:( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ) وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجّر منها الأنهار على لين مائها وتشقّق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحقّ، ولا

٢٠٤

قول حقّ يلائم الكمال الواقع.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) ، وهبوط الحجارة ما نشاهد من إنشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الّذي يتخلّلها في فصل الشتاء ماءاً في فصل الربيع إلى غير ذلك، وعدّ هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعيّة هبوطاً من خشية الله تعالى لأنّ جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاصّ بها إنفعال عن أمر الله سبحانه أيّاها بالهبوط، وهي شاعرة لأمر ربّها شعوراً تكوينيّاً، كما قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أسرى - ٤٤، وقال تعالى:( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، والانفعال الشعوريّ هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى:( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) الرعد - ١٣: وقوله تعالى:( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) الرعد - ١٥، حيث عدّ صوت الرعد تسبيحاً بالحمد وعدّ الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات الّتي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.

وبالجملة فقوله:( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ) ، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإنّ الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيتة، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.

( بحث روائي)

في محاسن: عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله : خذوا ما آتيناكم بقوّة، أقوّة الأبدان أو قوّة القلب ؟ قالعليه‌السلام : فيهما جميعاً.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً في تفسيره.

وفي تفسير العيّاشيّ: عن الحلبيّ في قوله تعالى:( وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ) ، قال: قال أذكروا ما فيه وأذكروا ما في تركه من العقوبة.

أقول: وقد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى:( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ) .

وفي الدرّ المنثور: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا أنّ بني إسرائيل

٢٠٥

قالوا وإنّا إنشاء الله لمتهدون ما أعطوا أبداً ولو أنّهم إعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم.

وفي تفسير القمّيّ: عن إبن فضّال قال: سمعت أباالحسنعليه‌السلام يقول: إنّ الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة وإنّما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدّد الله عليهم.

وفي المعاني وتفسير العيّاشيّ: عن البزنطيّ قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول: إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ثمّ أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثمّ جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إنّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً فأخبر من قتله قال: ايتوني ببقرة قالوا: أتتّخذنا هزواً ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم، قالوا أدع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي ؟ قال إنّه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر يعني لا صغيرة ولا كبيرة عوان بين ذلك ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم قالوا أدع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم قالوا أدع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي انّ البقر تشابه علينا وإنّا إنشاء الله لمهتدون. قال: إنّه يقول إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحقّ فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلّا بملؤ مسك ذهباً، فجاءوا إلى موسى وقالوا له ذلك قال إشتروها فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ثمّ أمر أن يضربوا الميّت بذنبها فلمّا فعلوا ذلك حيي المقتول وقال يا رسول الله إنّ إبن عمّي قتلني، دون من إدّعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إنّ هذه البقرة لها نبأ فقال وما هو ؟ قال إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه وإنّه اشترى بيعاً فجاء إلى أبيه والأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضاً ممّا فاتك فقال له رسول الله موسى أنظر إلى البرّ ما بلغ بأهله.

أقول: والرّوايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.

٢٠٦

( بحث فلسفي)

السورة كما ترى مشتملة على عدّة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل وغيرهم، كفرق البحر وإغراق آل فرعون في قوله تعالى:( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ) الآية، وأخذ الصاعقة بني إسرائيل وإحيائهم بعد الموت في قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ) الآية، وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى عليهم في قوله تعالى:( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) الآية، وإنفجار العيون من الحجر في قوله تعالى:( وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) الآية، ورفع الطور فوقهم في قوله تعالى:( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) الآية، ومسخ قوم منهم في قوله تعالى:( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً ) الآية، وإحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله:( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) الآية، وكإحياء قوم آخرين في قوله :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) الآية، وكإحياء الّذي مرّ على قرية خربة في قوله :( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) الآية، وكإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) الآية، فهذه إثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل - ذكرها القرآن - وقد بيّنا فيما مرّ إمكان وقوع المعجزة وأنّ خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود وهي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلّية والمعلوليّة الكلّيّ، وتبيّن به أن لا دليل علي تأويل الآيات الظاهرة في وقوع الإعجاز، وصرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كإنقسام الثلثة بمتساويين وتولّد مولود يكون أباً لنفسه، فإنّه لا سبيل إلى جوازها.

نعم تختصّ بعض المعجزات كإحياء الموتى والمسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنّه قد ثبت في محلّه أنّ الموجود الّذي له قوّة الكمال والفعليّة إذا خرج من القوّة إلى الفعل فإنّه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوّة ثانياً، وكذلك كلّ ما هو أكمل وجوداً فإنّه لا يرجع في سيره الاستكماليّ إلى ما هو أنقص وجوداً منه من حيث هو كذلك. والإنسان بموته يتجرّد بنفسه عن المادّة فيعود موجوداً مجرّداً مثاليّاً أو عقليّاً، وهاتان

٢٠٧

الرتبتان فوق مرتبة المادّة، والوجود فيهما أقوى من الوجود المادّيّ، فمن المحال أن تتعلّق النفس بعد موتها بالمادّة ثانياً، وإلّا لزم رجوع الشئ إلى القوّة بعد خروجه إلى الفعل، وهو محال، وأيضاً الإنسان أقوى وجوداً من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الإنسان شيئاً من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.

أقول: ما ذكره من إستحاله رجوع ما بالقوّة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوّة ثانياً حقّ لا ريب فيه، لكن عود الميّت إلى حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك: أنّ المحصّل من الحسّ والبرهان أن الجوهر النباتيّ المادّيّ إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيوانيّ فإنّه يتحرّك إلى الحيوانيّة، فيتصوّر بالصورة الحيوانيّة وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخيّ، وحقيقتها إدراك الشئ نفسه بإدراك جزئي خياليّ وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتيّ وفعليّة لهذه القوّة تلبّس بها بالحركة الجوهريّة ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادّيّ فتصير إيّاه إلّا أن تفارق مادّتها فتبقى المادّة مع صورة مادّيّة كالحيوان تموت فيصير جسداً لا حراك به، ثمّ إنّ الصورة الحيوانيّة مبدأ لأفعال إدراكيّة تصدر عنها، وأحوال علميّة تترتّب عليها، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، ولا يزال نقش عن نقش، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصّل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلع للزوال، وملكة راسخة، وهذه صورة نفسانيّة جديدة يمكن أن يتنوّع بها نفس حيوانىّ فتصير حيواناً خاصّاً ذا صورة خاصّة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهريّة بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعليّة الحيوانيّة، ولو أن النفس البرزخيّة تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكيّة المتعلّقة بالمادّة شيئاً فشيئاً حتّى تصير حيواناً خاصّاً إن عمّر العمر الطبيعيّ أو قدراً معتداً به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعيّ أو القدر المعتدّ به مانع كالموت الاختراميّ بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانيّة، ثمّ إنّ الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانيّة وهي الوجود

٢٠٨

الّذي يعقل ذاته تعقّلاً كليّاً مجرّداً عن المادّة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهريّة من فعليّة المثال الّتي هي قوّة العقل إلى فعليّة التجرّد العقليّ، وتحقّقت له صورة الإنسان بالفعل، ومن المحال أن تعود هذه الفعليّة إلى قوّتها الّتي هي التجرّد المثاليّ على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجيّ صورة خاصّة جديدة توجب تنوّع النوعيّة الإنسانيّة على حدّ ما ذكر نظيره في النوعيّة الحيوانيّة.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدّد لنفسه التعلّق بالمادّة وخاصّة المادّة الّتي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرّد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها، والّذي كان لها بالموت أنّ الأداة الّتي كانت رابطة فعلها بالمادّة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادّيّ كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلى تعلّقها الفعليّ بالمادّة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنيّة ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منه رجوعاً قهقرى وسيراً نزوليّاً من الكمال إلى النقص، ومن الفعل إلى القوّة.

فإن قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإنّ النفس المجرّدة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادّيّة بالتعلّق بالمادّة ثانياً كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرماناً عمّا تستدعيه بطباعها، فما كلّ نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة. والحرمان المستمرّ قسر دائم.

قلت: هذه النفوس الّتي خرجت من القوّة إلى الفعل في الدنيا واتّصلت إلى حدّ وماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائماً بل يستقرّ على فعليّتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقليّة المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الإمكان المذكور بعد ذلك فالإنسان الّذي مات وله نفس ساذجة غير أنّه فعل أفعالاً

٢٠٩

وخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً لو عاش حيناً أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيده أو شقيّة وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصّة جديدة وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذّب بما كسبته من الافعال حتّى يتصوّر بصورة عقليّة مناسبة لصورته السابقة المثاليّة وعند ذلك يبطل الامكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقليّة فإنّ عاد إلى الدنيا كالأنبياء والاولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقليّة من ناحية المادّة والافعال المتعلّقة بها ولو لم يعد فليس له إلّا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه، والسير في صراطه، هذا.

ومن المعلوم أنّ هذا ليس قسراً دائماً ولو كان مجرّد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل وتأثير علل مؤثّرة قسراً دائماً لكان أكثر حوادث هذا العالم الّذي هو دار التزاحم، وموطن التضادّ أو جميعها قسراً دائماً، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعيّ مؤثّرة في الجميع، وإنّما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الانواع إقتضاء كمال من الكمالات أو إستعداد ثمّ لا يظهر أثر ذلك دائماً إمّا لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجّه إلى إبطاله بحسب الغريزة فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعدّ للكمال تغريزاً باطلاً وتجبيلاً هباءً لغواً فافهم ذلك. وكذا لو فرضنا إنساناً تغيّرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير فإنّما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيّته وحلّت الصورة الخنزيريّة أو القرديّة محلّها، فالإنسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصوّرت نفسه بها ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حدّ ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مرّ أنّ النفس الإنسانيّة في أوّل حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوّع بصورة خاصّة تخصّصها بعد الإبهام وتقيّدها بعد الإطلاق والقبول فالممسوخ من الإنسان إنسان ممسوخ لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانيّة هذا. ونحن نقرء في المنشورات اليوميّة من أخبار المجامع العلميّة بأروبا وإمريكا ما يؤيّد جواز الحياة بعد الموت، وتبدّل صورة الإنسان بصورة المسخ، وإن لم نتّكل في هذه المباحث على

٢١٠

أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصّلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.

فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.

قلت: كلّا فإنّ التناسخ وهو تعلّق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإنّ هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلّق نفسين ببدن واحد، وهو وحدة الكثير، وكثرة الواحد، وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوّة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلّق نفس إنسانيّ مستكملة مفارقة ببدن نبأتيّ أو حيوانيّ بما مرّ من البيان.

( بحث علمي وأخلاقي)

أكثر الاُمم الماضية قصّة في القرآن اُمّة بني إسرائيل، وأكثر الأنبياء ذكراً فيه موسى بن عمرانعليه‌السلام ، فقد ذكر إسمه في القرآن، في مائة وستة وثلاثين موضعاً ضعف ما ذكر إبراهيمعليه‌السلام الّذي هو أكثر الأنبياء ذكراً بعد موسى، فقد ذكر في تسعة وستين موضعاً على ما قيل فيهما، والوجه الظاهر فيه أنّ الإسلام هو الدين الحنيف المبنيّ على التوحيد الّذي أسّس أساسه إبراهيمعليه‌السلام وأتمّه الله سبحانه وأكمله لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) الحج - ٧٨، وبنو إسرائيل أكثر الاُمم لجاجاً وخصاماً، وأبعدهم من الانقياد للحقّ، كما أنّه كان كفّار العرب الّذين ابتلى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة - ٦. ولا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم وجفوتهم ممّا ذكره القرآن إلّا وهو موجود فيهم، وكيف كان فأنت إذا تأمّلت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنّهم كانوا قوماً غائرين في المادّة مكبّين على ما يعطيه الحسّ من لذائذ الحياة الصوريّة، فقد كانت هذه الاُمّة لا تؤمن بما وراء الحسّ، ولا تنقاد إلّا إلى اللذّة والكمال المادّيّ وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الّذي صيّر عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحسّ والمادّة، لا يعقلون إلّا ما يجوّزانه، ولا يريدون إلّا ما

٢١١

يرخّصان لهم ذلك فانقياد الحسّ يوجب لهم أن لا يقبلوا قولاً إلّا إذا دلّ عليه الحسّ، وإن كان حقّاً وانقياداً المادّة اقتضى فيهم أن يقبلوا كلّ ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممّن أوتي جمال المادّة,. وزخرف الحياة وإن لم يكن حقّاً، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولاً وفعلاً، فهم يذمّون كلّ اتّباع باسم أنّه تقليد وإن كان ممّا ينبغي إذا كان بعيداً من حسّهم، ويمدحون كلّ اتّباع باسم أنّه حظّ الحياة، وإن كان ممّا لا ينبغي إذا كان ملائماً لهوساتهم المادّيّة، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتدّ وقطونهم الطويل بمصر تحت إستذلال المصريّين، واسترقاقهم، وتعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب ويذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربّهم عظيم.

وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم، والربّانيّون من علمائهم ممّا فيه صلاح معاشهم ومعادهم (تذكّر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره) وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم.

وقد ابتليت الحقيقة والحقّ اليوم بمثل هذه البليّة بالمدنيّة المادّيّة الّتي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنيّة القاعدة على الحسّ والمادّة فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحسّ ولا يسأل عن دليل فيما تضمّن لذّة مادّيّة حسّيّة، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانيّة في أحكامهاو ارتحال المعارف العالية والاخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدّد الإنسانيّة بالانهدام، وجامعة البشر بأشدّ الفساد وليعلمنّ نبأه بعد حين.

واستيفاء البحث في الاخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كلّ دليل بمطلوب، وما كلّ تقليد بمذموم، بيان ذلك: أنّ النوع الإنسانيّ بما أنّه إنسان إنّما يسير إلى كماله الحيويّ بأفعاله الإراديّة المتوقّفة على الفكر والإرادة منه مستحيلة التحقّق إلّا عن فكر، فالفكر هو الاساس الوحيد الّذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروريّ فلا بد للإنسان من تصديقات عمليّة أو نظريّة يرتبط بها كماله الوجوديّ ارتباطاً بلا واسطة أو بواسطة، وهي القضايا الّتي نعلّل بها أفعالنا الفرديّة أو الاجتماعيّة أو نحضرها في أذهاننا، ثمّ نحصّلها في الخارج بأفعالنا. هذا.

ثمّ إنّ في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم

٢١٢

إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلّا إذا حضر في ذهنه علّته الموجبة، ولا يقبل تصديقاً نظريّاً إلّا إذا اتّكى على التصديق بعلّته بنحو. وهذا شأن الإنسان لا يتخطّاه ألبتّة، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمّل. والإمعان تنحلّ الشبهة، ويظهر البحث عن العلّة، والركون والطمأنينة إليها فطريّ، والفطرة لا تختلف ولا يتخلّف فعلها، وهذا يؤدّي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكريّ والفعل المتفرّع عليه لسعة الاحتياج الطبيعيّ، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمداً على نفسه ومتّكئاً إلى قوّة طبيعتة الشخصيّة فإحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدنيّة والحضارة و وزّعت أبواب الحاجة الحيويّة بين أفراد الاجتماع، ووكلّ بكلّ باب من أبوابها طائفة كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه، ولا تزال الحوائج الإنسانيّة تزداد كمّيّة واتّساعاً وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم، ويتربّى عند ذلك الأخصّائيّون من العلماء والصنّاع، فكثير من العلوم والصناعات كانت علماً أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، واليوم نرى كلّ باب من أبوابه علماً أو علوماً أو صنعة أو صنائع، كالطبّ المعدود قديماً فنّاً واحداً من فروع الطبيعيّات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الاخصائيّين بأزيد من أمر فنّ واحد منها.

وهذا يدعو الإنسان بإلهام الفطريّ، أن يستقلّ بما يخصّه من الشغل الإنسانيّ في البحث عن علّته ويتّبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته.

فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتّباع، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجماليّ فيما ليس في وسع الإنسان أن ينال دليل تفاصيله كما أنّه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيليّ فيما يسعه أن ينال تفصيل علّته و دليله، وملاك الأمر كلّه أنّ الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، وهو الاستقلال في البحث عن العلّة فيما يسعه ذلك والتقليد وهو الاتّباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك. ولمّا استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنسانيّ مستقلّا بنفسه قائماً بجميع شؤن الأصل الّذي يتّكي عليه

٢١٣

الحياة أستحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتّباع وتقليد. ومن ادّعى خلاف ذلك أو ظنّ من نفسه أنّه غير مقلّد في حياته فقد سفه نفسه.

نعم: التقليد فيما للإنسان أن ينال علّته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه، من الرذائل الّتي هي من مهلكات الاجتماع، ومفنيات المدنيّة الفاضلة ولا يجوز الاتّباع المحض إلّا في الله سبحانه لأنّه السبب الّذي إليه تنتهي الأسباب.

٢١٤

( سورة البقرة الآيات ٧٥ - ٨٢)

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٧٥ ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٧٦ ) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ٧٧ ) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( ٧٨ ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا  فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ( ٧٩ ) وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً  قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ  أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٨٠ ) بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٨١ ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٨٢ )

( بيان)

السياق وخاصّة ما في ذيل الآيات يفيد أنّ اليهود عند الكفّار، وخاصّة كفّار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيراً لرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وعندهم علم الدين والكتاب، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، وكان المتوقّع أن يؤمنوا به أفواجاً فيتأيّد بذلك ويظهر نوره، وينتشر دعوته. ولمّا هاجر النبيّ إلي المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدّل الرّجاء قنوطاً، والطمع يأساً، ولذلك يقول سبحانه:( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) الخ، يعني أنّ كتمان الحقائق وتحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عمّا قالوا ونقضهم ما أبرموا.

٢١٥

قوله تعالى: ( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) ، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبيّ والّذين آمنوا ووضعهم موضع الغيبة وكأنّ الوجه فيه أنّه لما قصّ قصّة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مرّ، أريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.

قوله تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا ) الخ، لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى:( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) البقرة - ١٤، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم.

أحدهما: أنّهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صوناً لأنفسهم من الإيذاء والطعن والقتل.

وثانيهما: أنّهم يريدون تعمية الأمر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرّهم وعلانيتهم وذلك أنّ العامّة منهم، وهم أولوا بساطة النفس ربّما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدّثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبيّ أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوّة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معلّلا بأنّ ذلك ممّا فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجّوهم به عند ربّهم كأنّهم لو لم يحاجّوهم به عند ربّهم لم يطّلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك ولازم ذلك أنّ الله تعالى إنّما يعلم علانية الأمر، دون سرّه وباطنه وهذا من الجهل بمكان، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) الآية فإنّ هذا النوع من العلم - وهو ما يتعلّق بظاهر الأمر دون باطنه - إنّما هو العلم المنتهي إلى الحسّ الّذي يفتقر إلى بدن مادّيّ مجهّز بآلات مادّيّة مقيّد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل اُخرى مادّيّة وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.

وهذا أيضاً من شواهد ما قدّمناه آنفاً أنّ بني إسرائيل لاذعانهم بأصالة المادّة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادّة من الأحكام، فكانوا يظنّونه موجوداً فعّالاً

٢١٦

في المادّة مستعلياً قاهراً عليه، ولكن بعين ما تفعل علّة مادّيّة وتستعلي وتقهر على معلول مادّيّ. وهذا أمر لا يختصّ به اليهود، بل هو شأن كلّ من يذعن بأصالة المادّة من المليّين وغيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلّا بما يعقلون من أوصاف المادّيّات من الحياة والعلم والقدرة والاختيار والإرادة والقضاء والحكم وتدبير الأمر وإبرام القضاء إلى غير ذلك. وهذا داء لا ينجع معه دواء، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون، حتّى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحقّ ولا قدم له في معارفهم الحقّة، قائلاً إنّ المسلمين يروون عن نبيّهم أنّ الله خلق آدم على صورته وهم معاشر اُمّته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربّهم جميع أحكام المادّة، كما يفعله المشبّهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئاً من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلاً أن ما يبيّن أوصافه تعالى من الألفاظ إنّما يقع عليه بالاشتراك اللفظيّ فلقولنا: إنّه موجود ثابت عالم قادر حيّ معان لا نفهمها ولا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلاً أنّه ليس بمعدوم، ولا زائل، ولا جاهل، ولا عاجز ولا ميّت فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بأنّهم يؤمنون بما لا يدرون، ويعبدون ما لا يفهمون، ويدعون إلى ما لا يعقلون، ولا يعقله أحد من الناس، وقد كفتهم الدعوة الدينيّة مؤنة هذه الأباطيل بالحقّ فحكم على العامّة أن يحفظوا حقيقة القول ولبّ الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شئ لا كالأشياء وأنّ له علما لا كعلومنا، وقدرة لا كقدرتنا وحياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلّم لا بشقّ فم، وعلى الخاصّة أن يتدبّروا في آياته ويتفقّهوا في دينه فقد قال الله سبحانه:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر - ٩، والخاصّة كما لا يساوون العامّة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجّهة إليهم، فهذا هو التعليم الدينيّ النازل في حقّهم لو أنّهم كانوا يأخذون به.

قوله تعالى: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ) ، الاُمّيّ من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الاُمّ لأنّ عطوفة الاُمّ وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى

٢١٧

المعلّم وتسلّمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الاُمّ، والأمانيّ جمع اُمنيّة، وهي الأكاذيب، فمحصّل المعنى أنّهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرّفه وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب الّا أكاذيب المحرّفين.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ) ، الويل هو الهلكة والعذاب الشديد والحزن والخزى والهوان وكلّ ما يحذره الإنسان أشدّ الحذر والاشتراء هو الابتياع.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم ) الخ. الضمائر إمّا راجعة إلى بني إسرائيل أو لخصوص المحرّفين منهم ولكلّ وجه وعلى الأوّل يثبت الويل للاُميّين منهم أيضاً.

قوله تعالى: ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) الخ. الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيّئة، ولذلك أتي باحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب السيّئة وإحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كأنّ الهداية لإحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلاً فهو من أصحاب النار مخلّداً فيها ولو كان في قلبه شئ من الإيمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحقّ من الاخلاق والملكات، كالإنصاف والخضوع للحقّ، أو ما يشابههما لكانت الهداية والسعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقّق إلّا بالشرك الّذي قال تعالى فيه:( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) النساء - ٤٨، ومن جهة اُخرى إلّا بالكفر وتكذيب الآيات كما قال سبحانه:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، فكسب السيّئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار.

واعلم أنّ هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ ) الخ البقرة - ٦٢، وانّما الفرق أنّ الآيتين أعني قوله:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) ، في مقام بيان أنّ الملاك في السعادة انّما هو حقيقة الإيمان والعمل الصالح دون الدعاوي والآيتان المتقدّمتان أعني قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) الخ. في مقام بيان أنّ الملاك فيها هو حقيقة الإيمان والعمل الصالح دون التسمّي بالأسماء.

٢١٨

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله:( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ) الآية، عن الباقرعليه‌السلام قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) فنهى كبراؤهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحاجّوهم به عند ربّهم فنزلت هذه الآية.

وفي الكافي عن أحدهماعليهما‌السلام : في قوله تعالى:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) ، قال: إذا جحدوا ولآية أميرالمؤمنين فاُؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

أقول: وروي قريباً من هذا المعنى الشيخ في أماليه عن النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم). والروايتان من الجرى والتطبيق على المصداق، وقد عدّ سبحانه الولاية حسنة في قوله:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) الشوري - ٢٣، ويمكن أن يكون من التفسير لما سيجئ في سورة المائدة أنّها العمل بما يقتضيه التوحيد وإنّما نسب إلى عليّعليه‌السلام لأنّه أوّل فاتح من هذه الاُمّة لهذا الباب فإنّتظر.

٢١٩

( سورة البقرة الآيات ٨٣ - ٨٨)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ( ٨٣ ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( ٨٤ ) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ  أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ  فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٨٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ  فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ٨٦ ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ  وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ  أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ( ٨٧ ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ  بَل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ ( ٨٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، الآية في بديع نظمها تبتدئ أوّلاً بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول:( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ) ، ثمّ إنّها تذكّر أوّلاً الميثاق وهو أخذ للعهد، ولا يكون إلّا بالقول، ثمّ تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدئ فيه بالخبر، حيث تقول:( لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) ، وتختم بالإنشاء حيث تقول :( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) إلخ. ولعلّ الوجه في ذلك كلّه أنّ الآيات المتعرّضة لحال بني إسرائيل لما بدأت بالخطاب لمكان إشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق

٢٢٠